من كتاب << المحاولة والخطأ >> لحاييم وايزمان
لا أستطيع أن أفي خدمات سايكس حقها من القول، فهو الذي أرشدنا في عملنا إلى مداخل ومخارج أبعد مدى في صبغتها الرسمية، لقد كان يتبع سكرتارية وزارة الحرب التي ضمت بين رجالها ليوبولد امري، أورمسبي غور رونالد استورس، ولولا المشورة التي كان يقدمها لنا رجال من أمثال سايكس ولورد روبرت سيسيل في وقت لم تكن لنا خبرة في المفاوضات الديبلوماسية الدقيقة لارتكبنا دون شك أخطاء خطرة كثيرة. وإن الحاجة لمثل هذه المشورة ستبدو واضحة عندما أتناول بالبحث التعقيدات التي أحاطت بالموقف في الشرق الأدنى في ذلك الوقت. لقد أبدى سير رونالد جراهام الذي كان كبير الموظفين في وزارة الخارجية اهتماماً عظيماً في عملنا وكان راغباً في أن يرى شيئاً يعمل للشعب اليهودي، لكنه كان أهدأ طبعاً وأقل خيالاً من سايكس ولم يكن له حماسه ومزاجه الحاد ولا أعرف مدى العمق الذي لازم عطفه، لكن كان لمساعدته شأن كبير في إصدار وعد بلفور.. أما ليوبولد أمري فهو ذو كفايات عالية وكان أخيراً وزيراً للمستعمرات وقد أخذ مبادئه الاستعمارية التوسعية المستنيرة عن ملنر وكان هو الأوسع أفقاً في هذه الجماعة. لقد تحققت أهمية فلسطين اليهودية في تنسيق شؤون بريطانيا الاستعمارية أكثر من أي واحد آخر وكان بعيد النظر جدا في الأمور الجوهرية الدقيقة من الحركة الصهيونية وقد وهبنا شجاعة غير مشوبة وتأييداً.
لقد أخذت أعتقد تدريجياً حتى قبل أن أقيم في لندن – أي قبل أن توجه هذه الشبكة من العلاقات وتكتمل – أن فترة حاسمة كانت تقترب ففي ربيع سنة 1916 زرت صهيوني مانشستر مجتمعين في غرفة صغيرة في شتام هل، وبسطت الموقف بين أيديهم، وأنبأتهم عن أحاديثي مع ادموند – دي روتشيلد، وأحدهما عام وهربرت صمويل، وفي الدرجة الأولى مع الساسة البريطانيين، ثم ذهبت إلى لندن مؤيدا من صهيوني مانشستر وهناك حادثت رئيس الاتحاد الصهيوني الانكليزي وقررنا كخطوة أولى أن ننشر كتاباً صغيراً عن الصهيونية لأنه لم يكن هناك عدا النشرات القديمة وبعض تقارير عن المؤتمر وما يمكن وضعه بين أيدي الساسة من الانكليز.
إن العقبة التي كانت تقف في سبيل الخطوة الأولى هي المال فقد كان صندوقنا خاوياً تماماً وكان علي أن أسافر إلى باريس وأسأل البارون ادموند مالاً. لقد عطف على الفكرة وأعطاني مائتين وخمسين جنيهاً سلمتها إلى ليون سيمون الذي عهد إليه بإخراج الكتاب. وقد ظهر الكتاب فعلاً بعنوان <<الصهيونية والمستقبل اليهودي<< واشترك في تحريره عدد كبير من الرجال وأنا كتبت المقدمة. لقد كان كتاباً صغيراً ولكنه عصري في أسلوبه وقد احتوى بعض التقارير المتزنة والمعلومات الواقعية عن فلسطين. ومما يدعو إلى الاستغراب أنه نفد بسرعة وكان علينا أن نعيد طبعه ولم يشير الكتاب اليهود فحسب، فقد كان الاهتمام عظيماً في الموضوع ويعزى قسم من نجاح الكتاب إلى التقريظ الذي وضعه اللورد كرومر، وقد نشر في صحيفة <<اسبكتاتور>> قال اللورد كرومر في جملة ما قال: <<سيكون للشعب البريطاني ما يشغله في هذا الموضوع أكثر جداً مما هو ظاهر الآن وإن هذا الحلم المستغرب الذي هو موضوع هذا الكتاب المنبعث عن بضعة من الخياليين لن يستطيع السياسيون محوه بعد مضي فترة ليست بالبعيدة>>.
لقد ظهر سوكولوف في لندن في وقت ما خلال سنة 1916 واتخذ له مكتباً في اوتيل قصر ريجنت، وكان نافعاً على الخصوص بسبب اتصالاته برجال الدين في العالم، لقد اتصل بعدد من المطارنة الانجليكان ومن بينهم على ما أعتقد كبير أساقفة كنتربري، وسوكولوف محب لهذا النوع من العمل لأنه هو نفسه يحمل طابع رجال الدين من قريب أو بعيد. وأخيراً قام بإجراء مفاوضات مع السلطات الفرنسية والإيطالية والفاتيكان، وكان يخشى في بداية الحرب أن تخرج ألمانيا ظافرة ولكنه غير آراءه فيما بعد ولاح له عهد التحرر والأمل المتوقع من انتصار الحلفاء.
