بيت المقدس فى عصر الكامل بين المسلمين والصليبيين
أ.د/ عبدالغنى عبدالفتاح زهرة
أستاذ التاريخ الإسلامى بجامعة الأزهر

عرض الكامل تسليم القدس للحملة الصليبية الخامسة
بعد وفاة الملك العادل تولى حكم مصر أكبر أبنائه وهو الملك الكامل وتولى المعظم عيسى دمشق، والأشرف موسى الجزيرة وخلاط، وكان العبء الأكبر في مقاومة الصليبيين حينذاك يقع على عاتق الملك الكامل لوجود الحملة الصليبية الخامسة أمام سواحل دمياط، وكان الكامل حريصاً على تجنيب البلاد ويلات الحرب – وارثاً هذا عن أبيه العادل- مع الاستعداد العسكري في نفس الوقت لردع الصليبيين، وإجبارهم على قبول الصلح، وقد نهض الكامل للدفاع عن دمياط، وأقام معسكره في العادلية جنوب دمياط، بينما وصلت القوات الصليبية إلى الشاطئ الغربي للنيل قبالة العادلية، وأصبح يفصل بين الطرفين نهر النيل، وقد حدثت بعض الاشتباكات العسكرية بين الطرفين، ولم يتحقق فيها نصر حاسم لأحد الطرفين، إلا أن الأحداث منذ مطلع عام 1219م بدأت تسير في صالح الصليبيين، وتزيد موقف الكامل سوءاً، وأهم هذه الأحداث تدبير أحد قادة الكامل ويسمى ابن المشطوب مؤامرة ضده لخلعه من الحكم وتولية أخيه الفائز، وعلم بها الكامل، مما أدى إلى سوء موقفه أمام الخطر الصليبي من جهة، وتآمر قادته من جهة أخرى، فترك معسكره في العادلية قاصداً أشموم طناح( ). حيث كان يفكر في الفرار إلى اليمن التي كان يحكمها ابنه المسعود، ولكن أخيه المعظم عيسى وصل بقواته من الشام، وقضى على المتآمرين، ولكن بعد أن احتل الصليبيون العادلية في فبراير سنة 1219م وغنموا ما في معسكر المسلمين دون مقاومة تذكر، وبذلك أتم الصليبيون عزل دمياط، وحاصروها تماماً، ومنعوا عنها أي إمدادات( ).
وقد قام الصليبيون بشن هجمات على دمياط في أغسطس سنة 1219م للسيطرة عليها، ولكن تصدت لهم حامية المدينة وفشل الهجوم الصليبي( ).
ثم بدأت المفاوضات بين الطرفين حينذاك للتوصل إلى هدنة بينهما وعقد معاهدة سلام، وبينما تذكر المصادر والمراجع العربية أن الكامل هو الذي بدأ في عرض الصلح على الصليبيين, تذكر المراجع الأوربية أن الجانب الصليبي هو الذي بدأ بطلب الصلح، فيذكر رانسيمان أن الراهب فرانسيز الأسيس الذي قدم للمعسكر الصليبي من فرنسا رأى بأن بوسع بعثة سلام أن تحل الأمن والسلام بين المسلمين والصليبيين، فطلب من بيلاجيوس المندوب البابوي في الحملة الخامسة والقائد العام لها أن يأذن له بالتوجه لزيارة السلطان الكامل فوافق بيلاجيوس بعد تردد، وبعث به في ظل علم الهدنة إلى فارسكور – جنوب دمياط - حيث معسكر الملك الكامل, وقد ارتاب فيه أول الأمر الحراس المسلمون، غير أنهم لم يلبثوا أن عاملوه بالاحترام اللائق، وسيروه إلى السلطان الكامل، الذي ظل يستمع في هدوء إليه، وأرسله إلى المسيحيين في حرس شرف( ).
ولم ترد أي معلومات عن تفاصيل ما دار في محادثات القديس فرانسيز والملك الكامل، وماذا طلب القديس من الملك الكامل ؟ وما هو رده عليه؟ إلا إننا نرجح أن القديس عرض على الكامل وقف الحرب وجلاء الصليبيين عن مصر مقابل تسليم الكامل للصليبيين فلسطين بما فيها بيت المقدس وجميع البلاد التي فتحها الناصر صلاح الدين، ودليلنا فيما ذهبنا إليه أن الكامل رد عليهم بموافقته على التنازل عن بيت المقدس فقط، مما يدل على أن الصليبيين كان طلبهم جميع البلاد في فلسطين، وقد رفض الصليبيون عرض الكامل، فأرسل لهم أسيراً صليبياً من عنده يحمل عرضاً جديداً بعقد هدنة بين الطرفين قصيرة الأمد للتفكير في مطالب الصليبيين، فوافق الصليبيون عليها( )، وكانت قاصرة على وقف الأعمال العسكرية بين الطرفين، ولم تحدد المصادر مدتها، واكتفت بأنها كانت قصيرة الأمد، ويبدوا أنها لم تزد عن شهر واحد، فقد عقدت في أول سبتمبر سنة 1219م، ثم تجددت المعارك بين الطرفين في أواخر سبتمبر وأوائل أكتوبر من نفس العام.
وما أن انتهت الهدنة حتى قام الكامل بشن هجوم على الصليبيين لإحداث ثغرة في صفوفهم يتمكن من خلالها توصيل الإمدادات والمؤن إلى حامية دمياط التي تناقص عددها، وانتشرت الأمراض والأوبئة بينهم، مما جعلهم لا يستطيعون الصمود كثيراً أمام الصليبيين، ولكن الهجوم لم يحقق شيئاً من النجاح، فلم يجد الكامل أمامه سوى إرسال أسيرين من الصليبيين يحملان عرضاً منه إلى قادة الصليبيين يتضمن استعداد الكامل لإعادة بيت المقدس وصليب الصلبوت وقلب فلسطين والجليل إلى الصليبيين، ولا يحتفظ الكامل إلا بالقلاع الواقعة وراء نهر الأردن وهي الكرك والشوبك، وسوف يؤدي عنها إتاوات للصليبيين مقابل جلائهم عن مصر( ).
وكان هذا العرض مثيراً للدهشة والقلق من جانب الصليبيين، فهو أسخى عرض يتقدم به حاكم مسلم منذ بداية الحملات الصليبية، إذ أنهم سوف يتمكنون به من إحياء مملكة بيت المقدس كما كانت عليه قبل معركة حطين سنة 1187م باستثناء الأردن، ولذلك لم يتردد الملك حنا دي برين وأمراء مملكة بيت المقدس فى عكا بل والصليبيون القادمون من إنجلترا وفرنسا وألمانيا في قبول هذا العرض والموافقة عليه إلا أن المندوب البابوي بلاجيوس – وهو القائد الأعلى للحملة – رفض هذا العرض وأيده في هذا الرفض بطريرك بيت المقدس، والداوية والاسبتارية, وحجتهم في ذلك أن المعظم عيسى – شقيق الكامل –قام بتدمير استحكامات بيت المقدس والقلاع الواقعة بالجليل، إذاً فمن المستحيل المحافظة على بيت المقدس ما لم تتم السيطرة على إقليم ما وراء نهر الأردن، كما عارض الإيطاليون أيضاً شروط الصلح لرغبتهم في اتخاذ دمياط مركزاً لتجارتهم، وأنهم لن يستفيدوا من إضافة الإقليم الداخلي في فلسطين إلى أملاك الصليبيين ( ).
وتقرر في آخر الأمر رفض عرض الكامل مما يدل على أن الصليبيين لم يعد هدفهم دينياً في المقام الأول، وإنما تغلبت عليهم المصالح التجارية والاقتصادية، إذا لو كان غرضهم دينياً لأسرعوا بعقد الصلح واستلام بيت المقدس، ويحاول المندوب البابوي- بيلاجيوس - أن يدافع عن موقفه برفض الصلح، فينشر بعض النبوءات الكاذبة التي تتوقع انتصار الحملة الصليبية، وانهيار الإسلام، كما استهجن أن يأتي السلام على شروط المسلمين( ).
وإذا ما عدنا للجبهة الإسلامية يثور أمامنا سؤال هام: لماذا عرض الكامل هذا العرض الذي يضيع به جهاد من سبقوه وخاصة الناصر صلاح الدين؟.
ونرى أن الذي دفعه إلى تقديم هذا العرض عدة أمور أهمها:-
أولاً: تدهور أحوال مصر الاقتصادية في هذا العام – سنة 1219م بسبب انخفاض فيضان النيل، وارتفاع أسعار السلع، مما هدد البلاد بالمجاعة حتى وصفها المقريزي بأنها كانت من أقسى السنين وأشدها على مصر( ).
ثانياً: نزوح قبائل البدو من سيناء الشرقية لتستفيد من حالة الفوضى التي أعقبت نزول الصليبيين أمام دمياط، فقطع البدو الطرق، وأغاروا على القرى ونهبوها وأفسدوا وبالغوا في الإفساد، وقد وصفهم ابن الأثير بأنهم كانوا أشد علي المسلمين من الفرنج( ).
ثالثاً: قلق المعظم عيسي الذي يساند الكامل في مصر، وتفكيره في العودة إلى الشام للدفاع عن بلاده وخاصة بيت المقدس،مما سيضعف موقف الكامل العسكري، في الوقت الذي تصل فيه الإمدادات متتابعة إلي الصليبيين وخاصة من انجلترا وفرنسا.
رابعاً: سوء موقف حامية دمياط وتعرضها للمجاعة والوباء, وقد حاول الكامل إمدادها بخمسمائة من مماليكه ومعهم المؤن, ولكن النجدة وقعت في أيدي الصليبيين, فقتلوا جميع رجالها, واستولوا علي المؤن التي في حوزتهم وعلقوا رؤوس القتلى على الخنادق( ).
خامساً: وصول أخبار سيئة عن تحركات المغول في المشرق الإسلامي وسيطرتهم علي خوارزم وبلاد ما وراء النهر ومعظم بلاد فارس, وأنهم أصبحوا علي أبواب العراق وبغداد, مما منع وصول إمدادات إلي الكامل من بلاد الشرق والخلافة العباسية عندما استغاث بهم( ).
ورغم اعترافنا بسوء موقف الكامل ـ بناء علي الظروف السابقة ـ إلا أننا نلقي عليه بعض اللوم في عرضه هذه الشروط علي الصليبيين, فقد كان من الأفضل أن لا يتنازل عن كل هذه المدن مرة واحدة, وإنما يبدأ بالتنازل عن مدن قليلة الأهمية, فيتمسك الصليبيون حينذاك ببيت المقدس, ولا يطالبون بقلاع ومدن أخري, أما وأنه قدم لهم كل هذه التنازلات فلم لا يطمعون في مدن أخري, ظناً منهم في ضعف الكامل, وقرب انهيار الجبهة الإسلامية.
وقد كرر الكامل عرضه مرة أخري للصليبيين إلا أن قادتهم أصروا علي رفضهم بتحريض من بيلاجيوس, مما أدي إلي استياء معظم الجنود الصليبيين, و شعروا بمرارة خيبة الأمل لعدم استردادهم بيت المقدس سريعاً ودون قتال, ولكنهم خرجوا من حالة الاستياء العام بعد أيام قلائل بسبب هجومهم علي دمياط, والسيطرة عليها في نوفمبر سنة 1219 م بعد حصار تسعة شهور( ).
وكان سقوط دمياط خسارة فادحة للملك الكامل خاصة, والمسلمين بصفة عامة( ).
وإزاء تطور هذه الأحداث تراجع الكامل بقواته جنوباً حيث عسكر قبالة مدينة طلخا، وبني على وجه السرعة معسكراً جديداً لقواته كان النشأة الأولي لمدينة المنصورة( ).
وعلي غير المتوقع لم يبادر الصليبيون بالزحف تجاه القاهرة وإنما مكثوا بدمياط بقية عام 1219م, وعام 1220م. وقد تغيرت خلالهما الأوضاع لصالح المسلمين, فقد ازدادت الخلافات بين قائدي الحملة المندوب البابوي بيلاجيوس والملك حنا دي برين ملك بيت المقدس, فانتحل الأخير بعض الأعذار وعاد إلي عكا في مارس سنة 1220م, كما تزايدت أعداد الصليبيين العائدين إلي أوطانهم, كما نشطت البحرية الإسلامية وأغرقت العديد من سفن الصليبيين في البحر المتوسط, وفشل هجوم للإسبتارية علي مدينة البرلس وأسر كثير منهم علي رأسهم قائد الطائفة( ).
وكان الصليبيون في دمياط ينتظرون قدوم جيش كبير لمساعدتهم في الزحف إلي القاهرة بزعامة فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا، الذي وعد البابا بحملة صليبية كبيرة, وقد كرر الكامل عرض الصلح على الصليبيين في سنة 1220م, وهو تسليم جميع البلاد التي فتحها صلاح الدين باستثناء الكرك فقط. بعد أن كان متمسكاً بالكرك والشوبك, مقابل جلاء الصليبيين عن دمياط, وعقد هدنة لمدة ثلاثين سنة, ولكن الصليبيين ازداد طمعهم ـ وخاصة المندوب البابوي بيلاجيوس ـ الذي لم يكتف هذه المرة بطلب الكرك أيضاً وإنما طالب الكامل بدفع تعويض قدره ثلاثمائة ألف دينار عوضاً عن تخريب بيت المقدس ليعمروه بها( ).
ولعل ما زاد كبرياء المندوب البابوي وجعله يتعسف في شروطه علمه بقرب وصول دوق بافاريا مع قوة حربية كبيرة من قبل الإمبراطور فردريك الثاني، ولذلك تجاهل بيلاجيوس تعليمات البابا هونوريوس الثالث, ورفض عرض الكامل للصلح, وكان البابا قد نصحه ألا يرفض عرضاً يتقدم به السلطان من أجل الصلح إلا بعد رفعه إلي روما( ).
وقد اكتمل استعداد المعسكر الصليبي بوصول دوق بافاريا مع حملته, وعودة الملك حنا دي برين من عكا, وبدأ التحرك جنوباً صوب القاهرة في يولية سنة 1221م, كما فعل الملك الكامل كل ما في وسعه لمواجه الزحف الصليبي, فجمع الجند من سائر النواحي, وانضم إليه أخويه المعظم عيسي والأشرف موسي, وأصبحوا علي أتم استعداد لمواجهة الصليبيين( ).
وللمرة الأخيرة تقدم الكامل حينذاك بعرض الصلح علي الصليبيين بنفس شروطه السابقة, وزاد عليها موافقته علي دفع تعويض نقدي لم تحدده المصادر عن تدمير استحكامات بيت المقدس، ولكن بيلاجيوس وقادته أصروا علي أن يكون التعويض خمسمائة ألف دينار، وأخذ الكرك أيضا( ). ونلاحظ ازدياد طمع الصليبيين كلما عرض عليهم الكامل الصلح، إذ يضيفون في كل مرة شرطاً جديداً إذا وافق الكامل على شرطهم السابق، لتأكدهم من اقتراب سيطرتهم على مصر، وقضائهم علي الملك الكامل وحكمه، ومن ثم يتيسر لهم السيطرة علي فلسطين، وكان رجال الدين عندهم ينشرون بعض النبوءات التي ترسخ هذه الفكرة في أذهانهم، وتجعلهم يرفضون أي شروط للصلح( ).
وأصبح لا مفر أمام الطرفين من القتال وحسم الموقف عسكريا، وبدأ الجيش الصليبي في الزحف لملاقاة المعسكر الإسلامي في أواخر يوليه سنة 1221م، وكانت تحيط به المياه من ثلاث جهات حيث بحيرة المنزلة شرقاً، وفرع دمياط غرباً، والبحر الصغير جنوباً، وقد نجحت البحرية الإسلامية في الالتفاف من خلفهم لتحول دون اتصالهم بقاعدتهم في دمياط، وعندما أصبح الصليبيون بأجمعهم يرابطون على امتداد البحر الصغير قبالة الجيش الإسلامي، ارتفعت مياه الفيضان في أول أغسطس، فأمر الكامل بقطع السدود الموجودة علي النيل وفروعه في الدلتا، فلم يشعر الصليبيون إلا وقد غرقت أكثر الأراضي المحيطة بهم، بحيث لم يبق أمامهم سوي ممر ضيق يستطيعون العودة عن طريقه إلى دمياط، وعندئذ تنبه الصليبيون إلى خطورة موقفهم، فقرروا الارتداد بسرعة نحو دمياط، ولكن المسلمين قطعوا عليهم خط الرجعة، وبذلك اكتمل تطويق الجيش الصليبي، ولم يعد لديه من المؤن ما يكفيه إلا لمدة عشرين يوماً، وحاول بعضهم الفرار فهلك عدد كبير منهم، ووقع الباقي في الأسر، كما أسر عدد كبير من السفن الصليبية( ).
