يمكن رصد العلاقة بين التشكيل والمسرح من خلال الكثير من الدلالات المباشرة وغير المباشرة، وهي بمجملها تشكل تعبيراً عن الحس الفني والقضايا الإنسانية والفكرية ومن خلال ملامح بصرية وحركية ومفردات الكتلة والفراغ والظل والنور .



تعود العلاقة ما بين التشكيل والمسرح إلى زمن بعيد، يمكن تلمسه منذ نشأة المسرح الإغريقي والروماني في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وفي عصر النهضة برز الاهتمام جليا بالمعمار المسرحي، أما في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فصار للمنظر المسرحي استقلاله مع بروز فن الأوبرا، ومع ظهور التعبيرية كمدرسة فنية، ونشأتها التي ارتبطت بالحركتين التكعيبية والمستقبلية (استخدام الأقنعة وتوظيفها بشكل تعبيري، وبروز التكعيبية في التكوينات الديكورية، وبناء فضاء المسرح) .






وتنامت العلاقة بين التشكيل والمسرح، مع ظهور المستقبلية ثم الدادائية والسيريالية والبنائية الروسية ومسرح العبث في أوائل القرن العشرين ومن ثم مدرسة “الباهاوس” الألمانية وتطويع التكعيبية والتجريدية في الفكر المسرحي .



وشهدت بداية مرحلة الستينات نقطة التقاء بين المسرح والتشكيل، فتداخلت العلاقة مع الفنون الحديثة، مروراً بظهور المفاهيمية وفن التشكيل بالجسد، والفنون الأدائية عموما فلم تعد العلاقة قاصرة على الديكور والملابس والملصقات الدعائية، بل تجاوزت هذا، إلى علاقة وطيدة دخل فيها التشكيل عمق الفن المسرحي .



العلاقة بين التشكيل والمسرح منطلقا من الجسد الذي يعتبره العنصر الجوهري بين الفن البصري المعاصر والمسرح، وهو يرى أن الجسد هو وسيلة للتعبير عن التجارب المتراكمة والمتكتلة في تركيبة الكائن الحي، والتعبير الجسدي هو لغة مثل بقية اللغات التعبيرية، اكتسبت وتطورت منذ أزمنة سحيقة من خلال عملية التعلم والتجربة، فنحن نتبادل الخبرة ونتعاطف سوياً ونتصل بالآخر عن طريق أجسادنا، أي من خلال حضور هذا الجسد في العالم كوجود، وفي المجتمع كمعنى، التراكمات هذه تعكس الثقافة الاجتماعية، الاقتصادية والأخلاقية ولذلك فإن التكتل الجسدي ك”شيء”

والهدف الأساسي لفن الجسد والأعمال الفنية التي لها علاقة بجسد الفنان أو صور فوتوغرافية عن جسده هو تأكيد ذاتية الجسد ك”شيء” مدرك في المجتمع والهدف هو التعبير عن الخيلاء أو الزهو، وفي العديد من الأعمال يكون الهدف هو النرجسية أي افتتان المرء بجسده .



أن جميع الرغبات محبوسة داخل الجسد وأساس هذه الرغبات موجود في ما قبل الوعي، وهناك رغبة شديدة عند الإنسان لكسر هذا الحاجز - الجسد، وهو نوع من المتعة أو البهجة، وأيضا هو نوع من نشاط لإشباع الذات، وإرضاء الشعور الذاتي، وهذا هو هدف الفنان الذي يتعامل مع جسده كعمل فني، أي الخروج من الجسد ومراقبته من بعيد .



أن الزمن الحاضر لا بد أن يكون له علاقة مباشرة بتكسير الجسد من خلال تحطيم اللغة، وبمعنى آخر فإن الجسد هو اللغة، ولهذا السبب فكسر الجسد هو صفعة عنيفة للفكر السائد . والإنسان عبارة عن حقل مغناطيسي يستجيب لمركز نفسه ويتعادل مع كينونة ذاته والكون بكامله، وهناك الملايين من الحقول المغناطيسية لذلك الاتصال مع الآخر التي تتحقق من دون كلمات، وكما نلاحظ ليست هناك لغة جسدية واحدة في الحياة، بل هناك عدة لغات جسدية متشابكة ومتداخلة مثل الصرخة والضحكة والهتاف والهمسة، وإيماءات جسدية أخرى مثل الرفس والضرب والمشي والركض وطريقة تسريحة الشعر، ولون ونوع الملابس وغيرها من العناصر التعبيرية الجسدية التي نشاهدها في الحياة اليومية، وكل جسد يريد أن يوصل رسالة ما إلى الآخر، ويؤكد وجوده بالقوة، والهدف من كل ذلك هو الشعور بنيل بعض التفوق .






وفي 20 فبراير/ شباط 1909 نشر أول بيان مستقبلي في جريدة “ليفجارو” في باريس ونشر البيان نفسه في موسكو في العام نفسه، وكان شعار البيان هو (الفن حرّ أما الحياة فهي مشلولة) وكان الإيطالي “فيليبو مارينيتّي” هو الذي كتب هذا البيان، وهو يعتبر مؤسس المدرسة المستقبلية، بالإضافة إلى تأثير المدرسة الدادائية التي بدأت عام 1916 في زيورخ في مقهى فولتير، وكان الهدف هو دمج الشعر والمسرح والأدب والموسيقا والرسم والنحت والديكور والتصوير الضوئي والعمارة وغيرها في إنتاج أعمال مشتركة للتعبير عن موقف الفنان .



هناك مدارس أخرى أثرت في فن الجسد، مثل السيريالية التي اعتمدت على المعاني الغامضة في تفسير الأحلام ومدرسة ألباهاوس التي أدمجت الفن بالهندسة إضافة إلى مجموعة “فلوكس” التي ظهرت في بداية الستينات من القرن العشرين في ألمانيا، وكان شعارهما هو (كل ما نريد هو أن نكون مع الفن) .



هناك لعلاقة جذرية ما بين المسرح والتشكيل منذ ظهور مصطلح التعبيرية في الفن التي بدأت في أوروبا في نهايات القرن الثامن عشر ويعتبر أن هذا كان مقدمة لظهور كثير من الأفكار التي تجسدت في الدادائية التي انطلقت بعد الحرب العالمية الأولى ومن بعدها السيريالية،أن الفن التعبيري في المسرح قد تجسد في ملامح كثيرة، وهو الآن يعتمد على التشخيص، وأكثر تواصلاً مع الجمهور، حيث أصبحت اللوحة تهتم بالحركة والتناغم اللوني .





أن المسرح يربط ما بين التأليف والإخراج، ولكل من هذين رؤيته الخاصة، فثمة رؤية للمخرج، ورؤية للمؤلف وهكذا، بينما في اللوحة تكون الرؤية واحدة، ومن هنا، فإن (المسرح والتشكيل) كلاهما ينطقان بالتعبير كل على طريقته .



أن الفنون جميعها مترابطة ومتداخلة مع بعضها بعضا، كما هي أعضاء الجسم، وأن دلالة أي عمل فني لا يمكن فهمها من دون توفر ثقافة معرفية بمعنى الفن وملمحه البصري، وتلك العلاقات التي تشكل في مجملها رؤية جمالية، تعيد صياغة العالم وفق غنائية يمكن تلمسها من خلال التناغم البصري والتشكيلي، كما هو حال العلاقة بين المسرح ومفردات السينوغرافيا واللوحة التي يتداخل فيها اللون والرمز والإيحاء وهكذا .



هناك ثمة علاقات لا يمكن حصرها، إما تكون مخزنة في الذاكرة أو آتية من خلال المناظر الطبيعية أو الأفكار الموجودة في الصور وأي مشاهدات أو قراءات محتملة تؤثر في نهاية المطاف في اللوحة التي ينجزها ولا يمكن قراءتها بمعزل عن الدلالات التي سبقت الإشارة إليها .



وفكرة الترابط هذه باعتبارها من أهم مقومات فكرة الإبداع،أن مثل هذا الترابط يعود إلى القدم، ومنذ فكرة النحت التي هي بمنزلة تصميم معماري جمالي، وبحسب الفيلسوف الفرنسي جون ديوي الذي درس الفن انطلاقا من فكرة الزمن وحقيقة أنه “زمن متغير”، حيث الفن يعكس الانفعالات والأفكار المرتبطة بالحياة الاجتماعية، فالعلاقة الأساسية بين التشكيل والمسرح ترتبط بمنظومة جمالية أساسها الفنان ورؤية هذا الفنان ومنتجه الفني وعلاقة هذا المنتج بالجمهور .



والديكور في العرض المسرحي الذي اعتبره من أبرز نقاط الالتقاء بين التشكيل والمسرح، ويضاف إلى ذلك تصميم الأزياء، الذي هو مكون رئيس من مقومات العناصر الجمالية كما أضاف لهذين العنصرين تصميم الإضاءة، وانطلاقا من هذا الفهم اعتبر أن كل ما يبحث عن وسائل مبتكرة للاعتناء بالصورة الجمالية هو من أساسيات الفن ورسالته التي يجب أخذها في الاعتبار .



ا و أن ثمة علاقة جدلية بين التشكيل والمسرح مترابطة بتناغم وإيقاع، قلما يصل المتلقي غير الباحث في هذا المجال إلى فهم هذه الحتمية، حيث المكان والتفاعل وكان،ما قبل التاريخ حيث المكتشفات الفنية في المغاور والكهوف، خير دليل على هذه العلاقة، فحيثما وجد الإنسان وجد الفن كرافعة للتمعن في المطلق والمجهول، والخوف من القوى الغامضة والانفعالات ما أدى بالإنسان للجوء إلى السحر والشعوذة والأسطورة .



بدأ الإنسان يرسم في الكهوف ما يشاهده في يومياته من حيوانات وطيور، فنحت لنفسه مكانا في الصخر ليقيه عوارض المناخ والثلج والعواصف . . الخ، فكان الرسم فنا حرك في الإنسان قوة تفاعلية إبداعية حركت مشاعره وأحاسيسه، فصنع حالة إبداعية راقية .



أن علاقة الإنسان بالمسرح بدأت قبل التاريخ، وتجلى ذلك في الرسم عند الفراعنة، حيث ظهرت حالات مسرحية راقية، بدأت بتكوين أماكن خاصة للهو والمرح، حيث الأعمال البهلوانية في جو مسرحي مثير، يتداخل فيه التشكيل مع الألوان والإنارة، فبدا المكان كوحدة متكاملة تثير الإعجاب .



قام الإغريق ببناء مسارح ضخمة في الهواء الطلق، وأثثوها بأقفال وحبال وإنارة وأضفوا على المسرح رؤية جمالية، وبدأ المسرح يأخذ حيزا في الحياة العامة، ومن هنا يتضح أن علاقة التشكيل مع المسرح أصبحت جدلية وتكمل إحداهما الأخرى .



إلى أن المسرح يقوم بما هو مؤثر وخارق في وجدان الناس، أما الآن فلك أن تتصور العالم التقني حيث الفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة والإنترنت التي بدأت تأخذ دور المسرح وتسهم في تأكيد دور الفن وأثره في تنمية الوعي والإبداع .


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي