لم استغرب – شخصيا - ان يخرج عن رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين ذلك التصريح الذي شبه فيه الحرب التي تقودها الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا على ليبيا بالحروب الصليبية , وقال بوتين إن قرار مجلس الأمن الدولي الذي سمح بشن تلك الهجمات على ليبيا هو قرار " ضعيف ومعيب " , وأردف قائلا : ذكرني هذا القرار بالدعوة إلى الحروب الصليبية في العصور الوسطى" , والذي انتقده الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف لاحقا بقوله : من انه " ليس من المقبول تحت أي ظرف من الظروف استخدام تعبيرات تقود بالضرورة إلى صراع الحضارات – مثل "الحروب الصليبية" وغيرها".
وقد اعتبر العديد من المراقبين والمحللين للشأن الروسي هذا التباين الواضح في الأفكار السياسية بين الرئيس الروسي ورئيس وزرائه خلافا سياسيا واضحا – أي – خلاف خصومات وليس خلاف أيديولوجيات , وذلك من منطلق أنهما اللذين يختاران بياناتهما بعناية ويبتعدان عادة عن انتقاد كل منهما للآخر , وقال محللون ان الخلاف يعلن خصوصا بدء حملة الانتخابات الرئاسية , حيث يتوقع عديدون عودة بوتين الى الكرملين بعد مغادرته عند انتخاب ميدفيديف في العام 2008م , وبعد ان كانت أي خلافات بين القيصرين بالكاد تلاحظ ، فاجأ هذا الخلاف المراقبين لسرعة حصوله في غضون ساعات وللهجته المباشرة والحادة .
وهذا السياق من التناقضات في الأفكار بين الرئيس الروسي ورئيس وزرائه يقودني لمثال آخر ربما اعتبره الدليل الأول على ان ما حدث من تناقضات في الأفكار بين القيصرين ليس أكثر من مجرد اختلاف في الرؤية الأيديولوجية السياسية والتاريخية واختيار الألفاظ والتعابير اللغوية من الناحية النفسية والثقافية لقضية ما عن كونه خلافا سياسيا نابعا من تناقضات السلطة والسياسة في البيت الروسي , وهذا المثال هو تصريحات بوتين في العام 2005م في خطابه الذي وجهه الى الأمة والذي قال فيه : ان انهيار الاتحاد السوفيتي السابق كان اكبر كارثة جيوسياسية حدثت في القرن العشرين , بينما رفض ميدفديف ذلك التشبيه , واصفا ما حدث " بالصدمة الكبيرة " لمواطنيه وليس أكثر من ذلك .
كما انه ومن ناحية أخرى – وان افترضنا جدلا بوجهة النظر القائلة بالاختلاف السياسي بين الرجلين – فان عدم اعتراض روسيا على قرار مجلس الأمن رقم 1973 حول فرض الحظر الجوي ضد ليبيا بالرغم من عدم موافقة رئيس الوزراء الروسي عليه , لدليل واضح على عدم فرض هذا الأخير – أي – بوتين نفوذه وقوته أو تدخله المباشر في السياسة الخارجية الروسية , والتي هي كما نعلم من صلاحيات الرئيس وليس رئيس الوزراء , وبالتالي فان كلا الرجلين يعرفان حدود صلاحياتهما , وهو ما ينفي صفة الخلاف السياسي والخصومة عنهما بقدر اختلاف أفكارهما الأيديولوجية السياسية والتاريخية تجاه بعض القضايا وخصوصا تلك التي تدخل في صلب ما يراه بوتين سياسات القطب الواحد في العالم , بينما لا يراه ميدفديف بتلك الصورة .