بعد أن فقد بيلاجيوس قائد الحملة الخامسة الأمل في النجاة، وتجمد موقف الصليبيين، فلا هم يستطيعون العودة إلى دمياط، ولا هم يستطيعون القتال بعد أن حاصرتهم مياه النيل وقت الفيضان، فلم يجد أمامه سوي طلب الصلح من السلطان الكامل، وخاصة أنه ما زال لديه بعض الممتلكات التي يستطيع أن يساوم بها وأهمها دمياط بعد أن جري تجديد حصونها واستحكاماتها، وبها حامية قوية، وأمامها أسطول قوي بقيادة حاكم مالطة وعدد من الأمراء، ولكن معظم الجيش الصليبي أضحي تحت رحمة الملك الكامل، الذي وصل إليه رسول من قبل بيلاجيوس يوم السبت 28 أغسطس سنة 1221م يعرض عليه استعداد الصليبيين لترك دمياط والجلاء عن البلاد, مقابل السماح لهم بالخروج من المأزق الذي وقعوا فيه, وتركهم يعودون إلى وطنهم سالمين( ).
وقد عقد الكامل مجلساً للتشاور مع أخويه المعظم عيسي والأشرف موسي وقادته لتقليب الرأي فيما ينبغي الإجابة به علي الصليبيين، فأشار عليه أخويه برفض الصلح, وترك الصليبيين في مأزقهم حتى تنفذ أقواتهم, وتنتشر فيهم المجاعة, فيأكل بعضهم بعضاً, أو يهلكهم المرض, وأشار بعض القادة بإعطاء الصليبيين الأمان, وإخراجهم من مصر من باب العفو عند المقدرة, وقد مال الكامل إلي الرأي الثاني علي اعتبار أن هذا رأيه منذ البداية, وأنه يميل بطبعه إلي الصلح أكثر من القتال. ولذلك وصفه رانسيمان بالسخاء والكرم لقبوله الصلح( ), ونضيف إلى أسباب قبول الكامل للصلح توقعه لمجيء الإمبراطور فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا علي رأس حملة صليبية فيحتفظ بدمياط، وينتقم للصليبيين، كما أنه سيمتنع من بقي منهم بدمياط أن يسلمها, ويحتاج الأمر إلي حصارها, وقد زاد الفرنج في تحصينها, وكان الكامل حريصاً على استرداد دمياط بأسرع ما يكون( ). كما ضجرت عساكر المسلمين وملت من طول الحرب.
ولذلك أرسل الكامل إلي الصليبيين شروطه لعقد الهدنة, وتتضمن جلاء الصليبيين عن دمياط, وعقد هدنة لمدة ثماني سنوات, ولابد من تصديق الإمبراطور فردريك الثاني عليها, وتبادل الأسرى بين الطرفين, ويعيد السلطان للصليبيين صليب الصلبوت, وتسلم الحملة الصليبية قادتها ليكونوا رهائن حتى يتم تسليم دمياط, وذكر الكامل أسماء الرهائن وهم المندوب البابوي والقائد العام للحملة بيلاجيوس, والملك حنا دي برين, ودوق بافاريا, ومقدمي الطوائف الدينية العسكرية, وثمانية عشرة آخرين من الكونتات والأساقفة, وفي المقابل سيرسل للصليبيين أحد أبنائه, وأحد أخوته، وعدداً من الأمراء ضماناً للصليبيين( ).
ونلاحظ في شروط الصلح التي عرضها الكامل طلبه تصديق الإمبراطور فردريك الثاني علي الهدنة, لأن الأنباء القادمة من الغرب كانت تفيد بقرب تحركه بحملة صليبية, فأراد الكامل أن يضمن تنفيذ الهدنة من كافة القوي الصليبية حتى يعيد بناء دولته, ولا يفاجأ بقدوم حملة بعد أيام أو شهور قليلة.
وقد وافق الصليبيون على شروط الكامل دون أي اعتراض أو تحفظ على أحد الشروط، وأرسلوا إلى الكامل القادة والأمراء الذين طلبهم وعلى رأسهم بيلاجيوس وحنا دى برين، وبعث إليهم الكامل ابنه الصالح نجم الدين أيوب وجماعة من أمرائه( ).
وقد تمردت حامية دمياط الصليبية عندما علمت بأنباء عقد الهدنة, وأنه لابد من إذعانهم وتسليمها, وهاجموا دور الملك يوحنا والطوائف الدينية, وأعلنوا رغبتهم في تحدي أوامر قادتهم وعدم التسليم, ولكن أقواتهم أخذت في النفاذ, وقادتهم رهائن عند الكامل, كما هدد الكامل والمعظم عيسي بالهجوم علي عكا, فلم يلبث المتمردون أن أذعنوا ووافقوا علي التسليم( ).
وقد أكرم الكامل وفادة قادة الصليبيين, وأنعم عليهم, كما أمد الجيش الصليبي بالمؤن دون مقابل, وتم تبادل الأسري, وفي يوم الأربعاء 8 سبتمبر رحل الجيش الصليبي إلي أوربا أو عكا, ودخل المسلمون مدينة دمياط( ).
وقد ساعدت الأقدار في تنفيذ هذه الهدنة, إذ أنه في اليوم الذي تسلم فيه المسلمون دمياط, وصلت نجدة صليبية ضخمة من أوربا إلي دمياط, ولو وصلت قبل تسلم المسلمين دمياط لامتنع من بها عن تسليمها( ).
وهكذا رحلت الحملة الصليبية الخامسة عن دمياط تجر أذيال الخذلان والفشل, وقضي قادة الصليبيين فترة الهدنة في الاستعداد لحملة صليبية جديدة, وخاصة الملك حنا دي برين الذي ترك عكا مقر مملكته, وسافر إلي أوربا سنة 1222م لمقابلة البابا وبعض ملوك أوربا, وصاحبه المندوب البابوي بيلاجيوس حيث عرضا علي البابا أسباب فشل الحملة الخامسة, وأحوال الصليبيين في الشام, وطلبا منه العمل علي إعداد حملة صليبية جديدة, وكان المرشح لها الإمبراطور فردريك الثاني بعد زواجه سنة 1225 م من يولاندا بنت حنا دي برين والوريثة لحكم مملكة بيت المقدس بعد وفاة أمها ماريا, وأصبح فردريك بذلك أكثر ارتباطاً ببلاد الشام( ).
أما الجانب الإسلامي فلم يستفد كثيراً من الهدنة لوقوع الخلاف بين أبناء العادل وخاصة بين الملك الكامل في مصر والمعظم عيسي في دمشق ـ في أواخر سنة 1223م وأوائل سنة 1224م( ). وربما كانت الفائدة الوحيدة لهذه الهدنة أنها ساعدت في عدم قدوم حملة صليبية في هذا الوقت الذي تطاحن فيه زعماء المسلمين, وحل الشقاق بينهم بدلاً من الوفاق, وشرع كل حاكم في الاستعداد لمحاربة الآخر.

صلح يافا وتسليم القدس للصليبيين
الظروف التي أدت إليه:
في الوقت الذي كانت فيه البابوية في أوربا تستعد لإرسال حملة صليبية إلى الشام بعد انتهاء الهدنة، وربما نقض الهدنة قبل موعدها إذا تجهزت الحملة كان أولاد الملك العادل في صراع وشقاق، وسببه أن المعظم عيسى حاصر مدينة حماه سنة 1224م، فاتفق الكامل والأشرف موسى ضده, وطلبا منه الجلاء عن حماه، فرحل عنها كارهاً، وازداد نفوراً من أخويه، ومما زاد في الخلاف بينهم أن الخليفة العباسي الناصر لدين الله (575- 622هـ/1180-1225م) قد استوحش من الملك الكامل لأن ابنه الملك المسعود حاكم اليمن ذهب لأداء فريضة الحج عام 619هـ/1222م, فلما وقف بعرفة، وتقدمت أعلام الخليفة الناصر لترفع على جبل عرفات منع الملك المسعود ذلك، وأمر بتقديم أعلام أبيه الملك الكامل على أعلام الخليفة، فلما علم الخليفة أعرض عن الملك الكامل والأشرف موسى لاتفاقهما، وقاطعهما، وتحالف مع مظفر الدين كوكبري صاحب إربل لاختلافه مع الأشرف موسى، واتفقا على ضم المعظم عيسى إليهما، وتحريضه ضد أخويه بحجة أنهما يعتزمان تقسيم أملاكه بينهما، وهكذا انقسمت الجبهة الإسلامية إلى جبهتين، وأخذ كل منهما يتربص بالآخر( ).
وبدأ النزاع الذي نشب بين الطرفين يتزايد يوماً بعد يوم، وزادت خطورته عندما بدأ الطرفان في الاستعانة بقوة خارجية، إذ استعان المعظم عيسى بالدولة الخوارزمية وسلطانها جلال الدين الخوارزمي, الذي ارتفع شأنه حين ذاك بسبب نجاحه في صد غارة مغولية هاجمت بلاده، وقد قام بناءاً على تحالفه مع المعظم عيسى بحصار مدينة خلاط– عاصمة الأشرف موسى- وقاتل حاميتها ونهب مواردها( ).
فلما علم الملك الكامل بهذه الأحداث استعان هو الآخر بالإمبراطور الألماني فردريك الثاني، فأرسل إليه الأمير فخر الدين يوسف يطلب منه القدوم إلى عكا لمساندته ضد أخيه المعظم عيسى وحلفائه، ووعده أن يعطيه بيت المقدس وبعض الأراضي التي فتحها صلاح الدين( ).
وقد وصلت رسالة الملك الكامل إلى الإمبراطور في الوقت المناسب حيث كان البابا هونوريوس الثالث يضغط عليه من أجل القيام بحملة صليبية وهو يماطل في ذلك، ثم أقسم الإمبراطور يميناً في سنة1225م بأنه سوف يبحر إلى الشام بعد عامين, وبالتحديد في أغسطس سنة 1227م, كما وعد البابا بإرسال ألف فارس على الفور إلى بلاد الشام، وضماناً لتنفيذ قسمه أودع الإمبراطور مبلغ مائة ألف أوقية من الذهب في روما تصادر لصالح الكنيسة إذا لم يف بوعده، ويقود حملة إلى بلاد الشام( ).
ونلاحظ هنا عدم اهتمام البابوية والإمبراطور بالهدنة المعقودة مع المسلمين والتي ستنتهي في عام 1229م، مما يدل على أنهم عادوا لسيرتهم الأولى في نقض المعاهدات.
على أية حال أخذ الإمبراطور ينتحل الأعذار للبابا مرة بعد مرة حتى توفي البابا هونوريوس الثالث سنة 1227م، وتولى البابا جريجوري السابع(1227 -1241م) الذي امتاز بقوة شخصيته، فأبى قبول الأعذار التي ينتحلها الإمبراطور، وأصر على ضرورة رحيله إلى الشرق فوراً( ). وفي هذه الأثناء وصلت رسالة الملك الكامل إلى الإمبراطور الذي استقبل رسول الكامل بالحفاوة والتكريم، وحتى لا تضيع هذه الفرصة من يديه أرسل أسقف بالرمو وتوماس أكونيو كونت اكيرا إلى القاهرة محملين بالهدايا إلى السلطان الكامل وإجراء المفاوضات معه حول شروط الصلح، وقد عرض عليهم الكامل ما سبق أن وعد به الإمبراطور في رسالته، وهو التنازل له عن البلاد التي فتحها صلاح الدين عدا الكرك والشوبك، وهو نفس العرض الذي عرضه الكامل على قادة الحملة الخامسة أثناء حصارها لدمياط.
ولكننا نرى أن الكامل وقع هنا في خطاْ جسيم حيث أن الظروف هذه المرة سنة 1227م تختلف عن ظروف الحملة الخامسة، فالبلاد التي يعرضها على الإمبراطور ليست ضمن أملاكه، وهو حينما عرضها على قادة الحملة الخامسة كان ذلك بموافقة صاحب البلاد وهو المعظم عيسى حاكم الشام, أما الآن فهو في اختلاف مع المعظم عيسى، وقد تنبه الصليبيون لهذا الأمر، ولذلك رأوا أخذ موافقة المعظم عيسي على هذه الشروط قبل عودتهم إلى الإمبراطور، وعندما ذهبوا إلى دمشق لعرض مقترحات الملك الكامل على المعظم عيسى ثارت ثائرته، وأجاب في غضب أنه ليس من الساعين إلى الصلح، وإنه ليس مثل الغير- يقصد الكامل – ماله عندي – أي الإمبراطور – سوى السيف( ).
وربما كان الكامل يضع في حسبانه أنه سيحارب أخاه بمساعدة الإمبراطور، ويسيطر على هذه البلاد، ويتنازل عنها للإمبراطور لتنفيذ وعده، - وهو خطأ آخر فادح – لذلك أخذ الكامل يلح على الإمبراطور للحضور إلى المشرق، وضغوط البابا تتوالى عليه حتى بدأ حملته في سبتمبر سنة 1228م من برنديزي بإيطاليا، ولكن ما كاد الأسطول الصليبي يغادر الميناء حتى تفشت الحمى على ظهر السفن، ومات بعض الأمراء ومرض الإمبراطور، فغادر الأسطول بعد أن طلب منهم الإبحار إلى عكا بقيادة بطريرك بيت المقدس، بينما بقي الإمبراطور يعالج في ميناء بوكسولي، وأرسل إلى البابا يخبره بظروف تخلفه عن الحملة.
ولكن البابا لم يقتنع بما قدمه فردريك من أسباب, وأعتقد أنه عاد إلى المماطلة وانتحال الأعذار مرة أخرى, فقام بإصدار قرار الحرمان من رحمة الكنيسة ضد الإمبراطور( ). وقد أثار هذا القرار سخط الإمبراطور وغضبه ضد البابا، ووجه بياناً إلى حكام أوربا ينكر فيه مزاعم البابا، ويوضح فيه أن البابا شوه الحقيقة كي يوجد مسوغ لإهانته، وأعلن أن سيستمر في طريقه إلى الأراضي المقدسة حالما تحسنت صحته، إلا أن البابا حذره بأنه ليس بوسعه من الناحية القانونية أن يتوجه إلى الشام لقيادة حملة صليبية، ومع هذا حشد الإمبراطور جماعة صغيرة ورحل بها إلى عكا في يونيو 1228م، مما أغضب البابا ولكن لم يكن بإمكانه عمل شي أكثر من ذلك بعد أن استعمل سلاحه الأخير وهو قرار الحرمان( ).
إلا أن الأمراء الصليبيين في الشام وقبرص قابلوه بنوع من عدم الارتياح، وقرر بعضهم وخاصة الداوية والاسبتارية عدم التعاون عسكرياً مع الإمبراطور لأنه محروم من رحمة الكنيسة، وحرضهم على ذلك بطريرك مملكة بيت المقدس، ولم يسانده سوى جماعة فرسان التيوتون باعتبارهم ألمان، وكان مقدمهم هرمان فون سالزا صديقاً للإمبراطور( ).
وقد واجه الإمبراطور عدة عقبات أثناء وجوده في عكا أهمها: عودة جزء كبير من جنوده الذين كانوا قد سبقوه إلى الشام أثناء مرضه في إيطاليا خوفا من أن يسيئوا إلى الكنيسة, وقلقهم على تأخره، كما وصلت إلى الإمبراطور أنباء من نائبه في إيطاليا أنه فشل في الهجوم الذي كلفه به الإمبراطور على مقاطعة أنكونا التابعة للبابا، وأن البابا أخذ يحشد قواته لغزو أملاك الإمبراطور في إيطاليا.
لكل هذه الأسباب أصبح الإمبراطور عاجزاً عن تكوين قوة صليبية كبرى تواجه المسلمين، وخاصة أن جميع الجند الذين تحت تصرفه في الشام لا يزيدون عن أحد عشر ألفاً( ).
ولذلك تحولت حملة فريدريك إلى حملة دبلوماسية تعتمد على المفاوضات لاعلى الحروب، وخاصة أن لديه وعد من الكامل بمنحه بيت المقدس، إلا أن هذه هي الأخرى طرأ عليها تطورات ليست في صالحه، فقد توفى المعظم عيسي وتولى بعده ابنه الملك الناصر داود، وكان شابا في الحادية والعشرين من عمره، فاتفق الكامل والأشرف على اقتسام أملاكه في فلسطين، وسيطر الكامل على بيت المقدس ونابلس، وسيطر الأشرف موسي على دمشق، وأعلنا أن هدفهما هو الدفاع عن البلاد من خطر الصليبيين، وأن واجبهما حماية بيت المقدس، وتم تعويض الناصر داود بالكرك والبلقاء والشوبك في الأردن( ).
وإزاء تطور هذه الأحداث بات الكامل نادماً على استدعائه الإمبراطور فردريك الثاني، وأصبح في حيرة من أمره، إذ لا يمكنه دفعه ولا محاربته، لما تقدم بينهما من الاتفاق، وأنه هو الذي ألح عليه في الحضور، كما أنه ليس من مصلحته في تلك الظروف أن يصطدم بالصليبيين في الشام، أو يثير حربا معهم حينذاك نظرا للخلافات الداخلية بين أبناء البيت الأيوبي من ناحية، ولتخوف الكامل من خطر الدولة الخوارزمية إذا استعان بها ابن أخيه الناصر داود, وخوفه من الخطر المغولي الذي بدأ يتزايد حينذاك.
كما أنه في الوقت نفسه يدرك بأن أي تساهل مع الصليبيين أو تفريط في حقوق المسلمين سيثير ضده الرأي العام في البلاد الإسلامية وخاصة في مصر والشام.
ولم يكن موقف الإمبراطور فردريك أقل حرجاً وحساسية من الملك الكامل، فقد خرج من بلاده محروماً من الكنيسة, مغضوباً عليه من البابوية, معتمدا على وعد الكامل له بإعطائه بيت المقدس لإصلاح مركزه في الغرب الأوربي، ولو كان يعلم أن الكامل سيتراجع في وعده لفكر ألف مرة قبل الخروج إلي الشرق، واستعد استعدادا جيداً للحرب، ولكن بعد أن جرت الأمور بهذا الشكل ماذا يفعل فردريك بالقوة الصغيرة التي معه؟, ولا يستطيع الاعتماد تماماً على تعاون الصليبيين المحليين في بلاد الشام، لأن أي مسيحي مخلص يأبى أن يتعاون مع رجل محروم من الكنيسة، حتى لو كان إمبراطوراً، وإذا هو رجع فاشلا إلى الغرب ماذا سيكون موقفه بعد أن أعطى البابوية سلاحا جديدا للتشهير به والإقلال من شأنه؟, فالمسألة بالنسبة للإمبراطور أصبحت تعنى مستقبل عرشه في أوربا، ومصير المعركة بينه وبين البابوية، وإذا نجح في استرداد بيت المقدس سيكون انتصارا له على البابوية، ولذلك أرسل إلى الكامل يقول له : ( أنه ما له غرض في القدس ولا غيره، وإنما قصد حفظ ناموسه عند الفرنج)( ).
كما أرسل البابا في نفس الوقت إلى السلطان الكامل يحرضه على عدم تسليم بيت المقدس للإمبراطور, حتى لا يكسب شرفاً ونصراً في معركته ضد البابوية، لأن البابا كان يعلم أنه لو قدر للإمبراطور الانتصار في مهمته فإن ذلك سيكون في نظر المعاصرين بمثابة حكم الله للإمبراطور المحروم، وفي هذا فصل الخطاب بين الإمبراطورية والبابوية( ).
وهكذا لم يبق أمام الإمبراطور سوي سلاح المفاوضات، واستخدام كل الوسائل السياسية للوصول إلى غرضه والسيطرة على بيت المقدس.
المفاوضات وعقد صلح يافا:
دار بخلد الملك الكامل في آخر الأمر فكرة لكسب الوقت مع الإمبراطور حتى يتمكن من حسم خلافات البيت الأيوبي بصورة نهائية، أو يعود الإمبراطور إلى بلده بعد ملله من طول المفاوضات. ولذلك أرسل الأمير فخر الدين يوسف - الذي سبق له وقام بسفارة إلى الإمبراطور في أوربا ـ إلى عكا لفتح باب المفاوضات مع الإمبراطور، وطلب منه إطالة هذه المفاوضات بكل الوسائل والطرق، واستمرت هذه المفاوضات عدة شهور استعمل خلالها كل طرف ما لديه من أساليب الخداع والمراوغة، ويرجع طول المفاوضات إلى شخصية كل من الملك الكامل والإمبراطور فردريك( ). حيث أن كلا منهما يعمل علي تجنب الحرب بقدر الإمكان, وفي الوقت نفسه كان كل منهما أيضاً مسئولاً أمام رعيته، وأنه يريد أن يحقق نصراً، لذلك تشدد كل منهما في المفاوضات, ومما زاد في طول المفاوضات انه كانت تجرى خلالها محاورات في علوم شتى, فقد سير الإمبراطور إلي الكامل أثناء المفاوضات مسائل في الحكمة والهندسة والرياضة ليمتحن بها من عنده من الفضلاء, فعرض الكامل ما أورده من المسائل الرياضية علي الشيخ علم الدين قيصر, وعرض الباقي علي العلماء كل في مجال تخصصه, وقد أجابوا علي ما أورده الإمبراطور( ).
وظلت الرسل تتردد بين الكامل والإمبراطور, حتى أرسل الإمبراطور في آخر الأمر سفارة من رسولين تحمل للكامل هدايا نفيسة, وتطالبه صراحة بعدم المماطلة وتنفيذ وعده وتسليم بيت المقدس, فرد الكامل عليهم بصراحة أيضاً بأنه لا يستطيع تنفيذ وعده لأنه كان سيعطي بيت المقدس للإمبراطور ثمناً للمساعدة التي يقدمها الإمبراطور له ضد أخيه المعظم عيسي, أما وقد تبدلت الظروف واستغني السلطان عن المساعدة فلا داعي لدفع الثمن, لا سيما وأن التفريط في بيت المقدس سيؤذى شعور المسلمين عامة( ).
وقد رفض الإمبراطور رد الملك الكامل, وأصر علي عدم العودة إلي بلاده إلا إذا تسلم بيت المقدس, ولذلك حاول القيام بعمل عسكري أو مظاهرة عسكرية لإرغام الكامل علي قبول الصلح, فأمر بحشد كل العساكر الذين يتبعونه, وساروا إزاء الساحل إلي يافا, وقاموا بتحصينها وعمارة استحكاماتها, حتى يظن الكامل أنهم يستعدون للحرب. كما قامت القوات الصليبية بطرد المسلمين من صيدا ـ وكانت مناصفة بين المسلمين والصليبيين ـ وكان سورها خراب, فعمرها الصليبيون واستولوا عليها, مما أدى إلي غضب الكامل وأمر بقطع المفاوضات مع الإمبراطور( ).
كما تلقي الإمبراطور أنباء سيئة من صقلية تفيد أن البابا أصدر ضده قرار الحرمان مرة ثانية, وأباح لرعاياه الاعتداء علي ممتلكاته, كما نشرت البابوية إشاعة في الغرب بأن الإمبراطور قد مات, وادعي البابا لنفسه حق الوصاية علي الإمبراطورية( ). وكان لهذه الأخبار أثرها في نفس الإمبراطور الذي أحس بضرورة عودته إلي بلاده, ولكنه أدرك أن رجوعه فاشلاًً سيزيد حرج موقفه أمام الرأي العام في الغرب الأوروبي، لذلك رأي الإمبراطور العمل على استئناف المفاوضات مع الملك الكامل مرة أخرى، ولكن الكامل اشترط لذلك دفع تعويضات عن الخسائر التي نجمت عن هجوم الصليبيين على صيدا, ونهبهم ما حولها من القرى الإسلامية( ).
وقد استجاب الإمبراطور وقام بدفع التعويضات، واستؤنفت المفاوضات بين الطرفين حيث لجأ الإمبراطور خلال هذه المرحلة إلى سلاح الاستعطاف والتذلل للملك الكامل، إذ يقول له في رسالة أرسلها إليه أثناء المفاوضات (أنا مملوكك وعتيقك، وليس لي عما تأمره خروج، وأنت تعلم أني اكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي، فإن رجعت خايباً انكسرت حرمتي بينهم.... وهذا القدس فهي أصل اعتقادهم وضجرهم، والمسلمون قد أخربوها فليس لها دخل طائل، فإن رأى السلطان أن ينعم علي بقبضة البلد والزيارة فيكون صدقة منه ويرتفع رأسي بين ملوك البحر( ).
ولم تلبث تلك الاستعطافات أن آتت أكلها وأفلحت في التأثير على الملك الكامل، واثبت فردريك في آخر الأمر تفوقه في المساومة على الكامل، حتى أنه نجح في كسب تأييد رسول الكامل له وهو الأمير فخر الدين يوسف، وكان لهذا الأمير دور كبير في عقد الصلح، إذ أنه نصح الإمبراطور بإرسال سفارة من قبله مرة أخرى تضم توماس أكيرا وباليان حاكم صيدا إلى الكامل في أوائل فبراير سنة 1229م, وكان اختيار هذا الوقت بالتحديد لتعرض الكامل لعدة أخطار, حيث أنه مازال يحاصر ابن أخيه الناصر داود في دمشق دون أن تبدوا في الأفق ملامح التسليم لعمه الكامل، كما عاد جلال الدين الخوارزمي يوجه اهتمامه نحو الغرب وأملاك الأشرف موسى مرة أخرى، حيث استنجد به الناصر داود ضد عميه الكامل والأشرف موسى، ولذلك لن يغامر الكامل بإضافة خطر جديد له وهو الصليبيين، فأرسل إلى الإمبراطور في الحادي عشر من فبراير سنة 1229م شروطه النهائية لعقد الهدنة التي سرعان ما وافق عليها الإمبراطور، وتم التوقيع عليها في الثامن عشر من فبراير سنة 1229م مع ممثلي الملك الكامل وهم الأمير فخر الدين يوسف، وصلاح الدين أمير إربل, وشهد عليها من الجانب الصليبي هرمان فون سالزا مقدم طائفة الفرسان التيوتون، وأسقف مدينتي اكستر وونشستر، كما حلف عليها الإمبراطور فردريك ثم الملك الكامل بعد وصولها إليه.
