الرنتيسي............من قنص الثعابين إلى صناعة التاريخ
ما زال سكان القبائل البدوية في قرية القرارة النائية نسبياً جنوب شرقي قطاع غزة، يذكرون ذلك الطبيب الشاب الذي كان يفد اليهم أواسط السبعينات، قاطعا عدة كيلومترات مشياً على الأقدام، وهو يحمل حقيبته لكي يقوم بعمليات ختان للأطفال مجاناً.وكان في طريق عودته لا يتورع في تعقب الثعابين التي تقطع الشارع الترابي الذي يسلكه وقتلها، بعد أن كان يسمع شكاوى أهالي المنطقة عن الرعب الذي تسببه هذه الثعابين لأولادهم في ذهابهم وأيابهم من المدرسة. كان هذا هو الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي تحل الذكرى السابعة لاغتياله اليوم الأحد، وهو القائد الثاني لحركة حماس الذي تولى قيادة الحركة بعد يوم على اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس الحركة. وكان يقوم بمثل هذه الأنشطة في العديد من القرى والتجمعات الزراعية الفلسطينية التي تلف مدينة خان يونس. الرنتيسي، كان يقوم بهذه الأنشطة ضمن نشاطه في جماعة الإخوان المسلمين التي انضم إليها، في مصر خلال دراسة الطب فيها عام 1965. مثل كل اللاجئين، ولد الرنتيسي في بلدة " يبنا " التي تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة " أسدود "، وتم تهجيره مع أسرته من قبل العصابات الصهيونية وهو لم يتجاوز العام الى قطاع غزة، لتستقر هذه العائلة في معسكر خان يونس غرب المدينة.كان للرنتيسي ثمانية من الأخوة الذكور، وأختان. ومما فاقم أوضاع الأسرة المادية سوءً، حقيقة أن والده كان متزوجاً بسبع من النساء. وكانت العائلة تعتاش على معونات وكالة الغوث. توفي والده بينما كان الرنتيسي الابن في الصف الثاني الإعدادي، الأمر الذي اضطر شقيقه الأكبر للسفر للسعودية للعمل لإعالة الأسرة. الظروف التي رافقت سفر الشقيق الأكبر تكشف إلى أي حد كانت هذه الأسرة معدمة، حيث يقول الرنتيسي إنه كان يملك حذاء اشتراه مستخدماً من سوق المخيم، وعندما هم شقيقه بالسفر لم يكن لديه حذاء، فاضطر عبد العزيز أن يعطي شقيقه الحذاء وعاد للبيت حافي القدمين.
الطب و" الإخوان "
لحياة الصعبة التي عاشها، دفعته للتعلق بالعلم، وبالفعل تفوق في المرحلة الثانوية بشكل خاص. وفي صيف عام 1965 كان من العشرة الأوائل في التوجيهي، الفرع العلمي في القطاع، الأمر الذي أهله للحصول على منحة دراسية من وكالة الغوث، فاختار الطب في مصر.
وفي عام 1970 حصل على بكالوريوس طب عام، وواصل دراسته ليحصل على الماجستير في طب الأطفال. وأثناء اعداده للماجستير في طب الاسكندرية، كما يقول، تأثر بإثنين من شيوخ الإخوان المسلمين، هما محمد عيد والمحلاوي، حيث كانا يخطبان في مسجدي «السلام»، و«ابراهيم باشا»، اللذين كانا ينتهجان نهجاً صدامياً من الرئيس المصري الأسبق أنور السادات. ويؤكد أن الشيخ محمد عيد ترك تأثيرا هائلاً على نفسه، لدرجة أنه عزم على تقليد أسلوبه، لكن في مواجهة الاحتلال.
الرنتيسي والانتفاضة
وبالفعل خاض الرنتيسي كرئيس لجمعية الاطباء في غزة عام 1981 أول حملة عصيان مدني ضد الاحتلال، لرفض دفع الضرائب للاحتلال، ففرضت سلطات الاحتلال عليه الإقامة الجبرية، ثم اعتقلته. في أواخر عام 1987 كان الرنتيسي مسؤولاً لجماعة الاخوان المسلمين في منطقة خان يونس، في ذلك الوقت اجتمع عدد من قادة الجماعة في القطاع، على عجل وهم الشيخ أحمد ياسين وأبو أسامة دخان ومحمد شمعة وابراهيم اليازوري وصلاح شحادة وعيسى النشار، وقرروا أن تخوض الجماعة غمار الانتفاضة تحت اسم حركة المقاومة الاسلامية (حماس). وكان الرنتيسي قد صاغ أول بيان باسم الحركة الوليدة. وكعضو مؤسس في حركة «حماس»، تعرض الرنتيسي للاعتقال خمس مرات وقضى ما مجموعه سبع سنوات في السجون. وأبعد عام 1992 لمدة عام إلى مرج الزهور في جنوب لبنان.
تحقيق وعناد
ولعناده فقد يئس محققو جهاز المخابرات الداخلية الاسرائيلية «الشاباك» من جدوى التحقيق معه، حيث يشهد الذين شاهدوه في السجن أنه بمجرد أن يُحضر للمحققين في أقبية التحقيق، حتى يقوم بمهاجمتهم باللكمات، ولا ينفك عن ذلك إلا بعد ان يغمى عليه من شدة ما يتعرض له من تعذيب، من هنا كان يتم تقديم لوائح الاتهام ضده بناء على اعترافات أشخاص آخرين، حيث أن قانون «تامير»، المعمول به ضد الفلسطينيين يتيح للمحاكم العسكرية الاسرائيلية إدانة أي فلسطيني بناء على اعتراف شخص آخر ضده، في حال تعذر استخلاص اعتراف منه.
وفي السجن أتم الرنتيسي حفظ القرآن الكريم، في غضون 27 شهرا قضاها في زنزانة انفرادية واحدة. وتعرض للاعتقال والحبس في صفوف السلطة الفلسطينية. أكثر ما ميز الرنتيسي عن غيره هو صلابته وعناده واستعصاؤه على الاستجابة للضغوط، الامر الذي اوجد له شعبية كبيرة داخل قواعد حركة «حماس»، لدرجة أن أحداً لم يكن يوازيه من حيث قوة شعبيته
في 10 يونيو (حزيران) 2003، تعرض الرنتيسي لأول محاولة اغتيال اسرائيلية، ونجا من هذه العملية بإعجوبة، حيث قتل اثنان من مرافقيه، بينما أصيب نجله أحمد بجروح خطرة. وظل المطلوب رقم واحد لاسرائيل حتى اغتياله في 17 أبريل 2004، قبل سبع سنوات.
يمكن للمرء أن يختلف سياسياً وأيدلوجياً، مع الرنتيسي، وهذا أمر طبيعي، لكن في اعتقادي أن مما لا خلاف حوله حقيقة أن الحديث يدور عن شخصية قيادية وطنية من الطراز النادر والفريد.