ان ما حدث من تحولات ثقافية وسياسية في تونس ومصر ويحدث حاليا في العديد من الدول العربية , ليؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان العالم العربي يسير في طريق آخر غير الذي كان عليه قبل سنوات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين , مما يقتضي الوقوف قليلا عند تلك المتغيرات وأسبابها والمحفزات التي أدت لحدوثها , ومنها نتوقع ان تتغير تدريجيا خارطة العالم العربي والسياسات العربية الداخلية والخارجية منها , ونؤكد على ان السنوات الـ 9 المتبقية من العقد الراهن لن تمضي دون ان تترك بصماتها وآثارها الاستثنائية على تلك الخارطة السياسية والجيوسياسية المستقبلية للعالم العربي .
ومن وجهة نظرنا ان عاملا من عوامل الحكم والسياسة بين الشعوب والحكومات قد بدأ بالتغير جذريا منذ المرحلة الفاصلة بين العقدين , - ونقصد – تحديدا ما نطلق عليه في العلوم السياسية والإعلام السياسي بالخطاب السياسي الرسمي , وخصوصا ذلك الذي كان يبرز بين الحين والآخر بما تقتضيه الضرورة السياسية , فيدفع الرؤساء والحكومات الى مخاطبة الشعوب والتواصل معها , - وبمعنى آخر – توجيه رسالة معينة لها .
وطبعا فان تحليل هذه الظاهرة وقراءتها قراءة صحية يحتاج منا الى ان تتشارك في ذلك التحليل وتلك القراءة العديد من العقول والجهود السياسية منها والإعلامية والسيكولوجية والتاريخية , وكما يقول سيرغييف في كتابه : مناهج التوقع في السياسة , من ان عملية تحليل الظواهر السياسية عملية صعبة ومعقدة , فقبل كل شي يجب اللجوء الى العلاقات الاجتماعية والطبقة الموضوعية القائمة في مجتمع ما , وفي لحظة ما , ومن الجهة الأخرى يجب التأكيد على الجهود العقلية الواعية التي يبذلها الناس بغية التغير والتحول , أو حتى الحفاظ على الوضع القائم .
فإذا ما تحدثنا عن الخطاب السياسي الرسمي العربي ( سنلاحظ حدوث تحول في هذا الخطاب في العقدين الأخيرين نتيجة هبوب رياح الديمقراطية على المنطقة ونتيجة الثورة المعلوماتية والتقنية التي حطمت جدران العزلة التي كانت تفرضها النظم على شعوبها ) و– بمعنى آخر – قد فرضت ثقافة المجتمع وقدرة أبناءه وطبقاته الاجتماعية والنخبوية , والمتغيرات الدولية نفسها على شكل وأسلوب الخطاب السياسي الرسمي العربي في القرن 21 .
وفي هذا الخصوص تحديدا , - أي – الملاحظات والأنماط والمتغيرات التي يمكن الإشارة إليها , على أنها قد طرأت على ذلك الخطاب , هي :
( 1 ) النمط الكمي – فقد تزايدت في الآونة الأخيرة الخطابات الرسمية الموجهة من قبل الحكومة الى الشعوب , وذلك نتيجة الحاجة الملحة لذلك التسارع , على اثر تلك التحولات السياسية والثقافية والاقتصادية التي استجدت على الساحة العربية والدولية.
( 2 ) النمط النوعي – حيث لم يتوقف التغير عند حدود الكم والعدد , إذ وصل ذلك الى الأسلوب وطريقة الخطاب والتوجه الثقافي والسياسي واللغوي , حيث بدأ واضحا على الكثير منها الرضوخ لمطالب الشعوب وإرادتها , كما اتضح على بعض النماذج منها الارتباك والعاطفة والاستجداء والضعف والخوف , وهو على عكس الخطابات السابقة , والتي كانت اقرب الى الرسائل الحازمة والسلطوية الواثقة .
