آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: رواية بيوت من رمال لصلاح ابوشنب

  1. #1
    مشرف المنتدى الإسباني الصورة الرمزية صلاح م ع ابوشنب
    تاريخ التسجيل
    28/08/2007
    المشاركات
    1,241
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رواية بيوت من رمال لصلاح ابوشنب

    بُيُوتٌ من رمالمن الحلقة الاولى الى الرابعة تقديم
    يأخذنا الاستاذ صلاح ابوشنب فى رحلة طويلة عبر روايته " بيوت من رمال " لنتعرف أو بالأحرى لتتعرف أجيال الشباب على معاناة جيل كامل شاء قدره أن يشهد تحولات مهمة مر بها الوطن الى صار طاردا لابنائه الذين انتشروا فى أصقاع الأرض بحثا عن الرزق.
    لم تكن مصر قبل الفترة التى تؤرخ لها الرواية طاردة لابنائها على النحو الذى نلمسه فى أيامنا هذه .. بل لعلها على العكس من ذلك كانت تجذب سكان أوروبا الفقراء من يونانيين وايطاليين وفرنسيين ليعيشوا فى ربوعها ولينهلوا من معينها فيصبحون بين عشية وضحاها أصحاب استثمارات ذات شأن فى المتاجر والمعامل والمصانع يحيون حياة رغيدة فى تزاوج حضارى شهدته مصر فى أزهى عصورها ويندر أن يكون له مثيل .
    ولعل الرواية قد لمست ذلك الجانب الانسانى والوجه الحضارى لمصر فى تعامله مع الاجنبى من خلال شخصيات " فرناندو " و " بابلو" و " فرانسيسكو" وهو ما يستدعى بالضرورة مقارنة بين معاملة المصريين للأجانب الذين عاشوا بينهم فى إخاء وتسامح يصل لحد التزاوج بين فرناندو ومارى المصرية وهو ما يعكس روح مصر فى نبل تعاملها وسماحة أهلها .. وبين ما يلقاه المصريون فى دول " البترودولار" من تهميش وهوان رغم ما بيننا وبينهم من أواصر الأخوة والدين ولكم اعتصرنى الألم أثناء القراءة وأنا أقرأ كيف اضطر بطل الرواية لأن يبيع سيارته بربع ثمنها مرة وبأقل من النصف مرة .. بل كيف وهب أثاث بيته – قهرا- بلا ثمن ، ويالها من ضريبة .. بل لنقل يالها من أخوة ...
    تصور الرواية كذلك ملامح الشخصية المصرية حين تواجهها صعوبات الحياة فلا تستمسك بعصبية زائفة أو منهجية مقيته ، إنما تتحول مهما بلغت درجة رقيها وثقافتها الى مخالب وأنياب تنحت فى الصخر وتتحمل مشاق الحياة وصعوباتها من أجل غدٍ أفضل...
    كذلك تصور الرواية ملامح لشخصيات مصرية مضيئة فى أرض الغربة تتمثل فى الطبيب الذى أجرى العملية الجراحية وكمال وممدوح وأم تامر وهى نماذج للشخصية المصرية تستحق الذكر.
    عنوان الرواية من جهة ثانية يتفق مع متنها اتفاقا تاما .. فهى تحكى أكثر من مأساة لأكثر من بطل كذلك العمل البديع الذى أجراه الكاتب على لسان سارد عليم ليكتشف القارىء فى النهاية أن ابطال الرواية جميعا قد جمعهم قاسم مشترك - هو أنهم بنوا بيوتا من رمال .. وأنهم عادوا فى النهاية الى بلدانهم مثخنين بالجراح .. إنه العنوان الكاشف الذى يلخص العمل كله فى كلمات معدودة.
    رواية " بيوت من رمال" جديرة بالقراءة والتأمل ، لانها شهادة على عصر كامل وتمدنا بالحرية والعزة والكرامة .
    وقد جعلنا الكاتب من خلال احداث الرواية أن نعايش أبطالها أثناء مواجهتهم الحياة الشاقة والتعيسة وسط الجبال والرمال مع الفئران والأفاعى وفى بيوت تفتقر الى أبسط مقومات الحياة ، وفداحة الثمن الذى دفعه كل منهم .
    اعتصرت قلبى مشاهد عايشها البطل حين فقد فلذة كبده .. ذلك الفقد الذى هوّن عليه فيما بعد كل ما فقده من متاع وعمل .. بل كل ما تعرض له من متاعب وخسائر...
    الاستاذ صلاح ابوشنب كاتب متميز يطاوعه الحرف وتدين له الجمل لأنه يمزجها بعصارة نفسه وعبق روحه وهو يضع بين أيدينا تجربة حياتية مكتملة لاشك أنها ستفيد أجيالاً من الشباب الذى لم يعاصر تلك الأيام القاسية التى أكلت أعمارنا واستهلكت طاقاتنا من أجل أن تحفظ أعمارهم وتبقى جهودهم وتحقق آمالهم فى وطن عزيز.. وحياة كريمة.

    دكتور محمد فؤاد منصور
    الاسكندرية














    بُيُوتٌ من رمال( الحلقة الاولى )
    شاهد الابتسامة فوق شفتيها وإشراقة وجهها فعرف بأن مسعاها قد حقق نجاحا، جلس فوق الأريكة الاستانبولى ينظر فى عينيها ، ثم بادرها بقوله:
    - الجميل سبع أم ضبع ؟
    تنهدت قليلا ثم قالت :
    - دعنى ألتقط أنفاسى ، وضعت أصابعها فى صدرها والتقطت بضع ورقات نقود مطوية وناولته إياها.. أربعون جنيها كاملة ، كانت سببا فى رسم ابتسامة عريضة فوق شفتيه وخالطت سرور قلبه.
    كان الوقت ما يزال مبكرا أسرع الى مكتب السياحة والسفر فى ميدان عرابى ، أعطاه ثمن التأشيرة والتذكرة دفعة واحدة.
    قلبه يرتجف وهو يصعد سلم الطائرة ، كانت أول تجربة لركوب الهواء فى حياته.
    ترك قياده للمضيفة ، راح يتطلع الى الطائرة من الداخل .. استقبال ملئته الرقة، وجملته الابتسامة .. روائح ذكية تفوح من كل جانب .. أناقة .. نظافة .. هواء بارد .
    جلس فوق المقعد المريح .. تفحصه .. أزرار عديدة على جانبيه .. مفاتيح فوق رأسه يستطيع من خلالها أن يتحكم فى الهواء، شرحت له المضيفة كيف يستخدمها.
    قال فى نفسه :
    - ما أجمل الطائرة .. كأنى جلس فى جوف طائر بديع .. يا ترى هل سيكون الاقلاع والتحليق رائعا مثلك أيها الطائر الميكانيكى البديع؟
    كان مبهورا.. مال فى كرسيه الى الورآء وراح يستمتع بالهواء البارد الذى كان يلامسُ وجهه برفق.
    تذكر الرؤيا التى رآها فى منامه منذ ما يقرب من ثلاثة شهور.. رأى نفسه يصعدُ جبلا فى صحراء باحثا عن الديار المقدسة ، فى طريقه التقى برجل دله على مقصده ، أشار له بأصبعه وقال:
    - عند هبوطك من فوق التل الذى هناك ، سوف تجد زمزم أمامك.
    فرح فرحا شديدا .. أسرع يرتقى الكثبان الرملية على عجل ، وصل القمة ، شاهد على مرمى بصره جموع من الناس يتحلقون حولها ، روى ظمأه ، رطب وجهه وبلل ملابس احرامه.
    استيقظ من نومه .. اشترى عدة مصاحف أرسلها مع احد المعتمرين الى المسجد النبوى بعد أن كتب على أول ورقة من كل منها كلمة اهداء متواضعه.
    كان يجلس فى الطائرة قلقا .. متخوفا مما تخبئه الأيامُ.
    لايملك سوى تأشيرة عمرة لا تزيد مدتها عن خمسة عشرة يوماُ، لا تجيز له العمل.
    - ماذا ستخسر لو فشلت هذه المغامرة ورجعت بخفى حنين ؟
    خسارتك لن تتجاوز سبعة عشرة جنيها عُمياناُ هى إجمالى مرتبك الذى تتقاضاه فى نهاية كل شهر من الشركة الكبيرة العريضة .. خسارة لا تستحق أن تبكى عليها .. اكثر من نصف هذا المبلغ يضيع بين الدخان وأكواب الشاى اليومية والباقى لا يكفى ركوب المواصلات الضرورية خلال الشهر.
    نظر الى من كان يجاوره فى المقعد فوجده يضغط على زر صغير بعدها مال به المقعد الى الخلف ، ابتسم .
    تنهد بعد أن استنشق نفساً عميقاً وعاد بالمقعد الى الخلف مقلداً لجاره.
    فى تلك اللحظة تذكر ساعى مكتبه الذى كان يبيع بالأجل السجائرللموظفين المساكين وكعك المعمولة المحشية بالملبن أو بالعجوة وينتظر عليهم حتى يوم استلام المرتبات ، عند شباك الخزينة يلتقط كل مدين قبل أن يغادر الشُّباك .
    كان حال ذاك الساعى الذى لم يتكلف أبواه مليما واحدا لقاء تعليمه وجاء من أقصى الجنوب ولم ينل من العلم سوى القراءة والكتابة ، أفضل بكثير من حال معظم الموظفين وهو أولهم .
    عندما قدم للمدير العام طلب إجازة بدون أجر ، رفض وركبه صلف اجداده بنى عثمان وهو يشيح بيده التى كانت تُمسك بالطلب بينما تقبض اسنانه على طرف غليونه الفائح الرائحة وهو ينفث دخانه فوق الورقة بغضب .. لم يبد أى تعاطف نحوه ، رغم ما قضاه من سنين يعمل معه وداخل مكتبه الكبير.
    لقد كانت صدمة تلقاها من مديره لم يكن يتوقعها مطلقا ، لأنه كان واثقا بأنه سوف يسانده ويقف الى جانبه هذه المرة ، مثلما فعل من قبل حين صَّدق على منحه معونة مالية من الشركة كمساهمة فى تكاليف طبع كتابه الأول.
    يا تُرى ما الذى جعله يغير موقفه الآن ، وقد صارحه بأنه ذاهب للبحث عن مستقبل له فى بلد آخر.؟
    ألم يصرّح له ذات يوم بأنه يأمل أن يرى ابنه مثله جادا فى حياته مجدا فى عمله مثابراً على العلم ومحب له .؟
    أليس هو الرجل الذى كان يأتى الى مكتبه قبل كل الموظفين ويمر فى بسيارته الخاصة على محل الفول والطعمية المشهور فى محطة الرمل قبل وصوله الى مكتبه كى يشترى له سندوتشات فول وطعمية ، ويضعها فوق مكتبه ، فيأتى هو فى الصباح لممارسة مهام وظيفته فيجد الكيس وبداخله السندوتشات ما تزال حارة.!!
    يا تُرى لماذا تخلىَّ عنه فى تلك اللحظة وقد كان فى مسيس الحاجة الى وقوفه الى جانبه .؟
    أكان ذلك عطفاً أم صدقة من مدير كبير لموظف صغير يعمل فى مكتبه. ؟
    أم أنه اتخذ هذا الموقف المضاد بسبب رفضه للعرض الذى سبق أن عرضه عليه بالزواج من زميلته السكرتيرة التى كانت على وشك أن تصاب بالعنوسة ووجد نفسه قد فشل فى أن يوفق رأسين فى الحلال ويصبح من صلحاء المجتمع لذلك ردُّ له الصاع بصاعين .؟
    قال بحدة : لا يتوفر بديل ، ثم استطرد.. إن لم تعد لمباشرة عملك بعد انتهاء الخمسة عشرة يوما التى صرحت لك بها فسوف تُفصل من العمل.
    قال فى نفسه : الى هذا الحد يصل بك غضبك من أجلها .. إن شاء الله سيوفقنى ربى ولن أعود إليكم لأستجديكم إرجاعى الى العمل .
    استيقظ من إجترار همومه على صوت المضيفة وهى تبتسم فى وجهه قائلة : فيما أنت سارح ؟
    - عفوا .. لا شىء.
    - من فضلك اربط حزام الأمان ، الطائرة على وشك الاقلاع .
    لم يعرف كيف يربط حزام الامان .. طوقته المضيفة بذراعيها وربطته له .. رائحة عطرها ملأت أنفاسه .
    سارت الطائرة ببطء ملحوظ فى ممر طويل ، قبل أن تصل الى نهايته ارتفعت أصوات محركات تكاد أن تصم اذنيه .. نظر من النافذة .. شاهد الجناح الأيمن يحمل محركين كبيرين ، يهتزان بشدة ، كادا ان ينفصلا عن جسم الطائرة ..
    ازداد خوفا ، كلما استدارت الطائرة .. ارتفعت اصوات المحركات أكثر .. راحت ترعد .. اهتزت جوانبها حتى ظن أن اوصالها سوف تتقطع .. جرت بسرعة شديدة وارتفعت مقدمتها فجأة .. مال جسمها الى الخلف .. مالت رأسه معها .. أحس بقليل من الدوار ورغبة فى الغثيان ، أسرع يلهج بالشهادة .. سلم يارب.
    انتهى من دعائه .. استوت فى السماء .. هدأ ازيز المحركات وانتظم دورانها وانسجم تحليقها.
    لكن فى اذنيه طنين لا يتوقف ، استدعاها بزرعلى مسند المقعد..
    جاءت تختال .. تدفع عربة ، سألته : أى صحيفة تريد ؟
    - أرغب فى إزالة الطنين من أذنىَّ .
    - إبتلع ريقك وسرعان ما يزول .
    - أخبار اليوم من فضلك .
    تصفحها على عجل ، فهو لا يرغب فى أن يفوِّت على نفسه الاستمتاع بالمناظر الخلابة التى يراها من خلال هذا البعد الشاهق عن الارض .. يرى زرقة صفحة ماء البحر كلوحة بديعة رسمتها القدرة الالهية العظيمة .. كان الشاطىء ما يزال خلفه على مرمى البصر واليابسة ليست ببعيد.
    جاءت اخرى تتهادى .. أنيقة الملبس .. باسمة الثغر .. تدفع عربة مشابهة .. روائح طعام شهى عبَّقت المكان..اقتربت منه وقالت : هل تفضل لحما أم دجاجاً ؟
    قال مازحا : لا بد من تذوق الاثنين حتى استطيع الحكم ..
    لم تتردد .. بلطافة وسخاء ناولته وجبتين ، طبق لحم وآخر دجاج.
    - كنت امزح .. دعينى اكتفى بالدجاج ..
    - لا عليك .. اللحم أيضا لذيذ ..
    - اشكرك .
    بادره الجالس الى جواره بقوله : دع اللحم لى .. ومد يده كى يأخذ وجبة اللحم .. ناوله إياها وهو يبتسم ...
    الطائرة تبدو وكأنها متوقفة فى الجو بلا حراك .. البحر هو الاخر لا تبدو له نهاية .. زرقته جذابة .. السفن كلعب أطفال متناثرة .. الطائرة هى الاخرى معلقة فى فضاء من فوقهم .
    عادت من جديد ..اقتربت ..ابتسمت وقالت : شاى أم قهوة؟
    -شاى من فضلك ..
    فتحت(صينية) بلاستيكية مثبتة خلف المقعد الذى امامه ،وضعت فى ثقبها كوبا من بلاستيك وسكبت شايا شديد السخونة.
    جاء الشاى فى الوقت المناسب ، فقد بدأت أجهزة التكييف التى تنفث برودتها من فوق رأسه تأتى ثمارها فى أوصاله ...
    لم يكد يكمل قراءة بعض مقالات صحيفة أخبار اليوم حتى أعلنت المضيفة ضرورة ربط أحزمة المقاعد استعدادا للهبوط...
    اقتربت منه ثانية .. امسكت بأطرافها حزام الامان .. شدته حول بطنه .. عرفت بخبرتها أنه حديث العهد بركوب الطائرات ..
    خفّضت الطائرة سرعتها .. قللت من ارتفاعها .. ظهرت الابنية واضحة .. شاهد المدرج كخط مستقيم فوق صفحة من كراسة طفل.
    مالت مؤخرتها الى الخلف وكأنها أرجوحة تمازح الركاب بينما ارتفعت مقدمتها الى أعلى .. نظر من خلال النافذة .. صندوقٌ صغيرٌ قد انفتح فى بطنها .. قوائم هيدروليكية تمددت فى الهواء كمخالب نسر استعد للانقضاض على فريسته.
    وقفت المضيفة بكامل رقتها وأناقتها عند المقدمة واجهت الركاب وقالت: سيداتى وسادتى .. مصر للطيران تحييكم .. حمدا لله على سلامتكم ..انتم الآن فوق مطار جدة الدولى، ابقوا فى اماكنكم لحين فتح ابواب النزول .. درجة الحرارة فى الخارج 45 درجة مؤية .. نتمنى أن نراكم مرة أخرى على متن مصر للطيران.
    اجراءات سهلة ، صالة المطار صغيرة تشبه مطار الاسكندرية باستثناء كونها مكيفة الهواء .. يعيبها أنها داخل الكتلة السكنية.
    وقف خارج المطار يتطلع حوله ، جو شديد الحرارة ، تفصد جسمه عرقا ، لم تمر على وجهه نسمة هواء منذ خروجه حتى ركوبه الأجرة ذات اللون الأصفر..
    ناول السائق قصاصة بها العنوان ، نظر السائق فى الورقة وقال: ها المكان بعيد .
    - لا بأس .
    - سوف تدفع عشرة ريالات .
    - كم تبلغ المسافة .؟
    - خمسة عشر كيلو مترا.
    - لا بأس .. توكل على الله .
    السيارة غير مكيفة الهواء .. الجو قاس .. بقائه داخل سيارة غير مكيفة أرحم بكثير من وقوفه فى الشارع .. فلم يشأ أن يساوم.
    انطلق السائق مسرعا .. فى اقل من ربع ساعة وصل .. نظر حوله .. عن يمينه وشماله صحراء وفى الخلف جبالٌ شمٌ سود .
    سيارة شرطة على حافة الطريق ..أرشده الشرطى الى العنوان.
