أزمة الدولار وارتفاع أسعار النفط والمعادن والمواد الغذائية
إن هذه المشكلة لها جانب اقتصادي حقيقي, ولكن دخلت على هذا الخط أيدٍ سياسية صعدت المشكلة, ووسعت مسارها, وجعلتها تأخذ هذا الحجم الذي نراه.
وحتى تتضح الصورة تماماً سنبين كيف نشأت الأزمة, وكيف دخلتها الألاعيب السياسية, ثم كيف أثرت على ارتفاع أسعار النفط والذهب والمعادن, ثم نشوء الأزمة الغذائية.

أولاً: إن هناك أزمة حقيقية في الاقتصاد الأمريكي أثرت على فاعلية الدولار وقوته, وبالتالي أصابه هذا الانخفاض الشديد, وقد نشأت هذه الأزمة بفعل الأسباب التالية:

العجز التجاري الأمريكي
تستورد أمريكا من بضاعة وخدمات أكثر مما تصدره. فشهية المستهلك الأمريكي مفتوحة للاستيراد. فمثلاً استوردت أمريكا في عام 2003م بضائع وخدمات بقيمة $1,652 بليون، بينما كانت صادراتها تعادل $1,203 بليون أي أن العجز التجاري 449 مليار دولار, وقد تصاعد هذا العجز حتى وصل 816 مليار دولار. وقد كان الفارق بين المستورَد و المصدَّر عبارة عن أوراق مطبوعة (دولارات) أمريكية أو سندات حكومية أمريكية, وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى انخفاض فعلي في الدولار, حتى ولو لم يعلن رسمياً.

إن أمريكا لم تمر بمثل هذا العجز التجاري. بل على العكس من ذلك فان أمريكا مرت بفائض تجاري ولعقود عديدة، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بدأ هذا الفائض يتناقص... وبخاصة بسبب المنافسة من البلدان الأوروبية والآسيوية, التي تنتج السلع بأسعار أقل, ما زاد استيراد المستهلك الأمريكي من بضائع وخدمات من تلك الدول, ثم تواكبت هذه الظاهرة مع حجم النفقات العسكرية على الحرب الفيتنامية ما أدى إلى رفع فاتورة المدفوعات، ومن ثم اضطرت أمريكا عام 1971 لإلغاء دعم الدولار بالذهب، فكانت هذه أول الهزات. وفي الثمانينات عندما نمت التجارة العالمية ورحلت المصانع من أمريكا إلى البلدان ذات الأيدي العاملة الرخيصة، زاد ظهور العجز الاقتصادي. كما أن الاستيراد من البلدان المصدرة للبضائع الرخيصة من مثل المكسيك والصين وماليزيا بشكل ثابت أدى إلى اتساع الفارق التجاري.

وهكذا فإن عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات قد خلقا الشكوك وعدم الثقة في الاقتصاد الأمريكي عند المستثمرين، وفيما بعد أدى إلى هبوط الدولار.

المديونية: أظهرت إحصاءات وزارة الخزانة الأميركية ارتفاع الديون الحكومية (الإدارة المركزية والإدارات المحلية) من 4.3 تريليونات دولار في عام 1990 إلى 8.4 تريليونات دولار في عام 2003 وإلى 8.9 تريليونات دولار في عام 2007. وأصبحت هذه الديون العامة تشكل 64% من الناتج المحلي الإجمالي. وبذلك يمكن تصنيف الولايات المتحدة ضمن الدول التي تعاني بشدة من ديونها العامة. ولا يتوقف ثقل المديونية الأمريكية على الإدارات الحكومية بل يشمل الأفراد والشركات أيضاً. فقد بلغت الديون الفردية مؤخرا إلى مبلغ قدره 6.6 تريليونات دولار. أما ديون الشركات فتحتل المرتبة الأولى من حيث حجمها البالغ 18.4 تريليون دولار. وبذلك يكون المجموع الكلي نحو 34 تريليون دولار أي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. هذه الديون بذاتها أزمة اقتصادية خطيرة.

ارتفاع اليورو:
منذ أن تم صك اليورو، أصبح اليورو ثاني احتياطي عالمي بعد الدولار. وقد ورث اليورو هذه المكانة عن المارك الألماني، بل وزاد من مكانته، وكان ذلك على حساب الدولار, وهكذا أصبحت الثقة باليورو تزيد, وهي بالنسبة للدولار تنقص, وكل هذا أثر في الطلب على الدولار فانخفضت قيمته, وبسبب فقدان الدولار قيمته دفع بالعديد من المستثمرين لاعتماد اليورو في استثماراتهم بدل الدولار.

إلى ذلك فإن أميركا تعاني من مشاكل اقتصادية أخرى في مقدمتها التضخم الذي تجاوز 4% والبطالة التي تشكل 5% والصناعة التي تتراجع, والفقر وسوء الخدمات التعليمية...
كل هذه العوامل أدت إلى انخفاض قيمة الدولار.
وقد أدى هذا الانخفاض إلى أن تعمد بعض البنوك المركزية لتخفيض مخزونها من الدولارات
ويقول بول ماكل، وهو استراتيجي عملات في بنك «إتش إس بي سي» إن البنوك المركزية «أدركت منذ فترة أنها لا ترغب في زيادة مفرطة لما تمتلكه من دولارات. فقد انخفض إجمالي ممتلكات البنوك المركزية في أنحاء العالم الموجودة في صورة دولارات من 73 في المائة إلى 64 في المائة».
هذا هو الأساس الاقتصادي الحقيقي لأزمة الدولار.