لقد تألفت أول لجنة لنا في يناير سنة 1916 وضمت عدا سوكولوف وشخصي يوسف كون، دكتور غاستر، هربرت بنتويتش، كممثلين لاتحاد الصهيونيين الإنكليز وقد عملت اللجنة بالتشاور التام مع روتشيلد وهربرت صمويل وآحاد هاعام وكان لسوكولوف شأن كبير في إعداد أول مذكرة قدمناها إلى سير ماركس – سايكس وقد ساعدنا هربرت سايدبوتام الذي يعمل في صحيفة مانشستر غارديان خلال سنة 1916 في تأسيس اللجنة الفلسطينية الانكليزية التي قامت بدور هام في إيجاد رأي عام يعطف علينا، وأخرج سايدبوتام نشرة أسبوعية حوت معلومات إخبارية خطيرة هدفها القراء ذوو الفكر الثاقب، وقد اقتبست الصحافة العامة أحياناً معلومات عن هذه النشرة التي أخذت على عاتقها القيام بدعاية في المدن الكبيرة على أسلوب يقرب مما اتبع في جمعيات الصداقة الهلينية.
لقد كان سايدبوتام من أبرز المشتغلين في المسائل العامة من الانكليز الذين أدركوا أهمية اتفاق المصالح بين بريطانيا العظمى وفلسطين اليهودية وقد وضع هذا الرأي أمام الشعب البريطاني على الدوام وفي خلال سنة 1918 وبعد صدور وعد بلفور نشر كتابه <<إنكلترا وفلسطين>> وقد فهم بنفس هذه الروح.
وهكذا فإن العمل تقدم بثبات خلال جميع الفترة من سنة 914 – 917 وفي الأقاليم تعاون الصهيونيون بلفت نظر أعضاء البرلمان لقضيتنا. إن الجيل الجديد كان يعمل على مساعدتنا وقد أعد المسرح للنضال الأخير.
إن الصهيونية كانت تمر بسرعة من طور الدعاية الأولية والبحث النظري إلى الحقائق العملية. لقد توثقت عرى اتصالاتنا وتهيأ الرأي العام للتحول وقطعنا شوطاً بعيداً في الدور المبني على التحسس والعطف الفردي المبعثر كما كان الحال في سنة 1914، لقد وضح موقف القوى التي تعمل لنا وتقاومنا، وعرفنا من كان معنا ومن كان ضدنا في العالم اليهودي واكتشفنا في عالم السياسة الانكليزية أرجحية في الرأي لصالحنا. منذ سنة 1916 كان الموضوع بين أخذ ورد في وزارات أوروبا. لقد أعطى السير ادوارد غراي بتعليماته للسير ادوارد بوكانان السفير البريطاني في روسيا لجس نبض الحكومة الروسية في مسألة الاستعمار اليهودي في فلسطين والحكومة الفرنسية أو على الأصح وزير الخارجية م. بيشون، أرسل البروفسور فيكتور كيلاؤم باخ إلى أمريكا ليؤكد ليهوديها أنه في حالة انسلاخ أقاليم تركيا الآسيوية بعد الحرب ستحمي فرنسا وبريطانيا مصالح المستعمرات اليهودية في فلسطين، وربما كان من أهم الأدلة على خطورة موقف الحركة الصهيونية هو المسعى الذي قامت به الإمبراطورية الألمانية لاستغلاله لأغراضها الخاصة. فقد جرى اتصال بالزعماء الصهيونيين الألمان وطلب إليهم تقديم خدماتهم كوسطاء لمفاوضات سلمية، وكان جوابهم بأنهم سيقومون بجهد في هذا السبيل بشرط أن يصلهم تعهد كتابي من الحكومة الألمانية ينص على عقد صلح على أساس أن لا إلحاق ولا تعويضات (حدث هذا في وقت كان الجيش الألماني متفوقا) وقد نقلت أخبار هذه الخطوة سراً إلى سير رونالد جراهام وبعد أحاديث غامضة أسقط الألمان عرضهم.
لقد آن الأوان إذاً لاتخاذ إجراء مؤثر للضغط للحصول على وعد سياسي بشان فلسطين من قبل الحكومة البريطانية، وحوالي آخر شهر يناير سنة 1917 قدمت مذكرة لسير ماركس سايكس أعدتها لجنتنا وعقدت معه عدة مؤتمرات. وكانت أول مذكرة قدمناها بصورة غير رسمية للحكومة البريطانية، إلا أنها في الحقيقة ذات أهمية خاصة بين المذكرات الأخرى، أنها تمثل جماعة من هواة بناء الدول جماعة من الشعب أقصوا منذ قرون عن هذا النوع من النشاط، ولم يكن لأي منا خبرة في شؤون الحكومة والاستعمار، ولم يكن لدينا خبراء موظفين نعتمد عليهم ولا تقاليد في الإدارة والخدمة العامة، ولا وسائل لتحصيل الضرائب ولا هيئة للعمال الذين يعملون في الأرض، لقد كنا صحفيين وعلماء وقانونيين وتجاراً وفلاسفة، انتقلنا منذ جيل أو جيلين من الغيتو – إن صح ذلك – ولكن بالرغم من كل هذه الأمور ومع إلقاء نظرة على الماضي فقد توقعنا من تقديم المذكرة على ما يظهر تطوراً سيقع.
