في البداية كان كل شيء مختلطا في بعضه : النخيل ، العطش، الغيث، عصافير الصباح، الوجع ، و الأنين والمواويل ، كانت الذاكرة بعضا من آهات أم كلثوم دقات قلب تشبه الأفلام العربية القديمة حبا للكلاسيكيات وكلاما يشبه صوت الوطن...
عندما بدأت قراءة محمد علي الرباوي في الصغر كانت الكتابة حلما تظهر ضحكاته من بين طيات الكتب تظهر فقط من ملامح الرباوي وحضوره وصوته ، وقتها كانت أمي تناديني كلما سمعت هذا الشاعر على أمواج إذاعة وجدة و كان سماع محمد علي الرباوي احتفالا خاصا أقيمه لنفسي عرسا صغيرا أرتب فيه الأماني.
لحظي السيء ربما أني لم ألج الجامعة لأدخل معهدا تقنيا بعيدا عن الأدب و بالتالي فكرت أني أبدا لن اقابل هذا الشاعر الكبير الذي حين سألت عنه يوما أجابني أخي
السي محمد الطالب بكلية الآداب أنذاك : حين يمر هذا الرجل علينا أن نفسح له الطريق ونقدم له تحية تشبه التحية العسكرية لأنه أشرف و أعظم و أنبل أستاذ عرفته ردهات جامعة محمد الأول بوجدة .
وكتبت له ، أخيرا كتبت له رسالة برهبة وخوف وفرح وصدق بعد أن قرأت له ديوانه الرائع : أول الغيث ، هذا الديوان الذي شدني كثيرا و حاولت أن أتعلم منه كيف أكتب و أستحضر الحرف و الفكرة و الصورة.
وكان يوم عيد حين اتصل بي و كلمني بصوته الوقور المتزن و بحنان الأبوة الصادقة وبعين الشاعر العظيم : أنت يا حليمة فعلا شاعرة رسالتك وحدها قصيدة طويلة ما أدراك بالنصوص المرفقة. واصلي إياك أن تتوقفي ...
يومها وقع لي
شهادة ميلادي الأخرى و كان لي بعد ذلك شرف تقديم ديواني الأول عطش الصادر سنة 2001 عن مطبعة فضالة وألح وقتها أن أضع قصائد لي في قصيدة النثر و القصيدة العمودية و نصوص نثرية مفتحة كان يعجب بها بل و يقول لي أنها نصوص تشبه كتابات محمد الصباغ ، كنت أستشيره كثيرا و أقتنع بتوجيهاته و نصائحه .
و أحتار الآن أحتار بأية صفة أتناول محمد علي الرباوي و لأن الكلام على الكلام صعب كما يقول أبوحيان التوحدي أردت الاكتفاء بالبوح ببعض التفاصيل من تلك العلاقة التي نشأت بيني و بين أشعار الرباوي فأنا أعثر عليه في محطات كثيرة بذاكرتي القديمة من خلال قصائد له، في كل جديد له اكتشف لونا جديدا، و أتذوق نكهة جديدة يتجاوز بها الشاعر قديمه، فتجربته سلسلة من الارتقاءات المستمرة التي لاتستكين إلى وهج عابر و لاتقنع بانتصارات راهنة بل تستشرف الأبعد وتنظر إلى أفق الشعر بعينين حالمتين.
يحتفظ الرباوي بقدرته و براعته على اقتناص اللحظات الشعرية من خلال لغة صافية
ترتقي بالشعر في وصفها الحامل الأكبر له و اللغة هنا بعلاقتها الجديدة مع النغم او الموسيقى .
