*ا الشريف الإدريسي... رحلة العلم والعطاء*


محمد الصفار - *شبكة النبأ*

ان النظرة المتفحصة للتراث الفكري والعلمي
الاسلامي تدلنا على انه كان صنيعة كوكبة من العلماء والمفكرين أفنوا حياتهم في
وضع هذا التراث فأغنوا البشرية بعلومهم وأفكارهم وآرائهم.
فكانت النواة الاولى للكثير من النظريات والأكتشافات والتي كانت لها صلة وثيقة
بما تحقق في العصور اللاحقة، فالتراث الاسلامي لا يتوقف عند حدود ما حققه
الماضي من انجازات وحسب بل ما يمكن أن تحققه تلك الانجازات للحاضر، والذي بدوره
يمهد لأنجازات اكبر من المستقبل.
فالتراث هو الماضي الحي الذي يعكس ما أفرزته العصور السابقة من خبرات وانجازات
في كل المجالات ليكون مصدراً مهماً من مصادر المعرفة، فدراسة الشخصيات العلمية
والفكرية التاريخية والاطلاع على آرائها وأفكارها هي حاجة فكرية وضرورة عقلية
للأستفادة من تلك الآراء والافكار والتجارب أولاً، وأعترافاً منا بما حققته تلك
الشخصيات من إنجازات كما تمثل هذه الدراسات وثيقة تاريخية وخبرة انسانية لا
يستغني عنها الدارسون والباحثون.
ولعل من ابرز ما تحقق من انجازات على يد العلماء المسلمين هو ما حققه الشريف
الادريسي الذي وضع اقدم خريطة عالمية صحيحة كبيرة مفصلة وموضوعة بغاية الضبط
والاتقان والوضوح عرفها التاريخ الى الآن، وهي وهي اقرب صورة عرفت في تلك
العصور السابقة مطابقة لما وصل اليه العلم الحديث.
تلك هي (خارطة الادريسي) الذي اعتمد خطة في وضعها لم يسبقه اليها احد وكان
لتجاربه وأسفاره أثر كبير في وضع الاسس الاولية لخطته.
ولد الشريف ابو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس بن يحيى بن علي بن
حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن أدريس بن أرديس بن عبد
الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) - كما جاء نسبه في
الوافي بالوفيات للصفدي - عام (493ه - 1100م) في مدينة (سبتة) في المغرب ولقب
بالشريف الادريسي لنسبه برسول الله (ص) من ابنته فاطمة الزهراء (ع).
تلقى الادريسي تعليمه الاول في (البيلق) ثم سافر الى الحجاز ومصر حتى وصل الى
سواحل فرنسا وأنكلترا ثم سافر الى القسطنطنية وسواحل آسيا الصغرى، ثم أستقر به
الامر في (صقلية) وفيها أستقبله ملكها (روجر) الثاني، الذي كان محباً للعلم
ومجالسة العلماء وقد عني بالمسائل الجغرافية.
وأخذ يعمل بدراسة الكتب الجغرافية المختارة الموجودة في ذلك الوقت ولا سيما
العربية منها ولكنه لم يجد فيها ضالته المنشودة، فكان يستحضر العلماء وأهل
الخبرة من الذين يفدون على مملكته ويسألهم عن مواقع البلدان وحدودها، وعن كل ما
يتعلق بها جغرافياً بواسطة المترجمين.
فيسألهم مجتمعين مرة ومنفردين أخرى، فيجيبونه كل بقدر ما تصل اليه معرفته فأن
توافقت اجوبتهم ولم تختلف أقوالهم أعتبرها صحيحة وقيدها، والا ردها ولم يأخذ
بها.
وقد قضى (روجر) على ذلك مدة خمسة عشر عاماً بلا أنقطاع مع الادريسي وبعد البحث
الشائق والمضني استقر الرأي على تقييد ما وصلا اليه ورسمه في خريطة عالمية
متكاملة، تبين فيها مواقع البلدان والبحار والانهار والجبال الى غير ذلك من
المواقع كما وصل اليه البحث وأنتهى اليه الاستقراء.
وقد عهد (روجر) بهذه المهمة الكبيرة الى الشريف الادريسي الذي قام بهذه المهمة
بأدق صورة وأتم وجه فرسم أصل الخريطة ثم امر الملك فحفرت هذه الخريطة ثانية على
لوح مستطيل من الفضة. فأحضر الصناع المهرة الذي أتموا هذا العمل تحت اشراف
الادريسي ومراقبته وتوجيهه، وقد وفر الملك (روجر) كل ما يحتاجه الادريسي من
احتياجات في سبيل اتمام عمله كما جعل تحت تصرفه مبلغاً مقداره أربعمائة الف
درهم لهذا الغرض، ووفر كل المستلزمات المطلوبة من مواد ونقاشين في سبيل انجاز
العمل بالشكل المطلوب.
فحفر الخريطة على مائدة مستطيلة يبلغ طولها ثلاثة أمتار ونصف المتر وأرتفاعها
متراً ونصف المتر، ثم حفر عليها بواسطة الصناع المهرة خريطة بغاية الدقة
والاتقان وتمام الموافقة لتلك الخريطة التي رسمها قبل القيام بعملية الحفر.
وقد فرغ من هذا العمل الكبير عام (1154م) وبعد فراغه من وضع هذه الخريطة ألف
كتاباً شرح فيه تفاصيل هذه الخريطة وتشكيلاتها شرحاً مفصلاً وبدقة متناهية
أضافة الى تعليقاته وأرشاداته، وهذا الكتاب هو (نزهة المشتاق في اختراق الافاق)
وهو كتاب ضخم يقع في جزئين كبيري الحجم وفيه وضع أرائه وافكاره نحو شكل الارض.
فقد كان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت بأن الارض مسطحة عائمة على وجه الماء أما
رأي الادريسي فهو ان الارض مكورة على شكل بيضة يحيط بها الماء ويتعلق بها
بواسطة قوة جاذبية طبيعية فالماء يغمر نصفها وينحسر عن النصف الآخر مع كون هذا
النصف الاخير المنحسر عنه الماء أخذ شكلاً بيضوياً منقسماً بواسطة خط الاستواء
الى قسمين متساويين شمالي وجنوبي المعمور منها الشمالي فقط أما الجنوبي فهو غير
صالح للسكن لشدة الحرارة ولعدم وجود الماء.
وبناء على ذلك وضع الادريسي خريطته مبيناً القسم المعمور وهذا القسم يشمل ثلاث
قارات هي أفريقيا الشمالية في الجهة اليمنى العليا و أوربا في الجهة اليمنى
السفلى ويفصل بينهما بحر الروم (البحر الابيض المتوسط).
أما في الجهة اليسرى فقد كانت آسيا تحتل النصف الشرقي ولم يكن هذا التقسيم
معروفاً قبل الادريسي لدى العرب بل كانوا يقسمون الارض الى سبعة أقاليم من
الجنوب الى الشمال ثم تقسيم كل أقليم الى عشرة اقسام من الغرب الى الشرق، ثم
يقسمونها الى الدول و الممالك التي كانت معروفة في ذلك الوقت وهذه الاقاليم
السبعة كانت عند قدماء اليونان عبارة عن خطوط أفقية تبدأ من خط الاستواء نحو
الشمال وتحدد النقط التي تتم فيها زيادة النهار نصف ساعة على طوله في المنطقة
السابقة من جهة الجنوب ثم أستعمل العرب الاقاليم.
وأوردوا منها المناطق التي تقع بين هذه الخطوط وتلك المناطق التي لم تكن
متساوية عندهم أما الادريسي فأنه أراد من الاقاليم السبعة التي قسم خريطته
اليها هذه المناطق التي كانت معروفة عن العرب.
وقد حاول بتقسيمه هذا اثبات درجات العرض وتحديدها وقد أفلح في ذلك الى حد بعيد
وهذا ما أذهل علماء الاختصاص في الوقت الحديث وجعلهم ينظرون الى أنجازه ببالغ
الاعجاب والتقدير.
ثم وضع الدرجات التي وافقت الدرجات الحقيقية تمام الموافقة في جميع البحار وفي
معظم اليابسة وأمكنة اجراء المقاييس الصحيحة و أختلفت الدرجات أختلافاً بسيطاً
في بعض جهات قليلة من اليابسة كما بين بشكل دقيق، وواضح منابع النيل ووضع نقطة
تقاطع نهر النيل في الخرطوم عاصمة السودان حيث يتشكل نهر النيل من نهرين هما
النيل الابيض والنيل الازرق ويجري هذان النهران عبر أراضي السودان ومن ثم
يلتقيان في الخرطوم التي تقع تحت خط الاستواء.
ثم قسم الادريسي كلاً من الاقاليم السبعة الى عشرة أقسام متساوية من الغرب الى
الشرق كما ضمت خريطة الادريسي البحار السبعة وسماها بأسمائها وهذه البحار تخترق
الاقاليم السبعة حسب مواقعها ثم وصفها وصفاً دقيقاً وبين جزرها والبلاد التي
تقع عليها ثم تحدث عن الاقسام السبعين للكرة الارضية، وحدد عند كلامه عن كل قسم
موقعه وتكلم عن مدنه وجباله وبحارة وأنهاره وعن كل ما يحتويه من ماء و يابس وعن
الدول التي تشغله وعن مكانه وجنسياتهم و عاداتهم وتقاليدهم وعما يعيش فيه من
حيوان وما ينبت من نبات مبيناً الكثير من خواص وطبيعة كل بلد بشرح واضح
ومعلومات دقيقة وافية وضمن كل ذلك في كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق).