إذا الأمر ابسط بكثير مما يجري تداوله , فرئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين طالما كان وسيظل ينظر الى أي تصرف تقوم به الولايات المتحدة الاميركية تحديدا على رقعة الشطرنج الدولية من باب سياسات الهيمنة والامبريالية والتوسعية , وهو الذي لم يخفي حقيقة رفضه الحازم وكراهيته لعالم يحكمه قطب واحد خلال فترتي رئاسته " 2000م – 2007م ", وطالما كانت تصريحاته شديدة اللهجة ومستفزة تجاه الولايات المتحدة الاميركية في هذا الجانب , بينما نجد الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف أكثر انفتاحا وتقبلا لتصرفات الولايات المتحدة الاميركية .
وشخصيا انظر للأمر على انه مجرد تباين أيديولوجي في اللغة الثقافية والتاريخية لقضية سياسية , غلبت عليها الدوافع النفسية لغويا لرجلين ينظران الى العالم من خلال وجه واحد , ولكن بعينين مختلفتين .
وأتصور ان الخيار الذي وجه إليه ميدفديف مندوب روسيا في مجلس الأمن – واقصد – عدم الاعتراض وإيثار الصمت حيال القرار رقم 1973 هو الأصعب على الرئيس الروسي منذ اعتلائه سدة الحكم في روسيا , ولكنه الخيار الدبلوماسي المناسب لروسيا في ظل الظروف الراهنة , وتكمن صعوبته في قلة الخيارات الدبلوماسية ومساحة المناورة السياسية , وهنا اعتقد ان بوتين آثر عدم التدخل حتى بالمشورة والنصيحة لميدفيديف , تاركا لرئيسه الخيار الأول والأخير , وخصوصا انه يعلم ان رئيسه يعلم وجهة نظره المسبقة حيال الأمر – أي – خيار الرفض , بالرغم من ان هذا الخيار ليس بالمناسب دبلوماسيا ولا سياسيا ويمكن ان يحرج روسيا ويؤثر على علاقاتها الدولية , وهو ما سيوقعهما في نهاية المطاف في خلاف سياسي.
وشخصيا لا اعتقد انه حتى في ظل وجود بوتين كرئيس للدولة كان سيختار خلاف هذا الخيار الصعب , ففي هذه المواقف وبالرغم من القوة الروسية الجيوسياسية , فانه ليس بإمكان روسيا الاعتراض على قرار تم الإجماع عليه دوليا , وهي تعلم مسبقا من أنها ستحرج نفسها لاحقا بسبب ذلك الاعتراض , في وقت ستذهب فيه الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها الى تلك الحرب بالرغم من الاعتراضات الروسية , وعليه فان صمت روسيا من ناحية نستطيع ان نضعه في خانة " مرغم أخيك على الصمت لا بطل " أما من ناحية أخرى فهو موقف يراد من وراءه عدم توسيع دائرة الخلافات الروسية الاميركية وتهدئة العلاقات مع واشنطن قبل ان تصبح البرودة بينهما غير قابلة للحل , وهذا ما دفعها في وقت من الأوقات لتأييد قرارا الأمم المتحدة الذي أعطى الشرعية لوجود التحالف الأميركي البريطاني في العراق في عهد بوتين نفسه .
وبشكل مختصر فان الموقف الروسي الصامت من قرار مجلس الأمن رقم 1973 حول فرض الحظر الجوي ضد ليبيا هو موقف " دبلوماسي أكثر منه سياسي أرغمت عليه روسيا ولا حيلة لها على الاعتراض عليه " , وقد كان موقف بوتين من القرار سالف الذكر موقف شخصي ترك لرئيسه فيه الخيار الأول والأخير كي لا تؤثر اختلافاتهم الأيديولوجية الثقافية والنفسية والتاريخية الشخصية حيال بعض المواقف والقضايا على سياسات الدولة العليا .
مع تأكيدي على فكرة الاستغلال الغير مخطط له مسبقا ومحاولة إعلان البراءة السياسية والتاريخية من قبل بوتين للموقف الضعيف الذي وقعت فيه روسيا وهي تحت قيادة ميدفديف , كما هو الحال مع موقف روسيا العاجز في عهد بوتين نفسه من قرار الأمم المتحدة حيال شرعية التواجد الأميركي البريطاني في العراق .