أفكار متقدّمة للشيخ محمد رشيد رضا تكشف عنها إحدى وثائق السياسة السرية البريطانية!
د. محمد وقيع الله
Waqialla1234@yahoo.com
تقبع أهم وثائق التاريخ السياسي والدبلوماسي الحديث لكثير من دول العالم، شأن الهند والصين، واستراليا، وتوابعها، ومعظم دول العالم العربي في سجلات الوثائق البريطانية التي قد يسمح بالإطلاع عليها بمرور ثلاثين عاماً ولقد كانت المدة أطول من ذلك (خمسين عاماً) إلا أنها خفضت كذلك في1967م.
ولكن مع ذلك سيظل التاريخ السياسي والدبلوماسي لتلك الدول ناقصاً لفترة طويلة مقبلة، لأن مرور الثلاثين عاماً لا يعني السماح اوتوماتيكياً بالإطلاع على تلك الوثائق فبعضها يحفظ لفترات أطول وبعضها قد لا يسمح برؤيته مطلقاً إذا كان من شأنه أن يشين مواقف بريطانيا التاريخية بصورة صارخة أو يدين من يهمها شأنهم بنفس القدر.
ويلاحظ إن معظم الوثائق التي أفرج عنها أخيراً، وهي عشرات الآلاف من الأوراق السرية، لا تتمتع بحساسية خاصة، بسبب رحيل كل الأفراد الذين كتبوها أو الذين كانت لهم صلة ما بها، وبسبب عدم تعرّض تلك الوثائق بإدانات فاضحة للدبلوماسية الاستعمارية البريطانية. فالوثائق تتحدّث في جلها عن السياسة الإستعمارية البريطانية وكأنها كانت سياسة أخلاقية تهدف إلى الإعمار والأمن، ونادراً ما تستخدم وسائل البطش والتنكيل وسفك الدماء.
السلبية الوحيدة التي تبرزها تلك الوثائق للسياسة البريطانية هي أنها كانت تستخدم أسلوب التفريق الشهير (فرق تسد) وتحرِّض الأفراد والدول بعضها على بعض، حتى لا يتحالفون ضدها في النهاية، وهو أسلوب لا تتنكر له، ولا تنكره بريطانيا حتى اليوم، باعتباره من الأساليب اللازمة لنجاح العمل السياسي الخارجي.
وثيقة مضيئة:
وفي هذا الإطار يمكن لمن يقلِّب في تلك الوثائق أن يطلع على أكداس من الفضائح، ويتعرَّف على أسرار وخلفيات كثير من أحداث ومؤامرات التاريخ الحديث، ثم يعود ليفهم أقدار كثير من الساسة ورجال التاريخ على الوجه الصحيح. لكن بعض تلك الوثائق يشرِّف أصحابها كثيراً، ولو كانوا من ضمن الأحياء اليوم لسرهم أن يماط اللثام عن أسرارهم، ولكنهم وقد ماتوا فحسبهم أنهم تركوا وراءهم تاريخاً ناصعاً ونظيفاً وشريفاً.
أحد هؤلاء هو المجاهد القومي الإسلامي الضخم، محمد رشيد رضا القلموني، ونسبته الأخيرة هي إلى قرية (القلمون)، من ضواحي مدينة طرابلس وهو في الأصل عراقي، وفي المولد والنشأة لبناني، ولكنه عاش معظم سني نضجه ونضاله وعطائه بمصر، وارتبط من هناك بثورات العرب جميعاً، وساندها بكل وسيلة كانت تحت يديه، فهو بذلك الاعتبار ممثل للعالم العربي أجمع، وإن كان أثره قد جاوز العالم العربي إلى آفاق الهند واندونيسيا.
