[كيف نعيش الثقافة ..؟SIZE="5"]
[[align=justify]SIZE="5"]بعد ما أنهيتُ محاضرتي عن "الباحث الفلسطيني إدوارد سعيد ودوره في تطوير منهج الأدب المقارن" لحق بي أحدُ الطلبةِ النابهينَ ـ وهم قلةٌ ! ـ ليجعلني في مواجهةِ سؤالٍ كبيرٍ:(( كيفَ نعيشُ الثقافةَ ؟)) ... لم يكنْ هذا السؤالُ فتيلاً أشعلتْهُ حياةُ إدوارد سعيد الفريدةُ والمميزةُ في ذهنِ الطالب فحسب، بل كان صياغةً لدهشةِ اكتشافِ عزلةِ الثقافةِ عن الحياةِ اليوميةِ والواقعِ المادي الذي نعيشُه ، ودعوةً لمساءَلةِ الذات، وإعادةِ فحص ِواقعها . إنه بعبارةٍ أوضح : إدراكُ انفصالِ ثقافةِ الفرد عن فعلِه وسلوكِه.
حين دعا "إدوارد سعيد" إلى ما أسماه بـ (القراءة الطباقية) في معاينةِ الظواهر الثقافية و الإنسانيةِ ودراستها ـ والتي تُعنى بتشخيصِ جميعِ الأصواتِ التي تتشكَّلُ منها الظواهرُ، وخصوصاً الأصوات المهمشة والمقموعة، من دونِ الاكتفاءِ بتسليطِ الضوءِ على الصوتِ المركزيِّ فيها ، كما هو معتادٌ في بعضِ المناهجِ النقديةِ المحايثةِ ـ فإنَّهُ كان ينطلقُ من حياةٍ خاصةٍ اتسمتْ بتعددِ المكوِّن الثقافي وتنوعِه، عاشَ فيها الكثيرَ من حالات الانسجام بين ثقافته ومنجَزِه الإبداعي. وكانَ هذا "المنظورُ الطباقيُّ" ثمرةً من ثمراتِ اشتغاله بالموسيقى وتفكيره في المزاوجة بينها وبين الأدب، الأمر الذي تجلى بشكلٍ أوضحَ وأكملَ في دعوتهِ لتوظيف هذا المنظور في منهجِ الأدب المقارن، لتتنوعَ بعد ذلك اشتغالاتُ الرجلِ وإنجازاته، وبشكلٍ فاعلٍ ومؤثرٍ في الثقافة العربية.
كتبَ إدوارد سعيد في مذكراته التي حملتْ عنوان (خارج المكان) واصفاً دورَ جامعة برنستون ـ التي درَسَ فيها الأدبَ والتاريخَ ـ وأثرها في حياته: ((حرَّكتْ برنستون في نفسي سلسلةً من التياراتِ الجوَّانية متضاربةً في معظمها، تتجاذبني في اتجاهاتٍ مختلفةٍ بل متناقضةٍ جذرياً. فلم أستطع التخليَ عن فكرةِ العودةِ إلى القاهرة ولاعن تسلُّمِ تجارة أبي، على أنِّي كنت أرغبُ أيضاً في أنْ أكون مثقفاًً وأستاذاً جامعياً)). هذا القلق الذي لم يبارحْ دواخلَ سعيدٍ طيلة حياته، جعلَ منه "كتلةً من التياراتِ المتدفقة" ـ كما يصف نفسه ـ وكانتْ حياتُه عبارةً عن حراكٍ ثقافيٍّ متنوعٍ وهائل، لم يدخرْ فيها طاقةً أو إمكانيةً إبداعيةً في تحقيقِ إنجازٍ مبتكَرٍ أو تجديدِ منجزٍ سابقٍ عبر الإضافةِ النوعيةِ إليه وتطويره. ولا أريدُ أنْ أنجرفَ إلى لغةٍ احتفاليةٍ تسقطني في المبالغةِ والإنفعال في التقييم .. ما أريدُ الإشارةُ إليه هو امتدادُ الثقافةِ في الحياةِ عبر الحركةِ والفعل على أساسٍ من التوحُّدِ والارتباطِ الوثيق ما بين ثقافةِ الفرد وسلوكِه، وكثيراً ما تجلى ذلك في حياة إدوارد سعيد.
وإذا ما عدتُ إلى تأمُّلِ السؤال ثانية ، فسأجدُ نفسي أمام قراءتين ؛ في القراءة الأولى قد تنتفي الحاجةُ إلى الإجابةِ عن كيفيةِ تفعيل الثقافة في حياتنا إذا ما استبعدنا المفاهيمَ العديدةَ للثقافة وانطلقنا من التعريف الأنثروبولوجي لها؛ بأنَّها السلوكُ التعليمي المكتسبُ من تعايش الفردِ في مجموعةٍ بشريةٍ واحدة .. إذ سيفرَّغُ السؤالُ من معنى الضخامةِ والخطورة ليصبحَ الجوابُ أنَّ كلَّ فردٍ يعيشُ ثقافتَه مهما اختلفَ مستواها ونمطُها.
أما في القراءة الثانية فإنَّ ما يمسُّهُ السؤالُ ويقصدهُ بالكيفيَّة ليس معنى تطابقِ ثقافةِ الفرد مع الصورةِ الجمعيةِ لثقافةٍ ما، بل هو مدى تطابق معرفةِ الفرد مع سلوكه: كيف يكونُ الفردُ في أفعاله منسجماً مع تكوينِه المعرفيِّ وهو يمارسُ حياته، ويستقبلُ منجزَ الحياةِ المتحضرة في كافةِ المجالات والأنشطة ؟، كيف يحرصُ على تحقيق التلازم الدائمي بين علمه وعمله؟، كيف يفعِّلُ الأستاذُ والطالبُ رؤيتَيهما خارجَ قاعةِ المحاضرة، وتكونُ الحياةُ بمختلف مجالاتِها ساحةً لاختبارِ المعارفِ واشتغالِ الرؤى والمناهج. والأمرُ ذاتُه مع المتدين الذي يواظبُ على أداء عباداته وشعائره الدينية، ويعطِّلُ آثارَها ويمسخُ روحَها حينَ يدخلُ حياةَ الشارعِ والسوق، ويحتكمُ إلى منطقِ الجاهلية و"سُننِها" عندَ أول مشكلةٍ أو اختلافٍ له مع الآخرين. وكذا مع الأديب الذي تحتفي نصوصُه بتمجيدِ الحياة والإنسان وقيمِ المحبة والحرية والعدل ، ثم تراه يسحقُ بقدميه هذه القيمَ عند أول خطوةٍ له خارجَ حدودِ نصِّه وورقته.
ما زلتُ أذكرُ تفاصيلَ جلسةٍ مع فنانٍ تشكيليٍّ حبَّبَ لي أحدُ الأصدقاء ـ أيامَ الدراسة الجامعية ـ التعرفَ عليه. كانتْ تحيطُ بنا ـ نحن الثلاثة ـ في مرسمه لوحاتُه الرائعةُ، التي ما فتئتْ كائناتُها اللونيةُ تنفلتُ من أطرِها لتنصهرَ في الحياةِ خارجَ فضاء المرسم الصغير. وما زلتُ أذكر ملامحَ (الفنان) حين تحدثنا عن صعوبةِ الحياة و قساوة الحصار الإقتصادي، وهو يحاولُ إقناعي بسموِّ عدالته في اقتسامِه ثمنَ لوحاته ـ التي يبيعها ـ بينَه وبين عائلته ليؤمِّنَ حاجاتِها الضروريةَ ولينفق حصتَه في احتساءِ خمرته (الليلية) في (البار)!.
وبعيداً عن طبيعةِ الخمرة و معنى إدمانها وموقفِ الدين و العقل منها، لم يكنْ هذا الكلامُ معقولاً أو منطقياً في سنواتِ الحصارِ القاتل ، حين أوشكَ على الإنقراض ـ إنْ لم يكنْ قد انقرضَ فعلاً ـ شيءٌ اسمهُ شراءُ لوحةٍ فنيةٍ في حُمَّى (مارثوننا) اللاهثِ اليومي، لكسبِ ثمن حفنةٍ من (الطحين) نُسكتُ بها صراخَ جوعِنا المفترس، متنازلينَ عن كلِّ حاجاتِنا الضروريةَ الأخرى..
حين خرجنا ـ أنا وصديقي ـ من المرسم ، ومسحتُ بعينين منقبتين وجوهَ الشارعِ والسوق، أدركتُ سعةَ خيبتي، فلم أرَ أياً من كائناتِ (الفنان) اللونيةِ، قد غادرتْ المرسمَ المعلَّقِ في الطابق الثاني .. من البنايةِ !.
أنا مدركٌ محدوديةَ قدراتِنا البشريةِ وتفاوتِ مستوياتِها في ضبطِ أفعالِنا، وأعلمُ أنَّ أخطاءَنا التي نرتكبُها ما هي إلا جنوحُ الفعل عن منطقِ العقل الواعي، ولكنَّ ما لا يُقبلُ منا أنْ نفلسفَ أخطاءَنا وننظِّر لأسبابها ودوافعها ونجعلها جزءاً من إبداعنا، وترجماناً لحريتنا. لا أستطيع ـ كمتلقٍ ـ وأنا أقرأ فعلَ الآخر وانفعالاته، ولوحةَ التشكيلي ونصَّ الأديب، إهمالَ أيِّ مكوِّنٍ من مكوناتِ هذه النتاجات أو تهميشِ أيِّ صوتٍ من الأصواتِ المشكِّلةِ لها وتهميشها، بعبارةِ "الرؤية الطباقية"، لأنَّ الأخيرةَ تمنحُني حكماً نقدياً ومعرفةً بمدى تحقق المشاكلة أو الإختلاف ما بين الفعل ومرجعياته..
أعتقدُ أنَّ ما نحتاجُ إليه هو " الموقف المعرفي" من أحداثِ الحياة وتحولات الواقع الذي نحن جزءٌ منه. بما تعنيه كلمةُ (موقف) من اتخاذ خيار العملِ الفاعلِ و الحضور المؤثر في الحياةِ عبر رؤيةٍ ناضجةٍ و واضحة. ومؤكدٌ جداً أنَّ مثلَ هذا الحضور لا يتم بهذه الصفة من دون أنْ تكونَ الذاتُ منسجمةً ـ لا منقسمةً ـ مع نفسها، حيثُ ننتظرُ ـ حينذاك ـ التفعيلَ المرجوَّ للمعرفة المكتسبة.
"كيفَ نعيشُ الثقافة" .. سؤالٌ كبيرٌ بحجم "كيفَ نعيشُ انسانيتنا" ، أو "كيفَ نعرفُ ذواتنا"، لذا فحياةُ كلِّ فردٍ منا ـ بأكملِها ـ هي إجابتُه الخاصةُ .. عن هذا السؤال.
[/SIZE][/align[/SIZE]]