مجموعة مقالات فنية وثقافية
كتبت في اوقات مختلفة فيما يخص بعض نتاجات حسين الاعظمي الفنية والثقافية
*********
الفهرست
1 – مقالة للناقد الموسيقي الكبير عادل الهاشمي عن احدى تجارب الاعظمي الفنية والعلمية
2 – مقالة للاديب الكبير جواد وادي عن كتاب الطريقة القندرجية للاعظمي
3 – مقالة للاستاذ الدكتور مجيد القيسي عن مقام البنجكاه غناء الاعظمي
4 – مقالة للمرحوم الاستاذ الدكتور رشيد العبيدي عن كتاب المقام العراقي الى اين للاعظمي


اخواتي ، اخوتي
اعزكم الله وحفظكم من كل سوء
هناك مجموعة من المقالات كتبت في اوقات مختلفة ومواضيع تفصيلية مختلفة رغم انها تصب في موضوع رئيسي واحد ، هو الغناء والموسيقى .. جاءت باقلام علمية وفنية وادبية مثقفة وواعية بامور الفن الموسيقي بصورة عامة ، ولا اقصد ان ازج اسمي بين هذه النخبة من الاقلام المثقفة لوجود احدى المقالات لي في هذه المجموعة من المقالات الفنية .. فالناقد الموسيقي الكبير عادل الهاشمي يتحدث اليكم عن احدى تجاربي العلمية الفنية في غنائي للمقام العراقي باسلوبه التحليلي الفخم .. والاديب الكبير جواد وادي يكتب عن كتابي الموسوم (الطريقة القندرجية في ............... ) باسلوب ادبي جميل عند اطلاعه على الكتاب .. كذلك الكاتب الكبير القريب جدا من المقامات العراقية الاستاذ الدكتور مجيد القيسي .. وانتم مع اللغوي الكبير المرحوم الاستاذ الدكتور رشيد العبيدي ومقالته عن كتابي الاول (المقام العراقي الى اين ..؟) .. واخيرا ازج بمقالتي عن المرحوم الحاج هاشم محمد الرجب في نهاية هذه المجموعة من المقالات الفنية آملا ان تروق لكم ..
************
عن الناقد الموسيقي عادل الهاشمي
ان الناقد الموسيقي الكبير عادل الهاشمي ، ناقد تمرس في الكتابة النقدية الموسيقية طيلة زمن قارب الخمسين عاما ، بكثافة مفعمة بالجهد والمثابرة ، وفي انتظام كتابي مستمر لم يسبق ان مارسه اي ناقد آخر بمثل هذا الاستمرار والانتظام في الكتابة .. لرصد وتاشير مكامن القوة والضعف في نتاجات الغناء والموسيقى في العراق ، بصورة عامة ، والمقام العراقي على وجه الخصوص خلال القرن العشرين .. ويعد هذا الرجل الامين والناقد الرصين ، من اكثر النقاد الموسيقيين ممن كتبوا عن شؤون المقام العراقي ، بل اكثرهم كتابة عن هذه المقامات وهمومها الفنية والتاريخية ، مقدما خدمة علمية وفنية لا توصف في سبيل تطور مؤدي وعازفي المقام العراقي ممن ظهروا في النصف الثاني من القرن العشرين .. ويشهد على ذلك الانتظام ، عموده الاسبوعي الذي انشاه في جريدة الجمهورية عام 1987 الذي توقف بعد الاحتلال البغيض لبلدنا العزيز (العراق) ..
اتذكر مرة كان فيها اخي الكريم الاستاذ عادل الهاشمي ، حاضرا احدى جلسات الملتقى الثقافي الذي كنت اعقده في بيتي يوم الخميس من كل اسبوع – وهو من حضاره الدائمين والمساهمين في إلقاء المحاضرات الفنية فيه – قد اخبرني بانه ينوي الكتابة عني في مشروع ربما يصبح كتابا ، او هو مشروع كتاب بالفعل .. ولكن الظروف التي ابعدت احدنا عن الاخر ، ادت الى شبه نسيان للموضوع ، او اجـِّـلَ بطبيعة الحال والظروف القاسية التي مر ويمر بها بلدنا العراق .. وقبل ايام وانا اتصفح في موقع كوكل Google عثرت على مقالة طويلة ، بل هي بحث مستفيض عن المقامات العراقية ومؤديها من المغنين والعازفين خلال القرن العشرين .. تحت عنوان رئيسي (المقام العراقي ، تكوينات وتلوينات واساليب) لناقدنا الكبير عادل الهاشمي ، وفي احد فصول هذا البحث كان الاستاذ الهاشمي قد خصصه بالحديث عن احدى تجاربي العلمية في غناء المقام العراقي ، وهي – توزيع المقام العراقي هارمونيا وكوانتربوينتيا – حيث يبدو لي انه اقتطعها من مشروع كتابه المخطوط الذي حدثني عنه قبل سنوات مضت .. ولاهمية هذا الفصل من الناحية النقدية والعلمية والفنية .. وددت ان تطلعوا عليه آملا الفائدة والاستمتاع للجميع ..
************************

المقام العراقي .. تكوينات وتلوينات وأساليب / الفصل الثالث

صورة / عادل الهاشمي


عادل الهاشمي
03/11/2010
قراءات: 424

تعريف المقام

هو لون عراقي من الغناء القديم تصاحبه الآلات الموسيقية ، وهو تراث موسيقي يتسم بصفة أو طبيعة ارتجالية في الغناء والعزف على مختلف السلالم الموسيقية التقليدية بطريقة مضبوطة ، هذا من كون المناسبة دنيوية ، اما اذا كانت دينية فيقتصر على استخدام الجزء الغنائى بدون آلات موسيقية كما في المولد والتهاليل والتواشيح والتحميد ، والمقام العراقي قريب الشبه بكل من المقام الاذربيجاني والرديف الايرانى ويقترب ايضا ببعض الصفات من المقام الطاجيكي والاوزبكي ولاكنه يختلف عن كل هذه المقامات بصفات اخرى ، ان المقام العراقي يقتصر وجوده في العراق فقط وهو يمثل الفن الغنائي الخاص بالشفافة الموسيقية الحضرية لمدن العراق ، وقد برز وبصورة ملموسه في بغداد وتليها كل من كركوك والموصل ، ومن ابرز السلالم النغمية المشتركة بين العالم العربي والاسلامي هي الرست والبيات والحجاز واليكاه والصبا والحسيني والنوى والكرد والمخالف ، وتتميز المقامات العراقية ما عدا خضوعها لقواعد التي تتحكم بالاجناس الموسيقية وتصويرها ، باحترام الخصوصية التي تفرضها صبغة المقام العراقي اضافة الى تمسكه بالميزات الجمالية الخاصة به على صعيد الاداء ..
عن تجربة حسين الاعظمي العلمية
قد يكون من المفيد القول ، انه في الوقت الذي قدم فيه المطرب حسين الاعظمي ، على خطوة خطرة مثل خطوة (الغناء التقابلي) ، فأنه يسجل وبأصرار محافظته الواضحة في مجال الاستخدام الالي للفرقة التي يؤثرها في مرافقته الغنائية عبر الحفلات التي يقيمها في العراق ومختلف بقاع العالم ، ومن المؤكد ان لدى حسين الأعظمي الكثير من المبررات التي يسوقها تدعيماً لاتجاهه هذا، لكن مثل هذه المبررات مهما كان وزنها، تعجز تماماً عن تبرئته من مثل هذا القصور الذي يحيط حركته الغنائية عبر نشاطاته الفنية ، وليس من قبيل الصدف ان يكون هناك اكثر من وشيجة تربط بين (القداس) في الابتهالات المسيحية وبين المقام العراقي ، الذي ظل عبر خاصيات موسيقاه وآلاته ومغنيه ينتسب الى المدرسة العباسية القديمة التي نشأت تاريخيا في بغداد ، وهو أي المقام كان وسيبقى ارتجالاً صوتياً قواعديا على ايقاع حر ومزخرف لنصوص شعرية وزجلية ، والقداس في حقيقة الامر ليس من القوالب الموسيقية في الغناء الاوربي، بل هو مجموعة من طقوس معقدة ، تؤدي فيها الموسيقى دورا معينا ومحددا الى جانب مراسيم اخرى مثل (الموعظة) ، (المواكب) وعبر التحولات التاريخية التي قطظعها (القداس) خلال 1500 سنة ، أضحى القداس قالباً موسيقياً ، وهو يتألف من نوعين من الابتهالات (الاول) القداس ذاته ويضم في رحابه ـ الانترويت ـ (الافتتاح) والجراديو ال ـ (الصعود) والتهليلة والتراكت (الولولة). وـ الاوفير يتوريا ـ (التقديمة) و(المفاولة) ..
المقام علمياً ، هو مجموع الدرجات المحصورة بين القرار والجواب ، اما النغمة فهي الاصوات الصادرة عن درجات المقام وفق الابعاد الثنائية المقررة لها ، وعليه فأن اختلاف النغمات او الأنغام يرتبط باختلاف الابعاد المذكورة والمقام العراقي يتركب من ثلاثة اقسام هي ـ التحرير والمتن والتسليم ، وما بين التحرير والتسليم مجموعة من الاوصال والميانات والقرارات ،والتحرير يعني المقدمة حيث يتوخى من خلالها المغني تهيئة جو المقام للاسماع ومن الضروري القول ان تحارير المقامات تنطلق عادة بنغم المقام الاصلي من دون أي تحويل ، وتؤدى عادة من طبقة هادئة وقورة وعلى قرار المقام ، أي نوتاته المختلفة، ففي مقام الراست مثلاً يكون التحرير كله من نغم الراست وهكذا الى جانب ذلك فأن التحارير تغنى بالكلمات او العبارات المضافة فلكل مقام كلماته المعينة للتحرير ، فتحرير مقام (الاوج) يأتي من خلال عبارة (يادوست) وهي كلمة تركية، وتحرير مقام (الحجاز ديوان) يقوم على عبارة ـ فريا دمن ـ وتحرير مقام النوا مع عبارة ـ أمان ـ .
اما ـ المتن ـ هو الجهاز الجوهري من المقام يغنى مع ابيات القصيدة او اشطر الزهيري ، والزهيري الارتجال في الغناء بنظام شعر شعبي يتألف من سبعة اشطر ، تنتهي الثلاثة الاولى منها بكلمة متحدة في اللفظ وتتغاير عنها في المعنى ومثال لذلك ما غناه محمد القبانجي من مقام القطر ..

نار الغضا لوعت مني الضمـــــــــــــير بجاي
الغير منهم شرب كــــــــــــــاس الوداد بجاي
تميت أعالج بروحي جــــــــــــالغـريج بجاي
وانوح من بلوتي نوح الحـــــــــــــــمام ابغرب
أرعى نجوم الفلا هـــــــــــــايم صباح أوغرب
ماهي مروة تخلّونا بــــــــــــــــــــــــدار الغرب
ابجي على شوفكم مـــــــــــــاتسمعون بجاي

ومن المقامات التي يغنى فيها الزهيري ، الابراهيمي ـ وهو اكبر المقامات العراقية ، والمحمودي والناري والمخالف والمدمي والحديدي ، وسيصبح من المستحيل علينا في المستقبل نحن ورثة المقام العراقي من الاجيال الحالية واللاحقة ، ان نكتب تاريخاً لمجموعة البناءات المقامية العراقية ، الثوابت الغنائية اذا ما استندنا الى ابحاث كتلك ، فالمقامات العراقية بما فيها من نقاء وهجنة وتغريب تشكل وحدة من روح وتطور محدود ومحدد ، لايمكن ابداً العزل او الفصل بين عناصرها ويجب على الفنان الا يتخيل ابداً انه باستطاعته ان يفهم احدى العمارات البنائية لاية مجموعة مقامية من دون العودة الى بقية المجموعات الاخرى التي تترابط وتتآلف معها، وهذا ما وعاه الفنان حسين الاعظمي سواء بالحس الفطري ام بالدراسة فيما بعد، ان ولادة هذه المجموعات المقامية وانتشارها وتثبيتها الباطني لاتقع في حقبة تاريخية واحدة، انها نتاج ثري لحقب تاريخية متتابعة ومتعاقبة، قد يصعب تحديدها ولكن هذه المجموعات المقامية تملأ قروناً عديدة، تملأها عطاءً واخذاً فيهما التبادل والازدهار المدهش بخصوبته وثرائه، وحتى نضوج مذهل وتحولات شكل تأخذ مداها المحافظ ولكن اشكال هذه المقامات الغنائية وتراكيبها ، هي ربما تخضع في قليل او كثير الى التغيير والتحويل المتدرج ، اذ ان في اعماق هذه المقامات تكمن الروحية الواحدة ذاتها، وهذه الروحية هي ذاتها التي تنطق بفرادتها الفنية العجيبة ، هذا التغيير ابدأ مع المغني العراقي (رحمه الله بن شلتاغ) المعروف باسم كوكاز، وقد احضروه الى بغداد صغيراً ، فنشأ في افيائها وترعرع حتى مات فيها.. (1793 ـ 1871) والى رحمة الله بن شلتاغ تعود بعض المحسنات والاساليب التجديدية في المقام العراقي ، فهو الذي ابدع مقام (التفليس) وغنى من خلاله مقطوعة تركية، يقال انه نظمها ، وقد سار على نهجه المغنون البغداديون الى يومنا هذا ، والامثلة كثيرة وعودة الى الجوهر الموضوعي لتاريخ المقام العراقي ، نقول عاشت اقوام واجيال في بغداد وكان كل شيء في بغداد في حال من تحفز وتوثب واستعداد وترقب ، وقد تبدت أولى ارهاصات المستقبل عبر صورة غنائية سيطرت على اسماعها ، وقدر لها ان تكون فاتحة المستقبل الريادي الذي ينتظر هذه المدينة التاريخية المتفردة وتبدت هذه الصورة بخطوط واضحة ، حيث اعلت هذه المدينة شأن نظام مقامات معقد نسبياً وتقاطر مغنوها في ارجاعه الى الغناء العباسي القديم عبر ابراهيم الموصلي واسحاق الموصلي، غير ان الحقيقة ان هذا النظام خضع لتأثيرات محلية في العصور الوسطى التركية، وايضاً الفارسية والكردية ، واذا كان الأثر الاوروبي اقوى تسلطاً على الفن المصري واللبناني وعلى حوض البحر الابيض المتوسط ، فأن مثل هذا الاثر هو اقل وضوحاً في العراق ، وقد تقرر الى جانب هذا التراث البيئي العريق المضي في الفن الغنائي بتنظيم واتجاه وهدف ورغبة، ذلك ان شيئاً ما أدركته البصائر الثاقبة، وهو ما يزال في حرم الغيب ، والمستقبل البعيد، انه شيء كان ما يزال انذاك غامضاً ، مظلماً مبهماً، لكن القناعة بولادته ومجيئه وترعرعه كانت وطيدة راسخة ، ومنذ ذاك الحين فيما بعد، عاشت بغداد رؤى هذا الفن وكان يرافق عيشهم هذا، احساس عميق بأن بغداد لابد ان تكون حاملة مشعل فن غناء المقام عبر موجة تدحرجت في تيارات من رؤى هبت ومن بغداد ايضاً استيقظت مشاعر التمسك بالفن الغنائي الذي اعطى نبضاً جديداً للحياة في المدينة التي قدر لها ان تحمل رؤى فن المقام العراقي وتنافح من اجله وتدافع عن ديمومته طوال عهود واجيال وحقب وقد نمت على جوانب الفن الغنائي البغدادي سلاسل من الاساطير لها صفة (الناموس) وهي كلمة تستخدم لأشد جميع المناهج قابلية للتمثل والادراك، أي انها كلمة ترتكز اساساً على التقييم ..
ان داخل المقام العراقي شيئاً ما مقرراً وثابتاً أي راسخاً مسحوراً بتكوينه الفني ، ويملك الفنان المقدرة الديناميكية على التشكل الفني الذي يلقى هوى لدى الاسماع والقلوب ويمتلك السر بين يديه وحنجرته ونبراته ، اكان هذا المقام كما كان في القديم بعضا من سحر فعال ، ام انه كما هو في ايامنا هذه ، قانون موسيقي رياضي فني تقليدي ؟ لا نريد ان نجيب اجابة قاطعة إنها سلسلة من الحوار يعلو فيه السؤال وتتغافل فيه الاجابة ! فالشعور داخل السؤال هو نشوة من نشوات البحث يرافق كل خطوة تجريبية تقرر شيئاً ما في ميدان الفن الغنائي لقوالب المقام العراقي ، فهذا الفن كما هو الحال لأي فن غنائي عربي عريق (الموشح ، القصيدة ، الدور ، الموال ، المالوف ، الاغنية الشعبية ، والطقطوقة) وسواها هو نواة، مفهوم ، مرتبة ، نسق تكتمل فيه ملامح الجاذبية الفنية التاريخية بالرغم من ان المقام بقي ميلاً عظيم التأثير .. أعلتج في صدر الفن الكلاسيكي العربي القديم ، عبر التجربة الانشادية وداخل سجن منهاج فني من روابط مقامية ونغمية لايقبل تعديلاً أو تبديلاً ، ان الخبرة التي تشكل عبرها المقام العراقي ، وفق هذا المفهوم الصارم، المحافظ ، تشكلت عبر صيغتين ـ النظرية والتقنية ـ وكلتا هاتين الصيغتين تتطلبان تدريباً للفهم البشري والمران الغنائي الالقائي، فالنظرية تتطلب موهبة المعرفة التي تمتلكها القلة من العقول النيرة من الفنانين الى حد البصيرة المشرقة كتلك التي يمتلكها (الواسطي) العراقي الرسام الذي استولى بمهارة خارقة على الفراغ الادائي التشكيلي وعثمان الموصلي النابغة العراقي في الموسيقا والشعر والتصوف وعلوم اللغة القريبة (1854 ـ 1923 ) وسيد درويش الذي حول الامتداد في الالحان الى العمق التصويري (1892 ـ 1923 ) ومحمد عبد الوهاب بعبقريته جعل للموسيقا دفقاً من الانطباعات في وحدة شكلية امتلكت جرأة الاستقلال النسبي عن الكلمة الغنائية (1897 ـ 1991) وزكريا احمد ، الذي حول تصورات الحس العربي في اللحن الى تأمل مطرب (1896 ـ 1961) ومحمد القصبجي الذي اجرى الهرمنة المشتقة من روح اللحن العربي (1892 ـ 1966 ) ورياض السنباطي الذي وحد تفاوت الوجدانيات والاحاسيس في مقدرتها على التبليغ (1906 ـ 1981) وفريد الاطرش صاحب التناغمات السببية في مجاري الالحان العربية بانشاءات .. خارقة (1910 ـ 1974) ، وانها لنظرة الى الفن بأعمق ما لها من مفهوم أولي وبالمثل هناك التقنية التي تعني تقنية سحر دفاعية عن النظرية وهو ما يميز العقل البشري الفني بين بدائي وناضج ، والعمل التقني في المقام العراقي يفترض مسبقاً القدرة العقلانية للربط، والفنان النظري هو العراف المندد ، النقاد اما الفنان التقني فهو المكتشف بما له من إحاطة مفاهيمية ، القانون القابل للتبليغ به، والمقام العراقي بما له هذه الفعالية العظمى على مستوى تاريخية الفنون الغنائية ، فهو يمتلك خفقانا وايقاعا وتتاليا الى جانب الثوابت ، وهو فن متحرك يمتلك عنصر التوتر نظراً لان الفنان الداخل الى بوابته يعرفه ويستخلص منه وشائج القربى بين مختلف مقاماته وانغامه ، فهو والحالة هذه فن الزمان والمصير والاتجاه والعنصر والتاريخ والهوية ، وقيمة الفن الادائي الذي يمثله الفنان حسين الاعظمي ، هو الاستعداد للابداع من خلال ملامح عديدة ، لعل في مقدمتها القدرة على تمييز شدة الاصوات وعلوها (البشري) و(الآلي) اولا ثم ـ ثانيا ـ تمييز الزمن الذي يستغرقه الصوت الموسيقي ـ ثالثاً ـ الاحساس بالايقاع ، رابعاً ـ الذاكرة الصوتية ، خامسا ـ ادراك الاشكال والبنى الموسيقية والقدرة على تقليد الصوت المسموع لفظياً او بوساطة آلة موسيقية، ويمكن القول ان حسين الاعظمي كفنان اندرج في قوالب أداء المقامات العراقية عبر تاريخ يتحرك في مساحة زمنية تربو على العقود الثلاثة ، يمتلك في ادائه غنى.. التصورات والترابط القوي بين التمثلات السمعية والبصرية مع المحتويات العقلية والانفعالية المتميزة ..
وقد يكون من المفيد القول ، ان الفضل الرئيس لحسين الاعظمي يكمن في كونه قد انتزع المقام العراقي من قوالبه الثقيلة والمعقدة وابدى على الدوام اهتماماً بواقعية الائتلاف مع روح المعاصرة الحياتية ، والذين يناقضون هذا الاتجاه من غلاة المتعصبين يجهلون ان تاريخ المقام العراقي ان هو بأكمله سوى تحولات مستمرة للطبيعة الانسانية في فن الأداء الفارض نزعة التطور والمسايرة الحثيثة للتطور الزماني ، ذلك انه لايوجد فن ولايمكن ان يوجد فن لا في القوانين الموضوعية، للغناء والأداء يملك الحق في ادعاء البقاء على حاله، حيث تغدو الحركة الدائمة هي القانون الجوهري لكل ماهو موجود ، في هذا الاتجاه ، نحن لا نقول وداعاً للماضي ولكن نقول نحن ننطلق من الماضي الى الحاضر ، فلا تجديد للحاضر من دون ماض نجدده ، هذه قاعدة ، وحتى تتبين ما في المقامات العراقية من بناء فني شاهق واصول مرعية ضاربة جذورها في اعماق الذهنية العربية.
ونأتي على مذهب (اسحاق بن ابراهيم الموصلي) المتوفى في عام 235 هجرية، فقد صحح أجناس النغم والايقاع واضاف ما استنبطه أهل الصناعة مما ينسب الى العرب خاصة من دون الذين جاورهم من الامم وبذلك ، أ ستكملت عند القدماء ملامح الاصول العميقة التي تعد دعامة الغناء العربي والعراقي عبر عصور ما قبل الاسلام حتى نهاية الدولة الاموية ، عندما تعاقبت عائلة من الاذهان حاولت ان تفرض اصول الغناء وقد حسنوها بفطرتهم وطبائعهم ثم جاء مذهب المتوسطين واقرب هؤلاء الى القدماء من الذين بدأوا منذ القرن السابع للهجرة في تعريف اجناس النغم والايقاع والجماعات اللحنية.. بمسميات اصطلحوا عليها لتكون بازاء الادوار الشهيرة وتقوم مقام التجنيسات التي وضعها القدماء على مذهب اسحاق الموصلي، وتاريخياً هم اول من استنبط الاجناس اللينة واستعملوها في جماعات النغم ، ثم اتجهوا الى تقسيم الانغام الى اصول وفروع ، اما المرحلة الثالثة ما كان على مذهب المتأخرين ، ومذهب المتأخرين هو امتداد لمذهب المتوسطين حيث يبدأ من القرن العاشر للهجرة ويتيمز تماماً بالتوسع في فروع الاصول وانتقاء ما يتشعب منها، وجل مؤلفات هذا النمط كان في اراجيز او في رسائل قصيرة ..
اما المرحلة الرابعة ما كان على ما درج على مذهب المحدثين والى يومنا هذا ، حيث يبدأ من القرن الحادي عشر للهجرة ، عندما اخذت امور النغم والايقاع والتسميات الموضوعة إتجاهاً وإصطلاحاً في الاستقرار ، وكان لأهل الصناعة العملية من الاتراك والعراقيين والمصريين اثر واضح في انتشار اكثر المصطلحات المعهودة لمقامات الالحان الى عصرنا الحالي ..
وعبر اثني عشر قرناً من الزمان اندلعت حرب فكرية للمحافظة على التراث الفني للمقامات العراقية التي هي جزء عظيم من فعالية الجهاز الفني لشجرة الانغام الكونية ، هذه الحرب القوية العميقة المؤثرة امتلكت عناصر الديمومة عبر التاريخ ، لان هذه المقامات غنائية، ذلك ان النفس تستغني به عن غيره من الملاذ البدنية اثناء حالات السماع التي تصل الى حد الوجد ، لذلك قال فيثاغورس ( ان فضل الغناء عن الكلام كفضل الناطق على الاخرس) ويغدو الغناء فاعلا عبر التقنية ، وهي مجموعة الخبرات المكتسبة من الحياة اليومية ، انه اكتساب قهري لا طوعي ، ذلك ان الانسان قد انصت الى تحولات الطبيعة ، وحفظ الملاحظات المسموعة والمرئية عن تلك التحولات وقد بدأ بتقليدها بوساطة وسائل تلك الملاحظات تنفع النبض الداخلي لروحه وتفيده ، هذا الاستنطاق الملحاح الذؤوب للطبيعة قد مر عبر الحنجرة بوصفها كوناً صغيراً يطيع مشيئة الفنان وحده، لقد تقدم الغناء عبر الحنجرة ، لان هذه الحنجرة التي وهبها الله تبارك وتعالى للبشر هي قوى حياة مطمورة ، التقنية التي تعلمناها من الطبيعة هي التي دفعت بالانسان الى التعريف على تفاصيل هذه الحياة المطمورة من تفاعل وانفعالات واحساس وشغف وحب وتعبير ، انها دراما النبض الانساني الشخصي مخاطباً النبض الكوني وبهذا تصبح التقنية الغنائية الصادرة من الحنجرة البشرية ذات سيادة ، ففيها تتبدل الخبرة الاولية الغنائية الغريزية الى معرفة غنائية واعية وكما ان (اسطقسات) وهي اصول اولى ومبادئ لفظ معرب عن اليونانية جمع ـ اسطقس ـ الوجود هي اربعة اولها النار ، وهي عنصر حار يابس ، ثم استحال منه الهواء وهو حار رطب ، ثم من الهواء الماء وهو بارد رطب ثم استحال من الماء التراب وهو بارد يابس ، فهذه استحالات العناصر وكذلك كانت الاصول الاربعة ، فأنه اول ما استخرج مقام ـ الرايست ـ ثم استخرج منه العراق ثم استخرج من مقام العراق مقام الزيرفكند مقام ـ الاصفهان ـ فهذه الاربعة ـ الاصول ـ هي اساس لوجود جميع الانغام ، ومنها جاء اشتقاق المقامات من الاصول فالراست تولد منه، الزنكلاه والعشاق والعراق خرج منه ـ الحجاز والبوسليك والزير فكند انبثق منه ـ الرهاوي والبزرك والاصفهان نما منه ـ الحسيني والنوا ..
وهكذا تكاثرت شجرة الانغام والمقامات عبر عصور التحول في مجالات الحياة الفكرية والعملية ، وعليه فأن الرجوع الى النظرة التاريخية لتقدير ظاهرة المقامات العراقية المنتسبة للماضي ، قد يكون اشارة للعودة الى واقعية الغناء الاصولي ، لقد تسكعنا طويلا في الضباب الرومانسي للاساطير والمعتقدات وانها لمتعة ان ننزل الى الارض ، ففيها عائلة كاملة من الحناجرالتي مارست فن الغناء العسير ، فن المقامات العراقية ابتداء من (رحمة الله بن سلطان اغا بن خليل شلتاغ) مروراً بـ احمد زيدان والملا عثمان الموصلي ، وابراهيم العمر بن عمر بكر الحافظ الاعظمي ورشيد القندرجي ، وقدري العيشة والحاج جميل بغدادي بن السيد سلمان بن مصطفى بن علي ويوسف الكربلائي وعلي جوامير وشاكر البنا وعبد الفتاح معروف، ونجم الشيخلي وصديقة الملاية ومحمد القبانجي والسيد جميل الاعظمي واسماعيل الفحام ومحمد العاشق وعبد القادر حسون وعبد الهادي البياتي ومجيد رشيد ، وحسن خيوكة وعبد الرحمن خضر ويوسف عمر والحاج هاشم الرجب ونسرين شيروان وناظم الغزالي ورسول كيردي وشعوبي ابراهيم وعبد المجيد العاني وعبد الرحمن العزاوي وحمزة السعداوي الى سليل هذه الشجرة المعطاء الفنان حسين الاعظمي وبقية الاصوات الاخرى حامد السعدي وخالد السامرائي وطه غريب وسواهم .. وكان ثمة تقدم ملحوظ في بحث المقام العراقي وفي دراسة المستويات الدنيا من بنية المقام بصفة خاصة ، لايمكن حسابه او التحاسب معه من قبيل المصادفة ، لأن هذه المستويات بالذات تعتبر حقلاً موائماً لتطبيق المناهج الاحصائية بنظمها الرياضية المعدة اعداداً ماهراً ، وسر هذه المواءمة يعود الى ماتتمتع به هذه المستويات من تميز واضح في وحداتها ، كما ساعد استخدام النظام الرياضي للمقام العراقي على اقامة نماذج معقولة لأبنية ايقاعية موسيقية شديدة التعقيد ، ويقتضي بعد ذلك تطور الدراسة العلمية للمقام مزيداً من معالجة المشكلات العامة المتصلة ببنية العمل الشعري والزجلي العائد للمقام العراقي وبهذه الصورة يمكن ملء الفجوة بين دراسة المستويات الادائية للمقام العراقي وبين القضايا الفنية لتاريخ المقام العراقي وبالنسبة لتعدد المقامات والانغام ، فأن المنطلق الاساسي لدراسة هذه الناحية يتمثل في ادراك خاصية التناقض الظاهري التي تميزه من حيث هو ، ومن ثم فلو لم يكن وجود المقام العراقي حقيقة قائمة ولا تقبل الجدل لأمكن تماماً التدليل على انه من غير الممكن التثبت من وجوده واساس التناقض الظاهري في المقام يتركز في الآتي ، ذلك ان من المعلوم ان اية لغة موسيقية لاتخلو من نظام بمعنى انها ليست حرة من القواعد التي تنظم عملية التوفيق والمزاوجة بين العناصر المكونة لها، فعند إجراء هذه العملية توجد ضوابط معينة ينتظم منها جملة القواعد في لغة ما ، وبغير وجود هذه الضوابط، فأن اللغة لايمكن ان تخدم ما وجدت له من غايات اتصالية غير انه من الممكن ايضاً في المقابل ازدياد هذه الضوابط المفروضة على اللغة الموسيقية للمقام يواكبه في الوقت نفسه تضاؤل استجابتها لروح العصر! والنص الشعري والزجلي العائد للمقام العراقي يخضع هو الاخر لكل ما تخضع له اللغة الموسيقية للمقام من قواعد، ولكنه يزيد على ذلك بما يفرض عليه من قيود جديدة اضافة الى تلك التي تتعلق باللغة الموسيقية ، مثل ضرورة مراعاة المقاييس الوزنية الايقاعية وتنظيمها طبقاً للمستويات الصوتية والتقفوية والمعجمية والفنية والجمالية ، ولذلك سعى الفنان حسين الاعظمي الى محاولة معالجة هذه المشكلة بتخفيف ضغط القواعد الفنية وفتح نافذة الأداء المعزز بطاقة معقولة من الحرية في التنقل بين المقامات والانغام والأخذ بما ينسجم وايقاع العصر، أي الوعي بمنابع الدلالة المعرفية لفن المقام، وان حسين الاعظمي قد أدى المقام عبر مقولة ، ان فكرة الفنان تتحقق في النماذج التي ينتمي اليها واقعه ..!
النص البنائي الموسيقي للمقام العراقي هو عمل على درجة عالية من التنظيم وهو تنظيم تحقق عبر طريقتين (الاولى) على صعيد النظام الغنائي يمكن تحقيقه بخصيصتين جوهريتين ـ الموقعية والسياقية ، موقع المقام وسياقاته الفنية . (الثانية) على مستوى النمطية تحقق عبر خصيصتين ـ التكافؤ والتسلسل وخاصية التنمذج ، المميزة لكل أداء مقامي ، ذلك ان العمل المقامي على مستوى الأداء نموذج! ولكن نموذجا لأي شيء ؟ انه نموذج للاسماع في عصر ما، نموذج للفنان في عمومه، وهذا بدوره يتوقف على طبيعة الثقافة التي يندرج فيها غناء المقام ، وفي داخل سياق هذه الحقيقة لابد ان يتواكب عنصرا التماثل والتنوع معاً، الامر الذي وجدنا في أداء حسين الاعظمي ما يبشر بالجنوح نحو دائرة التعبير الى التلقائية ، الى جانب النزوع الى دائرة المضمون الفني الى اللاتلقائية ، ومن ثم فإن ـ ميكانيزم ـ التعبير في هذه الخاصيات ليس ذا اهمية او قيمة بذاته ، بل يدين بذلك الى ملتقى الفن الادائي الذي لايسترعى انتباهة هذا الميكانيزم ، الا حين يخطئ المؤدي في العمل ، وحسين الاعظمي في ادائه التجديدي للمقام يؤجج الصراع فيه بين التلقائي واللاتلقائي ، ذاك الصراع الذي يمتد على رقعة جميع عناصر البنية الادائية وواقع أداء المقام عند حسين الاعظمي يتحقق على الدوام من خلال مقياسين متلازمين ، الاول ـ السعي الى الالتزام لتطبيق النظام لعدد من القواعد ، الثاني ـ السعي الى تجاوز هذه القواعد نسبياً مع مراعاة ان جسم المقام لايمكن ان يتفجر في الحناجر المؤدية معزولاً عن هذين المقياسين ومستقلاً بنفسه ، فبالعلاقة بين هذين التصورين وبالتوتر البنائي وبالمزج بين ما ليس ممتزجاً، يتم إبداع النتاج الفني للمقام العراقي ، وهذا في حد ذاته الخط الذي سلكه حسين الاعظمي.
ان أي نظام وزني في الغناء يقصد به الى خلق التوازن في الوحدة الغنائية ، ويفضي الى اعتبار ما هو متوقع من نبرات وزنية وكأي غناء يعلو فيه المنهج الاعتباري لا يتجلى بكامل وضوحه عبر الغناء ولاحتى خلال الانشاد ، بل من خلال الاحساس الذي يجلو عن قوانين توزيع النبر ، وهو ما يسمى بالتقطيع الغنائي الذي يكثر في المقام العراقي ، وهذا التقطيع المقصود به اللجوء الى تكثيف الزخرفة في الغناء ، هو ليس عملية حكمية صرف، على اعتبار ان دوره يكمن فقط في الكشف عما هو مستكن في الغناء من قوانين البناء الفني (الجنس المقامي، نمط البنية الايقاعية والاسلوب).
إن التناقض بين ماهو غناء وما ليس بغناء ، يتجلى في شكل آخر ، فالغناء يمثل لا كشيء احادي التكوين، وإنما كطاقم نموذجي من الاوزان الموسيقية المتاحة التي تشترك في الانتماء الى المقام العراقي ، وتتفاضل بينها بعلاقاتها الاسلوبية والنوعية ..
عادل الهاشمي
2010
***************************
الاديب جواد وادي
تشرفت بمعرفة اخي الكريم الاستاذ الاديب جواد وادي عام 2000 عندما كنت في زيارة فنية الى المملكة المغربية الشقيقة بدعوة من مهرجان الرباط الدولي .. وقد كانت احدى حفلاتي في مدينة أسفي التي تبعد عن العاصمة الرباط اكثر من ثلاثمئة كيلومتر .. وبعد انتهاء حفلة تلك الليلة دعيت انا وزملائي الموسيقيين اكثر من دعوة على العشاء لتكملة سهرة الليلة من قبل اخوة مغاربة وعراقيين .. وبالتالي انتهى بي المطاف في بيت الاديب الكبير جواد وادي لاتشرف بمعرفته في تلك الليلة الجميلة من ايام صيف عام 2000 .. ومنذ ذلك الوقت ونحن نتكاتب احيانا عبر الانترنيت في شتى الامور الفنية والادبية والثقافية .. وفي العام الماضي 2010 ارسلت له احد كتبي المطبوعة الموسوم (الطريقة القندرجية في المقام العراقي واتباعها) الذي يبدو قد نال اعجابه .. الامر الذي ادى الى ان يكتب مقالة كبيرة حول الكتاب ومضامينه الفنية والعلمية والثقافية .. تحت عنوان رئيسي (حسين إسماعيل الأعـظمي فنان وباحث أصيل لفن المقام العراقي) مقالة تستحق القراءة والتركيز في محتوى اسلوبها الادبي الراقي .. تلاقفتها الكثير من المواقع الالكترونية وساهمت في نشرها عبر الانترنيت .. ولا يسعني هنا الا ان اشكر اخي وصديقي العزيز ابا فرات على حسن ظنه بالكتاب ومحتوياته الفنية والعلمية والثقافية ..

****************
كافة مواضيع الحوار المتمدن تنشر الان في شبكتي الفيسبوك والتويتر، للاطلاع
موقع الحوار المتمدن في شبكة التويتر
http://twitter.com/ahewar
موقع الحوار المتمدن في شبكة الفيسبوك
http://www.facebook.com/ahewarorg


(حسين إسماعيل الأعـظمي
فنان وباحث أصيل لفن المقام العراقي)

صورة / جواد وادي


جواد وادي
الحوار المتمدن - العدد: 3265 - 2011 / 2 / 2
المحور: الادب والفن
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
حين تتعاظم هموم الفنان الجاد لتستوطن في تفاصيل وجوده الحياتي فنيا ومعايشة وإحساسا متفردا لتعود هذه الهموم بوصلته الرافدة لتحفزه لان يدون رصانته الإبداعية وتعلقه بفنه ليعزز، كهدف سامي، وجوده فنانا وباحثا وناقدا بعين الراصد للفن الذي يعشق ، لتعود محصلة لكل فنان جاد إرضاء لضميره الوطني ، كل وجنسه الإبداعي ومجال تخصصه ليريح ويستريح بسكينة المبدع الذي ما تكاسل أو تهاون في سعيه لتأسيس تقليد قلما نجده لدى فنانين آخرين خلاف ما يسعى إليه فناننا المتميز حسين الاعظمي في أن يطرح نفسه في ساحة الإبداع العراقي كفنان رصين بمواصفات التكامل الفني النادر ليمنحنا صورة متفردة في هذا الوسط بغثه وسمينه ، حين اختار وبهم المسكون بعشق المقام العراقي أن يزاوج بين الأداء العارف بتفاصيل هذا الفن وبين الغور في دراسته والبحث العلمي بهذا الشكل من التناول البهي ، الأمر الذي نجده قد استعصى على العديد ممن سبقوه أو عاصروه ليشكل لاحقا مدونة متكاملة ومرجعا لكل من يهتم بفن المقام وعلى أسس علمية ليسهل مهمة التناول لرصد هذه الظاهرة التي تشكل للعراقي وشيجة وآصرة تشده بقوة بالوطن من حيث ناسه وتراثه وأصالته وعمق دربة أبنائه في كل مناحي الإبداع الإنساني وقبل هذا وذاك وجده وحنينه لأرضه حين تكالبت عليه صروف الزمن وماسيه ليبقى المقام بشجنه وصدقه وسيلة التأسي التي تكاد تكون نافذة الخلاص الوحيدة من وطأة المرارات ومحاصرة الهموم لهذا العراقي المغلوب على أمره.
إن المقام العراقي بمثابة الترانيم المقدسة لكل العراقيين أينما حلوا وأنّى ارتحلوا ، وقد يكون برأي العديد منهم العلامة المميزة لصدق الانتماء مع بقية ألوان الغناء العراقي بشجنه وحرقة الإحساس بالألم الذي ما برح عن الشخصية العراقية المنكسرة ، فلا غرو أن يفطن فناننا المتألق حسين الاعظمي لهذه الميزة العراقية ويعطي ما تستحق من الاهتمام كموهبة غنائية معززة برؤيا عــــلمية باهرة لتكتمل مهمته على الوجه الاتم ..
إن فنانا كبيرا صال وجال ولعقود ، مؤديا ومقارعا لكبار الرواد لا ليخلق هوة بينه وبين اؤلئك الخالدين أمثال القبنجي ويوسف عمر وحسن خيوكة ورشيد القندرجي ، وغيرهم بل ليشكل حلقة الوصل لتكملة المشوار ، إنصافا لهؤلاء الكبار وخدمة للأجيال اللاحقة من قراء المقام ودارسيه وإرضاء لحبه لفن المقام الذي وكما اتضح لنا من خلال قراءة فصول هذا المؤلف انه يحتكم على موهبة لافتة في الفهم العلمي وكيفية وضع الأسس لتوثيق رؤيته التي قد تكون قد أغفلت أو غابت عن العديد من الدارسين في هذا المنحى ..
إن جهدا وازنا كهذا الذي أنجزه فناننا الكبير حسين الاعظمي ليس لنا نحن العاشقون حد الهوس لهذا الفن إلا أن ننحني إجلالا لما بذله من عمل كبير يحتاج إلى صبر وتحمل وبحث جاد والنبش في الملفات وبحث عن المصادر واللجوء لآليات عمل متعددة لا يشعر بوطأتها إلا الباحثون المتميزون وغيرها من صيغ المثابرة ، ليخرج لنا هذه الحلة الجميلة ويمتعنا بقراءة لم نكن نحلم بها كونها تجمع بين علمية المادة وبساطة اللغة وعمق تجربة الباحث. تلك لعمري قدرة مشهود لها بالعطاء والتشبث الأمين بالتراث العراقي الأصيل ليتحفنا بما جادت به قريحته كمؤدي فاطن بفن المقام وما انعم عليه قلمه الجميل ..

الطريقة القندرجية في المقام العراقي وأتباعها ..
دراسة تحليلية فنية نقدية لإحدى طرق الغناء المقامية البارزة في القرن العشرين

هذا هو عنوان كتاب الفنان حسين الاعظمي وترويسته .. وبنظرة فاحصة للعنوان نلاحظ إن الكتاب لم يكن عرضا بسيطا وعاديا لهذه الطريقة بل هو يشتمل على دراسة بأسلوب تحليلي راصد وبرؤيا نقدية لا تخلوا من تفكيك الطريقة وتبيان مميزاتها كون أن هذا المنهج الغنائي يعتبر من أهم طرق تأدية المقام في القرن الماضي لينسحب حضورها على ألفيتنا الثالثة، الأمر الذي يعتبر سمة مميزة لهذا البحث حيث أتاح لنا معرفة طرق الأداء المتعددة وأضاء لنا الكثير من المحطات التي كنا نجهلها بعد أن كنا مستمعين نعشق الإنصات دونما تمييز بين هذه الطريقة وتلك وهنا تكمن أهمية هذا البحث العلمي الجاد والرصين لهذا الفن الخالد ..
الكتاب من الحجم الكبير تؤثثه 310 صفحات وتتصدر صورة الفنان الخالد رشيد القندرجي الغلاف وهو من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر لعام 2007
ووفاء إنسانيا رائعا واعترافا بالجميل يهدي فناننا حسين الاعظمي كتـابه إلى ( الرجل المفضال والمتفضل ، الصديق الأب عطا عبد الوهاب بعض الوفاء له) ..
ولكي يتمكن القارئ من بعض اشراقات الكتاب لا باس أن ندون ما جاء من تصدير هام يلخص فحوى الكتاب في الغلاف الخلفي حيث يقول الكاتب: ( عند حلول القرن العشرين امتلك المقام العراقي ، بنتاجاته الغنائية التي تجسدت بأصوات كل المغنين ، حقه في النهضة من جديد، بل يمكن أن نقول أن الحقبة الزمنية يمكن اعتبارها ولادة جديدة للمقام العراقي الذي يمثل التراث الغناسيقي في مدن العراق ، باعتباره تحقيقا للترابط الوثيق بين المضامين التعبيرية للمقامات ، بأصولها التاريخية التقليدية ، وشخصية العراقي ومشاعره ، ويرجع سبب ذلك، على الأرجح ، إلى تطور أجهزة الحفظ والنشر والانتشار والتوزيع ، وتوسع المد الصناعي بصورة عامة وشاملة ، الأمر الذي أعطى للحياة سيرا حثيثا وجعلها أكثر حيوية وأثرا ، ففي بداية القرن العشرين سجل الإنسان صوته عن طريق جهاز التسجيل الصوتي لأول مرة في تاريخه ، ومن ثم استمع إلى صوته بكل دهشة واستغراب .. !! فالمغنون ، والعازفون ، والباحثون ، ونقاد الموسيقى ، والمتخصصون في شؤون الفن الموسيقي بصورة عامة وغناء المقام العراقي بصورة خاصة - وان اختلفوا- فهم متفقون على دراسة ما يتعلق بالفن الغناسيقامي ، والبحث في طرق الغناقامي ولغته الأدائية المتنوعة ، التي من شانها ان تفيد وتنبه إلى الفهم العميق والدقيق لطرق الغناء وأساليبه، والتي لا بد من شانها أيضا أن تساعد على تربية ذوق المتلقي بشتى مستوياته.)
يستهل الباحث حسين الأعظمي كتابه بقصيدة الشاعر الخالد جميل صدقي الزهاوي الشهيرة:

عش هكذا في علو أيها العلم فإننا بك بعــــد الله نعتصم

ولا نعرف لماذا اسقط الفنان الأعظمي اسم الشاعر عن القصيدة ولعله سهو غير مقصود وكأني به حين يستشهد بهذه القصيدة يحملنا على راحلته العراقية الأصيلة للولوج إلى متون الكتاب ، يوحدنا حب العراق وتعلقنا بترابه لتكون لحظات القراءة أكثر وجدا وأعمق صدقا ..
واللافت في هذا الكتاب أن المؤلف تقصد وبمهنية الفنان أن يؤثث صفحات الكتاب بصور العديد من الفنانين من ذوي العلاقة بهذا الفن وهذا الاعتراف يعد مشاركة لهؤلاء النجوم لهذا الفن وفاء لما قدموه وأسسوا له وأضافوه .. وكأن الجهد المبذول ليس جهدا فرديا أو مشتتا، بل هو جهد جماعي أشرك الفنان حسين الأعظمي الجميع لإخراج البناء الفني للمقام العراقي بحلته الجميلة ولن يدعي أبدا الفضل في الإضافات رغم اعترافنا بها مكملا ذات الطريق لمن سبقوه حين طوروا كثيرا من فن المقام أمثال الراحل محمد القبنجي والراحل هاشم الرجب ويوسف عمر وغيرهم من رموز المقام الخالدين ..
وفي مقدمته للكتاب يتقدم الكاتب بالثناء لكل من أمده بالعون لإخراج هذه الحلة القشيبة ..
يشتمل الكتاب على بابين ، الأول الذي يتوزع على فصلين والباب الثاني الذي يحتوي على ثلاثة فصول والدراسة مبوبة حسب التدرج التاريخي وأهمية التناول مدعوما بالكثير من الصور التوثيقية لقراء وعازفين ومهتمين مما يعطي الكتاب نكهة خاصة تمنح القراء الاطلاع على العديد من تفاصيل الرواد ممن كنا نجهلهم إما لأسباب عمرية أو لعدم توفر الأرشيف من دراسات وبحوث كثيرة تناولت هذا الفن لتوثيق محطات غير معروفة سابقا أو لتعريف القراء بوجوه لها علاقة وثيقة بالمقام من قريب أو بعيد دون أن نعرف عنها شيئا، وهنا يمكننا القول أن الباحث حسين الأعظمي لم يبخس أحدا حقه مهما كانت درجة علاقته بفن المقام . ووزع الأدوار بعلمية الفاطن والمتعمق في هذا المجال وهذا الأمر كلفه الكثير من الجهد والبحث والتقصي ونفض الغبار عن الكثير من المحطات المنسية أو التي كادت أن تندثر فعالجها بروح الحريص على الإمساك بها قبل أن تبهت تفاصيلها ، وبالتالي نجده حقق نجاحا يحسب له بامتياز، خدمة لفن الشعب الخالد، المقام العراقي ..
لا بد لنا هنا من تسليط الضوء ولو بإيجاز عن أهم ما تناوله الباحث في بابي الكتاب وفصولهما، كوننا لا يمكن ان نغطي الدراسة التي تتوزع على 310 صفحات بهذه العجالة ونترك القارئ يستمتع بقراءة الدراسة القيمة والآسرة حقا بالدخول إلى عوالمها الثرة.

يشتمل الباب الأول على فصلين:
الفصل الأول:
المقـدمــــــــــــــــــة و التعريف بالمقام العراقي والتقديــــــــــــــــــم.

الفصل الثاني:
المقام العراقي في حقبة التحول وطريقة الغناء وأفكارها وغير المنظور في الطريقة الغنائية
أما الباب الثاني يشتمل على:
الفصل الاول:
ويعالج: إتباع رشيد القندرجي وجذور الطريقة القندرجية وبعض مزايا رشيد وطريقته والتسجيلات الصوتية لرشيد القندرجي ووصف موجز لبعض مقامات القندرجي
الفصل الثاني:
- حسقيل قصاب - رشيد الفضلي - احمد موسى
أما الفصل الثالث فيتناول:
عبد القادر حسون وشهاب الأعظمي والحاج هاشم الرجب

وكما يلاحظ المتابع الكريم ورود أسماء من القراء لفن المقام العراقي لم نكن نعرف شيئا عنهم ونجهل حتى أسماءهم وهذا تجني كبير لرواد أعطوا الكثير لهذا الفن وتعلقوا به ، واخلصوا له ، وبعمل الباحث حسين الأعظمي الرصين والجاد ، أعاد أمجاد هؤلاء القراء الخالدين وأنصفهم كثيرا وأسس لمنهج علمي لتوثيق كل ما يتعلق بهذا الفن من قراء وكتاب وشعراء وعازفين وداعمين لتكتمل الصورة ولعل دراسات قادمة تسير في ذات المنحى لتضيف معالجات أخرى ، دونما إغفال لما احتواه الكتاب من صور عديدة نترك لذة المشاهدة والاطلاع للقارئ ليتعرف على أصحابها بالإضافة إلى وثائق ذات علاقة معتمدة وداعمة للدراسة ..
تجدر الإشارة هنا إلى الكتاب الذي صدر للفنان الباحث حسين إسماعيل الأعظمي الموسوم( فن المقام العراقي ومبدعوه في القرن العشرين) الصادر عن دار دجلة- عمان) والذي أضاء متونه الكاتب العراقي حسام السراي في مقالته المنشورة في موقع الإخبار ..
يتضح لنا كمتابعين غير متخصصين بهذا الفن ، إننا أمام قامة كبيرة تلك هو الفنان الباهر والباحث المتميز الأستاذ حسين الأعظمي والذي أثرى المكتبة العراقية بدراسات من شانها أن تضع لبنات حقيقية مدعمة برصانة البحث وعمق الدربة الفنية لفن العراق الأول وتراثه الخالد ، المقام العراقي ، مع ذكر باحثين آخرين أسدوا الكثير بأعمالهم لفن الموسيقى في العراق من أمثال ألدكتور نوري الراوي والأستاذ أنور صبحي رشيد وغيرهم ..
هنيئا لنا بهذا الرافد الناهل من تراثه ليعيد ترتيب الأوراق ويضعها أمامنا بجهد هائل ، الله وحده يعلم، كم تطلب منه ليخرج بهذه الحلة الرائعة ، ويقينا أن الباحث حسين الأعظمي لا يسعى من وراء ذلك سوى تعميق وتمتين وشيجة علاقته بوطنه معتبرا فن المقام الذي يعشقه ضالته في العطاء ليضاف إلى لائحة العراقيين الذين كانوا وما انفكوا يسدون لبلدهم الخدمات الجليلة دونما ترقب لفائدة أو نفع مادي ، ولا نملك إلا أن نصفق لهم بلغة العاشقين والشاكرين لما قدموه ..

جواد وادي

******************************

اعزتي الاكارم
في الايام الاولى من عام 2004 كنت في جولة اوربية فنية لاقامة بعض الحفلات في فرنسا وهولندة وبلجيكا والمانيا .. وخلال هذه الجولة عدت مرة اخرى الى مدينة اوترخت الهولندية التي اقمت فيها آخر حفلة في هذه الجولة التي كانت على التوالي في باريس وامستردام وميونخ وبروكسل..
قــَدِمتُ من بروكسل الى مدينة اوترخت لاقامة الحفلة الاخيرة وتسجيل ألبوم غنائي مقامي اسميته (مقامات في العشق الالهي) لان بعض تراكاته المقامية غنيت فيها بعض القصائد الصوفية .. وقد تم التسجيل في يوم 19/1/2004 واحتوى هذا الالبوم على عشرة تراكات في وقت تجاوز ساعة زمنية .. على حساب مؤسسة رازا العالمية بالتعاون مع مؤسسة المقام التي اسسها الزميل الفنان محمد حسين قمر في هولندة .. وعندما صدر هذا الالبوم في تشرين الثاني من عام 2006 تم توزيعه الى شركات عالمية كثيرة ، كذلك تلاقفته المواقع الالكترونية بكثرة وانتشر انتشارا واسعا في كل مكان كالنار في الهشيم ..
خلال تصفحي اليومي تقريبا لبريدي الالكتروني ، فتحت احدى رسائل اخي العزيز وصديقي العتيد احسان ادهم الذي اتبادل معه رسائل مستمرة عبر الكومبيوتر .. وهو فنان كبير في الموسيقى كان عازفا في الفرقة السمفونية الوطنية العراقية ، فضلا عن كونه فنان تشكيلي كبير في الخط والرسم .. حيث تضمنت رسالته رسالة اخرى جاءته من صديقه الاستاذ الدكتور مجيد القيسي ، طبيب ويكتب ايضا في فنون النقد والتاريخ الفني .. مبديا في رسالته الى صديقه الاستاذ احسان ، اعجابه الكبير بما سمعه لأحد تراكات ألبوم (مقامات في العشق الالهي) مصادفة عبر الانترنيت ، بمقالة جميلة عن مقام البنجكاه من الالبوم المذكور .. وسرعان ما حول الفنان احسان هذه الرسالة لي للاطلاع عليها المؤرخة في 24/6/2008 وسرعان ايضا ما كتبت لهذا الرجل الفاضل د.مجيد القيسي رسالة شكر على حسن ظنه بي .. واليكم سادتي هاتين الرسالتين ادناه ..

حسين الاعظمي
2011
****************
اخي الخالص الحبيب
ابن بغداد النجيب
الفنان الكبير احسان ادهم

قيل في المأثور (رب مصادفة خير من الف ميعاد) . والمصادفة التي اطلت علىَّ بطلعتها البهية هي ان تقع عيناى على ملف صوتي في احد المواقع الألكترونية يحمل عنوان مقام (الپنجگاه) للفنان حسين الأعظمي .
فبينما كنت اتصفح موقع (ألأخبار) ، على قلة ولوجي دروب المواقع وازقتها الملتوية ، فاذا بواحد من فرسان المقامات ينتصب امامي . فاندفعت لتنزيله على صندوق (الولايات) على عجل .
وهذا المقام الطربي الهادئ الرصين يحمل القلوب العاشقة على الخفقان والترنح تجاوبا وانسجاما مع نغماته المتمايلة ذات اليمين وذات الشمال.
والحقيقة ان عذوبة صوت الفنان (حسين الأعظمي) ومقدرته الفائقة على الأداء الجميل واحكام الأصول النغمية قد ضاعفت من جمالية هذا اللحن المقامي البهيج . فصوته من الأصوات النادرة ذات النكهة البغدادية المتميزة ، والتي تذكرنا بأمراء المقام البغدادي في عصره الزاهر و الذين تركوا بصماتهم على صفحات تأريخ هذا الفن الأصيل .

صورة / حسين الاعـظمي
ونحن حين نستمع الى صوت (الأعظمي) فكأنما نستمع الي جميع اولئك الذين اثروا الحياة البغدادية مجتمعين . وقد يبدو هذا القول مبالغا فيه ، لكن فيه الكثير من الحقيقة والصدق. فالفنان (حسين) هرم نغمي / مقامي تام . فقاعدته الراسخة قد اقيمت على دعائم مدرسة (رشيد القندرچي) و (نجم الشيخلي) و(عباس كمبير) ، ووسطه أشيد على ارضية مدرسة (محمد الكبنچي) و(يوسف عمر) و(عبد الرحمن العزاوي – رفيق وقرين الطفولة والصبا والشباب ) و(حمزة السعداوي) ، كما بنيت قمته بقرميد مدرسة (حسن خيوكة) و(عبد الرحمن خضر) و(ناظم الغزالي)...
وحين استمعت الى مقام (الپنجگاه) ألإبتهالي الكيس هذه المرة عرفت منه صاحبه .
والمعروف بين قراء المقام ومتذوقيه ان لكل قارئ مقاما او اكثر يدل عليه . فيكون فيه مرجعا ودرسا نموذجيا للآخرين . فقد عرفت عن قرب بان (يوسف حريش) مثلا اشتهر بإجادته وحبه للخنبات (وربما النوى ايضا) و(رشيد القندرچي) بالإبراهيمي و(سلمان موشي) بالبيات و(نجم الشيخلي) بالحجار ديوان و(الحاج عباس كمبير) بالرست و(عبد القادر حسون) بالحديدي (وربما المحمودي) و(الإستاذ محمد الگبنچي) باكثر من مقام ابرزها القطر والنهاوند والحجاز كار كرد.... و(حسن خيوكة) بالأوج والحسيني و(صديقة الملاية) بالبهيرزاوي . كما عرف (ناظم الغزالي) بالمقامات الطربية الإيقاعية الخفيفة كالأورفة والحكيمي وسواهما. وليس هذا التقسيم صارما بل هو مجرد رأي وتعارف .
ويتميز (الاعظمي) بمقدرة عالية على فهم اصول المقامات وتطور مدارسها المختلفة على مر العصور ، الى جانب الشيخ جلال الحنفي وهاشم الرجب وباهر فائق . كما يتمتع صوته بالحلاوة والمرونة والسعة النغمية الواضحة . فهو متمكن من التحارير والقرارت كتمكنه من الميانات والجوابات ، فيتنقل بينها بخفة ورشاقة. كما يجيد انتقاء القطع والآوصال دون اسراف او خـــــــــلل ، مع المحافظة على الأصول ..
ومقام (الپنجگاه) واحد من المقامات التي تجمع ما بين الأبتهالية والمناجاة التي تجلب السكينة الى النفس ، وما بين الطرب الرصين والإيقاع الخفيف المحبب . لذلك نجد الذين يحبون الأستماع اليه هم من جميع الفئات الشعبية . ولعل الحس الفني المرهف للفنان (الأعظمي) وفطنته الذوقية العالية قد دفعتاه الي تعشقه وايثاره .
وقد نقول ، ومن باب الإسترسال ، بان (البنجگاه) يمثل احدى هويات الإستاذ (الأعظمي) .
وحين تستمع – ايها الأخ الحبيب- الى ( الأعظمي) وهو يصدح بهذا النغم المرفرف المنعش ويردد قصيدة خمرية جميلة وذائعة الصيت يقول فيها :

مالي أرى القلبَ في عينــيكِ يلتــــهبُ أليس للنارِ يا أختَ الشــقا سببُ
بعضُ القلوب ثِمــــارٌ ما يــــــزال بها عَرْفُ الجِنان ولكنْ بعضها حــطبُ
صُبي الخمـــورَ ولا تبقي على مُهـــجٍ موجُ الشبابِ على رجليكِ يُغتَصَبُ
صبي الخمورَ فهذا العصْرُ عصْرُ طِلاً اما السُّـــكارىَ فهم أبناؤهُ النُـــجُبُ
لا تقنطي إنْ رأيت الكـــأس فارغــــة يوما ففي كل عــامٍ ينضِج العِنـَبُ

والفنان (الأعظمي) حين يؤدي هذا اللحن الساحر المنطلق من اعماق النفس يبدأ بتحريره همسا وببطء ظاهر كمن يناجي روحه المرفرفة المتلهفة للقاء الحبيب.....ثم نستمع الى نغمة (أمـــان) وكأنها صدى خافت يتلاشى رويدا رويدا في الخلفية البعيدة . وبعد ان ينتهي من التحرير وتبعاته النغمية يدخل افق الميانة المتألقة النابعة من اعماق الوجدان ، بعد مقدمة ظاهرة الوقع .
وليس مدحا لهذا الفنان القدير إن زعمت بان (الأعظمي) قد اجاد في الأداء حتى تفوق على من سبقه ممن غنى هذا المقام ، وبنفس القصيدة التي القاها بوقع مؤثر وبلغة سليمة سلسة.
لقد تظافرعلى الإمساك بنياط افئدتنا الحيارى والعزف على اوتارها المشدودة ، ومن دون رأفة ! ، ثلاثي قد احكم المهمة الوجدانية إحكاما لا فكاك منه ، ألا وهو صوت (الأعظمي) الشجي ونغمات (الپنجگاه) الجميلة و كلمات تلك القصيدة البالغة التأثير.
اخيرا ارجو المعذرة لهذه الإطالة ... واطلب العفو والمغفرة عن إقحامك وأشراكك في قطف الثمار الطيبة لهذا الفن العراقي الخالد في اعماق الذاكرة بالرغم من الأشواك ..

اخوك
مجيــــــد

المرفق : مقام الپنجگاه بصوت الفنان المتألق حسين الأعظمي
من رسالة الكترونية وصلتني من الفنان الكبير احسان ادهم بتاريخ 24/6/2008
****************************


الاستاذ الدكتور
مجيد القيسي
رعاكم الله
وحفظكم من كل مكروه

بادئ ذي بدء ، اود ان اشيد بعمق مقالتكم الرائعة بخصوص مقام البنجكاه ، من حيث لغتها الجميلة المتماسكة وتأشير مواقع القوة والضعف من ناحية نقدية جيدة جداً وامكانية تعابيركم في تأشير إعجابكم بمقام البنجكاه .. والمقالة من هذه النواحي ناجحة جداً بمقاييس عديدة ندر أن نطلع على مقالات فنية بمستواها حتى من خيرة البعض من نقادنا الموسيقيين ..!

الاستاذ الدكتور مجيد القيسي
عليه يا سيدي الكريم ، يحق لي أن أفخر بمقالتكم الكريمة ، فهي شهادة من رجل متذوق ومثقف واعي ومن وجهاء القوم ، أدع العلي القدير أن أكون عند حسن ظنكم وأن أستحق كل هذا الاطراء الصادق الامين .. وأشكركم جزيل الشكر والامتنان على كلماتكم الرقيقة ومشاعركم النبيلة .. وما سرني أيضاً ، نجاحكم في جمع كل مضامين المقالة في علاقات وحبكة ادبية تدل على كاتب كبير ..
سيدي الكريم
أستميحك عذراً وانا أتشرف بالكتابة الى جنابكم لأول مرة ، أن أحاول إرسال ما أجده عندي من التراكات الاخرى لهذا الالبوم الذي تفضلتَ وسمعتَ منه مقام البنجكاه ، حيث أسميتُ هذا الالبوم – مقامات في العشق الالهي – الذي سبق لي أن سجلته في أحد ستوديوهات مدينة اوترخت بهولندة يوم 19/1/2004 عشية جولتي الفنية التي أقمت فيها حفلات في باريس وامستردام وبروكسل وميونخ ، فقد سبق لموقع عراق فن فيما أعتقد ، أن نشر هذا الالبوم عبر الانترنيت الى أنحاء العالم بتسعة تراكات ، منقصاً منه تراك واحد وهو التراك العاشر ..
أعتقد أن في الالبوم هذا مواد اخرى قد تروق لكم ، وفي طي هذه الرسالة محاولة لارسال التراك رقم 6 في مقام الجهاركاه والقصيدة الصوفية الجميلة .. أتمنى ان تقضوا مع هذا المقام وقتاً ممتعاً باذن الله ..
هذا وفي الختام تقبلوا مني فائق الاحترام ..
ودمتم لاخيكم
حسين الاعظمي
عمان
26/6/2008
المرفق : مقام الجهاركاه بصوت حسين الاعظمي

********************

اعزائي القراء الافاضل
ادناه مقالة كتبها ابن عمي المرحوم الاستاذ الدكتور رشيد عبد الرحمن صالح العبيدي بعد اطلاعه على كتابي الاول (المقام العراقي الى اين ..؟) الصادر في بيروت ، آذار 2001 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر .. مبديا رايه في مضامين الكتاب الجديد (المقام العراقي الى اين ..؟) الذي يعد اول كتاب يخص المقام العراقي في القرن الحادي والعشرين والالفية الثالثة من التاريخ الميلادي .. والمقالة هذه نشرت في احدى الصحف ببغداد زمنذاك .. وبودي ان انشرها الان عبر الانترنيت لتطلعوا عليها ، وهي بالتالي توثيقا لتاريخنا الفني ايضا ..
**********
المقام العراقي إلى أين!؟
كتاب للمطرب المقامي الشهير حسين الأعـظمي..
صدر في بيروت هذا العام (2001م) كتاب يعالج فن المقام العراقي ومريديه ، منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى بعد منتصف القرن العشرين … وهو كتاب جد لم يسبق لأحد ان كتب في مجاله ، أو عالج موضوعه الخاص بهذا الضرب من الفنون الموسيقية وهمومه والمعنيين به وأصوله التي تيقنها من يمارس التغني به أو يعالج أنغامه التي تجاوزت التسعين لحنا بهذا الأسلوب في الكتابة ..
كتاب يجمع بين الخبرة الطويلة في هذا الفن ، والنظرة الأكاديمية المنهجية التي تقدم لرواده طرحا جديدا في تلقينه وتعليمه وإيصال أدواته وأجزائه التي ينبني منها ويقوم عليها في عالم الأداء الغنائي ..
ولم يقف مؤلف هذا الكتاب الفنان المقامي حسين الاعـظمي ، على كيفية المعالجة والأداء ، بل فتش عن المستويات المقتدرة على الأداء ، والمستويات المقلدة والمستويات المبعثرة … ووضع لكل منها سماته وصفاته ، وأوضح عناصر الجودة والضعف فيها.. وسوف أشير إلى ذلك فيما يأتي:
قسم المؤلف كتابه على أربعة فصول سنتناول مضامينها بعد قليل.. ولكننا نقول هنا انه استطاع خلال الفصول الأربعة ان يتنوع في هذا الفن بين التقليد والأصالة والجمود والإبداع والالتزام والتجديد والتعقيد والبساطة والتكلف والعفوية .. وكذلك كان الباحث قد وضع إصبعه على الأدواء ، واقترح لها الدواء ، لكي يبقى المقام ، في نظره فنا عراقيا شامخا، يعبر عن الجماعة والفرد في إطار غناسيقي ، ألفه المجتمع العراقي حين يجري معرفته به ، على ما يقدم له من نصوص شعرية ، يراد أداؤها غناء ، أو يراد أداؤها لحنا مقاميا ، ونريد بالأداء الغنائي تحويل النص الشعري إلى أغنية شعبية بلحن سريع أو ما أشبه ، ونريد باللحن المقامي تطبيق قواعد المقام التقليدية على المقطوعة الشعـــــــــــــرية ، لكي تـــــــــؤدى بعناصر المقام المكونة (form) .
ولقد عني هذا الكتاب بهذا الشان وبغيره ، فجاء كتابا جامعا شاملا لفن الغناء عموما – وفن المقام العراقي بشكل خاص ، لأنه وضع أصلا للمقام العراقي ..
فالكتاب جمع بين الكتابة عن المقام من ممارس مطرب ومجرب حكيم يعرف قواعد وطرق أدائه من جهة ، وكون الباحث فنانا أكاديميا قام بتدريس المقام في المعاهد الموسيقية وجامعة بغداد بكلية الفنون الجميلة ، وقربه إلى الأذهان وفسره لرواده وطلبته بأسلوب علمي ومنهجية دقيقة من جهة أخرى ..
ان أهم ما يتمـــــــــــيز به عمل المؤلف حسين إسماعيل الأعظمي في هذا الكتاب هو:
1- يعد أول كتاب يطبع عن المقام العراقي خارج العراق من كاتب يعيش في بلده العراق ..!
2- أول كتاب بهذه الشمولية – الأصولية التقليدية – معالجة القضية الأدائية ، وخصوصيات أهله المؤدين ..
3- أول كتاب عن المقام العراقي والموسيقى العراقية يقترب في اسلوب كتابته من الناحية (الأثنوموزيكولوجية) أي أن الكتاب اقترب كثيرا من توضيح علاقة هذا الغناء التراثي بالحضارة والتاريخ والثقافة والمتلقي ..
4- ينقل هذا الكتاب تجربة خاصة وخبرة طويلة ووجهات نظر ناقد وخبير ومدرس ومطرب قدير ..
5- بما ان المؤلف الباحث حسين إسماعيل الأعظمي موسيقي ضليع بالموسيقى ، مدرك لأهميتها في مصاحبة الغناء حين يؤدى المقام ، فقد جاء كلامه دقيقا في تحليل علمي موسيقي مبينا كيفية تماسك البناء اللحني وتطور العلاقات النغمية في ساعة أداء المقام ..
6- يؤكد الكاتب المؤلف حسين الأعظمي على العلاقة الوثيقة بين الماضي والحاضر والمستقبل ، اي يدعو إلى الانطلاق من جذور المادة المقامية ويعيش الحاضر وتعبيراته وينظر الى المستقبل بتفاؤل .. وهذه اللمسات هي التي تميز حسين الأعظمي من يوسف عمر وناظم الغزالي وحسن خيوكة وغيرهم ممن لهم باع طويل في الأداء ..


صورة / المرحوم أ، د، رشيد العبيدي

حاول المؤلف في كتابه هذا ان يترصد المقام في مسيرته التاريخية مع رواده البارزين في الأجيال المتعاقبة ، جيل احمد الزيدان والملا عثمان الموصلي ورشيد القندرجي ومحمد القبنجي ونجم الشيخلي وحسن خيوكة … ونظراءهم من مطربي الريف حضيري ابو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم .. ثم من كان في أعقابهم كصديقة الملاية وناظم الغزالي ويوسف عمر وجميل الأعظمي وعبد الرحمن خضر ..... الخ ثم تسلم مقاعدهم من بعدهم ، وعلى رأسهم مؤلف الكتاب نفسه .. فاظهر السمات المميزة لكل جيل .. فوصف الجيل المتقدم بالتقليدية ولاسيما من عاش في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ممن كانت مشاركتهم في هذا الأداء دينيا ودنيويا ..
لقد وضع المؤلف فن المقام العراقي في دراسة أكاديمية على وفق منهج علمي بحثي ، يطرح لأول مرة في كتاب يعالج هذا الفن ويفتش عن المستويات المقتدرة والمقلدة والمتعثرة ، ووضع لكل منها سماته وصفاته وأوضح عناصر الجودة والضعف فيها ، فكان كتابا محللا وعلاجيا ومقترحا مستقبليات له ..
ففي الفصل الأول تناول الأداء المقامي في العراق من منظور تاريخي تطوري ، وحاول ان يبين التأثيرات البيئية والحضارية والمعاصرة في هذا الفن ، كالتكنولوجيا ، وشركات التسجيل ، وتطور الدراسة الموسيقية ، ودخول المرأة عنصرا في الأداء المقامي ، ودور الصحافة وظهور حركة النقد الغناسيقية التي مالت بفن المقام العراقي إلى التجديد والإبداع والتطور ..
وحاول المؤلف حسين الأعظمي في الفصل الثاني ان يتحدث عن مادة فن المقام ، وان يعطي نظرة مستقبلية لهذا الفن ، والتوقعات التي تنتظره في الجيل المستقبلي ، وحاول تحليل البناء الفني والكشف عن روابط الأداء ، وهي محاولة رائدة له في هذا المجال … وإقبال جماهير الناس على سماعه ، ومكانة مطربي المقام بين الناس .. ولما كان المقام يمثل تراثا اجتماعيا وحضاريا عقد مبحثا لكيفية التعامل مع هذا التراث الغناسيقي الأصيل ، وربط بين اللحن المقامي وأداء الأغنية البغدادية وصلتها باللحن المقامي .. كما ربط بين الشكل والمضمون .. والإسهاب والإيجاز ، وتناسب منهجي مبرمج بين الكلمة المغناة واللحن المــــــــناسب والموسيقى المصاحبة والصوت المؤدى ..
ثم تحدث في الفصل الثالث عن الخصوصيات المميزة لفن المقام العراقي عن سائر الفنون الأخرى .. فتناول موضوع فهم المقام وتعلمه وصعوبة تأديته عند البعض ويسر تأديته عند البعض الآخر – وتناول محاولات تدوين المقام وتنويطه وكيفية أدائه والأساليب التي ينبغي للمؤدي ان ينهجها في الأداء ..
وفي الفصل الرابع تناول المؤلف شخصيات المقام العراقي في حقبة سابقة في ميدان الأداء المقامي .. ومعلوم ان المؤلف هو مطرب مشهور .. ارتقى خشبة المسرح لأول مرة قبل ثمانية وعشرين عاما حيث غنى مقام المخالف .. وكان يومئذ – صوت القبانجي في اعوامه الأخيرة صداحا يحمل من الإبداع والنضج ما يكون دروسا مؤثرة في اتجاهات المقاميين من الشباب وتميزا واضحا بين المقاميين الرواد من أمثال حسسن خيوكة وجميل الأعظمي وشهاب الأعظمي ويوسف عمر وناظم الغزالي وهاشم الرجب وبعض المؤديات مثل مائدة نزهت وسليمة مراد ..
اجتهد المؤلف حيث وضع إصبعه على أهم ما يميز هذه النخبة من خصائص وسمات فردية وصوتيه و ادائية ..
ثم أنهى الكتاب بنبذة مختصرة عن شخصيته من أيام صباه وحتى دخوله ميدان غناء المقام العراقي .. وأشار خلالها إلى اثنين وعشرين نقطة شملت ولادته عام1952 في بغداد وارتقاءه المسرح المقامي لأول مرة 23/3/1973 مؤديا مقام المخالف ، ودراسته في معهد الدراسات النغمية مطلع السبعينات ، ودخوله الإذاعة والتلفزيون نفس الفترة .. ومن ثم مشاركاته العديدة في المهرجانات الدولية ، ثم تدريسه للموسيقى والمقام العراقي في المعهد وكلية الفنون الجميلة .. وكان له خلال ذلك مقالات وأبحاث ودراسات في هذا الميدان .. وحصل عام 2000 على لقب المطرب الأول وجائزة الدولة للإبداع .. وقد صدرت له منذ عام 1995 وحتى الآن عدة اسطوانات ليزر في باريس وزعت في كل أنحاء العالم . وكان ابرز مظهر ثقافي وفني له تأسيسه مجلسا ثقافيا في بيته عام 1993 ، يحضره المشاهير من كافة الاختصاصات وخاصة الفنون الموسيقية عراقيين وعربا وأجانب .. اسماه (ملتقى حسين الأعظمي الثقافي) .. وألقى بدوره العديد من المحاضرات عن المقام والموسيقى العراقية في الجامعات العراقية والعربية والأوربية والأمريكية وكانت آخرها في جامعة هارفرد ببوستن وجامعة جورج تاون بواشنطن ونيويورك وغيرها الكثير.
ان المؤلف حسين الأعظمي يتساءل في هذا الكتاب عن مصير المقام العراقي ، ويضع عنوانا لكتابه (المقام العراقي إلى أين؟) وهو يعلم جيدا ان المقام تراث أصيل وتاريخ حافل بالصدق في التعبير عن ذاتية الأفراد ، وتاريخ الأمة وتراثها هما الجذر الذي تعرف به وتنسب إليه ، وتتميز بين أمم الأرض .. فإذا كان المقام يمثل الأصالة والجذرية فلن نستطيع ان نتخلى عن جذورنا وتاريخنا وأصالتنا ، وإلا انتهت الأمة واستطاع المتسللون الهدامون نخر أساسها .. وقد قلت في قصيدة لي:
قالوا غبرت تــــــراث الخـــالـــدين وقد نـراك تبــــــــــــحـث لا ضــــــــــــــيق ولا نصـب
أما شـتترك مــــــــن أودى زمــــــانـهم وانك أبن زمــــــــــــان أمـــــــــــــــــــــــــــــره عجـب
فقلت ذلك اصـلي قــــد رجعـــــــت له وكيف اعــــــــــــــــــــرف لا اصـــــــــل ولا نسب
أنا أبن هذي الربا الخضر التي أنغرست في تربها القـــيم المعطاء والنشب
أنا الــــــــــــــــــــــــذي كتب التاريخ ملحـمة لامـة تتـــــــــــــــــــــــــحدى كـل ما كـتــــــبوا
ان المقام العراقي فن أصيل وتراث عريق ، يمتد في عروق الزمن إلى العصور الجاهلية والإسلامية بدءا من الحداء والركبانية وانتهاء بأنغام منصور زلزل وإبراهيم ابن المهدي وغيرهما.. وقد سبق لي ان كتبت في جريدة (الزمان) العراقية عام 1962 مقالا بعنوان (العلاف والمقام العراقي) أكدت فيه أن كثيرا من المقامات تمتد في أصولها ونشأتها الى العصور العباسية في مغني بغداد والحواضر الإسلامية وكان هذا رأي العلاف رحمه الله وهو الخبير المقامي المعروف ، هذا الفن يمثل امتدادا حضاريا وأصالة تراثية ، فلا بد له من ان يبقى وان دخله بعض التطور في أجزاء من جسمه وكيانه .

ا. د. رشيد العبيدي
بغـداد 20/5/2001
*************