مفهوم التمفصل والتمفصل المزدوج
(double articulation)

لست متخصصا، لكنني مترجم ولغوي، لذلك فقد رأيت أن أقرأ الموضوع قراءة متعمقة، وأن أبدأ بهذا التعليق الذي لا يعتبر أكثر من إعادة صياغة لما أورده الأخ الدكتور فؤاد بوعلي في مشاركته، راجيا أن يكون في مداخلتي ما يفيد.

في علم العلامات (السيميولوجيا) (semeiology) يستخدم مصطلح التمفصل (من مفصل) بمعنى قابلية انفكاك الشيء إلى قطع مرتبطة ببعضها مع كونها قابلة للإنفكاك بشكل يشبه تماما الالتحام المفصلي للقاطرات بعضها ببعض. والتمفصل في اللغة هو قابلية الجمل والمنظومات اللغوية للتقطيع أو التجزئة إلى عدد لانهائي من المقاطع أو الوحدات الدلالية (المونيمات) (moneme) الأصغر، بحيث يمكن إعادة استعمال واستثمار هذه المقاطع والوحدات الدلالية في جمل ومواضع أخرى من الكلام لتأدية مضامين جديدة من دون اللجوء إلى عناصر لغوية جديدة. ويعود تعريف التمفصل على هذا النحو إلى العالم اللغوي سوسور.

ويعرف بيير جوراود (Pierre Guiraud) التمفصل السميولوجي بقوله: "عندما يكون الخطاب قابلا للتجزئة يكون مفصليا، ولا شك أن الدلالية شرط لوجود كافة الكيانات السميولوجية، فبالإضافة إلى القواعد الإعرابية النحوية المستخدمة في إيجاد عبارات أكثر اتساعا في المعنى للمعيار المفصلي، توجد مفردات مكونة من الوحدات الأساسية"

أما العالم اللغوي أندرى مارتيني (André Martinet) فقد وجد من خلال فقه اللغة البنيوي أن كل خطاب لغوي إنساني ينقسم أو ينفصل أو يتمفصل إلى خاصيتين أو تمفصلين أو مرحلتين أو مستويين، المستوى الأول أو التمفصل الأول الأعلى منها هو التمفصل المزدوج، وقد سماه بالمزدوج لأن هذا التمفصل يعني تقطيع وتجزئة الجملة أو المنظومة اللغوية الدال إلى نوعين من الوحدات اللغوية: الوحدات الدلالية (المونيمات) وهي أصغر وحدة معنى، لها شكل صوتي دال، والوحدات الصوتية (الفونيمات) (phoneme) وهي أصغر وحدة صوت، لها شكل كلامي صوتي، ولكنها فارغة من الدلالة والمعنى.

ويتكون المضمون الكلامي في التمفصل الأول من الوحدات الدلالية الأصغر (مثل الكلمات والوحدات الأسلوبية أو الصرفية (المورفيمات) (morpheme): أصغر وحدة لغوية صرفية دلالية غير قابلة للتجزئة)، وهذا المستوى من التمفصل يسمى في اللغة "المستوى النحوي". والوحدات الدلالية (المونيمات) الموجودة في هذا المستوى هي علامات تامة تتكون كل واحدة منها من دال و مدلول.

ويعتبر التمفصل المزدوج (double articulation) من أهم الخواص والمفاهيم والمبادئ والنظريات اللغوية، كما أنه أساس الفصل بين اللغة البشرية وبين أشكال التعبير الأخرى.

أما المستوى الثاني أو التمفصل الثاني الأدنى بحسب العالم اللغوي مارتيني فهو المستوى الفونيمي، وهو قابلية الوحدات الدلالية (المونيمات) للتمفصل إلى أشكال بسيطة متكررة أو وحدات صوتية أصغر (فونيمات) غير دلالية بحد ذاتها، وهي الأصوات أو الحروف أو الوحدات الكتابية (الغرافيمات) (grapheme) التي تمثل وحدات صوتية تفاضلية وبنيوية بشكل كامل يمكن إعادة عزلها وإعادة استعمالها لتأليف كلمات وتأدية مضامين جديدة. وليست هذه الوحدات علامات بحد ذاتها (إذ من الضروري حتما وجود مستوى التمفصل الأول لكي تصبح هذه الوحدات الأصغر علامات ذات مغزى). وهذه الوحدات الصغيرة هي عناصر رمزية لا تشير إلى شيء. وإن وظيفة هذه الوحدات الصغيرة في مضمون يشمل كلا المستويين هو تمييز الوحدات الدلالية الأصغر. فالوحدات الصوتية (ك – ل – م) مثلا هي من عناصر التمفصل الثاني، ووظيفتها هي تمييز الكلمات مثل (كلم – ملك – لكم) التي هي من عناصر مستوى التمفصل الأول. ومن هذا يتبين أن مستوى التمفصل الثاني هو مستوى فونولوجي.

ومن الجدير بالذكر أن العالم اللغوي جاكسون أشار إلى قابلية تقطيع الوحدات الصوتية نفسها إلى خصائص أو صفات صوتية وسماها بـ (السمات المميزة).

دمتم، وكل عام وأنتم والجميع بخير،

منذر أبو هواش