الحقيقة أنني لا أود الخوض بتفاصيل الحرب الأهلية الأمريكية وأسبابها ونتائجها ودلالاتها وتشعباتها فيمكن الاطلاع على كل هذا بالرابط الموضوع أعلاه باللون الأزرق، بل ما يهمني هنا محاولة قراءة تداعيات ونتائج الفكر الأمريكي الذي أدى لهذه الحالة الدموية والإصرار والعناد لإطالة الحرب لمدة تجاوزت جميع التوقعات مما أدى إلى تضخم أعداد القتلى ليصل بنهايتها إلى عدد هائل قدر بـ 620 ألف قتيل من كلا الطرفين خلال أربع أعوام فقط. أما الجرحى والمفقودين فقد تجاوزت أعدادهم عشرات الآلاف، وتم تقدير عدد الضحايا عموما بما نسبته 3 بالمائة من تعداد السكان بالولايات المتحدة آنذاك، ومجموع قتلى الحرب الأهلية يتجاوز عدد القتلى الأمريكيين التي خاضتها أمريكا بكل حروبها اللاحقة. أما الدمار الاقتصادي والخسائر التجارية والزراعية فحدث ولا حرج، ودع عنك التأثيرات النفسية والاجتماعية المدمرة حيث أمعنت بتوطيد فكرة عسكرة المجتمع وتسلحه فضلا عن زرع الشكوك بين كل طرف ضد الآخر. وهذه من طبائع النتائج التي تترتب على الحروب وتداعياتها المحزنة. والحقيقة التي لا بد أن نعي لها عند تطرقنا للحرب الأهلية الأمريكية أن الولايات الجنوبية الشرقية بقيادة ولاية فرجينيا (قبل تقسيمها) لم تكن تسعى للانقسام أو الانفصال بمعناه الكامل، بل توجهت نحو مطلب اتحاد كونفدرالي بحيث لا يسمح للحكومة المركزية بالتدخل بشؤون الولايات الداخلية، بما يماثل الاتحاد الكونفدرالي السويسري حيث لكل ولاية حرية التصرف بالشؤون الداخلية لها كالنظام الاقتصادي والزراعي والتجاري بل ويتعدى ذلك إلى اعتماد لغة خاصة وأنظمة تعليمية مختلفة. لكن الوضع الذي سبق الحرب كان متوترا للغاية بسبب تطبيق بعض ولايات الجنوب الشرقي بأمريكا لنظام الرقيق أو العبودية. حيث يعمل السود بالسخرة عند نبلاء يملكون أراض زراعية تتناسب مع مناخ هذه الولايات المائل للدفء مما يشكل أرضية خصبة لعدة أنواع من المحاصيل الزراعية كالقطن والقصب، وبالتالي فإن النظام السائد بتلك الولايات يقترب بشكل أو بآخر من النظام الإقطاعي الذي كان يقترب من زواله بتلك الفترة. وقد أصر السادة النبلاء أن تغيير نظام العبودية أو حتى مجرد مناقشة ذلك سيؤدي لتعريض مصالحهم الاقتصادية والزراعية الكبرى للخطر وهكذا كان موقفهم صلبا لم يتزحزح بسهولة. وهذا ما خلق حالة من التناقض والتصادم الوشيك ما بين نظامين مختلفين للحياة، نظام الإقطاع الاقتصادي ومفهوم الحلم الأمريكي الوليد.
لا شك أن المجتمعات الأمريكية المستقرة نشأت إثر الهجرات الأوروبية المتتالية بعد اكتشاف القارة الأمريكية. ومن أهم هذه الهجرات التوافد المتتالي من البريطانيين. وما ميزهم عن غيرهم من الأوروبين هو رغبتهم واصرارهم على الاستقرار والاستيطان بهذه الأرض الجديدة على خلاف الفرنسيين مثلا الذين كانوا يتاجرون أو يحاربون أو يكتشفون ثم يعودون لبلادهم ولا يستقرون أبدا -إذا ما استثنينا حالة مقاطعة كوبيك المختلفة بكندا- وهؤلاء المستوطنين الإنجليز الذين انشأوا مدينة نيو إنجلاند الجديدة بالساحل الشرقي الأمريكي كانوا يعانون من مشاكل وقضايا التعصب الديني والعنف الدموي بسبب الحروب الأهلية في بريطانيا نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر. فقرروا بهذا البلد الجديد تكوين مجتمع "مبني على الحق" حسب منظورهم، وكان لديهم توجه واضح نحو التخلص من نير النظام الملكي واستعباده للناس وتمييزهم ما بين عامة ونبلاء وحاشية وأمراء وقصور الملوك ومن يقبل الجوخ حولهم كالذباب. فكان أن اجتهدوا بفكرة أن يكون المرء سيدا لنفسه ويحاسب بما تصنعه يداه ولا يحاسب بما يكون آباؤه وأجداده بل بما يكون هو. "فالإنسان كائن بديع خلقه الخالق بإبداع وتجلي، وهو يقترب من أن يكون كالملاك" (نص من الرواية). وأن يعمل الإنسان بنفسه لتكوين داره وموطنه وأن يكون حرا كما خلقه الرب وأن ينعم بالديمقراطية وفرصة تكوين ثروته بلا قيود أو منغصات. وهنا نشأ مفهوم "الحلم الأمريكي" The American Dream. وبعد فترة من الاستقلال ونجاح الثورة ضد البريطانيين، شعر الأمريكيين أن مثل الحلم الأمريكي الجميلة بدأت بالتناقض مع الواقع. فكيف لنظام دستوري يقوم على الحرية والمساواة أن يسمح بوجود قوانين محلية تشرع للعبودية وتجيز استعمال السخرة لكائنا من يكون من البشر. فكانت حالة الصراع واقعة لا محالة بسبب هذا الواقع المتناقض شمالا وجنوبا. لكننا بالمقابل نلحظ أن جدلا طويلا سبق الحرب أثير حول مسألة بديهية لا تحتاج الجدل وهي حرية الرقيق السود من عدمها بنظام ديمقراطي وذلك بأروقة الكونجرس. ولعل إثارة هذا الجدل بحد ذاته يبين لنا بشكل جلي عدم وضوح فكرة الحرية بالمنظومة الفكرية الأمريكية، فحرية البشر على اختلاف أعراقهم وألوانهم وأجناسهم كلٌّ لا يتجزأ، وما هو سبب صمت الشمال عن نظام الرقيق مدة مائة عام بعد وضع الدستور الأمريكي، وهو بالمناسبة أول دستور مكتوب بالعالم؟ بل والأدهى والأمر أن معظم ما أطلق عليها الولايات الحدودية مثل ولايتي ميزوري وكنتكي كانت تطبق نظام الرقيق ولكن الحكومة الاتحادية لم تفعل شيئا بصددها إلا بعد انتهاء الحرب. ومما يثير الاستغراب أن الرئيس الذي سبق إبراهام لينكولن وهو جيمس بيوكانين رفض التوقيع على القيام بأي تحرك عسكري تجاه الولايات المتمردة بالجنوب تحت ذريعة أن لا يوجد دستوريا مواد قانونية تجيز هذا الاجراء. وهكذا رغم الإصرار الكبير من قبل الحكومة الاتحادية المركزية على استكمال هذه الحرب حتى تحقق كامل أهدافها، إلا إننا لا نملك إلا أن نتساءل عن الدوافع العميقة وراءها. فمن يتابع ما حدث لاحقا يكتشف أن نظام العبودية قد زال ولكن النفس العنصري والحقد تجاه السود بالجنوب قد ازداد وتعمق، والكل يعلم بشأن حركة التحرر المدني التي قادها مارتن لوثر كينج وسقط شهيدا لها. فرغم أن نظام الرقيق قد ولى إلى غير رجعة إلا أن ما حصل بعدها هو أبشع ألا وهو نظام الفصل العنصري. فقد تشبثت الولايات الجنوبية بنظام الفصل العنصري ولا زال سكانها من البيض يؤمنون به. ومن ذكرياتي بهذا الشأن، أن إحدى المراقبات للشؤون الأكاديمية بأميركا حضرت لمناقشة الطلبة بإحدى المحاضرات بجامعة الكويت، وكانت ذات بشرة سمراء. فشجعتنا بالسؤال عن أي قضية تتبادر إلى أذهاننا، فبادرتها بالسؤال عن موضوع Separate But Equal وهو كذلك عنوان فيلم تلفزيوني جميل من بطولة النجم القدير سيدني بواتييه. فكان أن ردت عليّ وبكل وضوح "أن النفس العنصري لا زال موجودا بأعماق شخصية الإنسان الجنوبي بالولايات المتحدة ولم تحدث الحرب تغييرا بالفكر السائد جنوبيا ولا عوامل التقدم الزمني ولا التطور الإنساني بالقرن العشرين أي تعديل بهذا الفكر". ولعلنا الآن لا نحتاج لتفكير كبير لنستنتج من قام بمساندة نظام بريتوريا العنصري في جنوب أفريقيا الذي كان يطبق رسميا نظام الفصل العنصري بالبلاد (أي ممنوع دخول الكلاب والسود لمعظم الأماكن الراقية). وكذلك لا نحتاج لجهد ذهني كبير لنكتشف من هم أكبر الداعمين لسياسات الكيان الصهيوني بفلسطين المحتلة والتي وصفها الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بسياسات Apartheid أي "الفصل العنصري" عبر كتاب له بعنوان Palestine: Peace Not Apartheid. فكما يقال "فإن امور بخواتيمها" والصراع الذي نشب بمنتصف القرن التاسع عشر بين الأمريكيين لم يؤدي إلى وأد الفكر العنصري الذي يتناقض مع مفهوم الحرية والمساواة الذي ينشده "الحلم الأمريكي"، وهذا أمر قابل للتبرير لأن العنف والقمع لا يمكن أن يكبت الأفكار أو أن يقتلها حتى لو كانت أفكار تنبع من مباديء مسمومة وهدامة، بل على العكس جائز جدا أن يعطيها الشرعية وصبغة البطولة والحق والصحة. ورغم أن الشمال والاتحاد قد انتصر بالحرب إلا إنني أزعم وبشيء من الجزم أن الجنوب هو من ساد بأفكاره على معظم الولايات المتحدة بغض النظر عن هزيمته المادية بالمعارك الفاصلة. والأخطر من كل هذا أن هذه الأفكار تم العمل على تصديرها للعالم، فاختلطت معاني الحرية بالعنصرية والديمقراطية بالتسلط والاستقلال بالاستعباد، أما العدالة فمن غير المنطقي التحدث عنها إلا بمخيلة "الحلم الأمريكي".
ولايات الجنوب الانفصالية باللون البني وولايات الاتحاد بالأزرق
وولايات محايدة أو تطبق العبودية دون اشتراك بالحرب: قبيل الحرب
وبعد أن اقتربنا من ما يقرب من 250 عاما من الاستقلال الأمريكي يحق لنا أن نتساءل هل الحلم الأمريكي لا زال قائما أم أنه تحول إلى كابوس يجثم على صدر الأمريكيين أنفسهم والعالم من بعدهم؟ وقد أثبتت الفترات الأخيرة أن صراعا فكريا يدور بالأوساط الثقافية الأمريكية حول ما هية الشخصية الأمريكية، ولعل هذا ما طرح بقوة مصطلح "التغيير" Change خلال الانتخابات الرئاسية السابقة سواء من باراك أوباما أو جون ماكين. ولكن التغيير ليس مجانيا ولا يحدث بين ليلة وضحاها، بل يحتاج لتضحيات كبرى واقتناع تام بعدم جدوى التمسك بالمعتقدات الخاطئة السابقة، لأن ليس للتغيير قيمة ما لم يكن مبنيا على التوجهات الصحيحة والسليمة إنسانيا وعالميا. وها هي الولايات المتحدة بعد أن سيطر عليها فسطاط المنهزمين بالحرب الأهلية لا تريد التزحزح قيد أنملة عن الفكر الإمبريالي الذي كان أول من كافحه وقضى عليه هي نفسها، الولايات المتحدة. وأما داخليا، لا تريد الولايات المتحدة حتى أن تفكر بجدية الطرح القائل أن النظام الرأسمالي لا يمت للإنسانية بصلة وسيؤدي لكوارث اقتصادية مدمرة. وبالفعل وقعت الطامة الاقتصادية عام 2008، وخالفت الحكومة المركزية أبسط القواعد الرأسالية وهو أن السوق يصحح نفسه تلقائيا، فتدخلت الحكومة لإنقاذ المصارف مباشرة فأصبحت بذلك اشتراكية أكثر من الاشتراكيين، وتبين بوضوح أن التمسك بالنظام الاقتصادي الحالي سيؤدي لكوارث قادمة لا محالة باعتراف كبير منظري النظام الرأسمالي آلان جرينسبان.
وبالتالي أيها الأخوة والأخوات، فإن الحرب الأهلية الأمريكية وعلى إثر تداعيات معركة جيتسبيرج أخرجت لنا قوة عظمى لا يمكن التغاضي عنها منذ بداية القرن العشرين، وجعلت العالم يقف أمامها بترقب وتأمل وتوجس. ويجوز لنا أن نعتبر معركة جيتسبيرج من أهم المعارك العالمية التي تولد من رحمها عملاق كبير لا يزال ظله مهيمنا على العالم. ولنا أن نتخيل فرضية انهزام الاتحاديين بهذه المعركة ونجاحهم بغزو واشنطن والسيطرة عليها ومن ثم قيام دولة أخرى بالجنوب الأمريكي، فماذا سيكون شكل العالم اليوم؟ وهل سيكون للولايات المتحدة الأمريكية كلمة مسموعة بهذا العالم المتلاطم الأمواج؟ فرضية خيالية، لكنها لن تكون أبعد من "الحلم الأمريكي"!
واسمحوا لي بالنهاية تقديم أطيب تحية من مترجمي العمل
الزميلة (إيمان)
و
فيصل كريم
---------------------------------------------
مراجع ومصادر:
http://en.wikipedia.org/wiki/Battle_of_Gettysburg
http://en.wikipedia.org/wiki/Gettysburg_%28film%29
http://en.wikipedia.org/wiki/Gods_an...als_%28film%29
http://en.wikipedia.org/wiki/Michael_Shaara
http://en.wikipedia.org/wiki/Jeffrey_Shaara
http://en.wikipedia.org/wiki/The_American_Dream
http://en.wikipedia.org/wiki/Jimmy_Carter
http://en.wikipedia.org/wiki/Palesti..._Not_Apartheid
http://en.wikipedia.org/wiki/Alan_Greenspan
http://www.marefa.org/index.php/%D8%...AF.D9.8A.D8.A9
المفضلات