لقد سميت المذكرة << خلاصة برنامج لإعادة الاستعمار اليهودي لفلسطين يتفق وأماني الحركة الصهيونية، ومادة البرنامج الأولي تناولت بالبحث الاعتراف بالكيان الوطني:
<<يجب أن يعترف رسمياً بالسكان اليهود في فلسطين (يعتبر النص أنه يعني كل السكان اليهود في الحاضر والمستقبل) من قبل الحكومة ذات الشأن كأمة يهودية ويجب أن يتمتعوا في البلاد بكامل الحقوق المدنية والوطنية والسياسية وتعترف الحكومة ذات الشأن بالرغبة والضرورة لإعادة الاستعمار اليهودي إلى فلسطين>>. والمادة الثانية وضعت مبدأ لا يقل بجوهره من الناحية العملية عن مبدأ الاعتراف من الناحية النظرية، وإن إنكار هذا المبدأ – وقد أنكر بالفعل – هو إنكار لجميع البرنامج.
<<إن الحكومة ذات الشأن يجب أن تمنح يهود البلدان الأخرى كامل الحق في الهجرة إلى فلسطين ويجب أن تمنح يهود فلسطين كل تسهيل للحصول على الجنسية فوراً وكذلك شراء الأراضي>>.
وإن قسماً من تاريخ جهودنا لبناء فلسطين منذ وعد بلفور هو تاريخ النضال للحصول على تطبيق المادتين السابقتين.
والمادة الثالثة بحثت في الوسائل والوسائط.
إن الحكومة ذات الشأن يجب أن تقر تشكيل شركة يهودية لاستعمار فلسطين من قبل اليهود. والشركة المذكورة توضع تحت حماية الحكومة ذات الشأن المباشر وأغراضها كما يأتي:
(أ)- أن تؤيد وتغذي الاستعمار اليهودي القائم في فلسطين بكل وسيلة ممكنة.
(ب)- أن تساعد وتؤيد وتشجع اليهود من كل البلاد الذين هم أهل لبناء فلسطين بتنظيم الهجرة وتزويدهم بالمعلومات وبأي شكل آخر من المساعدة المادية والمعنوية ويجب أن تعطي للشركة سلطات تمكنها من النهوض بفلسطين في كل ناحية زراعياً وثقافياً وتجارياً وصناعياً ويشمل ذلك السلطة الكاملة لشراء الأرض وتحسينها وعلى الخصوص إجراء تسهيلات لحيازة أراضي الحكومة، وحق بناء الطرق والسكك الحديدية والموانئ وسلطات لإنشاء شركات بواخر لنقل البضائع والركاب من وإلى فلسطين وكل سلطة أخرى ترى ضرورية لإعمار البلاد. وفي حالة ما إذا تطلب الأمر تعيين حاكم وهيئة موظفين لإدارة فلسطين فإن مثل هذا التعيين يجب أن يتم مع الرعاية اللائقة لحاجات السكان اليهود الخاصة.
والمادة الرابعة والخامسة تبحثان في تطور الحكم الذاتي وفي تقدم المؤسسات التي أوجدناها في فلسطين. ويمكن النظر إلى محتويات المذكرة من ناحيتين. الأولى خارجية تنبئ عن آمالنا وحاجاتنا تجاه حكومة فلسطين والأخرى داخلية تنبئ عن الواجبات وتعهدات الشعب اليهودي الصريحة. وبعد أن أوجز مقاومة الجبهة الداخلية العتيدة للاعتراف بقومية يهودية عاد إلى استكمال بحثه فقال:
كيفما كان الأمر فإن هذا المستند كما تمت صياغته هو المشروع الأول لميثاقنا والخطوة الأولى لإدماج الصهيونية في تيار الحقائق الواقعية.
والآن فإن محادثاتنا قد اتخذت صبغة جديدة وأصبحت الصهيونية ضمن الحلبة العالمية، واتجهنا نحو الانهماك في السياسة الدولية ووجدنا أنفسنا وسط تيارات متلاطمة من الأهداف الوطنية والحقوق المكتسبة والقوى المتعارضة داخل كل دولة على حدة، ومع أن فرنسا أومأت بعض إيماءات بصداقتها للحركة الصهيونية مثل لجنة باسك الموفدة إلى أمريكا فإن لها برامج تختص بها تتعلق بالشرق الأدنى، وإيطاليا والفاتيكان لهما مصالح أيضاً ونحن بالطبع لم نكن من السذاجة بحيث نتصور أننا لم نكن في حاجة إلى أكثر من رضاء انكلترا.
ثم وصف أول اجتماع أدى إلى صدور وعد بلفور حضره سير سايكس بصفته الشخصية وترأسه الدكتور غاستر وضم كلا من لورد روتشيلد، هربرت صمويل، جيمس دوروتشيلد، سوكولوف، جوزف كيون، هربرت بنتويتش، هاري ساكر، حايم وايزمن حيث تناولوا بالبحث عدة نقاط وهي التي قدر لها أن تكون صميم المشكلة في الشهور القادمة ثم قال: لقد قررنا أن لا يكون هناك اشتراك دولي أو تدويل في فلسطين لما يعقب ذلك من تعقيدات ومنافسات وعدم كفاية وتسويات ومكائد للأضرار، وربما لإحداث شلل تام في عملنا وأن ما يطلبه الصهيونيون هو حماية بريطانية مع حقوق كاملة وفقاً للمذكرة وإن هذه الحجج لا تنطبق على الأماكن المقدسة التي أردنا تدويلها وإن عبارة <<الأمة>> التي تنطبق على الوطن اليهودي الطارئ في فلسطين تشير إلى الوطن اليهودي وحده ولا تمت قط بأي علاقة إلى اليهود في البلاد التي يعيشون فيها. وقد تولى سير هربرت صمويل إيضاح كثير من الأمور وأضفت إليه أن اليهود الذين ذهبوا إلى فلسطين يذهبون ليؤلفوا أمة يهودية لا ليصبحوا عرباً أو دروزاً أو انكليزاً.
