ممدوح إسماعيل
بقلم: ممدوح إسماعيل
الله أكبر.. فرَّ طاغية تونس هاربًا بطائرته في يوم الجمعة المبارك 14 يناير 2011م الموافق 10 صفر 1432هـ بعد 23 عامًا من حكم تونس بالحديد والنار.
وقد شهدت تونس في الأسابيع الأخيرة ثورة من الشعب التونسي ضد الظلم والاستبداد والفساد؛ حيث خرج الشعب التونسي على حكومته، يصرخ مطالبًا بالعدل والحرية، فقابلته الشرطة التونسية بطلقات الرصاص، فقتل حتى الآن حوالي 70 تونسيًّا.
وقد اندلعت ثورة الشعب التونسي عندما اضطهدت البلدية التونسية شابًّا ومنعته من العمل، فأغلقت الدنيا في وجهه، ومع الفقر والظلم والاستبداد الذي ليس له نظير وسوس الشيطان للشاب محمد بوعزيزي، فأحرق نفسه قهرًا ويأسًا، وهو عمل مرفوض شرعًا من المسلم؛ ولكن بلا شك الظروف المحيطة بالناس في تونس صعبة، وتجعل الحليم حيران، فقد أغلقت الحكومة كل منافذ الدعوة الإسلامية التي تساعد الناس بالإيمان على الصمود أمام الفتن والظلم فضعف إيمان الناس.
والمسلم في تونس بين مستخفِ بدينه أو هارب بدينه في أوروبا.
وقد سيطر على الحكم والثروة في تونس عصابة الرئيس، فحكموا البلاد بالحديد والنار، وقهروا الشعب واضطهدوا كل ما هو إسلامي.
وكان أشد ما لفت نظري أنه في وسط غليان الشعب التونسي وثورته الهائلة على الظلم والاستبداد وسقوط القتلى يوميًّا برصاص الظلم خرج مفتي تونس عثمان بطيخ بفتوى أنه لا يجوز الصلاة على المنتحر!!.
لقد ترك المفتي الظلم والكفر والقهر والفساد والدماء التي تسيل كالأنهار في شوارع تونس، ولم يلتفت إلا إلى حكم الصلاة على المنتحر!! والمسألة خلافية بين العلماء، والراجح الصلاة عليه ما دام أنه غير ثابت أنه مستحل الانتحار، فعن جابر بن سمرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص (سهم حديد)، فلم يصل عليه (رواه مسلم).. قال النووي في شرح مسلم: وهذا الحديث مذهب من لا يصلي على قاتل نفسه لعصيانه، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي؛ لكن جماهير العلماء قالوا يُصلى عليه، وبه قال الحسن والنخعي ومالك وأبو حنيفة والشافعي، وأجابوا عن هذا الحديث أن النبي لم يصل عليه زجرًا للناس عن فعله، وقد صلى عليه الصحابة.
الشاهد أن المفتي لا بد أن يكون حكيمًا، ويراعي أحوال الناس، ولا يفتن الناس في المسائل الخلافية برأيه؛ لكن مفتي تونس أعرض عن كل ما يمليه العلم والحكمة، وسارع لتسليط الضوء فقط على الصلاة على المنتحر، وتعامى عن الظلم والفساد والنفاق والاستبداد والدماء المسلمة التي تسيل في الشوارع، وهي أشد حرمة عند الله من البيت الحرام، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم النحر أعظم أيام المسلمين "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".. ورغم ذلك يتعامى كثير من المفتين في بلاد المسلمين عن سلب الأموال وانتهاك الأعراض وسفك الدماء، ولا يلتفتون إلا ما يريده المستبد من تجميل لفساده وظلمه وتحميل دين الله العظيم ما لم يأمر به من تأويل لكل ظلم.
نعم فقد قال الصحابي الجليل ربعي بن عامر لأكبر وأقوى طاغية في زمانه أن الإسلام العظيم جاء لتحرير الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ولكن مع احترامي للأشخاص، فمنصب المفتي تم تقنينه لخدمة المستبدين، ولتعبيد الناس للمستبدين تحت غطاء الدين والدين منهم براء.
وما يحدث من مفتي تونس ليس ببعيد عن مصر والدول العربية؛ ففضيلة المفتي وغيره من علماء المؤسسة الدينية الرسمية لا تسمع لهم صوتًا ضد الفساد والاستبداد والظلم وتزوير إرادة الشعب.
وإني أتساءل أين هم من مقتل سيد بلال؟ وإن قلنا إن مقتل سيد بلال ممكن أن تطير كراسيهم فيه، فأين هم من مواساة أهالي قرية بني صريد بالشرقية الذين قُتل عشرات من أطفالهم في حادث مروري فظيع وهم في طريقهم إلى عملهم من أجل 7 جنيهات يعودون بها إلى أهاليهم يشترون بها الخبز الذي سرقه مليارديرات الحديد والمنتجعات؟!.
والحقيقة أنه ليس حادثًا مروريًّا فقط إنما هو عنوان للفساد والإهمال والاستخفاف بأرواح الناس فأين علماء الأزهر من مواساة هؤلاء المسلمين؟ والكثير من المصائب التي تعصف بالمصريين، ولا تكاد تجد للمفتي ونظرائه صوتًا إلا إذا أذنت السلطة لهم، مع أن الأصل أنه لا سلطان عليهم إلا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وعندما أتوقف مع ثورة تونس أجد أن الشعب التونسي لم يلتفت إلى فتوى المفتي، وصلى على بوعزيزي، وخرج إلى الشوارع هاتفًا صارخًا يسقط الظلم، واستمر في ثورته رغم القتل والاعتقال والظلم طوال أسابيع حتى تحققت أولى بوادر النصر بهروب طاغية تونس، وأصبحت تونس محط أنظار العالم والمتطلعين للعدل من المسلمين.
وكل الشعوب العربية والمسلمة ترفض الظلم والحكم الظالم، وسقط من أعينها كثير من علماء ومفتي السلطة الظالمة التي سلبتهم كل حقوقهم في العدالة والحرية وفي نعمة شرع الله العظيم، وسيخرجون يومًا ليس ببعيد صارخين يسقط الظلم.
ولن تصمد فتاوى المفتين أمام جروح، وأنين وصرخات المظلومين (وإني أتساءل الآن.. ماذا يقول الشيخ سلمان العودة الذي كتب منذ فترة، مادحًا الحكم في تونس، ومعترضًا على كل من انتقد الظلم في تونس؟!).
لقد تراجع الرئيس التونسي أمام شعبه في موقف مذل ومخزٍ، وأعلن عن فتحه نوافذ الحرية وتحقيق العدل وعزله للبطانة الفاسدة التي ضللته؛ ولكن تراجعه لم يفلح في تضليل ثورة الشعب التونسي، فاستمر في ثورته حتى هرب طاغية تونس، تاركًا شعبه في ثورته.
فمتى يتراجع المستبدون في عالمنا العربي، والإسلامي قبل فوات الأوان؟
ومتى يفيق المفتون إلى أنهم علماء الإسلام وليسوا علماء السلطان، وأنهم عباد لله وليسوا عبادًا للاستبداد؟!.
---------------------
* عضو مجلس النقابة العامة للمحامين
--
المفضلات