    سار فوق الرمال يحمل حقيبته .. لا شىء يقى رأسه حرارة الشمس اللافحة.. تنبه الى أهمية غطاء الرأس الذى يرتديه الأهالى.
    الشخص الذى يسأل عنه غير موجود .. أحدهم ارشده الى شخص طويل القامة مقوس الكتفين ذو شارب متهدل كشارب ذكر روبيان عجوز .. قالوا انه هو المسؤل عن العمل حاليا.
    قابله بفتور ملحوظ .. نادى احد الشغالين ، طلب منه اصطحابه الى أحد البيوت القريبة من موقع العمل .
    بيت ارضى مكون من غرفتين بفناء صغير يسمونه "حوش" ، منه الى الشارع مباشرة ، كل البيوت فى ذاك المكان تشبه بعضها فى الشكل واللون .
    حوائطها تنفث حرارة ووهجا .. مروحة معلقة فى وسط السقف تكابد كى تجلب لفحة من هواء حار.
    بعد حوالى ساعة من الوقت جاء هذا الشخص وبعد محادثة قصيرة طلب اليه أن يستعد لممارسة العمل فى صباح اليوم التالى..
    شعر بقلق بعد سماعة تلك الكلمات ، وسأل نفسه فى صمت ترى أى عمل يتحدث عنه هذا ، وماعلاقته بالعمل الذى أتى من أجله ؟ لكنه لم يرغب فى استباق الأحداث .. كان متعبا من عناء السفر فلم يعقب وفضل أن يختصر الحديث ليتابع نومه والصباح رباح .
    الحلقة الثانية
    عندما بدأت الشمس تميل نحو المغيب بدأ العمال فى التوافد الى المسكن واحد ورآء الآخر .
    كانت أصواتهم سببا فى ايقاظه ، اعتدل جالسا فوق السرير الحديدى ، نظر الى الوافدين ، كانت وجوهم مُعفرة بالتراب مثل ملابسهم ، عرف من خلال حديثهم أنهم يعملون فى حفر الارض تحت اشراف هذا العابس.
    شعر بعطش شديد قام الى ثلاجة صغيرة كانت بجانب الحائط وشرب زجاجة ماء بأكملها .
    الماء طعمُه غريب..غير مستساغ .. يختلفُ تماماً عن ماء النيل الذى تعود عليه ..عرف فيما بعد انه ماء جُلب من أبار بواسطة فناطيس تحملها سيارات .. هؤلاء العمال بسطاء فى ملبسهم ، فى تعاملهم وغير متكلفين ، يتصرفون على سجيتهم .. أحبهم .
    لم يستطع ان ينام تلك الليلة .. لسعات البعوض مؤلمة .. لم ينزعج من لسعات بعوض قبل هذه المرة ، سوى مرة واحدة فقط طيلة حياته عندما كان فى زيارة صديق له كان يدرس فى احدى جامعات القاهرة .. كانت اجازة صيف شديد الحرارة .. أعطاه مفتاح الشقة التى كانت فى احدى ضواحى القاهرة ، طلب منه أن ينزل فيها بدلا عن الفندق ، رغبة منه أن يوفر عليه عبء النفقات .. شكره على اللفتة الطيبة .
    شارع مترب امتلأ ببحيرة من مياه الصرف المندفعة من المنازل .. لم يستطع السير فيه الا قفزا فوق طابور من قطع الحجارة التى رصها الاهالى على مسافات متقاربة للقفزعبرها .. كان الحجر يبتعد قليلا عن الباب الرئيسى للمنزل فاضطر الى استجماع كل قوته للقفز من اجل الوصول الى عتبة الباب .. كاد أن يسقط فى المياه لولا تشبثه بطرف الباب فى آخر لحظة.
    تلقاه رجل اسمر طويل القامة ذو رأس مستدير قوى البنية ، يرتدى ثوبا ابيض .. يضع بين شفتيه سيجار غليظ أسود .. أرشده الى الشقه .. عرف اثناء الحديث انه صاحب البيت .. كان يعمل عند الملك السابق فاروق ضمن حاشية الخدم .. كان جالسا فوق مقعد عتيق يتحدث باعتزاز عن الفترة التى قضاها فى خدمة القصر وقد وضع ساقه فوق الأخرى وراح ينفث الدخان فى الهواء الرطب الذى تشبعت به صالة ضيقة بالكاد يأتيها ضوء باهت من شرفة صغيرة تطل على الشارع المترب .. روائح كريهة تنبعث من هناك.. كاد أن يفرغ ما فى جوفه .
    عندما حل الظلام فوجىء بأسراب من البعوض تغزو الشقة ، هاجمته بضراوة .. يومها خرج الى الشارع هربا ، ظل جالسا على مقهى قريب الى ما قبل طلوع الفجر بقليل حين غلبه النعاس ولم يستطع مقاومته .. اضطر الى العودة للشقة ، غطى كل جسمه .. دخل البعوض تحت الغطاء .. هرب الى الحمام .. وقف تحت الماء ( الدش ) لتبريد جسمه من كثرة ما اصابه من التهابات فى سائر جلده .. ظل حتى طلوع الصبح .. كانت ليلة ليلاء لا تنسى.
    البيوت ملتصقة بسفح الجبل .. من هناك تأتى اسراب البعوض مندفعة نحو النوافذ الغربية المواجهة له .. تنقر الاسلاك نقرا يُمزقها تمزيقا ويؤرق النائمين .
    أحد الموجودين افرغ علبة مبيد عن اخرها .. كاد الجميع ان يصابوا بالاختناق عدا البعوض الذى لم يتوقف عن الهجوم.
    سعل بشكل متواصل .. احس بألم فى صدره .. أسرع نحو باب الغرفة .. خرج الى الفناء .. جلس على احد المصاطب الحجرية يحاول استنشاق الهواء.. خرج الباقون خلفه وتركوا الحجرة.
    نهر العابس الشخص الذى رش المبيد .. كلفه بشراء أخرىعلى حسابه الخاص عقابا له على فعلته.
    ترك البعوض النوافذ وجاء يحوم حولهم .. كانت له اصوات تشبه حوامات الهيلوكوبتر.. جمع احدهم اعوادا من خشب الشجيرات المتناثرة حول البيوت وعند السفح .. ألقاها وسط الفناء وأشعلها نارا.
    لم تفلح النار فى طرد البعوض .. غلبهم النومُ فاستسلموا له فى العراء ، أما هو فقد ظل جالسا فى مكانه يفكر وهو يرقب النجوم المتلألئة فى ظلمة السماء.. تُرى هل يشعر بى أحد من أهلى الآن؟ لا شك أنهم يغطون فى نوم عميق .. من يمنحنى نسمة من نسمات الاسكندرية ، أو إطلالة على بحرها المنعش أو غرفة من نيلها.؟
    حين جال هذا الخاطر برأسه أحس برغبة فى الضحك .. تذكر صديقيه اللذان كانا فى توديعه بمطار القاهرة .. استحلفاه واقسما عليه بألاَّ يتوانى عن استقدامهما للعمل بجانبه.
    فليأتيا أهلا ومرحبا كى يشاهدا بأم أعينيهم بأى بيت شديدُ المرارةِ بدأت قصيدةُ الغربةِ والابتعادِ عن الأوطانِ ؟
    مكان موحش .. مخيف .. لا ملامح له .. مجموعة بيوت تناثرت يسكنها أناس لا يعرف بعضهم بعضا.. لغاتهم مختلفة .. أشكالهم كذلك .. لا يربط بينهم شىء .. العوز والفقر هما المشترك الوحيد الذى ألقى بهم فى هذا المكان المعزول.
    استفاق على صوت المؤذن لصلاة الفجر آتٍ من مسجد قريب مَبْنِى بالصاج المعرَّج والواح الخشب.. خرج مع رجلين فى ظلام دامس .. هؤلاء اليمنيون خبراء متمرسون بهذه الشعاب.
    كان يوم خميس .. عند أول الصباح أبلغ العابس المقاول هاتفيا بقدومه عن طريق كابينة معلقة فى سارية من خشب مقامة فوق الطريق السريع المسفلت.
    جاء عند الضحى يقود سيارة شفرولية سوداء من الموديل القديم .. جذابة الشكل .. قوية البدن .. بحالتها .. بدا أنه كان يرعاها جيدا .. استهوته .
    تقدم نحوه .. حياه .. ثم تنحى بمرؤسه جانبا وحدثه برهة ثم عاد.. لم يدعه يمارس العمل من ثانى يوم وصوله ودعاه الى تناول طعام الغذاء فى بيته .. كانت لفتة كريمة منه .. يبدو انه اراد أن يرد اليه بعضا مما كان يقوم به نحوه اثناء وجوده فى الاسكندرية فى اجازته الصيفية .. لبى الدعوة شاكرا.
    ركب معه السيارة التى أعجبته من أول وهلة .. توجه الى البلد المقدس...
    كم لهذا البلد الحرام من رهبة وللبيت من جلال .. لم يستطع أن يحبس دموعه حين أبصر على البعد المئآذن تكشف عن عزتها وهى تمخر عنان الفضاء تطوف حولها سحب صافية بيضاء.
    كم لك يا مكة من عبيق مميز يختلف عن سائر بلدان العالم أجمع .. كم لهوائك من رائحة طيبة ومميزة تريح النفس وتمحو الهم.
    المنزل قريب جدا من الحرم .. يمكن رؤية الحرم كاملا من شرفتة .. مكان يتمناه الملايين .. لكنه لاحظ أن الرجل لا يصلى .. سبحان الله..!!
    تناول طعام الغذاء فى بيته .. زوجته سيدة كريمة ويبدو أيضا انها سيدة مضيافة .. رحبت به لا سيما بعد أن عرفت انه من الاسكندرية مثلهما وايضا قريب لشخص كان زميلا لها فى العمل لسنوات طوال .. احسنت استقباله .
    انتهى من تناول الطعام ثم بعد ذلك توجه الى الحرم الشريف حيث ادى مناسك العمرة لأول مرة فى حياته مستعينا ببعض أرشاداتهما ، التى اكتسباها من اقامتهما فى هذا البلد لاكثر من ربع قرن من الزمان .
    بعد انتهائه من أدآء العمرة قام بجولة للتعرف على المدينة المقدسة واسواقها المميزة والمزدحمة بالناس من جميع الاجناس.
    كلما سار الى الامام التفت خلفه يتطلع الى الحرم والكعبة اشتياقا واعجابا .. الكعبة ذات رهبة وهيبة .. متميزة ومتفردة فى كل شىء .. أمام جلالها تتصاغر الأنفس .. تسقط القلوب صرعى فى هواها تحقيقا لدعوة أبينا ابراهيم .. جعل الله فى ظلها أمنا وسكينة وسلاما.. اذا ما رفعت ناظريك الى السماء شاهدت أسراب الحمام تطوف حولها محلقة بأجنحتها تسبيحا وتحميدا للذى خلق الغمام.


    ***
    ( الحلقة الثالثة )
    فى صبيحة السبت صحبه متوجها الى جدة .. سأله والسيارة تمخر الطريق :
    - هل وجدت لى عملا كما سبق أن اتفقنا فى الاسكندرية. ؟
    - فى الحقيقة الشيخ لم يلب طلبى.
    - لماذا لم ترسل لى خطابا تبلغنى فيه بالأمر.؟
    - فكرت فى ذلك ، رأيت أن عملك هنا ، مهما كان نوعه ، سيكون أفضل بكثير من عملك فى مصر.
    - وماذا سأعمل .؟
    - ستعمل عندى .
    - وفىأى مجال تعمل أنت .؟
    - مقاولات .
    - لكن .. ليس عندى أدنى فكرة عن هذا العمل .
    - لا يهم .. الموضوع من أسهل ما يكون .. أنت رجل متعلم وسوف تستوعب الامر بسرعة.
    - لم يكن هذا هو ما اتفقنا عليه .
    - يا سيدى..اعتبره عملا مؤقتا حتى تجد وظيفة مناسبة.
    - دعنى أفكر فى الأمر.
    - اسمعنى جيدا .. ليس هناك وقت للتفكير.
    - ماذا تعنى .؟
    - دعنا نكن صرحاء.. أنت تركت وظيفتك فى مصر، الكل يعرف ذلك .. ليس من اللائق ان تعود بخفى حنين .
    - سأبحث بنفسى عن العمل الذى يناسبنى .
    - وهل تعتقد انك ستجده بين يوم وليلة .؟
    - لا يهم متى أجده .
    - وهل معك ما يكفى للنزول فى فندق الى ان تعثر على الوظيفة المناسبة.؟
    - طبعا لا .
    - إذن ليس امامك الا ان تثبت وجودك فى أى عمل ، ولا تترك الوقت يمر هباءا منثورا.
    - سوف أعود الى بلدى .
    - ألم تقل بأنك جئت بتذكرة ذهاب فقط .؟
    - نعم .
    - يعنى أنك لا تملك تذكرة عودة .؟
    - نعم .
    - كيف ستعود.؟
    لم يجد أجابة .. مرت لحظة صمت.
    - عليك أن تحمد الله على أنى سأوفر لك فرصة عمل عندى ، وحين تجد نفسك قادر على العودة فلن أمنعك.
    - إن قُدِّرَ لى العثور على عمل بشهاداتى فهل ستمنعنى .؟
    - شرط أن يكون بحثك خارج وقت الدوام.
    - اتفقنا .
    وصلت السيارة الى الموقع .. هناك عهد الى مرؤسه بتعليمه المهنة.
    جاء العابس بمعول .. سلمه إياه.. طلب اليه أن يحفر الأرض.
    كان لا بد أن يشق الارض بعمق نصف متر وطول خمسة وعشرين مترا.. كانت هذه هى أولى الأوامر .. ومن هنا بدأت القصيدة أول أبياتها.
    ضرب الأرض الضربة الأولى .. مال المعول .. كاد أن يجرح قدميه .. كرر المحاولة .. استاء .. ألقاه على الأرض وجلس يلتقط أنفاسه.
    قال العابس : هذا العمل لا يصلح .. لن أحتسب لك أجراً.
    قام يكرر المحاولة .. تصبب عرقا.. دقات قلبه تضرب صدره بقوة .. جلس فوق حجر ساخن الهبته الشمس.. راح يبحث عن جرعة ماء.
    على البعد رؤوس سوداء تتحرك.. انطلق نحوها..جماعة من الافارقة يعملون فى شق الارض.
    وقف ينظر اليهم .. كيف يقبضون على المعول.. كيف يضربون به الارض؟
    إن الأمريحتاج الى وقت وخبرة وقوة جسمانية .. أبدانهم قوية وعضلاتهم بارزة.. يضربون الأرض ضربات متكررة دون أن يلتقط الواحد منهم أنفاسه دون أن يواجهوا صعوبة فى عملهم الشاق هذا..!!
    قال فى نفسه: أعط العيش لخبازة ..أوليس هذا ما يقال فى بلادنا؟.. ما رأيت من قبل حفارين بهذه المهارة.. هؤلاء الناس بارعون فى عملهم بحق.. وأردف ساخرا: ماذا يصنع صاحب الجسم النحيل فى هذا الطقس المُعيل.؟
    نظروا اليه من بعيد .. ثم نظر بعضهم الى بعض .. يبدو أنهم رقَّوا لحاله.. قدموا اليه زجاجة بلاستيكية بها ماء حار.. زادته الشمس سخونة فوق سخونته.. طلبوا أن يُعَوِّدَ نفسه على شربه(حارا) كى يمنع عنه تعرق الجسم .. نصحوه بعدم شرب الماء البارد لانه سوف يصيبه بالتعرق المستمر اثناء العمل ويجعله أيضا فى حالة عطش دائم.
    كانت لنصيحتهم فائدة عظيمة ..توقف جسمه عن افراز العرق اثناء العمل .. لم يشعر بعد ذلك بظمأ أثناء الحفر.
    مرة أخرى يقول لنفسه : اعط العيش لخبازه.
    اقتربت الساعة من الخامسة ، مالت الشمس نحو الغروب وتوارت خلف ظهر الجبل .. بدأ العمال فى الانسحاب واحد وراء الاخر..انصرف يتبعهم وعضلاتة من الداخل تتمزق من شدة الالم.
    اغتسل .. استبدل ملابسه..ارشده بعضهم الى صندقة (كشك خشبى على قارعة الطريق) يطلقون عليه هذا الأسم ( صندقة) من كلمة (صندوق).. توجه الى هناك.
    هذه الصندقة بمثابة سوبر ماركت الصحراء.. فيها كل شىء مُعَلب ومستورد من جميع انحاء العالم .. بقالة جافة فى أبسط صورها ، لكنها ممتلئة بكم هائل من البضائع تنتقل حيث ينتقل المشروع.
    فى تلك اللحظة تذكر يوم أن أغرته سيدة من تجار الشنطة بالسفر الى لبنان .. كان ذلك فى السبعينيات .. صَرْعَةٌ ركِبَ موجتها كل من هب ودب ..نجح الكثير منهم نجاحا ملحوظا فى تلك الفترة .. جمعوا أموالا طائلة ، تحول البعض من جامعى قمامة وروبابيكيا الى تجار فى عشية وضحاها .. كانت العاصمة مفتوحة على العالم وكل شىء موجود ومستورد ورخيص ايضا .. لم تستهويه فى العاصمة بيروت آنذآك سوى رائحة التفاح الفائحة من أول سوق الخضار الى نهايته ، كانت أقصى أمنياته أن يعود لمصر بص

    التعديل الأخير تم بواسطة صلاح م ع ابوشنب ; 21/04/2011 الساعة 11:10 PM

  2. #2
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    04/01/2012
    المشاركات
    197
    معدل تقييم المستوى
    13

    افتراضي رد: رواية بيوت من رمال لصلاح ابوشنب

    سيدي الفاضل قصة جميلة جدا ..ربما لأني من سكان السعودية شعرت جيدا بمعاناة ذلك المصري الحالم ... هيا سيدي أكمل القصة دمت بخير وألق


  3. #3
    مشرف المنتدى الإسباني الصورة الرمزية صلاح م ع ابوشنب
    تاريخ التسجيل
    28/08/2007
    المشاركات
    1,241
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: رواية بيوت من رمال لصلاح ابوشنب

    شكرا على مرورك وإن شاء الله سوف اتابع نشر باقى الحلقات علما بأن الرواية فى الاسواق حاليا ولا سيما فى مكتبات الاسكندرية


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •