إنّ فنّ المخرج يعني فنّ الفعل، وبمعنى أكثر دقّةً:هو الذي يوصل المعنى إلى النّاس بمسؤوليّة، والثقافة وكلّ المواقف الدقيقة إلى الصّالة، من خلال التجسيد الدقيق لذلك النشاط(الفعل)، فلا يتواجد الفعل على خشبة المسرح، إلّا من خلال(النشاط والحيوية)، التي يتولّى مسؤوليّتها(الممثّل) المتحرّك الفاعل، والذي يُحرّك المستلزمات لكلّ أجزاء العمل الفنيّ على الخشبة؛ والسؤال الملحّ هنا هو: - ممَ يتكوّن المخرج، أو ما هي إمكاناته، وأيّ السبل التي يسلك من أجل إيصال الحقيقة، التي يخاطب بها هذا الكمّ المتناقض، المتّفق، المختلف، من الجمهور في القاعة؟

ممّا لا جدال فيه، أن (فنّ المتفرّج) ليس فنّاً بالمعنى الواسع، بمقدار ما هو حافزٌ ومنبّهٌ للمسرح، يوازي في أهمّيته (فنّ المسرح)، وبالذات ما هو معاصرٌ من الفنون التي تهمّ القاعة في المرحلة التي يقدّم فيها الفنّ. وليس المقصود بالمعاصرة اللغة الوعظية، بل هي النزاع العقليّ العاطفيّ الذي يُثير المشكلات ويُستثار بها وعليه؛ فمهما اكتمل عمل المخرج من حيث امتلاك الحرفة والفنّ، إنّما يظلّ ناقصاً بمعزلٍ عن التفكير بالقاعة [يعني المتفرّج]. والمخرج الذي نسعى إليه هو من يضع نصب عينيه كلّ (المستلزمات) التي تحقّق الإنجاز الفنيّ الإبداعيّ (المسرحيّة) مشروطةً بواحدةٍ من أهمّ تلك المستلزمات (الجمهور). فالمُخرج هو عين المتفرّج طيلة عمله على المسرحيّة، قبل العرض وبعده؛ تلك العين الواسعة المتنوعة التي تمثل كمّاً هائلاً من مختلف النّاس بمختلف أهوائهم.

إذن فخلاصة العلاقة لدور المتفرّج في المسرح، بالمعنى العميق غير المشروط، توضح لنا كيف إذن يجب أن يؤدّي هذا المنبّه الحافز، كما أسلفنا (المتفرج) دورهُ ليكون: إمّا إيجابيّاً مبدعاً وإمّا سلبيّاً (متلقٍّ فقط)؛ وهو يعني كذلك أن يجيب على الموقع المعنيّ بالسؤال: وهو كيف يجب أن تكون التركيبة الكاملة للمسرح المعاصر، والمسرح في المستقبل؟ كي نختصر الطريق إلى الخلاصة المشروطة بتأدية المتفرّج دورهُ كاملاً في المسرح، مادام هو أحد شروط التكامل الفنّي في العرض المسرحيّ. التي يجب أن يتمّ توافرها سليمةً في قاعة العرض. وفي تفاعله الحقيقيّ مع الأفكار المطروحة على خشبة المسرح الذي يقود المتفرّج نحو مستقبل كلّ الأشياء، ومنها تطوّر المسرح.

إنّ التجديد في الأفكار ومعالجتها يجب أن تتفّق مع ما يشغل الواقع الاجتماعيّ للفنّان وعصره. وإذا ما انعكست تلك الصورة على الواقع ستؤثّر سلباً على عمل الفنّان، وسيُهدّد أيضاً كامل المعمار المسرحيّ بكافة مستلزماته، وسيكون المسرح كلّ شيءٍ إلا أن يكون (مسرحاً) بالشكل الذي نفهمه.

هذا هو المنهجيّ في عمل المخرج على المسرحيّة، بدءاً من التفكير في اختيار النصّ، وحتى لحظة انفراج الستارة عن أوّل يومٍ للعرض، ومغادرة آخر متفرّجٍ لصالة العرض، بعد آخر عرضٍ لتلك المسرحيّة، لتبدأ بعد ذلك مرحلةٌ جديدةٌ، هي مرحلة استقبال نتائج سلامة التفكير أو عدمه، عندما كان المخرج يؤدّي دور المشاهد [المتفرج] في الصّالة أيّام التمارين، كي تتحقّق المعادلة التي تقضي أن يكون (المضمون أولاً + الفهم المعاصر للمسرح في وضوح العرض) حين يصل بلا وساطةٍ إلى القاعة.

من هذا الفهم المتقدّم لدور المسرح في المجتمع يعيب على العرض الذي لا يصل بسهولةٍ (إلى المتفرج)، ويعتبره عرضاً فاقداً للموقف الفنيّ، الذي من أجلهِ قام المسرح نشاطاً مهماً كأداةٍ للتغيير وللتحريض. وكما لا يُمكن أن يكون مسرحاً بلا ممثلٍ، كذلك يستحيل أن يكون المسرح بلا متفرجٍ، فكلاهما يحمل ذات الأهمّية في العملية الإبداعيّة؛ وكلاهما [المسرح والمتفرّج] في حالةٍ مستمرّةٍ من الإحراج أحدُهما للآخر، بقبول أو رفض الموضوعات والأشكال المكرّرة – التي لا تحمل الجديد للاثنين. وعليه فإنّ موقع المسرح يوازي بالأهمّية دور المتفرّج، لأنّ كلّاً منهما يهدي للآخر عيوبه ومحاسنه من أجل ازدهار الظاهرة المسرحيّة وتطوّرها. وحين تزدهر الثقافة المتمثّلة بالمسرح فذلك يعني ازدهار المجتمع.

إنّ هذه الأهمية تنطلق من أهمّية عمل المخرج في المسرح، ممّا يدفعهم لأن يخصصوا الجزء الأهمّ من اختيارهم للموضوعات على الدراسة الدقيقة للمجتمع وميوله ضمن المرحلة – دراسة سايكولوجية – متعمّقة، مع طرح مجموعةٍ من التساؤلات أهمّها:

1. ما الذي يهمّ المشاهد اليوم؟

2.كيف يُمكن إدراك متطلّباته المشبعة لرغباته؟

3.ما هي حاجاته الملحّة، وكيف يُمكن الوصول إلى خصوصيّاته؟

4.ما الذي يجري في حياته العامّة، والداخلية في وجه الخصوص؟

وغير ذلك من الأسئلة المهمة التي تؤرق الفنّان.

وفي ضوء تلك المعرفة تتنوّع وتختلف المسرحيّات، التي يتمّ اختيارها، كما يختلف تقديمها ضمن الزّمان والمكان، وطبيعة المجتمع – وبمعنى آخر – كيف نستطيع أن نتوصّل إلى التنوّع الكمّي المقبول من الجميع عبر "ريبورتوار" متنوعٍ. وبما أنّ المخرج هو المخوّل من الجميع في القاعة – وهي قاعدةٌ معروفةٌ – يُمكنه أن يختار نوع المعالجة؛ لأنّ المُخرج، وفي كثيرٍ من الأحيان، يتأثّر عندما تبدأ عملية التجسيد لأفكار النّاس الذين لهم علاقة به، ويتفقون مع الهم الذي يشغل بال الاثنين. وفي النهاية تجد أنّ تلك المعالجة ستشمل إيجابياً مجموعة كبيرة من النّاس، أي أنّها وفاقٌ جمعيٌّ لهذا الكمّ من النّاس الذي يعرف ما يُريد، ويتأثّر به؛ على أن نعرف أنّ هذا النّوع من الأعمال لا يخلو من خطورة التأويل والتكرار والتعدّدية، التي من شأنها تحجيم الفنّان، مثلما تحجّم الجمهور الخاصّ، الذي يعرفه اذا ما أسيء فهمها واستخدامها.