.. لعن الله من أيقظها
ا
تلك هي الفتنة..
بقلم : د. محمود حمد سليمان
.. والفتنة أشد من القتل.. والفتنة أكبر من القتل..
ذلك لأنها تطيح بالعقول.. وتعمي البصائر.. وتُفقِد الإنسان توازنه.. بل وتُدخله في دوّامة غريبةٍ.. فيصبح غريباً, ولا عجب أن يرى ما ليس موجوداً, ويسمع ما لم يقله أحد.. أو يصدق ما لا يقبله عقل.
والفتنة أشد من القتل وأكبر.. لأنها تُدخل مجموعات كبيرة من البشر في عالم التهيؤات والأباطيل والهواجس فيصير معها الصديق عدواً, والعدو صديقاً.. وتتحول فيها كتل بشرية غفيرة الى ما يشبه قطعان المواشي التي, بسذاجتها, تركض وراء الذئاب الماكرة, منحرفة عن أهدافها وحقوقها ومصالحها.
والفتنة أشد من القتل وأكبر.. لأنها تمزق المجتمع.. وتضرب وحدة الأمة.. وتبعثر طاقات الناس وتشل إراداتهم.. ناهيك عن أنها تعملق الأقزام وتقزِّم العمالقة, وتهيء المناخ المؤاتي للأعداء والانتهازيين والجبناء وأصحاب النفوس الدنيئة والرخيصة.
ولنا من أمثال التاريخ عبر ودروس ومواعظ.. ( فذكّر إن نفعت الذكرى ).
ففي معركة «الجمل» التي نتجت عن فتنة عاصفة, تواجَهَ فيها الأخ مع أخيه, والجار مع جاره, والصديق مع صديقه, إذ في جيش الامام علي, كرّمَ الله وجهه, ابنا أبي بكر الصديق: محمد وعبد الرحمن, رضي الله عنهم, وفي الطرف الآخر شقيقتهما السيدة عائشة زوج النبي , تقود المعركة ومعها طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام, وهما من العشرة المبشرين بالجنة.. وتلك هي «الفتنة» تجعل كل «معصوفٍ به» يتوهم أنه على حق وأن الآخر على باطل..
ولننظر الى من لم تعصف به الفتنة ولم تطح بعقله وتوازنه وبصيرته.. ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب. فقد جمع القتلى من الطرفين وصلى عليهم معاً صلاة الجنازة ودفنهم في مقبرة واحدة.. ودعا لهم دعاءً واحداً دون تفرقة أو تمييز أو تحزّب أو تعصب. وكذلك فعل بعد معركة «النهروان» مع «الخوارج» الذين جاؤوا لقتله شاهرين سيوفهم, وقد فعلوها فيما بعد, لتبقى جريمتهم وفتنتهم سارية المفعول عبر التاريخ..
ولننظر اليه كيف جسّد لنا روحية الإيمان الحقيقي وعقلية المؤمن الحضاري الذي ركل الدنيا بقدمه بكل ما فيها من أهواء وشهوات ومناصب وعصبيات.. فقد جاءه أحدهم وسأله عن الخوارج وقتلاهم: « يا أمير المؤمنين, أهؤلاء كفّار؟؟ فقال: لا. هؤلاء يقولون لا اله الا الله. فقال الرجل: فهل هم منافقون؟؟ فقال: لا. المنافقون لا يذكرون الله الا قليلاً.. وهؤلاء يذكرون الله كثيراً. فقال السائل: فمن هم اذاً؟؟ فقال الامام: إنهم إخواننا بغوا علينا.»
فما أحوجنا في هذه الأيام, الى تلك العقلية الحضارية الناتجة عن فهم عميق للدين ومفاهيمه, وللإيمان ومقتضياته, وللمجتمع ومصالحه, وللأمة وأحلامها وآمالها وأمانيها..
ما أحوجنا في هذه الأيام الى معرفة أن التدين والجهل اذا التقيا فثمرة تزاوجهما «التعصب الأعمى» والمزيد من إطلاق الغرائز والعصبيات والفتن والحروب والشرور..
ما أحوجنا في هذه الأيام الى إدارك أن الفتن لا تموت.. غير أنها تنام.
فلعن الله من أيقظها.. كما «لعن الله قوماً ضاع الحق بينهم».
د. محمود حمد سليمان
(عكار . لبنان)