دراسة مسرحية عن الحكيم

ما يزال هذا المسرحي بحاجة إلى دراسة أيديولوجية، أعني دراسة للأفكار الأساسية التي تصدر عنها أعماله، وقدرتها على الكشف عن موقفه من قضايا الإنسان على العموم. وهذا لا ينفي أهمية بعض الدراسات التي صدرت عنه، خاصة دراسات :-
1 - علي الراعي.
2 - وجورج طرابيشي.
3 - ولويس عوض.
4 - وفؤاد دوارة ... وسواهم.



ولا شك – عندنا- في أن توفيق الحكيم تقدّم بالنصّ المسرحي خطوات واسعة إلى الأمام، ولعل أهم إنجازاته أنه أستطاع أن يزيح، قليلاً، حائط الغرابة بين المسرح – من حيث هو فن له جديتّه وأصوله – وقطاع من صفوة الجمهور المتلقي أو القارئ. لقد نجح الحكيم في أن يكتب للمرة الأولى مسرحيات تلتزم – إلى حدّ كبير – قواعد البناء الذي عرفه المسرح الأوروبي حتى عشرينيات القرن العشرين، وضرب في كل أرض تخيلت لعينيه، فغطت موضوعات مسرحياته مدى واسعاً يمتد من صياغة التراث الإغريقي إلى محاولة مسرحة القصص القرآني والتوراتي والتراث العربي والتاريخ الفرعوني إلى النظر في الواقع المعاصر، وأختيار نماذج وأحداث منه يمكن تطويعها للقالب المسرحي. هذا المدى الواسع كان أحد الشراك التي ينصبها الحكيم – بعناية – لنقاده ومفسّريه. لذا، لم يكن غريباً إن يختلف نقاد يصدرون عن أتجاهات فكرية متقاربة في تفسير بعض أعماله، أختلافاً يصل من النقيض إلى النقيض – يمكننا أن نضرب المثل هنا بـ” أهل الكهف”. الشرك الثاني إنما يتمثل في المقدمات والتعقيبات التي يضعها الحكيم للكثير من أعماله، وقراءتها جميعاً لابد من أن توقع في الخلط والتناقض. ولعل كثيراً من الأوهام التي شاعت وتردّدت حول مسرح الحكيم أن مصدرها هو تلك المقدمات والتعقيبات أكثر مما هي الأعمال نفسها. الشراك الثالث هو أحاديث الحكيم، فهو يعود إلى ترديد بعض أفكار هذه المقدمات أو التعقيبات، لكنه يعترف – في الوقت نفسه – بأن الواقع الأجتماعي لم يكد يغيّر من أفكاره القديمة شيئاً كثيراً. ألم يقل لنا الحكيم نفسه إنه لا يود أن يكون العاقل الوحيد وسط المجانين ؟ ألم يحدثنا – أكثر من مرة – عن قدرته على “ التكيّف “ ؟ إن هذا يلقي الضوء على تلك الأعمال الأجتماعية التي قدمها بعد عام 1952، نعني بها :-
1 - الصفقة.
2 - والأيدي الناعمة.
3 - وشمس النهار.
4 - والطعام لكل فم.
5 - وبعض أعمال “ مسرح المجتمع “ و “ المسرح المنّوع “.
فالحيكم نفسه يرى أنه قدم في هذه الأعمال تنازلات بصفته “ مواطنا ً” على حساب فنه. من حقنا القول، إذن، إن الحيكم لم يتخلَّ عن القواعد الرئيسية التي أقام عليها عالمه – الذي أكتمل تماماً قبل عام 1952 – إذ لم تتغير هذه القواعد، ولم يكن لها أن تتغيّر، لأنها ذات طابع مبدئي . إنها تعينه لحياته، وأختياره الوجودي بالذات ، وقد ظلَّ “ عهده مع الشيطان “ ساري المفعول منذ وقّعهُ الطرفان ذات يوم من عام 1938. في هذا العهد يهب الحكيم حياته للشيطان ، مقابل الفن أو المعرفة أو لذة الخلق. والحيكم راضٍ وقانع بصفته، برغم ما يوحي به أحياناً من تشكٍ وتململ. في هذا الأختيار، بداية مأزق الحيكم، والمنطلق الذي تتداعى عنه أختياراته التالية، إنهما طرفان : الإنسان والفنان :-
1 - الأول يعيش في وحل البشر، نملاً أو صرصاراً ( إن بين مسرحيته القصيرة بيت النمل التي كتبها في أوائل الأربعينيات، ومصير صرصار التي كتبها في منتصف الستينيات أكثر من تشابه، وهما معاً تصدران عن رؤية واحدة: أحتقار الإنسان الحشرة التافهة في هذا الكون ، التي تخوض صراعاً مقضياً عليه بالفشل للخروج من إنسانيته، والتحليق في عالم المطلق حتى يأتي الموت، فيضع نهاية الصراع). ويحمل غرائز البشر وعواطفهم ونزواتهم ورغباتهم وحماقاتهم ونذالاتهم. وقد قيّد بحدود جسمه وزمانه ومكانه، مشدوداً إلى المرأة والطفل وسائر الهموم البشرية الصغيرة.