بعد أتمام الأدريسي هذا الانجاز الكبير في تاريخ البشرية عاجلت المنية الملك
(روجر) وبعد ست سنوات من وفاته وفي عهد أبنه (فالهلم) وبالتحديد سنة (1160م)
حدثت اضطرابات في صقلية، وهاجم الثوار القصر الملكي وكسروا المائدة - الخريطة -
واقتسموها فيما بينهم ولم يبق بعد هذه الخسارة الكبيرة إلا خريطة الحائط وخريطة
الكتاب الموزعة في سبعين قطعة والتي هي أقسام الاقاليم السبعين، فأنتشرت هذه
الخريطة فيما بعد أنتشاراً واسعاً وتركت أثراً واضحاً في المؤلفات والخرائط
الجغرافية وأستخدمت مصوراتها وتخطيطاتها في سائر أكتشافات عصر النهضة الاوربية.
وقد أفاد منها الاوربيون معلومات كثيرة ومهمة عن بلاد المشرق كما أفاد منها
الشرقيون فأخذوا عنها وترجم كتاب الادريسي (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) الى
الكثير من اللغات وبقي المرجع الوحيد لعلماء الجغرافيا من العرب وغيرهم،
ومعينهم الذي يستمدون منه معلوماتهم لأكثر من ثلاثة قرون وكتبت عنه البحوث
المستفيضة.
وكان آخر من عني بذلك من علماء البحث الجديد الأستاذ الألماني (كونراد ميللرن)
الذي أخرج الخريطة في طبعة جديدة ملونة عام (1928) وكتب عنها فصلاً موسعاً وعقد
الموازنات بينها وبين الخرائط الجغرافية القديمة والحديثة و أشاد بمنزلتها
كأساس متين ومرجع معتمد ينظر اليه بعين الاعتبار في هذا العلم وأسسه.
كما ذكر (ميللرن) بعض أسماء المؤلفات في الجغرافيا التي ظهر فيها أثر خريطة
الادريسي وكتابه بوضوح من هذه الكتب كتاب (الجغرافيا) لأبن زيد المولود عام
(1214م) والمتوفي عام (1247م) وخرائط مارينو زانوتو التي وضعها بطرس فيسكو نتي
في سنة 1318م، والتي أنتشرت في جميع أنحاء أوربا، الى غيرها من الكتب والمؤلفات
التي أعتمدت على كتاب نزهة الآفاق وختم الاستاذ (ميللرن) بحثه في شرح خريطة
الادريسي بقوله: (أن روجر الثاني والادريسي بوضعهما هذه الخريطة قد وضعا أهم
حجر أساسي في تاريخ أنتشار العلم الأنساني).
ولم يقتصر عمل الادريسي في صقلية على وضع تلك الخريطة فقد تهيأت له الفرصة
المتاحة لنشر علومه و وجد ضالته في الملك روجر و أبنه فالهلم الذي ورث من والده
حب العلم فطال مكث الادريسي في صقلية، وطاب له المقام بها حتى لقب بالصقلي كما
لقب ب (سطرابون) العرب نسبة للجغرافي الأعريقي الكبير (سطرابون).
وقد ألف أضافة الى خريطته أربعة كتب هي (نزهة المشتاق في أختراق الآفاق) والذي
أشرنا الى محتواه وقد أختصر هذا الكتاب و توجد نسخة منه في مكتبة المعهد الشرقي
في هامبورغ مطبوعة بروما عام 1592م، وقد كتب على هامشها : (أن هذا الكتاب أول
ما طبع باللغة العربية) ويسمى هذا الكتاب بكتاب (روجر) أو الكتاب (الروجاري)
نسبة الى روجر ملك صقلية الذي طلب من الادريسي تأليفه.
وقد أستغرق تأليفه (15) سنة ويعد هذا الكتاب من أهم مؤلفات الادريسي وقد أشرنا
الى أهميته وغزارة معلوماته أما كتابه الثاني فهو (روض الانس ونزهة النفس) أو
(الممالك والمسالك) وهو كتاب جغرافي أيضاً عثر عليه أحد الباحثين في أسطنبول
ولم يعرف عن محتواه ألا أنه مختصر مخطوط موجود في مكتبة حكيم أوغلو علي باشا
باسطنبول.
أما الكتاب الثالث للادريسي فهو كتاب في الطب والعلاجات أسمه (الجامع لصفات
أشتات النبات) وعنوانه يدل على محتواه أما كتابه الرابع فهو (أنس المهج و روض
الفرج) وقد نشر من هذا الكتاب قسم شمال أفريقيات وبلاد السودان حققه د : الوافي
نوحي وصدر في المغرب عام 2007.
توفي الادريسي في صقلية عام 559ه - 1166م عن ستين عاماً ملأ الدنيا بها علماً و
جهوداً خالدة.