ثم تكلم سير ماركس في هذا الموضوع مطولاً وكان قوله عن الصعوبات التي ستواجهنا في منتهى الصراحة وبإمكاني القول بأنه وضع فعلاً كل مهارته تحت تصرفنا، ولولاها لشق علينا السير على الوجه الذي انتهت إليه الأمور، وإني لا اشك في أن سايكس كان مقيداً من قبل حكومته بالسرية في موضوع معاهدة سايكس بيكو مثل جورج بيكو. وقد أماط سير مارك اللثام في مستهل حديثه بأنه تبصر طويلاً في مسألة فلسطين واليهود وأن فكرة فلسطين اليهودية قد حازت على كل عطفه، وفوق ذلك فإنه فهم تماماً ماذا قصد بالقومية وأنه لم يشب تفكيره أي تشويش بشأن هذه النقطة وأن معظم اهتمامه يدور الآن حول موقف الدول. وأنه كان في روسيا وتكلم مع وزير الخارجية سازونوف، وتوقع قليلاً من الصعوبات من ذلك المعسكر وقال عن إيطاليا أنها سارت على مبدأ أن تطالب بما تطالب به فرنسا وأن فرنسا هي العقبة الكأداء، ولم يفهم سياسة فرنسا وهي تطالب بكلمة عليا في فلسطين، وكان يجب علينا نحن الصهيونيين أن نبحث المسألة مع فرنسا بصراحة تامة ثم استطرد إلى الكلام عن المشكلة العربية وعن قيام حركة قومية عربية وقال أن هذه الحركة ستؤتى أكلها في خلال جيل واحد لأن العرب يملكون الذكاء والحيوية والوحدة اللغوية لكنه اعتقد أن العرب سيتفقون معنا خصوصاً إذا قبلوا مساعدتنا في نواح أخرى، وقد استشعر سلفاً موقف عظيم العرب الأمير فيصل.
هذا باختصار فحوى ما دار في مؤتمرنا الأول <<الرسمي>> وقد تبعه نشاط ينبض بالحيوية، فقد عهد إلى سوكولوف بمهمة تعديل موقف فرنسا وكسب موقف ايطاليا والفاتيكان فقام بمنتهى المهارة.
أما جورج بيكو الموظف الفرنسي الذي فاوض في عقد الاتفاقية السرية فلم يكن مناصراً لنا بصورة خاصة وأول اقتراح له كان يقضي بأن يقنع يهود شرقي أوروبا بحقوق متساوية فوراً ويجب أن يستخدموا في عمران البلاد والاقتراح الثاني يقول أنه إذا رؤي إيجاد حكومة يهودية في فلسطين فالحماية يجب أن تمنح لفرنسا. فأما عن اقتراحه الأول الذي لا يرتكز على أساس من المعرفة فقد أنكر جوهر المشكلة اليهودية نفسها وعلة وجود الحركة الصهيونية وأما الاقتراح الثاني فلا يتفق وخطتنا لأننا كنا مقتنعين بأن البريطانيين كمستعمرين وحكام إداريين للمستعمرات أعلى كعباً من الفرنسيين لكن هذا الأمر لم يكن بالاستطاعة إبداؤه بهذه الدقة.
... ومنذ الآن فصاعداً لم يكن شغلنا الشاغل الحصول على اعتراف بالمبادئ الصهيونية بل بتنسيق تطبيقها ضمن إطار الحقائق الواقعية وبمنع فشلها بسبب مضاعفات أو مشاريع غير حكمية، والخطر العظيم جاء على الدوام من ناحية الفرنسيين.
ولقد كان لي حديث طويل مع بلفور في 22 مارس سنة 1917 بعد أن أصبح وزيراً للخارجية خلفاً للسير ادوارد غراي - وقد لاح الموقف خطيراً لدرجة أن بلفور تقدم باقتراح كاد يكون مفزعاً. إذا لم يكن بالإمكان الوصول إلى اتفاق بين انكلترا وفرنسا فعلينا أن نجرب إدخال أمريكا وأن نعمل من أجل فرض حماية – انجلو – أمريكية على فلسطين. لقد كانت الفكرة جذابة وأن تكن بعيدة المنال، وكما كتبت لمستر سكوت <<إن الفكرة مشحونة بالخطر الكامن دوماً بوجود سيدين، ونحن لا نعرف بعد المدى الذي يوافق فيه الأمريكان على المبادئ العامة للإدارة.
ومرة أخرى قفز موقف فرنسا إلى مركز الصدارة خلال حديثي مع رئيس الوزراء مستر اسكويث بتاريخ 3 ابريل. فبالرغم من الملاحظات التي نشرت بعد سنوات عن عداء اسكويث الشخصي لمبادئ الصهيونية فإن موقفه الرسمي كان مساعداً، وعلى كل حال فلم يذكر هو ولا بلفور معاهدة سايكس بيكو وقد علمت بوجودها من مستر سكوت، وقد حصل على معلوماته عنها في باريس وكانت تحتوي على ما يأتي:
تحصل فرنسا بعد الحرب لا على شمال سوريا فحسب بل على فلسطين في الجنوب إلى خط يبدأ من عكا إلى بحيرة طبريا شاملاً حوران أما بقية فلسطين فتدول.
لقد كانت معلومات مفزعة حقاً، ويلوح أن الاقتراح كان خالياً من الاتزان والإدراك، لقد كان ظالماً بالنسبة لبريطانيا مهلكاً لنا وغير مجد للعرب. يمكن لي أن أدرك بيسر أن سايكس لم يكن كارهاً إلغاء المعاهدة وأن بيكو لم يكن قادراً على الدفاع عنها بقوة ملحوظة.
وفي الخامس والعشرين من شهر ابريل درست الموضوع بدقة مع لورد روبرت سيسيل مساعد وزير الخارجية وأحد القوى العظيمة في بريطانيا الحديثة والعامل الأول في إيجاد عصبة الأمم، وهو مثل بلفور وميلنر وسمطس وآخرين شديد الاهتمام بمبادئ الصهيونية وأعتقد أنه الوحيد الذي نظر إليها بعين الحقيقة والواقع كجزء لا ينفصل عن الاستقرار العالمي. إن إعادة إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين وتنظيم العالم ضمن اتحاد عظيم كل هذا مظاهر تمهيدية للخطوة التالية في تنسيق شؤون البشر.
ولم نتكلم عن معاهدة سايكس – بيكو بصراحة بل أشرت فقط إلى ترتيبات يظن بوجودها وترجع في تاريخها إلى الأيام الأولى من الحرب حيث قسمت فلسطين بمقتضى بنودها تقسيماً تعسفياً إلى نصفين أطلقت عليه <<تقسيم سليمان الحكيم<< تمحى بموجبه جهود اليهود الاستعمارية مدى ثلاثين عاماً، وإمعاناً في الإساءة إليهم فإن القسم الجنوبي من فلسطين (جوديا) لن يحظى بحكم إدارة واحدة بل سيدول وهذا يعني الحكم الانكليزي – الافرنسي المشترك – كما كتبت من عهد قريب إلى فيليب، لقد قلت للورد سيسيل أن الذي نريده هو الحماية البريطانية، واليهود في العالم كله يثقون ببريطانيا ويعلمون أن القانون والنظام سيسودان في ظل الحكم البريطاني، وفي ظله أيضاً لن يتدخل أحد في نشاط اليهود الاستعماري وتقدمهم الثقافي، ونستطيع بذلك أن نمد بصرنا إلى الأمام عندما يحين الوقت الذي نصبح فيه من القوة بحيث نطالب بنوع من الاستقلال الذاتي.
وقد وجه لي في حينه اللورد سيسيل سؤالاً عن أوجه اعتراضنا على الحكم الافرنسي الخالص فأجبته إننا نفضل بالطبع حكماً افرنسياً خالصاً على حكم مزدوج أو تدويل، غير أن الافرنسيين خلال أعمالهم الاستعمارية لم يتبعوا الأساليب الانكليزية، فقد تدخلوا في شؤون الشعب وحاولوا أن يفرضوا عليه <<الروح الافرنسي<< زد على ذلك إني لا أعتقد بأن الإدارة الافرنسية لها ما للإنكليز من الكفاية وإني لأجرؤ على القول بأن المنظمة الصهيونية – في حالتها في ذلك الحين – قد قامت بأعمال إنشائية في فلسطين فاقت ما عمله الافرنسيون في تونس.
ثم انتقل إلى الكلام عن الحركة الصهيونية في أمريكا في الصفحة 243 وما بعدها قال:
إن مستر برانديز كان على رأس الحركة الصهيونية في ذلك الحين وكنت على اتصال دائم معه، وفي 8 ابريل سنة 1917، أرسلت إليه تقريراً عن الموقف العام واستطعت القول بأنه كان يتقدم بنجاح، وذكرت أن العقبة الرئيسية <<كما يظهر هي مطالب الافرنسيين ونحن نأمل أن نقوي مركزنا هنا عن طريق الحكومة الأمريكية ويهود أمريكا وقد حادثت مستر نورمان ووجود عضو البرلمان في هذا الموضوع بحضور مستر هربرت صمويل ومستر بريكوز ومستر بريمروز ومستر جيمس روشيتلد والكوماندور ودجود عضو البرلمان وسيكون لرأيكم الذي يعبر عن وجهة نظركم حول تأييد فكرة فلسطين اليهودية تحت الحماية البريطانية. وربما رأى السادة الآخرون ذوو العلاقة بالحكومة شأناً كبيراً في تقوية مركزنا.
وقبل مضي وقت طويل استطاع مستر براندز أن يلقي بعبء شخصيته الملحوظة في الموازين. فقد دخلت أمريكا الحرب في شهر مارس من تلك السنة وفي العشرين من شهر ابريل وصل بلفور إلى أمريكا في مهمة خاصة وفي الغالب قابل فوراً القاضي برانديز في اجتماع في البيت الأبيض وقد ذكرت مسز داغديل مترجمة حياة بلفور أن ملاحظات بلفور الاستهلالية في مخاطبة براتنديز كانت <<إنك أحد الشخصيات الأمريكية الذين كنت أرغب في مقابلتهم>>. واستطردت قائلة <<إن بلفور قال إلى اللورد أوستاس برسي العضو في بعثته>> <<إن برانديز كان في بعض النواحي أبرز رجل أجتمع به في الولايات المتحدة>>. ويظهر من مثل هذه الأقوال أن بلفور أخذ العهد على نفسه شخصياً أن يؤيد الصهيونية وأعرب عن رأيه هذا للدكتور وايزمن قبل ذلك لكنه اليوم وزير خارجية بريطانيا ويظهر أن مستر برانديز ظل يكثر من تأكيده رغبة الصهيونيين الأمريكان في أن يروا في فلسطين إدارة بريطانية وذلك خلال زيارة البعثة الانكليزية.
وإن كتابي المؤرخ في 8 ابريل لا بد وأن يكون قد وصل مستر برانديز حول الوقت الذي وصل فيه بلفور في العشرين من الشهر وكتبت له ثانية في 23 ابريل أقول <<أن كلا من روسيا وأمريكا تعلنان في الوقت الحاضر أنهما ضد المبادئ التوسعية ولا حاجة بي إلى بحث الحقيقة الواقعة وهي أن الديمقراطية اليهودية والمنظمة الصهيونية التي تمثل في جوهرها هذه الديمقراطية تثق دون ريب في الحكم البريطاني وترى في الحماية البريطانية الإمكانية الوحيدة للتقدم المطرد نحو جعل فلسطين اليهودية حكومة ديمقراطية، وحيث أن حكومة بريطانيا حسب اعتقادي لا توافق على مجرد ضم فلسطين ولا ترغب في التوسع الإقليمي فإنها ستؤيد وتحمي بالتأكيد فلسطين اليهودية ومن أجل ذلك فإن تأييد أمريكا للمشروع له مثل هذه الأهمية في الدور الحاضر.
لقد عمل مستر برانديز أكثر من الضغط لتأييد فكرة جعل فلسطين تحت الحماية البريطانية وقام بعمل عام لإزالة الصعوبات التي تعترضها لكن أعظم ميزات المساعدة الأمريكية في ذلك الوقت صدرت عن السياسة التي أعلنها الرئيس ويلسون برفضه المعاهدات السرية، ومع أن تسويات سايكس بيكو لم تكن معاهدة بالمعنى الكامل لكنها كانت تحمل الصيغة الرسمية التي تكفي لخلق الصعوبة الفذة في سبيل تقدمنا، وإن إعلان مبادئ ولسون بشأن المعاهدات العلنية المتفق عليها، اضطر الدول الكبرى لوضع أوراقها على المائدة وهكذا ذبلت تسويات سايكس – بيكو أو المعاهدة شبه الرسمية وانطوت.
ويستبين من كل ما مر أن أعمالنا كانت تنفذ بانسجام ونظام وكما قالت مسز داغديل بعبارة موجزة:
<<أصبحت الديبلوماسية الوطنية اليهودية في دور التكوين>> ثم يرجع إلى الحديث عن ضرورة إصدار تصريح من الحكومة البريطانية فيقول في الصفحة 255 وما بعدها ما يلي:
وفي شهر يناير سنة 1917 ذهبت بصحبة سير رونالد ولورد روتشيلد لمقابلة بلفور وعرضنا عليه بوصفه وزيراً للخارجية أن الوقت حان لكي تصدر الحكومة البريطانية تصريحاً نهائياً بالتأييد والتشجيع، وقد وعد بلفور أن يفعل هذا وطلب إلي أن أقدم له تصريحاً نرضى عنه وسيحاول هو أن يقدمه لوزارة الحرب، وبينما كنت متغيباً في جبل طارق، أخذت اللجنة السياسية برئاسة سوكولوف على عاتقها وضع مسودة المشروع، وقد ابتكرت عدة صيغ له وبذلنا كل العناية في أن لا تخرج الصياغة عن وجهة النظر العامة التي سادت الأعضاء الرئيسيين في الحكومة حول هذا الموضوع مدركين أننا يجب أن لا نغفل عن الأمور ليكمل بذلك شموله لجميع أجزائه وأن الصيغة التي وافقنا عليها والتي سلمها لورد روتشيلد إلى بلفور باسمنا في 18 يوليو سنة 1917 تنص على ما يأتي:
<<إن حكومة صاحب الجلالة بعد أن قدرت أهداف المنظمة الصهيونية تقبل مبدأ الاعتراف بفلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي وبحق الشعب اليهودي في أن ينشىء حياته الوطنية في ظل حماية ستؤسس حالما يعقد صلح بعد النتيجة الناجحة في الحرب.
وتعتبر حكومة جلالته أن من الجوهري لتحقيق هذا المبدأ، منح حكم ذاتي داخلي للقومية اليهودية في فلسطين مع حرية الهجرة وتأسيس هيئة وطنية يهودية للاستعمار إعادة الإنشاء والتقدم الاقتصادي في البلاد.
وإن شروط وأشكال الحكم الذاتي الداخلي والترخيص لليهودية الوطنية بالاستعمار، يجب أن توضع بدقة وتفصيل حسب رأي حكومة جلالته ويبت فيها مع ممثلين عن المنظمة الصهيونية>>.
وفي السابع عشر من شهر أغسطس كان في استطاعتي أن أكتب إلى فيلكس فرانكفورتر الموجود في الولايات المتحدة بما يلي:
<<المشروع قدم إلى وزارة الخارجية ووفق عليه من قبلهم وقد سمعت البارحة أن رئيس الوزارة (لويد جورج) أقره>>. لقد بقي بالطبع أن تصادق عليه وزارة الحرب. وحوالي 18 سبتمبر علمت أن تصريحاً قد يحدث في اجتماع الوزارة وقد تغيب عن الاجتماع لويد جورج وبلفور وأن تدخل ادوين مونتاغ القوي قد أدى إلى سحب الموضوع من جدول الأعمال، وفي نفس اليوم تسلمت كتاباً من لورد روتشيلد قال فيه:
إني كتبت إلى بلفور وطلبت إليه تحديد مقابلة يوم الخميس أو الجمعة أولاً تذكر أني قلت لك في لندن حالما اطلعت في الصحف على نبأ تعيين مونتاغ أنني أخشى أن يحل بنا ما وقع؟
إني لم أشعر باليأس كاللورد روتشيلد لكن الموقف كان نكداً، إننا قابلنا بلفور متفرقين، أنا في التاسع عشر من الشهر ولورد روتشيلد في الواحد والعشرين منه وقد شجعني بلفور لأبعد الحدود وقال لي أن عطفه لم يتغير بسبب موقف مونتاغ واستطعت أن أبعث بالبرقية التالية إلى برانديز في نفس اليوم.