2 - أما الثاني ، وهو الفنان ، فهو “ من مادة السماء “ وعليه ألا يتجه ببصره إلا إليها، وعليه ألا يشغل نفسه بهذا “ الوحل البشري “ وهمومه التافهة، فمكانه هناك في البعيد، حيث الزمان ماض وحاضر ومستقبل (أبدية)، حيث لا شيء يثني أو يعوق أو يحبط أو يرغم على الأنحناء نحو الأرض، حيث كل شيء مطلق، وكل الهموم يجب أن تكون كذلك.
وتتداعى بقية المآزق: الإنسان ليس وحدة واحدة، فليواصل الحيكم لعبته المفضلة: تقسيم الإنسان إلى “ ممالك “ متعددة، لا تنفصل إحداها عن الأخريات فقط، بل هي في تصارع وتناحر، ورحلة شهريار خير دليل: من الغريزة ( العبد الأسود) إلى العاطفة ( الوزير قمر) ، إلى العقل الخالص. وقد بقي شهريار معلقاً بين السماء والأرض، ومقتله كامن في أنه من طين الأرض، ويريد أن يرقى إلى مدارج ، وجزاؤه الحق بأن يبقى “ مجرد شعرة بيضاء “ سرعان ما ستسقطها ريح الموت أو الطبيعة الساعية إلى التجدّد في دورات مقفلة لا تنتهي. إن شهريار ليس فناناً خالقاً مبدعاً، ومن ثم فمدارج السماء مغلقة في وجهه. أما بيغماليون فإن رحلته معكوسة ( وعند الحيكم لعبة مألوفة كذلك : أن يعكس أتجاه الحركة. وفي هذا الضوء تبدو مسرحية، مثل رحلة إلى الغد ليست سوى أهل الكهف، بعد أن أنعكس أتجاه الحركة، أما المضمون فيبقى هو هو ): حين خلق غالاثيا – الجمال المقطّر الخالص – فقد أصبح من مادة السماء وتداً لساكني الأوليمبي، لكنه حين طلب بعث الحياة البشرية في تمثاله، فقد هبط إلى وحل البشر. كانت محاولة الهبوط – لا الصعود – مقتله، ومن ثم أستحق مصير شهريار نفسه: أن يبقى معلقاً بين السماء والأرض. تلك معركة “ إما...وإما....”. لا مجال فيها لأن تكسب موقعة وتخسر أخرى. والحيكم لا يعني هنا سقطة بطل التراجيديا التي تؤدي به إلى الدمار، بقدر ما يعني إيضاح طابع الجسم في هذه المعركة الكبرى بين الإنسان وما فوق الإنسان. ولكن، ما سبيل الإنسان لأن يتخطى الإنسان فيه، أو ما سبيله لأن يتخلى عن هذا الإنسان، مصعداً نحو عالم الآلهة ؟ الإجابة في كلمة ولادة، هي هذا المشهد الذي رأينا فيه “ عصفور الشرق “ يقف تحت المطر المنهمر، يتطلع إلى كلمات منقوشة على تمثال ( الفريد دي موسيه ) “ لا شيء يجعلنا عظماء غير أليم عظيم “. مرة أخرى : ما السبيل نحو الألم العظيم ؟ لقد قرّر (محسن) أن ينفرد بالفن، ومعرف أن سبيله هو الألم، فكيف يجده ؟ لا مفرّ من أن يخلقه خلقاً، ويصطنعهُ أصطناعاً. وهذا مفتاح موقف الحكيم من الحياة التي تمثلها المرأة : إنها ليست هدفاً في ذاتها، بل هي السبيل نحو الألم فقط، إنها درجة في سلم على الفنان أن يصعدها بدون أن تعفيه في ذاتها، وهذا شرط من شروط عهده مع الشيطان الذي يقول به : “ المرأة مخلوق تافه... إنها ليست جديرة بكَ أيها الفنان الخلاق...المرأة التي لها شأن في حياتك، هي كما ترى – ينبغي أن تكون من صنع يدكَ، مخلوقات رأسكَ ...”. هذا نصّ بالغ الدلالة على موقف الحكيم من المرأة، من حيث هي أمرأة، ومن حيث هي دلالة تكثف هموم “ النمل البشري” . وهو موقف لا تجدي في وصفه كلمات، مثل الرجعية والتقدمية. إنه وجه من وجوه أختياره المبدئي، الذي أشرنا إليه: إلغاء وجود المرأة ككائن إنساني، وتحويلها إلى مجرد سماء ضروري لشجرة الإبداع. ولعل موقف الحكيم - الفنان – من المرأة، لا يتضح في أكمل صورة وأنضجها، كما يتضح في المسرحية التي تعبّر عن معظم أبنيته الحكيم: يا طالع الشجرة (1963): بهادر هو الفنان المتخلي عن إنسانيته، فهو الوحيد الذي يركب قطار الحياة دون أن يعنيه هدف أو محطة وصول، وهو يتزوج بـ(بهانة) ورغم علمه بأنها عاقر، ويتبنى حلمها في الإنجاب المستحيل، مقابل أن تتبنى حلمه في الإبداع المستحيل، أعني الشجرة التي تثمر ثمار كل الفصول، وحيث إنه لا سبيل إلى الفن سوى بقتل الحياة، فإن بهادر يقتل زوجته بالنية قبل أن يقتلها بالفعل، لكنه حين يقتلها يختفي أمله في الإبداع: تلك السحلية الخضراء، رمز البركة والنماء والإخصاب. هذه الصياغة لدور المرأة في حياة الفنان تتردّد – كبصمات الأصابع – في كل أعمال الحكيم الفنية على أختلاف أشكالها:-
1 - سنيّة في عودة الروح.