كان يصدر مجلة فلسفية نهضوية تدعى (المنار) تصل إلى مختلف تلك الآفاق، يحيي بها صيحات جمال الدين الأفغاني، ودعوة الإمام الأعظم محمد عبده، ثم مارس العمل السياسي الاستشاري بعد وفاة هذا الأخير والتقى باللورد مارك سايكس صاحب الشأن في اتفاقية سايكس بيكو المشهورة، حيث زوَّده بنصح كثير متجرِّد لم يتآمر فيه على أحد، ولم يكن فيه محابياً لشعب عربي ضد شعب عربي آخر، إنما هدف إلى تحقيق المصالح الكبرى بجميع تلك الشعوب.
وبينما كانت معظم الوثائق المفرج عنها تتحدَّث عن نزاعات صغيرة، بعضها حول الحدود، وبعضها يتعلَّق بقرى أو مزارع أو شحنات بضائع، إلا أن وثيقة محمد رشيد رضا كانت تتجاوز ذلك كله، وتتخذ وحدة تحليل كبرى، ونظرة مستقبلية استراتيجية للشؤون العالمية، ولشؤون العالم العربي والإسلامي المندرجة في ذلك الإطار.
ففي لقائه مع اللورد سايكس قدَّم محمد رشيد رضا خمس عشرة قضية متشابكة جعلها مقدمات للنتيجة التي رتبها عليها، وبيَّن فيها غوائل الإستيلاء على العراق وسوريا في نظر العالم الإسلامي، ومسألة حماية مصر، ومسألة اتهام انجلترا بالعزم على إزالة الحكم الإسلامي من الأرض، وسعي ألمانيا للإستفادة من العالم الإسلامي باستمالته إليها وتنفيره من الإنجليز.
اضمحلال الدول العظمى:
النقطة الأخيرة لم تكن برزت بعد في ذلك الأوان، ولكنها تفاقمت فيما بعد بما أزعج بريطانيا غاية الإزعاج، ويكفي أن نذكر هنا ما حدث من لقاءات وتحالفات بين أقطاب الوطنية العرب الأبطال، شأن عزيز المصري، والحاج أمين الحسيني وبين الألمان، ولكن بريطانيا في غمرة زهوها بانتصارها على ألمانيا، في الحرب العالمية الأولى، لم تكن ترى ملامح ولا بوادر ذلك الخطر، بل إن اللورد سايكس إتهم رشيد رضا بالمغالاة في الخيال الجامح، وتوقع المستحيلات، ووصفه في وثيقة منفصلة رفعها إلى الحكومة البريطانية بأنه شخص دمث الأخلاق وودود المسلك ولكنه في تفكيره السياسي متغطرس، ويستحق أن يُردع بقوة!
كان سايكس يريده سياسياً مساوماً ممن يجيدون أعمال المساومة، ولكنه وجده صلباً صلداً لا يجامل بريطانيا العظمى، التي إزدادت عظمة ومجداً بانتصارها في الحرب العالمية الأولى. ولقد انتبه رشيد رضا بثاقب وعيه إلى أن بريطانيا ستنتهي عن قريب إلى درب التدهور عقب ذلك الانتصار، وقد حدث ذلك بالفعل عقب الحرب العالمية الثانية، وإن كان رشيد رضا قد مات في 1938م قبل أن يرى بعينيه صدق نبوءته.
لقد ساق رشيد رضا عدة أسباب قال إنها ستقود إلى اضمحلال بريطانيا كقوة عظمى، وهي لا تختلف كثيراً في جوهرها عما يسمى اليوم بنظريات مدرسة انتقال القوة، لروبرت غلبن، ودي موسيكتيا، وبليني، وديفيد سنجر. وهي النظريات التي صاغ على ضوئها بول كيندي كتابه الشهير عن اضمحلال القوة العالمية للولايات المتحدة الأميركية.
لربما اهتدى رشيد رضا لتلك النظرية من خلال استقرائه الخاص للأحداث، أو لربما استهدى بقراءته لابن خلدون في حديثه عن قيام وسقوط الدول، ولكنه في الحالين كان رائداً ورشيداً وشجاعاً، عندما طبّق تلك النظرية على بريطانيا التي لم تكن تغيب عنها الشمس، وكان الناس يتغنون بعظمتها ومجدها الصاعدين، ويتوافدون ويتهافتون على تهنئتها بعد الحرب وتقديم فروض الولاء لها، ولكن رشيد رضا مع ذلك كان يتنبأ ويذيع نبوءته عن تدهورها الوشيك.
تحدث رشيد رضا بعنوان: (عاقبة حل المسألة الشرقية) على الإنجليز قائلاً: إن التنكر لوعد اتفاقية سايكس بيكو باستغلال العرب، سيصيب بريطانيا بخسارة عظمى، وسيكسبها عداوة ثلاثمائة مليون ونيف من المسلمين (تعداد سكان العالم الإسلامي المظنون حينذاك!)، وسيثير لها القلاقل والثورات في مستعمراتها. وتحدث عن أن ألمانيا ستنهض من جديد لأن قوتها الحربية إذا ضعفت فهي أقوى أمم الأرض في العلوم والفنون والنظام، وذكر أن المانيا ستتحالف مع روسيا في المستقبل، (وهو ما حدث فعلاً لفترة من الزمان). وذكر أن الشعوب اللاتينية في أوروبا تتربص ببريطانيا الدوائر (فلا يستهان بضعفها الآن كما لا يستهان بضعف المسلمين وإن كان أشد من ضعفها)، وقد حدث فعلاً فيما بعد انشقاق فرنسا المعروف عن كتلة بريطانيا السياسية والعسكرية.
من السيادة إلى التبعية:
وما هو أبرع من ذلك في نبوءات رشيد رضا يتجلى في حديثه عن أن الولايات المتحدة ستخلف بريطانيا في قيادة العالم، فهي كما قال ماضية: «في منافسة انجلترا في التجارة ومباراتها في القوة البحرية وانجلترا مضطرة إلى مصادقتها فلا يمكن أن تضع في طريقها العقبات والعواثير مهما تألمت من تفضيل الشعوب الكارهين لها لبضائع الأميركان على بضائع الإنجليز، وهذه قوة ليس لها جهة ضعف كما قبلها»، فهذه نبوءة قد صدقت أيضاً، ويلاحظ أن أطرف ما فيها هو قول رشيد رضا إن بريطانيا ستكون مضطرة إلى مصادقة الولايات المتحدة، بحيث تصوّت لها اوتوماتيكياً في مجلس الأمن، حتى ولو لم تكن مقتنعة بمشروع القرار الأميركي كما نرى هذه الأيام!!
وفي ثلاث نقاط متتالية ركز رشيد رضا على أن ثمة متاعب جمة خطيرة ستزلزل المركز الاقتصادي لبريطانيا، ذلك أن مستعمراتها متقدمة إلى انقلاب اجتماعي جديد «تنمية اجتماعية واقتصادية بالمصطلح الحديث»، وأن بريطانيا ليست مؤهله للتصدي لذلك، يضاف إلى ذلك مشكلة إيرلندا وتطلعاتها في مثل تلك التنمية، أما: «احتلال بريطانيا مع حلفائها لبعض بلاد الجرمان، ومراقبة تنفيد شروط الصلح، واحتلال بلاد أخرى من أعدائها لمثل ذلك، ومساعدة خصوم البلشفك من الروس بالمال والرجال، كل ذلك جهاد كبير، تحمل البلاد البريطانية عبء انتقاله، وهو العبء الذي ناءت به بريطانيا أخيراً.. كما تنبأ الشيخ رشيد في عام 1919م، وكما رأى من بعد منظر العلاقات الدولية الكبير د. روبرت غلبن الذي صاغ نظرية أعباء المستعمرات بعد أن تأمل لعدة سنوات فيما حدث لبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية!
لم يكن غرضي في استعراض تلك الوثيقة المطولة لرشيد رضا أن أثبت تفوقه في تحليل العلاقات الدولية، وإن كان ذلك قد إتضح جلياً في ثنايا وثيقته هذه التي أرشحها لأساتذة العلاقات الدولية العرب، لتدريسها وتحليلها في مساقات الدراسات العليا عند دراسة موضوعات توازن واختلال وانتقال القوى.. ولكن مع ذلك فلم يكن ذلك هو غرضي كما قلت. إنما كان الغرض هو إبراز وإثبات صورة مشرقة من التاريخ السياسي العربي الحديث. إن تراث الأمة العربية قديماً وحديثاً مملوء بالصورة الرائعة الزاهية مثل هذه، وهي صور أولى بالإهتمام والتدارس من غيرها، ولكن الناس في زمان توالي الهزائم والإحباطات يولعون بنبش كل دميم من صحفات الماضي مصورين التاريخ الحديث للأمة العربية والإسلامية، وكأنه كان صفحات متصلة من الإستخذاء والعار وهو لم يكن كذلك بإطلاق!
الأخوان المسلمون
ما بين التصوف والسياسة ... وبالعكس
عثرنا على نسخة خطية من الرسالة الاولى التي سطرها حسن البنا يشرح فيها مبادىء دعوة الاخوان المسلمين.. وارجو ان تتكرم (الصحافة) بنشر نص هذه الرسالة بخط حسن البنا، ليضاهي القراء محتوياتها بواقع دعوة الاخوان اليوم.
وفي هذا المقال نريد ان نلقي نظرة على تلك الظاهرة المحيرة في تاريخ نمو الحركات الآيديولوجية، حيث يقطع الكثير منها أشواط النمو الاولى سريعا، ثم يتوقف عن السير، اويعود سيرته الاولى والى الاشواط الابتدائية ، ولا يتوقف ذلك على حضور القادة النظريين او غيابهم عن مدارج النمو، فبعض كبار المفكرين يصابون بالظاهرة ذاتها، وما اكثر ما ارتد مفكرون مبدعون الى طور التبسيط والدغمائية المتعصبة التي تذكّر بالدعاة النمطيين اكثر مما تذكر بالمبدعين التجاوزيين.
مأسسة العقائد:
عندما كتب زبيغنيو بيرزنسكي كتابه ا لتأصيلي العميق عن طلائع الثورة التِكْنِتْرونيَّة:
BETWEEN TWO AGES: AMERICA-S ROLE IN THE TECHNETRONIC ERA) الصادر عن دار بينجوين في 1970م،
سجل توقعاته عن التأثيرات السياسية، التي ستنجم عن تلك الثورة، التي نشهد ذروتها الآن في عصر الانترنت، تحدث، بيرزنسكي عما سماه بـ (عصر الايمان المتطاير) وعما سماه بـ: اضطراب العقائد الممأسسة)، و(الهروب من العقل)، وذكر أن المعتقدات المؤسسية التي نتجت عن اندماج الأفكار بالمؤسسات، لم تعد تبدو حيوية ومتسقة كما كانت، وان العلاقة بين الافكار والمؤسسات غدت تتصف بالاضطراب والتناقض: فالمؤسسات تقاوم الأفكار خشية أن تؤدي إلى التغيير الذي يمكن أن ينسف تلك المؤسسات، اما اصحاب الافكار فقد عادوا ليتمردوا على تلك المؤسسات، لكثرة ما اخذت تفرض عليهم من الحرفيات والقيود الفكرية.
هل كان ذلك القانون خاصا فقط بالحضارة الغربية؟! كلا فإن برزنسكي نفسه ناقش في كتابه نماذج غير غربية، لا نريد ان نتعرض لها الآن، وانما نستصحب نظرية برزنسكي لتفسر لنا عملية المأسسة العقائدية، التي تتم الآن على أساس رسائل حسن البنا الاولى، والتي يجري من اجل انجازها، تجاوز فكر سيد قطب، والعمل على العودة بالدعوة الاسلامية الى عهد رسالة (التعاليم) لحسن البنا، وهي الرسالة التي اصبحت (متنا)، وضع عليه سعيد حوى حاشية ضافية، ويضع القرضاوي عليه الآن حواشي اخرى أطول.
كان حسن البنا، نفسه صاحب المتن وصاحب الدعوة الاخوانية نفسها، (اكتوبر 1906م، فبراير 1949) تطورا لشيوخ من لبنان ، ومصر، والجزائر. فمن لبنان تلقى اعمق التأثير من الامام محمد رشيد رضا القلموني، ومن مصر تلقى تأثيره من الامام محمد عبده، ومن الجزائر تأثر بالامام عبد الحميد بن باديس، ومزج مجاهدات الجميع في حركته التي كان قد اتخذ لها اسما صوفيا هو اسم (الاخوان المسلمين). ولكنه استطاع خلال فترة حياته الدعوية القصيرة ان يقطع اشواطا طويلة بتلك الحركة، وظل مسيره الخاطف ذاك مبعث دهشة كل من تولوا دراسة حركته ابتداءً بالبروفيسور الفلسطيني اسحاق موسى الحسيني، وانتهاءً بالبروفيسور الاميريكي روبرت متشل، وكلاهما أعد دراسة أكاديمية تأسيسية ذات مرجعية عن تاريخ الحركة، وانتهاءً بكل من تصدى للكتابة في الموضوع من بعد، وهي كتابات تتكاثر الآن، وان كان اقلها هو ما تكتبه اقلام الاخوان انفسهم.
أمنية غامضة:
في تسجيله الطريف لسيرته الذاتية، ذكر حسن البنا أن أمنيته في الحياة كانت أن يصبح استاذا بالمرحلة الابتدائية، وواعظا بالامسيات. وقد حقق تلك الامنية، اذ اصبح استاذا بالاسماعيلية، وواعظا بمقاهيها، يلاحق بها عمال شركة قناة السويس ممن لا يرتادون المساجد، ولكنه لم يفصح عن انه كان يملك تصورا واضحا لإنشاء حركة سياسية،، او حتى حركة دينية ذات مناهج عملية جديدة. ويبدو من تأمل تلك المذكرات الذاتية انه كان يطمح إلى أن يكون واعظا ازهريا بنزعة صوفية. والغريب ان اعداد حسن البنا الاولى لم يكن ازهريا، ولا صوفيا، اذ التحق بالمدارس المدنية ، لا الازهرية وكان ابوه شيخا سلفيا من كبار ائمة وسادة الحنابلة، وهو الذي تصدى في العصر الحديث، لإعادة تصنيف وفهرسة الموسوعة الحديثية والفقهية المعروفة بمسجد الامام احمد بن حنبل ، وقد كتب الفتى الصغير حسن البنا سيرة وصفية للامام احمد، الحقت بمقدمة ذلك التصنيف .
منشور البنا الأول:
في فترة لاحقة تعرض حسن البنا ومن خارج محيط الاسرة، لتأثير مربٍ صوفي من السادة الحصافية، انخرط معه في الطريقة ، وكاد ان يصبح شيخا من شيوخها يسهم في تسليك المريدين. وقد اتضح الاثر الصوفي بارزا في المنشور الاول الذي اصدره حسن البنا ووقعه باسمه ولقبه (خادم مبادىء الاخوان المسلمين)، وهو المنشور الذي يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي انه تولى معه مراجعته وصياغته، وفي ذلك المنشور يقتبس حسن البنا، روح الامام ابي حامد الغزالي صاحب (إحياء علوم الدين)، بل ويقتبس بعض نصوص رسالته الوعظية الشهيرة المعروفة بعنوان (أيها الولد) .. إلا ان الاثر الصوفي لم يستولَ على حسن البنا بالكامل .. اذ اخذ يتباعد عنه تدريجيا، ويتزود بزاد سلفي، وضعه في النهاية في نقطة الوسط تماما ما بين الطائفتين: المتصوفة والمتسلّفة وان كان قد عجز عن ان يأخذ معه اتباعه جميعا الى تلك النقطة الوسط، فأصبحوا يتناثرون - حتى اليوم - ما بين المقامات الصوفية والسلفية، وهنا يمكن ان يرتفع السؤال مرة ثانية: هل كان حسن البنا واعيا بما كان يفعل؟! حركة اسلامية كبرى، تخرج من عباءتها في المستقبل حركات اسلامية صغرى كثيرة، يصعب احصاؤها والتعرف على مناهجها بدقة؟!
ولكن تصعب الاجابة ايضا بـ (لا) لأنها تنطوي على مجاسرة ومخاطرة اذ انه لا يوجد دليل واضح يسندها.
محاولات الضبط الفكري:
في لحظات الاتساع والتطور حاول حسن البنا، ان يضبط امره بأصول فكرية وعقدية سميت بـ (الاصول العشرين)، وهي رسالة تشبه رسائل شيخ الاسلام ابن تيمية، ورسائل حركات الاصلاح الديني فيما بعد القرن الثامن الهجري. وقد درج كثير من الاخوان على تلقي تلك الرسالة، باسلوب شبه تلقيني حتى اني استمعت مرة الى شيخ من أكابرهم جاء الى مؤتمر علمي، بأمريكا وذكر في رد طويل غير مباشر، على سؤال قصير مباشر، عن امكانية تنقيح وتطوير تلك الرسالة فذكر ان ذلك امر في خارج حيز الامكان وان الرسالة في ذاتها لا تحتاج ولا تقبل اي اضافة او حذف!
دُهِش مئات الحاضرين لذلك الرد، لأن حسن البنا مات عن اثنين واربعين عاما لا غير ومع ذلك يَدَّعى له البعض النضج الثقافي الكامل، والاقتدار الفكري المطلق، في امور التنظير الديني والسياسي، صحيح ان كثيرا من قادة التحولات الفكرية والسياسية والتاريخية الكبرى، شأن ترزنسكي وماو تسي تونغ، ومحمد اقبال ، وموشى دايان، ومارتن لوثر كنج ، ومالكولم و نلسون مانديلا وغيرهم، تكاملت افكارهم وهم دون الاربعين، ولكن هؤلاء كما كانوا رجال مراحل محددة انتهت تقريبا ، لا رجال مراحل متتالية او مرحلة واحدة طويلة مفتوحة كمرحلة حركة الاخوان المسلمين التي لم تحقق اهدافها الكاملة حتى الآن، وبالتالي يخشى عليها ان تنتقل مباشرة من طور الشباب الى طور الشيخوخة من دون المرور بطور النضج!
الوهج الجديد:
وقد اختلطت افكار حسن البنا فيما بعد فأفكار سيد قطب، وهي افكار تختلف عنها كثيرا في المنطلقات والنتائج... وقد كان سيد قطب بوهج شخصيته وثقافته الكبيرة، نجما ثاقبا ، دخل سماء الحركة، واثار غيرة بعض منظّريها وشيوخها الكبار، ولكنه كان - وما يزال - قادرا على التأثير الزلزالي العميق المدهش..
ومن مراجعة ادبيات الاخوان الرسمية الحديثة يتضح انهم ما يزالون حريصين على محاصرة سيد قطب، وعدم تبني اطروحاته، التي لا يستسيغونها ، وان كانوا لا يستطيعون التصريح بذلك. ومهما يكن فإن اختراق سيد قطب للحركة ، احدث زجة كبيرة في اوساطها ، وادى الى حدوث خلط كبير في المنهج، ما بين ثوريته العارمة، واصلاحية حسن البنا الهادئة.
غير ان مسألة ضبط المنهج وموازنة الافكار، وتحديد الموقف السياسي ، وتفصيل البرامج الاصلاحية ، او الثورية، مسائل تحتاج كلها الى عناية خاصة، ولكنها مع ذلك اصبحت مع مرور الوقت مسألة مؤجلة، او مهملة، استعاضت بالشعار التعميمي الفضفاض المنتشر حاليا وهو شعار (الاسلام هو الحل)، وهو شعار يعطل عملية التفكير التفصيلي في الواقع، بالاحالة الى المثاليات المطلقة، وهو وان كان شعارا صالحا لجذب الجماهير، الا انه يضع الحركة في متاهات نظرية، لا سيما ان الحركة اصبحت الآن تشبه الحركة السلفية من جانب، وتشبه جماعة التبليغ من جانب آخر ، وتكاد تكون منقطعة عن الفعل السياسي، بالرغم من ان ابرز نقد يوجه اليها هو انها حركة تسييس للإسلام ، او انها ابرز حركات الاسلام السياسي، وهو الآخر نقد تعميمي ، يصعب قبول محتواه.
معايير النجاح:
ان نجاحات الاخوان في اكتساب الشباب، وتعميق تربيتهم دينيا، قد تغريهم بإهمال امر المنهج، وتدفعهم للإغراق في (الطوباوية) والأمل الحالم في الوصول الى الحكم، في يوم سعيد من ايام المستقبل، حيث يصبح الاسلام عندها تلقائيا هو الحل.. يتخذ ذلك، المنهج الحركي من مسألة التربية الدينية، معيارا، للنجاح، وهو معيار صوفي في الحقيقة وقد يرجع بالاخوان الى عهد الفترة الاولى من تاريخهم، وهي الفترة التي اسس لها المنشور الاول لحسن البنا يعني الرجوع الى مرحلة سابقة، من مراحل النمو والتطور ، وهو يؤدي كذلك الى مزيد من التجاهل والاهمال لمسألة ضبط وتحديث وتفصيل المنهج الذي تشتد اليه الحاجة الآن.
ان الاسلام عندما ساد قديما، لم تكن المجتمعات الانسانية قد انخرطت بعد في مؤسسات حياتية بالغة التعقيد كما هو الحال اليوم. معظم مؤسسات الحضارة الاسلامية (التاريخية) نشأت في ظل سيادة المنهج الاسلامي، اي انها نشأت بواسطة المسلمين، وتوجيهات الدين. وهذا امر خلاف الواقع اليوم ذ اذ ان اسس التمدن الانساني الحديث، صاغتها معطيات الحضارة الغربية، وهذه المؤسسات لا يمكن تدميرها ضربة لازب ، كما لا يمكن تغييرها او اسلمتها ضربة لازب، فهذا تحد ضخم، اذ ان كل اساس من تلك الاسس يحتاج الى تحليل عميق، وعلاج طويل، يتطلب ان يتوفر له اختصاصيون راسخون في العلم الاجتماعي، والقرآن ، ولا يمكن ان ينهض بتوفيره الدعاة ، التصميميون مهما ازداد زادهم من الاخلاص لشعار (الاسلام هو الحل).
ان وصول الاخوان الى الحكم، بغير توفير تفاصيل كثيرة لشعار (الاسلام هو الحل)، سيؤدي الى تعقيد احوالهم اكثر مما هي معقدة الآن، وحري بهم ان يرفعوا الآن شعار (التفكير هو الحل) . فهم في حاجة الى تفكير عميق في اطار عصري اسلامي، وبالجملة فهم في حاجة ، اكيدة الى ان يكونوا مفكرين مثلما هم دعاة...!
منقول عن موقع سودانايل . كوم
المفضلات