<<لقد تلا إقرار نص التصريح من وزارة الخارجية ورئيس الوزراء تقديمه إلى وزارة الحرب أن حكومة جلالته تقبل مبدأ أن فلسطين يجب بناؤها كوطن قومي للشعب اليهودي أن حكومة جلالته ستبذل أقصى جهودها لتأمين الوصول إلى هذه الغاية، وستبحث الطرق المناسبة مع المنظمة الصهيونية>>. وأضفت إلى البرقية <<إن معارضة (الاندماجيين) متوقعة وأنه إذا أمكن الحصول على تأييد الرئيس ولسون وبرانديز للنص فسيكون في ذلك العون الأكبر>>.
وقد أظهر بلفور نفس الصلابة في موقفه كما فعل معي، فقد كتب لي لورد روتشيلد بعد مقابلته لبلفور في 21 سبتمبر. <<لقد له أن لدي بينة بأن أحد أعضاء الوزارة كان يعمل ضدنا وقد أجاب (بلفور) على الفور أنه ليس عضواً في الوزارة بل وفي الحكومة فقط وأعتقد أن آراءه كانت خاطئة تماماً>>.
وفي الواحد والعشرين من الشهر حادثت سمطس العضو في وزارة الحرب وحصلت منه على تأكيد لولائه وكنا نبذل في نفس الوقت أقصى جهدنا لوقف نشاط الاندماجيين الذين كانوا يهاجمونا في سلسلة من المقالات في الصحف وفي الثامن والعشرين تكلمت مع لويد جورج الذي أدخل مذكرتنا في جدول أبحاث وزارة الحرب في اجتماعها المحدد له الرابع من شهر أكتوبر وفي الثالث من الشهر كتب إلى وزارة الخارجية الكتاب التالي بقصد تحويله إلى وزارة الحرب.
<<لا نستطيع أن نتجاهل الإشاعات التي تنبئ بأن موضوع المعارضين للصهيونيين سيثار في اجتماع وزارة الحرب من قبل شخصية يهودية بارزة لا تتبع وزارة الحرب وإننا في مركز لا يسمح لنا أن نتحقق من صحة هذه الإشاعات أو نفيها ومن هذا لا نستطيع نقد الوقائع حتى لو ثبت أن الإشاعات كانت صحيحة، وإنما الواجب يقضي علينا بأن ننوه بكل احترام إلى أننا بتقديم قرارنا هذا فإننا نودع لدى وزارة الخارجية ووزارة الحرب الإمبراطورية مصالح قومنا ومصير الصهيونية آملين أن المشكلة سيعني بها على ضوء المصالح الإمبراطورية والمبادئ التي قام التحالف من أجلها، وإننا لنتردد في الاعتقاد بان وزارة الحرب ستسمح للرأي المتشعب حول الصهيونية والقائم بين يهود العالم بأن يأخذ طريقه إليكم بأسلوب موحد بلفت الأنظار.
وحيثما كان هنالك جمهور من الناس يطالب بالاعتراف به كأمة فهناك تنشأ قضية كاملة لمثل هذا الاعتراف ونحن قدمنا نص التصريح بالنيابة عن المنظمة التي تمثل الرغبة الوطنية لشعب عظيم قديم ولو أنه مشتت وقد قدمناه بعد مفاوضات وأحاديث استمرت ثلاث سنوات مع البارزين من ممثلي الأمة البريطانية>>.
.. وعندما عرض موضوع فلسطين على وزارة الحرب ألقى أدوبين مونتاغ خطاباً قوياً ضد الخطوة المقترحة ويمكن استخلاص الحجج التي أدلى بها من مجمل الدعاية التي نشرتها الحركة المعادية للصهيونية والتي أشرت إليها في الصفحات السابقة فلم يكن لديه شيء جديد يستطيع قوله، لكن الحماس الذي لازم تقديمه لآرائه وبلادة الحس التي كانت بادية في معارضته كل ذلك أذهل الوزارة وقد علمت بأنه كان يبكي وهو يتكلم ولما انتهى من أقواله اقترح لويد جورج وبلفور دعوتي للاجتماع بالوزارة.
... لا شك في أن معارضة مونتاغ مقرونة بالهجوم المؤيد الذي كانت الجماعة الصغيرة المعادية للصهيونية تقوم به منذ عدة أشهر ورسائلهم إلى الصحافة ونشراتهم وبعضها كتبها لوسيان وولف باسم مستعار ومقابلاتهم الحماسية لموظفي الحكومة كل ذلك يجعلهم مسؤولين عن صيغة التسوية التي قدمتها وزارة الحرب بعد أيام قلائل.
.. وفي التاسع من شهر أكتوبر أبرقت للقاضي برانديز بما يأتي:
لقد اقترحت الوزارة بعد بحث تمهيدي تعديل الصيغة على الشكل التالي:
<<إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين الرعاية إلى إنشاء وطن قومي للعنصر اليهودي وستبذل أقصى جهودها لتسهيل الوصول إلى هذه الغاية على أن يفهم بجلاء بأن لا يعمل شيء يجحف بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة حالياً في فلسطين أو الحقوق والمركز السياسي اللذين يتمتع بهما هذا النوع من اليهود الذين اطمأنوا تماماً لقوميتهم وجنسيتهم الحالية في أي بلد آخر>>، <<ومن المحتمل جداً أن يطلب منا المثول أمام الوزارة عندما تنتهي المفاوضات في خلال أسبوع ومن الجوهري لنا أن لا نحصل على مصادقة الرئيس على النص فحسب بل على توصية منه لمنح هذا التصريح دون تأخير زد على ذلك أن أقصى رغبتنا في الحصول على تأييد منكم وعلى رسالة تفيض بالحماس من صهيوني أمريكا ومن البارزين من غير الصهيونيين نحن في حاجة ملحة على تأييدكم>>.
وبمقارنة النصين أحدهما الذي أقرته وزارة الخارجية ورئيس الوزارة والآخر الذي وضع في 4 أكتوبر بعد هجوم مونتاغ – يظهر التراجع المؤلم حيال ما كانت الحكومة نفسها مستعدة أن تقدمه فالأول ينص على أن <<فلسطين يجب أن يعاد إنشاؤها كوطن قومي للشعب اليهودي>> والآخر يتكلم عن <<تأسيس وطن قومي في فلسطين للعنصر اليهودي>> والأول ينص فقط على أن الحكومة ستبذل أقصى جهودها لتأمين الوصول إلى هذه الغاية وإنها ستبحث الوسائل الضرورية مع المنظمة الصهيونية والثاني يبرز موضوع <<الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة حالياً>> على وجه من الممكن معه أن ينسب لليهود المقاصد السيئة كما أن بالإمكان تفسيرها بأنها تعني تقييد عملها أو تعطيله بالمرة.
وهكذا فإن المعارضين للصهيونيين هم وحدهم الذين وصلت أقوالهم لوزارة الحرب في جلسة 4 أكتوبر ولم تعط لنا فرصة لتقديم وجهة نظرنا ولم تعرف الوزارة في واقع الأمر ماذا تفعل بهؤلاء المعرقلين من اليهود. إن سايكس وايمري وأورمسبي غور احتاروا في أمرهم وفي النهاية تقرر أن يرسل النص إلى ثمانية من اليهود أربعة من معارضي الصهيونية وأربعة من الصهيونيين لإبداء آرائهم ومقترحاتهم وأرسل مع النص كتاب جاء فيه:
<<نظراً لتشعب الآراء التي وضحت في موضوع اليهود أنفسهم فإن الحكومة ترغب في أن تصلها آراء الزعماء الممثلين لليهود كتابة سواء منهم الصهيونيون وغير الصهيونيين>>.
فنحن من جانبنا درسنا الصيغة وأعدنا بحثها مقارنين النص القديم بالجديد فوجدنا الاختلاف واضحاً تماماً ولكنا لم نجرؤ على التسبب في التأخير زيادة على ما حصل بأن نتمسك بالصيغة الأصلية التي لا تمثل رغبتنا فحسب بل وجهة نظر أعضاء الحكومة أيضاً وقد أجبت على كتاب الحكومة قائلاً:
ألا يكون من الأنسب تبديل عبارة تأسيس الوطن القومي اليهودي بعبارة <<إعادة تأسيس>> وبذلك يلقي الضوء الحقيقي على المسألة برمتها ويشار إلى العلاقة التاريخية والتقاليد القديمة وقلت أيضاً هل لي أن أقترح عبارة <<الشعب اليهودي>> بدلاً من <<العنصر اليهودي>>.
<<والاقتراح الأخير أشار به بالفعل برانديز>>.
ثم استطرد قائلاً: <<إن الرئيس ولسون الذي كان معنا من كل قلبه اعتبر أن نشر التصريح سابق لأوانه لأنه لا توجد حالة حرب قائمة بين أمريكا وتركيا وكان برانديز يسعى للحصول على تأييد علني من الرئيس ويلسون بالعطف والمشاركة بالإحساس إلا أنه لم يوفق في مسعاه هذا إلا أن الكولونيل هاوس وكيل الرئيس ويلسون أبرق في 16 أكتوبر إلى الحكومة البريطانية بتأييد أمريكا لمضمون التصريح وكان هذا من أهم العوامل الفردية في تخطي الجمود الذي أوجده اليهود الانجليز من غير الصهيونيين.
وفي 2 نوفمبر وبعد إجراء مباحثات نهائية في وزارة الحرب أصدر بلفور كتابه الشهير المعروف بتصريح بلفور.
وبينما كانت الوزارة مجتمعة لتصادق على النص النهائي كنت أنتظر خارج مكاتبها وكنت في هذه المرة مدعواً فأحضر لي سايكس الوثيقة هاتفاً <<إنه غلام يا دكتور وايزمان>>.
حسن – إني لم أحب هذا الغلام في بادئ الأمر فلم يكن الغلام الذي انتظرته إلا أني كنت على علم بأن الأمر كان حدثاً عظيماً فاتصلت بزوجتي تليفونياً ثم ذهبت لرؤية آحاد هاعام.
المصدر : مركز الإعلام الفلسطيني