كانت لي وقفة معه ذات فرح غامر حين كان ضيفي على الجريدة التي كنت أعمل بها طنجة الأدبية ،حيث أجريت معه حوارا مطولا في ( العدد 20 / نونبر 2006 )
يومها اكتشفت لأول مرة أشياء عن الرجل ، لا بأس أن أستحضرها الآن لمحبي و عشاق شاعرنا الكبير : في تنجداد مسقط رأسه حضر مأتما بالقصر الذي يسكنه
قصر أسرير كان المأتم تتصدره امرأة بثوب أسود تبكي وتعدد محاسن الراحل أو الراحلة وجوقة من النساء تردد بعدها عبارات لم يكن يفهمها طفل في السادسة لأن نغمة البكاء كانت تمنعه من فك شفرات الكلمات ، أعجب بذلك النغم الحزين ووجد فيه نشوة ساحرة تدفع إلى البكاء ولهذا صار يحرص على حضور المآتم حرص من يتتبع السهرات الموسيقية ، ليدمن بعد ذلك في شبابه السينما ، ليس افتتانا بالقصة أو البطل و لكن للاستمتاع بالموسيقى التصويرية للفيلم .
يقول : أذكر أن مقدمة «يا قلبي يا مجروح» وخاصة الجملة الموسيقية التي تؤدي بالكنترباس كانت تذكرني بالمآتم التي كنت أتلذذ بسماعها بتنجداد، والتي كانت تدفعني إلى البكاء، وكانت موسيقى «لحن الخلود» الجميلة هي التي زادت في تطلعي إلى أن أصبح موسيقيا.
لكن كيف والأسرة محافظة لن تسمح لي بأن أتعاطى هذا الفن الذي ارتبط عندها بالعبث والمجون، فكان البديل هو الشعر الذي كتبته وأنا تلميذ بالسنة الثانية ابتدائي لم أكن أعرف ما الشعر لكن الكلام الذي كنت أكتبه ظانا أنه شعر كنت أسميه «أغنيات»، هذه الأغنيات كنت أكتبها سرا، لأن والدي رحمه الله عثر على بعضها يوما ضمن أوراقي فعاقبني عقابا شديدا بدعوى أن هذا سيمنعني من التركيز على دروسي، ولهذا صرت أكتب وأخفي عن الناس ما أكتب، هذا الفعل صاحبني منذ طفولتي المبكرة إلى أن عرفني الناس بالشاعر.
لم يكن بمقدور شاعرنا أن يكون موسيقيا لأن العائلة محافظة جدا و لن تسمح لابنها البكر بذلك يعلق قائلا : الموسيقى عيب لهذا أجّلت ممارستها لكن التأجيل طال فكان الشعر بديلا.

تحدث أيضا عن علاقته بالنشر في المجلات العربية و عن حكاية طريفة وقعت له مع الشاعر المصري صلاح عبد الصبور حيث يقول :
في سنة 1971تصفحت عددا من مجلة المجلة، وكان صلاح عبد الصبور مسؤولا عنها، فإذا بها تنشر نصا شعريا لشاعر جزائري من جيلي : أزراج عمر ،هذا النص شجعني على مراسلة المجلات الكبرى والمشهورة، فبدأت بالمجلة التي أرسلت إليها قصيدة رفقة خطاب موجه إلى الشاعر صلاح عبد الصبور بعد أن وضعت الرسالة في صندوق الرسائل، عدت إلى مقر سكناي وفي الطريق اقتنيت العلم، وفي العلم الثقافي قرأت خبرا مضمونه أن «المجلة» قد توقفت عن الصدور.
بعد ستة أشهر أتاني خطاب من مصر، وهو أول خطاب يأتيني من أرض الكنانة، قبل أن أفتحه تساءلت : من يكون المرسل؟ كانت المفاجأة كبيرة.. لم أصدق.. أنه خطاب من صلاح عبد الصبور، فتحته بسرعة وأنا أرتعش، فإذا أوله : «الأخ الشاعر» : إذن فأنا شاعرا لماذا لم تعترف بي الصحافة الوطنية؟ هل محرر الصفحة الثقافية بالمغرب أعلم بالشعر وبأسراره من صلاح عبد الصبور؟ (..)
كان مضمون الخطاب اعتذارا من الشاعر لكونه لم يرد على خطابي وقت وصوله ومن خلاله أخبرني أن «المجلة» قد توقفت ونصحني بأن أبعث بالنص إلى مجلة الآداب البيروتية.
أستطيع أن أزعم أني قرأت هذه الرسالة أكثر من مائة مرة، ولكن حين تحررت من صدمة الدهشة انتبهت إلى أن الرسالة قدمت لي نقدا ترك أثرا عميقا في مسيرتي الإبداعية والعلمية، ذلك بأن بالقصيدة صورة شعرية غريبة، ومدهشة لم تعجب صلاحا، فبدل أن يقول لي أن الذوق العربي لا يقبل مثل هذه الصور قال «نحن المشارقة...» لفظة «مشارقة» أزعجتني فقلت : إذا كان المشارقة لا يقبلون مثل هذه الصورة فهم أحرار، أنا مغربي ولي خصوصيتي وهي خصوصية مستمدة بلا شك من طبيعة المغرب المتميزة ومنذ تلك الرسالة أخذت على عاتقي الاهتمام بالثقافة المغربية لاستثمارها في شعري، وحين التحقت بالجامعة طالبا، فأستاذا كان همي الوحيد هو البحث في الشعر المغربي والوقوف عند خصوصياته.
ومع ذلك أعترف أن رسالة صلاح عبد الصبور، وما زلت احتفظ بها، هي التي شجعتني على النشر بالمجلات الكبرى.

اعترف أيضا شاعر المكابدات محمد علي الرباوي في ذاك اللقاء الصحفي قائلا :
في سنة 73 نشرت لي جريدة العلم أول نص لي وعنوانه «فارس وجدة» لكن الجريدة نسيت أن تنشر اسمي، وبهذا حرمت من نشوة الفرحة لكن هذا السهو كان نعمة، فقد تلقيت رسائل من أصدقاء من بينهم مفدي أحمد، يخبرني أصحابها بأنهم قرؤوا قصيدتي،
كل هذا يحدث والعائلة لا علم لها بهذه الرحلة، لأن الشعر عندها زلة، فلا ينبغي أن أشعرهم بأني مورط في هذه الزلة .. يتساءل فارس وجدة : كيف علموا أن القصيدة لي.. هل معنى هذا أن لي أسلوبا خاصا؟ معنى هذا أن لي طريقة خاصة في الكتابة؟
وفعلا ستظل هذه الطريقة الخاصة والمميزة لقلم الشاعر محمد علي الرباوي ترافقه طوال عمره الذي ندعو له أن يطول و يطول ، ففي قصائده شمس لم تكسرها الليالي، وفي شعره انطلاق طيور البحر المنفية، وفي صوته ما يوحي بالطمأنينة في خضم وحشية هذا العالم. يأتي القصيدة من حيث يريد ومتى يريد، ويجعل من الشعر –ليس مجرد بيت وكلمة فحسب- ولكن يخلق منه صورة، تشكيلا، ورسوما. إنه شاعر غجري تستهويه الثورة على خرائطية العالم واستنطاق كينونة الأرض، إنه شاعر شامخ فوق ربى القصيدة العربية، سيد الاستعارات، ووشوشت لنا
قصائده قائلة ما قاله أفلاطون: «إن أعظم شيء أن تكون سيد الاستعارات».
فهنيئا للشاعر الكبير محمد علي الرباوي بهذا التكريم ، هنيئا لرمح القصيدة المغربية القادم من الصحارى والفيافي، المتزين بلغة القرآن،الذي أهدى لنا رطب نخيل قلبه عبر دواوين زرعت فينا حب الجمال و حب الله و حب القيم و الانسانية جمعاء.




بقلم : حليمة الإسماعيلي
شاعرة وروائية

شهادة القيت في حفل تكريم الشاعر محمد علي الرباوي يوم 14 مارس 2009 بالمسرح الملكي بمراكش