وتضمنت المعاهدة النقاط التالية:ـ
1) قيام الملك الكامل بتسليم القدس إلى الإمبراطور على شريطة أن يبقى خراباً، وللإمبراطور فردريك وحده دون سواه أن يعيد بناء أسوار المدينة.
2) إطلاق سراح الأسرى المسلمين والصليبيين من كلا الجانبين.
3) تكون جميع قرى بيت المقدس للمسلمين، ولهم والي يكون مقامه في مدينة البيرة.
4) أن يكون الحرم الشريف بما حواه من الصخرة المقدسة والمسجد الأقصى بأيدي المسلمين, وشعار المسلمين فيه ظاهر، ولا يدخله الفرنج إلا للزيارة، ويتولاه قوم من المسلمين يقيمون فيه شعائر الإسلام من الأذان والصلاة.
5) تحصل مملكة بيت المقدس على مدينة القدس ذاتها وبيت لحم، مع شريط من الأرض يخترق مدينة اللد وينتهي عند يافا، بالإضافة إلى الناصرة وغرب الجليل بما اشتمل عليه من حصن منتفورت وتبنين وصيدا بأكملها.
6) يتعهد الإمبراطور بمحالفة الكامل ضد أعدائه ولو كانوا من الصليبيين, ويضمن الإمبراطور للسلطان عدم وصول أي مساعدات للقلاع السورية الباقية في أيدي الصليبيين.
7) أن يكن أجل الهدنة عشر سنوات بالتقويم المسيحي، أي ما يقارب من عشر سنوات وخمسة شهور بالتاريخ الهجري( ).
ولا تسري هذه المعاهدة على إمارتي أنطاكية وطرابلس التي كان يحكمهما آنذاك بوهيمند الرابع، ولذلك لم يشركه في المعاهدة.
نتائج صلح يافا
أولاً: بالنسبة للجانب الصليبي:
كان صلح يافا انتصاراً للإمبراطور فردريك الذي كان محروماً كنسياً، في حين كان البابا يصلي من أجل إخفاق مهمته، ورغم هذا نجح في إعادة الأراضي المقدسة إلى العالم المسيحي في الوقت الذي أخفق فيه عديدون تحت صفة كاملة من القداسة، ومع بركات البابا، بالإضافة إلى أن ذلك تم دون أن يدخل معركة أو يخسر رجلاً واحداً من قواته. ومن الغريب هنا أن الصليبيين رفضوا هذا الصلح الذي أعاد لهم بيت المقدس، وأعرب غلاتهم عن حزنهم بأن بيت المقدس لم يسترد بقوة السلاح, وامتعضوا لاحتفاظ المسلمين بمشاهدهم، وتذكروا جميعاً ما جرى من مفاوضات في الحملة الصليبية الخامسة، حيث تقرر رفض عرض الكامل بالتنازل عن كل فلسطين، لأن الخبراء العسكريين أشاروا إلى أن بيت المقدس لم تكن لتبقى في أيدي الصليبيين ما لم يضف إليها إقليم ما وراء نهر الأردن، فكيف تستطيع بيت المقدس عندئذ أن تبقى ولا يربطها بالساحل سوى شريط ضيق من الأرض؟, ولذلك لم يحدث بين الصليبيين من الابتهاج والسرور ما كان الإمبراطور يتوقعه، ولم يقترح أحد برفع قرار الحرمان من الكنيسة عن الرجل الذي أدى للعالم المسيحي هذه الخدمة الكبيرة( ).
ولم يكتف الصليبيون بالاستياء من الإمبراطور، وإنما أعلن البطريرك جيرولد البطريريك الإسمى لبيت المقدس فرض الحظر والحرمان على المدينة المقدسة إذا استقبلت الإمبراطور، كما أعلن الداوية والاسبتارية بأنهم لن يتعاونوا مع عدو البابا، هذا فضلاً عن غضب الداوية بصفة خاصة لأن الإمبراطور سمح للمسلمين بالاحتفاظ بالمسجد الأقصى، الذي كان مركزاً للداوية قبل حطين( ).
أما بارونات الصليبيين المحليين في الشام فقد أعلنوا كراهيتهم ونفورهم من الإمبراطور، وخاصة بعد إعلانه بأنه سوف يمضي إلى بيت المقدس ليتوج بها ملكاً، مع أنه في الواقع ليس ملكاًً بل وصياً على الملك الشرعي وأباً له( ).
وهكذا لم يعترف أحد بفضل الإمبراطور فردريك الثاني، وتنكرت جميع طوائف المسيحيين له، وبخسوه العمل الكبير الذي أداه لهم باسترداده بيت المقدس دون عناء، إلا أن الإمبراطور لم يضيع وقتاً في النقاش والجدال، وتوجه إلى بيت المقدس عقب الفراغ من عقد صلح يافا، فدخلها في يوم السبت السابع عشر من مارس سنة 1229م، وكان يرافقه عساكره من الألمان والإيطاليين، وعدد قليل من البارونات المحليين، ولم يمثل الطوائف الدينية العسكرية إلا الفرسان التيوتون، ولم يصحبه من رجال الدين سوى أساقفة صقلية، وصديقيه الإنجليزيين بطرس أسقف ونشستر, ووليم أسقف أكستر، واستقبل الإمبراطور عند الباب القاضي شمس الدين قاضي نابلس الذي أرسله الكامل ليكون مرافقاً للإمبراطور ويسلمه المدينة، وقد اجتاز الإمبراطور شوارع المدينة وكانت شبه خالية من الناس بعد أن هجرها المسلمون، ونأي المسيحيون من أهل المدينة بعيداً خوفاً من عودة الصليبيين إلى المدينة، وهي لن تعود عليهم بالخير( ).
وقد حدث في بلاط الإمبراطور شيء من الحيرة والتردد، إذ علموا أن رئيس أساقفة قيسارية في طريقه لبيت المقدس يحمل أوامر البطريرك بوضع المدينة تحت الحظر والحرمان بعد استقبالها للإمبراطور، إلا أنه لم يهتم بذلك، وتوجه في صبيحة اليوم التالي – الأحد الثامن عشر من مارس – ليشهد القداس في كنيسة القيامة، فلم يجد بها أحد من القسس، فتقدم رابط الجأش قوي الجنان ليتوج نفسه بيده، حيث وضع التاج الملكي على مذبح الكنيسة، ثم تناوله بيده ووضعه في رأسه، وربما تعمد الإمبراطور تتويج نفسه بيده في كنيسة القيامة إشارة منه في ذلك المكان ذي الأهمية الدينية القصوى لدى المسيحيين إلى أنه لم يأخذ التاج بواسطة الكنيسة، أو من أحد رجال الدين، وإنما أخذ الإمبراطور تاجه وتلقى سلطانه من الله مباشرة( ).
وبعد تتويج الإمبراطور ألقى مقدم الفرسان التيوتون خطبة أشاد فيها بالإمبراطور ووصف أعماله الباهرة، وبرر سياسته، ثم عاد الجميع إلى دار الاسبتارية التي اتخذها الإمبراطور مقراً لإقامته، حيث عقد مجلساً لمناقشة أمر الدفاع عن المملكة، وكان أول هذه الأمور تحصين مدينة القدس، وهو ما نصت عليه الهدنة، ولكن من حق الإمبراطور وحده القيام بهذا العمل، فأصدر الإمبراطور أمراً بالمبادرة إلى إصلاح برج داود وباب اصطفان، وسلم المقر الملكي المجاور لبرج داود إلى الفرسان التيوتون، إذ لم يتعاون معه غيرهم.
ويبدو أن تحصينات المدينة كانت من اقتراح القادة الصليبيين، لأنه إذا رحل الإمبراطور والقدس على حالها خربة، لم يعد بوسع أحد إقامة تحصينات بها( ).
ولم يدع الإمبراطور الفرصة تفوته وهو بالقدس لزيارة الأماكن الإٍسلامية ومشاهدة آثار الحضارة الإسلامية الذي كان متأثراً بها لنشأته في صقلية, والملحوظ أنه كان بحاشيته جماعة من علماء المسلمين منهم معلمه في الفلسفة وهو عربي من صقلية، فطلب من رفيقه القاضي شمس الدين أن يصحبه لمشاهدة المزارات الإسلامية، وقد أعجب الإمبراطور بعمارة المسجد الأقصى, وعمارة قبة الصخرة، ومحراب المسجد الأقصى، وقد طلب السلطان الكامل من المؤذنين عدم الأذان في المدينة أثناء وجود الإمبراطور احتراماً لمشاعره، وتعظيماً لهّ !!
فلما علم الإمبراطور بذلك أعلن احتجاجه، إذ لا ينبغي أن يغير المسلمون بسببه عاداتهم وتقاليدهم، وقال للقاضي (أخطأت فيما فعلت، والله أنه أكثر غرضي في المبيت في القدس أن أسمع آذان المؤذنين وتسبيحهم بالليل)( ).
ولما دخل الإمبراطور ساحة الحرم الشريف شاهد قسيساً من رجال الدين المسيحي يقتفي أثره، فبادر بنفسه إلى أن يطرده في خشونة وقسوة، وأصدر الأوامر أن كل قسيس مسيحي يجتاز عتبة الحرم الشريف بدون إذن من المسلمين يكون جزاءه الموت, وقال لهم: (إنما نحن مماليك هذا السلطان الكامل وعبيده, وقد تصدق علينا وعليكم بهذه الكنائس على سبيل الإنعام منه, فلا يتعدى أحد منكم طوره)( ).
ونلاحظ من خلال هذه المواقف إحساس الإمبراطور بأنه حصل على أكثر مما يستحق, ولذلك يحاول إرضاء الملك الكامل والمسلمين ببعض المواقف الشكلية التي لن تعيد إليهم ما فقدوه, وفي هذه الأثناء وصل رئيس أساقفة قيسارية إلي مدينة القدس ليضع المدينة تحت قرار القطع, وكان بالإمكان الإعلان عن ذلك في مدينة عكا, ولكن إصرار البطريرك جيرولد علي ذهاب رئيس الأساقفة يحمل معني كبيراً, وهو إعلان الرفض التام للمعاهدة وموقف الإمبراطور فردريك, كما تحمل في طياتها تحد سافر للإمبراطور, وإحراجه أمام المسلمين, ولذلك غضب الإمبراطور لهذه الإهانة, وبادر علي الفور إلى التخلي عن المضي في أعمال الدفاع عن المدينة وتحصين أسوارها, وسيكون ذلك في صالح المسلمين, فقد أضحى بوسعهم دخول المدينة عندما تسمح الظروف, وقد عجل الإمبراطور بالمسير إلى يافا بعد أن جمع كل رجاله، ومكث بيافا يوماً وأحداً، ثم سار إلى عكا فدخلها في الثالث والعشرين من مارس سنة 1229م( ).
وقد استقبلته عكا أسوأ استقبال، لأن أمراء الصليبيين المحليين اعترضوا على قيام الإمبراطور بعقد معاهدة مع المسلمين دون رضاهم، كما غضبوا أيضاً لزرايته بالدستور وقوانين المحكمة العليا الصليبية حيث قام بتتويج نفسه ملكاً على مملكة بيت المقدس رغم أنه لم يكن سوى وصياً على ابنه كونراد.
ومن جراء هذا الغضب وقع صدام بين قوات الإمبراطور، والقوات الصليبية المحلية ومن معهم ـ خاصة تجار مدينتي جنوه والبندقية ـ لأن الإمبراطور أغدق الامتيازات على التجار البيازنة، لأن مدينة بيزا الإيطالية قد تحالفت مع الإمبراطور ضد البابوية( ).
وقد أراد الإمبراطور امتصاص غضب الصليبيين المحليين فعقد في صبيحة اليوم التالي لحضوره اجتماعا حضره جميع ممثلي مملكة بيت المقدس ورجال الدين والحجاج، وعرض عليهم تقريراً عن أعماله، ووضح لهم وجهة نظره، وأسباب إتباع هذه السياسة تجاه المسلمين, ولكن كلماته لم تلق سوى الرفض والغضب من قبل الحاضرين، وعندئذ لجأ إلى استخدام القوة، فحاصر قصر البطريرك، ووضع حراسة مشددة حول قصر الداوية، وعلى منافذ مدينة عكا بحيث لا يدخل ولا يخرج أحدا إلا بتصريح خاص.
وبعد أن قضى الإمبراطور خمسة أسابيع في عكا حاول خلالها السيطرة على الموقف داخل المدينة لكنه لم يوفق، كما وصلته أنباء من إيطاليا بأن قوات البابوية بزعامة صهره حنا دى برين أغارت على ممتلكاته بإيطاليا، فلم يعد بوسعه أن يبقى بالشرق أكثر من ذلك، فعين باليان حاكم صيدا وجارنيه الألماني نائبين عنه في حكم المملكة، وأوردو أف مونتبليارد قائداً للجيش.
ونلاحظ أن قبول هؤلاء الأمراء لهذه المناصب وهم من القادة الصليبيين المحليين يعتبر اعترافاً منهم بسلطة الإمبراطور بصفته ملكاً على مملكة بيت المقدس، وربما يكون قبولهم هذه المناصب مراوغة منهم حتى يرحل الإمبراطور، دون مزيد من المتاعب لهم، وقد رحل الإمبراطور في أول مايو سنة 1229م، وكان وداعه سيئا من أهالي عكا الذين قذفوه بالقاذورات، ثم اتجه إلى قبرص ومنها إلى إيطاليا( ).
ورغم هذه المواقف من جانب الصليبيين فإن صلح يافا والإمبراطور فردريك حقق لهم مكاسب عديدة ما كانوا سيحققونها بدونه، إذ نجح في فهم عقلية المسلمين لاتصاله بعلمائهم في بلاطه، وأدرك أنه لابد من قيام شيء من التفاهم بين المسلمين والمسيحيين إذا قدر للشرق الفرنجي أن يبقى، لذلك نجح بالطرق السلمية رغم ضآلة قواته فيما لم تنجح فيه أكبر الحملات الصليبية استعداداً مثل الحملة الثالثة والخامسة.
أما عن اعتراض الصليبيين بأن بيت المقدس مدينة بدون أسوار يسهل السيطرة عليها من قبل المسلمين، فنرد عليهم بأنها مدينة مقدسة يجب أن تكون مفتوحة أمام جميع الأديان، ولا يحرم من دخولها زائر، وهذه الفكرة تتردد في الوقت الحاضر كحل لقضية القدس بجعلها مدينة مفتوحة أمام جميع الأديان، وتديرها إدارة دولية لا سلطان لقوة معينة عليها، وربما كان هذا ما يدور في رأس فردريك قبل سبعة قرون، وهذا الوضع هو الذي كان قائما في المدينة قبل قدوم الحملات الصليبية، حيث كانت الإدارة الإسلامية بها تفتح أبوابها لجميع الديانات دون قيد أو شرط، ولذلك كانت تحصيناتها ضعيفة فسيطرت عليها الحملة الصليبية الأولى في فترة قصيرة.
والاعتراض الثاني للصليبيين على الصلح أن الشريط البرى الذي يربط المدينة المقدسة بيافا كان عرضة للغارات الإسلامية، ونرد عليهم بأن القوى الإسلامية لم يسبق لها نقض هدنة عقدتها قيادتها، وإنما على العكس نقض الصليبيون العديد من المعاهدات، إذاً سيظل هذا الطريق آمنا خلال فترة الهدنة وهى عشر سنوات، ويستطيعون بعد ذلك أن يقوموا بتأمينه وتحصينه بأنفسهم طالما لم يعجبهم ما فعله الإمبراطور، كما أن المملكة كلها كانت عبارة عن مجموعة من المدن والقلاع يسهل للقوات الإسلامية الإغارة عليها وليس طريق بيت المقدس وحده، وفى آخر الأمر نقول إن الصليبيين كان بإمكانهم نقض صلح يافا بعد رحيل الإمبراطور، وإعادة بيت المقدس للمسلمين، ثم يحرروه بالحرب كما أرادوا، ولكنهم التزموا بالصلح حتى نهايته سنة 1239م، وهذه من المرات القلائل التي التزموا فيها بهدنة حتى نهايتها، مما يدل على أنهم أدركوا أنها في صالحهم .
كما استفاد الصليبيون من الهدنة أكبر فائدة بعدم تعرض المسلمين لهم أثناء الحروب والصراعات التي دارت بينهم منذ سنة 1231م، وأدت إلى حدوث فوضى سياسية في الإمارات الصليبية، ولولا الهدنة لسيطر المسلمون على العديد من القلاع والمدن الصليبية التابعة لمملكة بيت المقدس.
ثانيا بالنسبة للجانب الإسلامي:
ما أن تم عقد صلح يافا وأرسل الملك الكامل رسولاً من قبله ينادي بخروج المسلمين من بيت المقدس وتسليمه للفرنج حتى ثارت موجة عامة من السخط والأسى في العالم الإسلامي. يصفها ابن الأثير الذي كان معاصراً لهذه الأحداث بقوله: (تسلم الفرنج بيت المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم مالا يمكن وصفه، يسر الله فتحه، وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه)( ).
