إيطاليا.. تاريخٌ من الوجودِ الإسلامي

بِالأمس البعيد كان للعرب والمسلمين قدم في هذه البلاد، فكانت شاهدةً على فتوحاتهم وتوسعاتهم ونقل حضارتهم إلى غيرهم، حتى إن الزائر إليها يكاد يستشعر الوجود العربي والإسلامي في معظم مُدنها، ويلمس فيها إرثًا كان يعلن عن نفسه يومًا.
هي جزيرة صقلية في إيطاليا، التي وصلها المسلمون في العام 700، عن طريق جزيرة قوصرة، وبعدما أبرموا اتفاقيات تجارية مع البيزنطيين، استقر التجار العرب في موانئ صقلية؛ نظرًا للأهمية الإستراتيجية التي تتمتع بها هذه الجزيرة.

حلم ليلة صيف :

إلا أن هذا الوجود العربي والإسلامي لم يدُمْ طويلًا، بعدما احتدم الصراع بين فصائله داخل الأسرة الحاكمة نفسِها بأشكال مختلفة من التحالف مع البيزنطيين تارة والزيريين تارة أخرى.
وبحلول العام 1053 تجزأت الجزيرة إلى إقطاعيات صغيرة، وكان ذلك إيذانًا بسقوط الحكم العربي بها، وتفتته بعدما كانت تؤدي الجزيرة دورًا بين إفريقيا وأوروبا، حتى ازدهرت معها التجارة بين القارتين، بفعل ما لاحظه الأوروبيون من سماحة في التعامل مع العرب، مما دفعهم إلى اعتناق الإسلام.
حتى إن صقلية التي نعرفها في خطابنا العربي، لم تعدْ بنفس الاسم في غيره الإيطالي، بعدما أصبحت سيشيليا، وهو الاسم الذي صار معروفًا في إيطاليا، حتى إن العرب المقيمين بها اعتادوا على نطقها بنفس الاسم الجديد، متناسين التاريخ القديم بأن العرب والمسلمين كانوا هنا في يوم ما، وأن آثارهم لا تزال باقية.
وهي كما تبدو من اسمها جزيرة، تطوِّقها جزر مائية أخرى فرعية من كل اتجاه، حتى إن الزائر لها سرعان ما يقابله البحر المتوسط فور هبوط طائرته إلى مطارها الأشهر في عاصمتها باليرمو.

شواهد تاريخية:

وعلى الرغم مما أفاء الله على هذه المدينة بطبيعة خلابة، إلا أنه ابتلاها، سبحانه وتعالى، بالبركان "إتنا"، الذي يُعرَف بأنه أنشط براكين أوروبا.
هذا البركان ساهم في رسم شخصية الجزيرة، وشكَّل معه شخصية سكانها، عندما اجتاحها سبع مرات، وكانت أكثر الثورات البركانية تدميرًا على الجزيرة، تلك التي وقعت في العام 1693.
وعلى الرغم من ذلك فقد كان البركان رمزًا لصمود الشعب الصقلي، حيث أخذ على عاتقه إعادة بناء الجزيرة على طراز "الباروك"، الذي ساد في القرن الثامن عشر.
وعلى الرغم من مرور نحو قرنين على هذه العمارة، إلا أنها لا تزال حاضرةً، يلاحظها الزائر عندما يتجول في شوارع الجزيرة، حيث يتمتع عبر جولاته في شوارعها بمناظر طبيعية ومبانٍ معمارية، بالإضافة إلى المناظر الزخرفية التي تميزها، بما فيها المحال التجارية، وكلها كان لها اقتباس من الوجود العربي والإسلامي بالمدينة.
ولعل إضافة العرب لهذه الزخارف يعدُّ إشارةً صريحةً للوجود العربي والإسلامي فيها، خاصةً وأن سيرتهم هناك لم تلوثْها حداثةُ الجزيرة، في ظلّ ما هو سائد بأن المسلمين تعاملوا بقيم التسامح أثناء وجودهم بالجزيرة.
وليس هذا الملمح الإسلامي الوحيد، بل تبدو المسحة الإسلامية أيضًا في محالِّها وأسواقها، وخاصة في ريفها، حيث تظهر الشخصية العربية في الأسواق، ويلمس الزائر معها روائح تمتزج فيها آثار الماضي، على الرغم من نفاذ روائح التوابل أو الأسماك أو الطيور، إلى غيرها مما تجود به الأسواق الصقلية.

مكرونة إسلامية:

ويندهش المرء عندما يعلم أن المسلمين أثناء وجودهم في صقلية هم الذين أدخلوا عليها صناعة المكرونة، ولذلك فإن أصلها عربي، والإيطاليون أنفسهم لا ينكرون ذلك ويعترفون به.
معرفة العرب في هذه البلاد بالمكرونة، جاءت عندما كانوا يستخدمونها من القمح الأسمر، مستفيدين في ذلك من كونه ينمو بوفرة في صقلية، فكانوا يقطعونه في شرائط طويلة رفيعة، ويحفظونه في الشمس، وكانت المكرونة الجافة تصلح للأكل لعدة سنوات، وهو ما ساهم في تخزينها.
هذه الطريقة التي ابتكرها العرب للمكرونة في صقلية، كانت بمثابة تطوير للزلابية التي كانت تعرف في صقلية قبل معرفتهم بالمكرونة، وكانت الزلابية تصنع من حبوب الذرة الطازجة، وتؤكل على الفور، إلى أن قدم العرب إلى صقلية فأدخلوا عليها المكرونة، حتى صارت تعرفها شعوب الأرض حتى يومنا.

المصدر: الإسلام اليوم

عن موقع التاريخ