جَبَريّة العنف السياسي
في مسرحية "ابن الأغلب" لعبد القادر اللطيفي منير الرقي

من الطريف أن تراقب مدونة إبداعية و تلتمس فيها عبقرية كاتبها وحبذا أن تفضي تلك المراقبة إلى تمثل خيط ناظم و تبصّر ولادة أسلوب خاص بذلك المبدع فتعثر على التناسق في الشتات و التناغم في ما يبدو فوضى. وهذا ما خامرني خلال مراجعة مدونة الكاتب التونسي "عبد القادر اللطيفي" فمن رواية "الامبراطورية" إلى رواية "الرحلة الهنتاتية" إلى مسرحية "ابن الأغلب" كان اللطيفي موتورا بالفعل السياسي يبتغي فهمه أو نقده واجتراحه ولعلنا -ونحن لم نشرع بعد في الفحص- سنعجب لتواؤم الخواتيم التراجيدية الفاجعة لكل تلك الآثار السالفة الذكر فكل انتهى بفشل وكل أعقب حسرة إذ تنتهي الامبراطورية بهدم القلعة ودخول جنود "المارينز" وتنقفل الرّحلة دون إدراك "جزيرة الركرك" وهي موضوع السرد ثم تنتهي المسرحية بفشل مشروع الإصلاح السياسي الذي سعت إليه الحاشية منذ أن خانت العهد وولّت إبراهيم بن الأغلب عوضا عن ابن أخيه أبي الغرانيق. ثلاث نهايات فاجعة تُنمي إلينا إصرار الكاتب على رؤية مخصوصة للواقع السياسي راهنا وماضيا وكأن اللطيفي إذ يقتحم عالم السياسة ناقدا يُبين عن موقف محبط ورؤية سوداوية إزاء الراهن قادح الكتابة الذي ما رأينا فيه نقطة ضوء, وكأنّ المشروع السياسي محكوم دوما بإكراهات الفشل والعبثية, وهو ما وسمتُه هنا في هذه المداخلة بجبرية العنف السياسي.
لا شك في أن الكاتب إذ يقبل على نمط في الإبداع إنما يقبل على سمط منظوم من الضوابط الفنية وقد يجترئ على أحكام نمط من الكتابة في موجة التجديد والتحرر لكنه أبدا خالق ضوابطه و نواميسه يلتزم بها. فهو في حريته محكوم أيضا وهو في انعتاقه أسير ما خطت يداه ذلك أن التحرر الكلي من ضوابط الأنا الكاتبة ونواميس الكتابة إنما يؤدي إلى العبث و إلى انهدام فعل الكتابة ذاته.
و من بين الضوابط التي وجب احترامها التناسق في بناء الشخصيات أي أن يكون بناؤها منطقيا بمعنى أن لا يصدر عنها فعل غريب عن تكوينها فنحن إذ نقرأ المسرحية نستقي من الأقوال والإشارات الركحية صورة نمطية عن الشخصيات يلهمنا الكاتب ملامحها فمن غير المنطقي حينها أن يؤدي الحكي إلى هدم البناء أو هدم منطق تلك الصورة وإلا انتهى فعل اللذة وحلت محله الدهشة فإذا أبان الهدم عن نقص في الحرفية حل النفور أخيرا. أما اللطيفي فقد نهج منهجا غريبا مدهشا و ولج منطقة زلقة فبنى المسرحية على منطقين متناقضين وجدنا فيهما المنطق وضده والعلة و العفوية
1) منطق السببية:
فمن تجليات العلّيّة في البناء أن قاد قرارُ بناء "رقادة" ص 45"دار الإمارة تلك سأخربها وسأبني قصرا جديدا" إلى إفلاس الرعية و تحويل رغدها إلى نكد مستمر و فقر صرح بهما أحد الجنود في الفصل الثاني قائلا "يا للثراء و الناس لا يجدون قوت يومهم أليس لهم الحق في الثورة"ص 94
كما أدى نزوع الأمير إلى الراحة و انزواؤه بقصر "رقادة" و إطلاق يد وزيره إلى انقطاع الأخبار الهامة عنه
"الأمير: والآن يا ابن اسحق يلزم ان تدبر شؤون الناس ريثما أذهب إلى النوم والاستراحة" ص 47 "الأمير: كيف لا تصلني الأخبار في وقتها"ص 63
و قد لزم عن الفعل الدموي وسفك الدماء و قطع الرقاب شعور رهيب بالذنب بعد أن احترق ما بين يديه كله "قتل بناته وحاجبه وكاتبه...وصقالبته" ولك أن تحصي المرات التي استدعى فيها الأمير الجلاد إلى بلاطه فهي كثيرة ويعلو صوت الأمير بالوعيد"ويلمهم إذن لأشنها عليهم حربا شعواء لا تلين"ص 63 يقود هذا الفعل لزاما إلى شعور بالذنب "كل انتصاراتي هشة ورعيتي أبدا ضعيفة فهي رعية مهدمة مكدرة تشبه الحمار الأجرب"ص222 وبعد تفكير وتأمل مطول ينتهي الأمير الدموي إلى كره ما جنت يداه وطلب الرحمة في لحظة بديعة التصوير هي الفاجعة التي قدّها اللطيفي من خطاب ميلودرامي مأساوي ينتهي بقرار التوجه إلى الجهاد واعتزال السياسة وتولية نجله أبي العباس "ها قد ابيض شعري وأكلتني السنون وهدتني الكوارث وأصبحت تخامرني الخيالات اللعينة وتنتهبني الوساوس"ص 240 "أيها الناس إني أعتزم السفر إلى صقلية للجهاد فلا يطولن عليكم الوقت لاستقبال ولدي بالطبول" ص253
والحقيقة أننا نجد أمثلة شتى للتلازم السببي العلّيّ وهو ما وسم المسرحية في بنائها العام بالتناسق والنظام وأشعرنا بنمو الحبكة من "التعرف" إلى "التحوّل" وزرع في أعطاف المقاطع الحوارية تناغما أسهم في شد المتقبل وصنع التشويق ولعل أكبر دليل على هذا التقدم السببي تعاقب الأعلام في حاشية الأمير فكلما قتل وزيرا أو حاجبا حل محله غيره في انتظار حتفه طبعا.
لكننا نجد خلاف هذا التلازم المنطقي نظاما آخر لنمو الأفعال و الأقوال وهو بخلاف الأول و قد وسمته بالجبرية لمّا لم أجد سببا بعينه يؤدي إلى نشوء الفعل.
2) الجبرية: جبرية العنف السياسي:
قصدنا بهذا اللفظ بعض ما ورد من دلالة الجذر (ج, ب, ر) في لسان العرب فمن ذلك " يقال: جَبَرْت وأَجْبَرَتُ بمعنى قهرت/ وقد استَجْبَرَ/ واجْتَبَرَ وأَصابته مصيبة لا يَجْتَبِرُها أَي لا مَجْبَرَ منها./ وجَبَرَ الرجلَ على الأَمر يَجْبُرُه جَبْراً وجُبُوراً وأَجْبَرَه: أَكرهه، والأَخيرة أَعلى./ والجَبْرُ تثبيت وقوع القضاء والقدر./أَجْبَرْتُ فلاناً على كذا فهو مُجْبَرٌ" و نحن نهمس بدءا أن إرادة الكاتب في ضوء هذا المفهوم تفوق إرادة الشخصية و سننظر في هذا المنطق الغريب الذي رابني و أنا أقرأ و دفعني إلى فهم مراده.
فمن ذلك أن يحرض القاضي ابن عمران أميره ابن الأغلب على خيانة الأمانة والاستحواذ على ملك الوريث الشرعي أبي عقال ومن الغريب وهو الآمر بالصلاح (افتراضا) أن يقول ما يلي"توكل على الله (يقصد خيانة العهد والاستحواذ على السلطة): فلست تبغي جورا ولا تريد ظلما وإنما تريد أن تنقذ مملكة هي مملكة بني الأغلب وترحم عامة وخاصة هم المؤمنون ......أما الجريرة و الإثم فدعهما لنا و توكل دون توان" ص 26
ومن أمثلة هذه الروح الجبرية أيضا أن أجمع الكل على فضائل ابن الأغلب وهو ما ورد في خطابهم له أثناء إقناعه بضرورة تولي السلطة "يقول ابن أبي إسحق: وكنتَ من ننظر إليه فنراه على خلق واستقامة وعفاف واتزان وصبر في الأمور المعصبات "ص 19 و قد أبدى ابن الغلب بعض هذا العفاف في الخطاب لكنه سرعان ما يستعجل إنفاذ الخطة بالخروج على الوريث الشرعي في قرار ينافي الصفات الآنفة فجاء بالغدر موضع الأمانة والعجلة موضع الصبر. يقول في خاتمة المؤامرة "إني عاقلها يا قوم و لكن كم الساعة القاضي/ ابن النعمان: مضى من الليل شطر /...الوالي ابن الأغلب: ...لا وقت للانتظار" ص 26
هذه الأمثلة وصنوها تحدو القراءة إلى فعل الاستغراب و اللطيفي من ورائه يحرك خيوط فعل الدهشة. إنها فعلا لعبة خطرة قد تذهب بريح العمل و تشتت تركيز القارئ و قد تنتهي به فعلا إلى النفور إذا علل تلك الأفعال اللامنطقية بقصور الصنعة و قلة الحيلة. وتتولد أسئلة عن مغزى ذلك الاختراق المنطقي وعن متانة العمل وهي أسئلة مشروعة لكل قارئ: ما الذي جعل ابن الأغلب يكون على تلك الصورة الدموية وقد عهدته العامة عدلا؟ لماذا يبني القصر و قد تذمرت العامة من بناء القصور وتبذير الأموال وكان العقد بينه وبين حاشيته أن يحفظ الرعية؟ لماذا نجد صوت الكاتب متلبسا بصوت البطل "قد قصصت عليكم فصولا من دولة بتي الأغلب ومناظر من حياتي ..." ص 238 فهل غلب فكر الكاتب على فكر الشخصيات و هل جبرها بحبره و قهرها بمكره وأحكم نسجها بقدَرِه؟ قد يبدو ذلك إذا ما كانت القراءة جزئية تتناول كل حدث لامنطقي وحده فما أيسر حينها أن نردّ تلك الأفعال غير المبررة إلى تسلط الكاتب ولكن القراءة المنصفة تفرض علينا البحث عن الخيط الجامع بين ذلك الشتات فهل هناك منطق يقف وراء اللامنطق في أفعال الشخصيات؟ سؤال محيرّ نجد جوابه في مدونة اللطيفي "الامبراطورية" و "الرحلة الهنتاتية" ومسرحية ابن الأغلب، اللطيفي لا يثق بالساسة أبدا وليس معنيا في كل هذه المدونة بالتطبيل و العزف إنه ينظر إليها عنصرا مفسدا وله عندها وتر. بهذا المبدإ تجد في اللامنطق منطقا و تجد للجبر مغزاه فالانقلاب الذي حدث لابن الأغلب من الحكمة إلى الغدر و من العدالة إلى التصابي و التبذير ومن الكياسة إلى الدموية كل ذلك كامن في سيرة بني الأغلب فأبو الغرنيق وابنه أبو عقال وابراهيم بن الأغلب و ابنه أبو العباس كل يحمل بذرة الفساد"وجينة الاستبداد" و قد بدا لي أن اللطيفي واع بكل ذلك "ليس من الإسلام أن ينفق أخوك برد الله ثراه ثلاثين ألف مثقال من الذهب في بناء قصر يخرج إليه لصيد الغرانيق" ص 19
"إن أبا عقال مبذر مثل أبيه"...ص20
ولوثة الظلم تبقى متهيئة للصدور بمجرد إعلان الحكم فقد تغير ابن الأغلب عن سيرته بمجرد توليه الحكم و قرر بناء قصر رقادة علةَ فقر العامة وكان قبل ذلك محل إجماع الرعية أما ابنه أبو العباس فقد شهد له أبوه بالنبوغ و الصلاح "لقد عاهدت الله على أن اترك الملك لمن هو خير مني من أبنائي" ص 246 في خاتمة المسرحية ينقطع الأمير إلى أعمال خيرة فيوزّع العطايا على الناس و يعتزل الحكم لكن الجبر "جبر السلطان الفاسد" يقضي على فرحة الناس فما كان أبو العباس أفضل من أبيه فما إن يصل إليه أمر إفريقية حتى يتحرك فيه "سرطان الظلم " و جينة الاستبداد و فيروس الفساد الكامن فيهبّ لاسترجاع عطايا والده "الأمير أبو العباس: أنا أدري انه فرق ما لا يحصى من الأموال و أقسم (ممسكا مقبض سيفه) إن لم تردوا ما وهبكم لأشنها عليكم حربا لا تلين"ص 256
بهذا المنطق العجيب يمكن لنا أن نتحدث عن موقف الكاتب وعن جبرية تحكم فعل الشخصيات، جبرية هي أشبه بالحتمية فما كان ملك إلا أتبعه الفساد وما كان توريث إلا آل الأمر إلى الظلم وكأنه يدعو إلى التفكير في بديل آخر يكون أنفع للعامة التي كان قدرها أن تعيش مظالم حكامها.
لقد أحكم اللطيفي بناء المسرحية وما بدا لنا من اختراقات للمنطق إنما هي اختراقات حتمية مرتقبة لا تحصل إلا في عالم قد جبل على الفساد.

مسرحية إبراهيم بن الأغلب للكاتب عبد القادر اللطيفي دار الأطلسية للنشر تقديم رضا بن صالح ط 2010

عبد القادر اللطيفي كاتب تونسي من مواليد 1963 عضو اتحاد الكتاب له "شلبي واقاصيص أخرى" و"الجوال" في القصة القصيرة وله في الرواية "أوبرج السعادة " و "الامبراطورية" و"الرحلة الهنتاتية".