2 - وإيما في عصفور من الشرق.
3 - وعنان في الخروج من الجنة.
4 - والفتاة في الرباط المقدس.
5 - والراقصة الجميلة في راقصة المعبد.
6 - ودرية في العش الهادئ.
وعلى مستوى آخر هناك : -
1 - بريسكا في أهل الكهف.
2 - وشهرزاد وغالاثيا في بغماليون.
3 - وأخيراً بهانة في يا طالع الشجرة.
وتتجاوز إلى الصراحة والمباشرة في خواطره ومقالاته، المرأة التي يرحّب الحكيم بدخولها إلى عالمه يجب أن تكون “ من صنع يده ومخلوقات رأسه “ فإن كانت أمرأة من لحم ودم ومشاعر وغرائز ( وكل أمرأة عند الحيكم شبقة بالتعريف) عمد إلى تحويلها كي تصبح كذلك، فهو يرغب المرأة، ويتمنى أن يرفضها فهذا سبيله إلى الألم، ومن ثم إلى الفن العظيم، وحين أختار الحكيم أن يجعل الحياة والفن على طرفي نقيض، والإنسان والفنان على طرف نقيض كذلك، فقد كان هذا ما يتفق تماماً مع تكوينه النفسي، وأنتمائه الطبقي، إنه التماس الأمن والأمان وغسل اليدين من أوحال الواقع وهموم الأرض، وهو يقول صراحة إنه لجأ إلى ما أسماه “ المسرح الجاد “ مقابل أن “ يفوز بأحترام الناس بدلاً من مهانة التشخص “، وكان سبيله إلى احترام مجتمعه أن يمضي بمسرحه إلى ما لا علاقة بهذا المجتمع به. لقد فشل الحكيم – كرومانسي متمرّد – في أن يرفض المجتمع الذي يحتقر الفن الحقيقي، ولا يرى في التشخيص غير المهانة، وسوف تبقى صرخته في الصفحات الأخيرة من زهرة العمر هي صرخة الرومانسي المهزوم الذي قرر الأستسلام لمواصفات طبقته ومجتمعه، رغم محاولاته لأن يتمرّد – فردياً – ضدها، في تلك الصور السلوكية التي أتخذت شكل الطرائف، وكسب بها الحكيم شعبية أوسع مما كسب مسرحه :-
1 - البيرية.
2 - الحمار.
3 - العصا.
4 صينية البطاطس.
5 - عداوة المرأة.
6 - الشرود الدائم.
7 - الحرص على المال...إلخ.
لكنهُ لم يثمر فكرياً وأجتماعياً ، وجاءت أهم أعماله إصراراً على أختيار طريق الفن الذي ينفي الحياة سبيلاً إلى الحياة. بعبارة واحدة: إن توفيق الحكيم حين أختيار أن يوثق جسده بوشاح النيابة والقضاء، أختار ايضاً أن يوثق مسرحه، وأن يبقى دائماً وأبداً هذا المتأرجح بين ما أراد أن يكون ، وما كان أن يكون. غير أن النظر إلى المسرح المصري – نستطيع أن نقول “ العربي، بدون تجاوز كبير – يؤكد – بدون أدنى شك – دوره في إزاحة الغرابة بين المسرح – كفن له جدّيته وأصوله – وقطاع من الجمهور المتلقي أو القارئ، ويؤكد كذلك أن كثيرين من الكتاب التالين عليه كانوا له قرّاءاً وكانوا به، متأثرين. وليس هذا بالدور الهيّن أو القليل.








·



\