أما المقريزي فيفصل مدى الأسى الذي حل بالمسلمين عند سماعهم خبر تفريط الكامل في بيت المقدس فيقول: (فاشتد البكاء، وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان، فعز عليه ذلك)( ).
وكانت مدينة دمشق أكثر المدن تأثراً وحزنا لضياع بيت المقدس، وخاصة أن حاكمها الناصر داود كان على خلاف مع عمه الكامل الذي كان محاصراً دمشق حينذاك، ولذلك أرسل الناصر داود إلى الشيخ شمس الدين أبى المظفر سبط بن الجوزى أن يذكر ما جري على القدس في مجلس وعظه بجامع دمشق، ليكون ذلك زيادة في الشناعة على عمه الكامل، فجلس ووعظ وقال: (انقطعت عن بيت المقدس وفود الزائرين! يا وحشة للمجاورين! كم كانت لهم في تلك الأماكن ركعة! كم جرت لهم في تلك المساكن من دمعة. بالله لو صارت عيونهم عيونا لما وفت، ولو انقطعت قلوبهم أسفا لما اشتفت. أحسن الله عزاء المسلمين. يا محلة ملوك المسلمين. لهذه الحادثة تسكب العبرات، ولمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات ثم أنشد قوله :ـ
أعيني لا ترقى من العبرات( ).
صلى بالبكا الآصال بالبكرات( ).

وهكذا قامت القيامة في البلاد الإسلامية حتى أنهم أقاموا الأعزية والمآتم حزناً على فقد بيت المقدس، ولذلك علق العماد الحنبلي على هذا الموقف بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون( ).
وقد حاول الملك الكامل أن يبرر موقفه، ويهون من أمر تسليم بيت المقدس للصليبيين, فأعلن للأئمة أنه لم يسمح لهم إلا بالكنائس ودور خراب، والمسجد الأقصى وما فيه من الصخرة المقدسة وسائر المزارات على حاله، وشعار الإسلام قائم، ووالى المسلمين متحكم في الأعمال والضياع، ولا زالت للمسلمين السيادة العسكرية في الإقليم( ).
إلا أن هذه الأعذار لم تكن كافية عند المسلمين، ولم تبرر للكامل عند المسلمين صلح يافا حتى أن أئمة الكامل نفسه اتهموه جهاراً بأنه أساء إلى الإسلام، وقد أحس الإمبراطور فردريك بما سببه صلح يافا من حرج للسلطان الكامل وثورة عليه, فاعتذر للأمير فخر الدين يوسف بأنه لولا يخاف انكسار جاهه في الغرب ما كلف السلطان شيئاً من ذلك، ما له غرض في القدس ولا غيره، وإنما قصد حفظ ناموسه عند الفرنج( ).
ولم يكتف المسلمون بالاحتجاج والاستنكار، وإنما قام الأئمة في نابلس وحبرون بجمع حشد كبير من المسلمين وتوجهوا به إلى بيت المقدس، فهرب المسيحيون أمامهم، واحتموا ببرج داوود، وأرسلوا إلى عكا يلتمسون النجدة، فقدم نائبي الإمبراطور على رأس قوات عسكرية اضطر المسلمون أمامها للارتداد والخروج من بيت المقدس، وخاصة أنهم لم يكونوا مسلحين، ولم يحدث منهم اعتداء على أي مسيحي بالمدينة، وقد أنكر الأمراء المسلمون صلتهم بهذه المسيرة حفاظاً منهم على الهدنة مع الصليبيين( ).
ونرى أن صلح يافا كان خسارة سياسية ودينية للمسلمين أكثر منها خسارة عسكرية، والمسئولية هنا لا تقع على عاتق الملك الكامل وحده وإنما تقع على عاتق كافة أفراد البيت الأيوبي، الذين نسوا أو تناسوا واجبهم الأساسي وهو الدفاع عن البلاد الإسلامية، واستكمال مسيرة أسلافهم صلاح الدين والعادل في محاربة الصليبيين وتحرير البلاد منهم، وانشغلوا بمحاربة بعضهم لزيادة نفوذهم، ولو فكروا قليلاً لزادوا نفوذهم بطرق أخرى مفيدة للمسلمين, ألا وهي التوسع على حساب الصليبيين بدلاً من إراقة دماء المسلمين في محاربة بعضهم، ولم يكتف أبناء البيت الأيوبي بمحاربة بعضهم، وإنما استعانوا بقوى خارجية عملت على إشعال الصراع أكثر بين المسلمين، وبالتالي خسارة لكل الأطراف الإسلامية.
ولكن يتحمل الملك الكامل وأميره فخر الدين يوسف الجزء الأكبر من مسئولية ضياع بيت المقدس لعدة أسباب:-
أولاً: عدم اهتمام الكامل ببيت المقدس منذ توليه الحكم، واستعداده للتنازل عنه كلما واجهه خطر من المخاطر كما حدث خلال الحملة الخامسة والسادسة, رغم أن الحملة السادسة كان خطرها العسكري ضئيل, ويمكن مواجهته.
ثانياً: حرصه على مهادنة الصليبيين بكافة الوسائل وعدم استفادته بأوقات ضعفهم وقيام الصراع بينهم، حتى أتهمه مؤرخ أوربي وهو رانسيمان بأنه مسئول إلى حد كبير عن افتقار المسلمين إلى روح المهاجمة والجهاد ضد الصليبيين( )، في الوقت الذي كان لا يتوانى فيه عن مهاجمة أملاك أخوته وأبناء عمومته في الشام لتوسيع دولته ونفوذه، كما حارب بعض الدول الإسلامية مثل الدولة الخوارزمية والسلاجقة, بينما ترك الصليبيين في هدوئهم لم يثر لهم أي اضطراب من جانبه. وبذلك يعتبر مسئولاً إلى حد كبير عن صرف المسلمين عن الجهاد ضد الصليبيين.
ثالثاً: استعانته بالإمبراطور فريدريك ضد أخيه المعظم عيسى، وكان من الأولى أن يحاول ويسعى للتصالح مع أخيه أولاً، وإذا تعذر فيستعين بقوى إسلامية، أما أن يستعين بقوة صليبية فهو خسارة للجميع، وما أشبه الليلة بالبارحة عندما تعتدي دولة إسلامية على أخرى فتستعين بقوى صليبية حديثة تستنزف موارد الجميع وتفرض سيطرتها عليهم.
رابعاً: يتحمل الأمير فخر الدين يوسف جزء كبير من مسئولية خسارة المسلمين بيت المقدس، لأنه فقد أهم صفات النائب المسلم في المفاوضات, وهي إخفاء عيوب ومظاهر ضعف المسلمين، وإظهار ملامح قوتهم, لفرض شروط المسلمين على العدو، ولكنه على العكس دل الإمبراطور على أوقات ضعف الكامل, واشتداد الصراع بينه وبين أخيه، وطلب منه إرسال رسله للكامل في هذا الوقت، بل وحرض الكامل على قبول شروط الإمبراطور، وإذا كان قد فعل هذا ليكسب صداقة الإمبراطور فقد خان بذلك المسلمين، ولذلك حمل له الإمبراطور هذا الجميل، وظل على ود معه حتى بعد رحيله إلى ألمانيا، واستمرت المراسلات بينهم( ).
ومن الملاحظ أن العلاقات الودية ظلت مستمرة بين الملك الكامل والإمبراطور فريدريك وبين أولادهم وأحفادهم من بعدهم، وعندما توفى الملك الكامل وتولى ابنه العادل الثاني(1238-1240م) ظلت العلاقات والمراسلات بينه وبين الإمبراطور فريدريك، وبعد الملك العادل تولى أخوه الملك الصالح أيوب (1240-1249) حكم البلاد, استمر الأمر على ما هو عليه، وأرسل للإمبراطور العلامة سراج الدين فأقام عنده مكرماً لبعض الوقت، وصنف له كتاباً في المنطق, وقد أحسن إليه الإمبراطور، كما أن الإمبراطور أرسل إلى الصالح أيوب يحذره باستعداد لويس التاسع ملك فرنسا للقيام بحملة صليبية لغزو البلاد( ).
ورغم اعتراض المسلمين والمسيحيين على صلح يافا فإنه استمر حتى نهايته سنة 1239م، ولم يقم أحد الطرفين بنقضه لانشغال كل طرف بمشاكله الداخلية، فقد كان الصليبيون في نزاع دائم لعدم وجود ملك قوي أو شخصية قوية بارزة ترعى مصالحهم وتوحد صفوفهم، والبيت الأيوبي انشغل هو الآخر بالصراع على النفوذ وخاصة بعد وفاة الأشرف موسى1237م والكامل سنة1238م مما يعد نذيراً ببداية النهاية للدولة الأيوبية وقرب انهيارها.