ويمكننا القول ان مرحلة زمنية معينة انتهت الى غير رجعة من عمر ذلك الخطاب العربي الرسمي الذي كان يعاني من التقهقر والبعد عن الشارع وهموم الناس , فقد تأكد للشارع كما اشرنا سابقا ان الأفكار التي كانت تحملها الطبقة الحاكمة لم تعد مقنعة للجماهير , كما ان تلك المبادئ والأفكار والسياسات والتوجهات لم تعد مفيدة للمجتمع وغير ملبية لطموحات الطبقات المتوسطة والفقيرة , - وبمعنى آخر – انهيار منظومة التواصل الثقافي والفكري بين طرفي الحكم في الدولة , - أي – الشعب والحكومات أو الشعب والنظام .
وقد اتضح بالفعل ان ( حالة الاختناق التي انتابت التعبير السياسي الرسمي العربي في مواجهة حالة الانحدار العام والاختراقات الأمنية التي لم تشهد المنطقة مثيلاً لها منذ عقود ، كما تبدو في الاحتلال والوجود العسكري والأمني الأجنبي ، وتراجع مكانة العالم العربي في المستوى العالمي ، هذه الحالة المعبرة عن مضامين عجز السلطة الرسمية – قد صاحبها - تحولان أساسيان غاية في الأهمية ، هما التحول من نموذج دولة الدور السياسي ، أي البحث عن الإقليم القاعدة الى البحث عن الدولة الوطنية النموذجية ، والتحول في الخطاب السياسي الذي ينتجه قادة الرأي والمثقفون ، أي العقلانية الجديدة ، وكل منهما يحتاج الى معالجة خاصة ) .
كما ان اقرب تصور بنظري الشخصي لتشريح الأسباب التي أدت الى هذه الحالة التي تمر بها كياناتنا ومجتمعاتنا العربية اليوم , هي إفلاس الايدولوجيا السياسية للأنظمة القائمة , وهو ما دفع شعوب المنطقة الى التحرر والتحرك لإيجاد أيديولوجيا جديدة تساعد على ربط السلطة والنظام بالشعوب , - وبمعنى آخر – وصول الأنظمة الى مرحلة الشيخوخة السياسية , وعجزها عن إقناع الجماهير باستمرار المبادئ والأفكار التي حملتها منذ البداية , والتي أصبحت متناقضة مع أفكار الشعوب وطموحاتها وتوجهاتها , وهو ما دفع تلك الشعوب بالتدرج الى البحث عن أفكار جديدة وأيديولوجيا سياسية أخرى.
أما عن أسباب انتشار واستشراء هذا الحراك في مختلف الدول العربية , فان اقرب تصور راهن للحالة بالنسبة لي يكمن في التأثير المتبادل للشخصيات والشعوب , مثلما هناك تأثيرات متبادلة بين الشعوب والأحداث التاريخية , وكما يقول شبنجلر : من ان الأحداث العظيمة تحمل مسؤولية مرحلتها والنهوض بشعبها , وهو ما قد يدفع بقية شعوب العالم الى الاحتذاء والاقتداء بتلك الشعوب والمكونات الاجتماعية , في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية والحرية .
وهو ما يجعلنا نفهم الأسباب التي أدت الى الإحداث الأخيرة على الساحة العربية , ومن المؤكد أنها ستستمر لتشمل أجزاء أخرى من عالمنا العربي خلال السنوات القادمة , حيث لم تعد الجماهير تؤمن سوى بأفكارها فقط , - وبمعنى آخر – لم تعد تؤمن أو تصدق أفكار حكامها وقادتها وزعاماتها لأنها متناقضة كل التناقض والبعد الفكري والنفسي والقومي عن أفكارها وطموحاتها وهمومها , وهذا الوضع بكل تأكيد سيؤدي بدوره الى الاضطرابات الاجتماعية والهيجان الشعبي .
كما يمكننا التأكيد على ان السنوات القليلة القادمة ستشهد الكثير من التحولات الفلسفية والتغيرات الثقافية على صعيد أشكال وأساليب ولغة الخطاب الرسمي العربي , فهذه المرحلة التي نشهد تسارع تراكماتها الأيديولوجية والسسيولوجية على المشهد السياسي العربي اليوم تعد المرحلة الأخيرة لشكل ومضمون خطابات الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي , بل ونهاية الخطابات التي طالما أطلقنها عليها بالخطابات الرسمية الفارغة ذات التجليد الفاخر .

باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية – رئيس تحرير صحيفة السياسي التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية.