بعد كتابة رواية " قال محمد الفحام" و فوزها بالجائزة الأولي في مسابقة د. سعاد الصباح للعام 1989، طالبني الزملاء بكتابة تكملة لمحمد الفحام و قد كتبت الكاف و النون في العام 1992 و لكني فقدت أصل الرواية في ظروف غامضة و ها أنا أعيد بعض أوراقي . و للحديث بقية حيث أن له شجون تسكنني الآن .

الكاف و النون

قال آخر المحققين أن الحاج عبد الخالق كان طوافاً في البلاد يتقلب فيها و تتقلب فيه ، و كان يسلك سبل المحبة يسقي الناس فلا يظمأون ، و كان يطفئ نار الشك ببرد اليقين ، و هو من عائلة كبيرة في جنوب النهر لكنه في صباه نادى عليه من ينادي فخرج ببغلته و ثوبه الخشن و طاف في أرض الله الواسعة ترفعه بلاد و تحطه بلاد حتى أناخت بغلته في بقعة مباركة علي شاطئ النهر الحي ، و أُذن له بالنعاس حينا من الدهر حتى اسمر وجهه و سكعته الشمس في جانبه الأيمن فنشفت ضلوعه اليمنى و انقلب علي الجانب الأيسر – و كان لم يزل طرياً – و خاف مما بين رجليه فستره ببعض أوراق التوت و قام يجرب حظه في السير علي قدمين مختبراً عروق رجليه فأحس بحرارة الرمل تخالط أصابع رجله اليمنى و رطوبة الطين تداعب أصابع رجله اليسرى فاتخذ غصناً من السنط عصا يتكئ عليها حين أيقن أن الدروب مليئة بالأحجار و الأشواك و الوحل ، ....... أنس قليلاً بسهول الأرض و كائنات السماء و هي تصطف محلقة فوق رأسه.
و لما جف حلقه و غيض ماء جوفه أوشك جانبه الأيسر أن يصبح حجراً انتفض إلي شاطئ النهر و غرف بيديه فامتلأ فمه و جرى الماء في عروق جسده حتى شعر ببرودة جانبه الأيسر و حرارة ضلعه الأيمن ثم حفر بعصاه حفرة و مدد رجليه داخلها فأخذته سنة من النوم فأغمض جفنه و حدقت عيون قلبه حتى أطل الثلث الأخير من الليل علي شباك الكون المليء بالنجوم فاستيقظ جفنه و اهتز جسده و أخذته الزلزلة فلا هو هو ، و لا هو غيره حتى استفاق و هو يشير بإصبعه و نزلت علي لسانه نار الحقيقة فاحترقت شفتاه و قال " هذا بيتي " و حددت السهام النافرة من عينيه حدود البيت من الجهات الست
قال محقق آخر أن الحاج عبد الخالق كان عبداً حبشياً خطفه الخاطفون من عائلته في جنوب النهر الحي و هو صبي .... لكنه كان قد تعلم الأسماء ثم عرضها على من خطفه، و قد ورث بنوه هذه الأسماء... و كان أشعث الشعر000 يساقط من رأسه القمل ..... عريض الصدر ينفذ شعر صدره من كل قميص لبسه 000 فسر الناظرين.... كان إذا حط كفه علي أعتي الرجال رخا .... تعلم أن يأكل من فوق رأسه فكان يقطف الثمر من أعلى الشجر و يقطع بأسنانه الحادة البيضاء ما كان طرياً و يفرك بأصابعه ما كان خشناً.... لما نأت القطوف و علت للسماء فروع الأشجار فرح فرحاً و مات موتاً.... إذ كيف يتطاول ليتناول .... فهز الشجرة فحدفت له ما تيسر و إذ تكاثرت كائنات الأرض لم يبق له إلا ما تعسر .... أعجزته الحيلة ضم ذراعيه إلي جنبه و انكمش داخل جلده فوقفت علي رأسه الغربان ثم دخلت جوفه – وجدنه فراغاً خاملاً و كان يوماً و كانت ليلة.
و لما تساقط شعر رأسه و بانت الفروة جرداء و نفرت عروق وجهه و تشققت قدماه هاجت عصافير الحياة عليه فقرصته و ملأت جوفه ضجيجاً فأخذ يهشها بعصاه و لما يأس قال لأحفر حفرتي بعصاي و نظر إلي بيته الذي لم يكن بعد ، و إلي جهاته الست .
و هز طوله و لما اتسعت حدقة عينه اليمني بان الثمر و اتسعت حدقة عينه اليسرى فرأي رجليه و ذراعيه و أشار بعصاه لأعلى هنا مطعمي و خبط الأرض و قال .......... لا يمكن أن يكون هنا......... أخذه الحنين للسماء و لم يأخذه للأرض ........... استند علي العصا و تحركت قدماه و استطال جسده فعلق ذراعيه علي فرع الشجرة و قبض عليه كما لم يقبض من قبل......... حملته فروع الشجرة الثمانية فرأى الأرض تحته و الثمر بين يديه و ركن جثته الممتلئة بالفرح فوق عرش شجرته تداعبها الرياح و ندى الصباح بينما كانت عينه هناك بعيداً معلقة في سقف السماء... رفعت كائنات الليل خيمتها و نشرت طيور النهار أجنحتها فرأى بيته و رأى الغلمان حوله.......... و تنفس الصبح فهز طوله و طفق يجمع من فروع الأشجار ما يبس و أقام أعمدة بيته الأربعة فقام الكون من غفوته و قُدحت نار الحياة و هوت الطيور من كل واد ناشرة ريشها علي الأعمدة و لما رأى طيره تبسم ثم استدار و كان وجهه للماء......... ضحك فهزت ضحكته الجليلة أوراق الأشجار من حوله فتساقطت0000حملتها الريح حتى فرشت ارض بيته ........ و طاف عليه طائف فألقى تحيته و حملاً من الحطب فكان سقف البيت و كان الليل ....... ضاقت عيناه عن الرؤية فقام من رقدته و فتح كوة في السقف فاتسعت حدقته و بان له عقله ثم هوت إليه الكائنات من كل فج عميق ليشهدوا البيت الجديد.
قال محقق آخر أن الحاج عبد الخالق كان يحفظ الكرامات و يصون الأمانات و يردها إلي أهلها و لما ضاق به الحال في أرضه خرج علي حين فترة من الجوع إلي السوق البعيد و معه زوجته و استعان بربه ليقضي منافع للناس و نسى زوجته في ركن من أركان السوق و لما عاد لم يجدها فظل يبحث عنها أربعين يوماً بين الأشجار و الأحجار و الخيام و كائنات النهار و رجال الليل الذين تتشابه قسماتهم بقسماته و تنير سحنات وجوههم سحنات وجهه حتى مسه الوهن و اكتوى بنار فراقها و نار عهده بالحفاظ عليها ... و هم بالرحيل إلي بيته و هم بيته أن يضمه حين اجتمع عليه أهلها و اتهموه بالإهمال في حفظ الامانات ... اشتعلت نار مروءته و أقسم ألا يذوق طعم النوم حتى يلقاها و سار علي وجهه في البلاد مصفقاً بكفيه مطوحاً رأسه يمصمص شفتيه يبحث في السماء و يحفر في الأرض بعينيه الحمراء المسهدة و تكحلت جفونه بالدموع و كان أن ألقي عليه النعاس في بقعة من الوجود ثلاث ليال و لما أفاق وجدها عن شماله و لما أحس بألم في جنبه الأيسر ضمها إليه فاستراح و آوى إلي ركن شديد ثم توضأ و صلى و أقسم ألا يدخل علي أهلها إلا و هي فوق كتفه ... و لما وصل إلي ربوة بلدته ليهبط بالغائبة الحاضرة و يسلمها إلي أهلها خذلته و لم تعتل كتفه فقطع جريدة من نخلة عالية و هو واقف على الأرض و هم أن يضربها ... أشارت إلي عشة بجوار النهر .... فجلسا يستريحا من طي الأرض و كانت رغوة الغضب تصعد من صدره إلي فمه فتتأثر رغاءً حتى ابتل شعر صدره و كانت أعواد القش ساكنة فوق سطح الماء... و لما لم تجد حيلة في الكلام جمعت في حجرها من حصى الأرض و جلست علي بعد عود من الذرة الطويلة و بدأت تحدف الحصوات حصوة حصوة 00-00 و الرغاء حوله قد بلل ثيابه .... سقطت حصوتها الأولى فوق صدره و الثانية فوق بطنه فخف الرغاء و الثالثة علي وركه الأيمن و الأيسر و بين فخذيه و قطعت عقلة من عود الذرة فبدا الحاج عبد الخالق قصيراً و كسرت عود الذرة الذي بينهما .... .. تدحرجت مؤخرتها و رفعت الريح جلبابها فحطت ذيل الجلباب بين رجليها و هي تبتسم لكن رياح صدره رفعتها هذه المرة كثيراً فضحكت و التصقت به و تجلت فوق الأرض دوامات تثير الغبار و رفعت الحصوات من بين فخذيه و شدت شعره نافذة من شعر صدره فابتسم و ركنت رأسها علي كتفه و اشتبكت الساق بالساق فاندفعت كفه إلي ظهرها و سقطت أوراق التوت التي أحاط بها نفسه و تحركت أعواد القش مهتزة علي سطح الماء .. اشتعلت عروقه ... و مدت السماء كفها فاحتضنت جسد الأرض و توقفت الشمس و بدا الوجود منشغلاً صامتاً يراقب في حذر ... اهتزت الظلال و ارتعشت أعواد القش فوق سطح الماء و هي تجري لمستقر لها... تدلت كفه خلف ظهرها و تباطأت أعواد القش فوق الماء و فارقت كف السماء رويدا رويدا جسد الأرض التي غرقت و فاض عليها ماء الحياة و تحركت الطيور راقصة ... و سكن الماء ..... جاءت نعجة في الطريق فأطرق قليلاً و تنهد قال بصوت متقطع أقسمت أن أدخل بك علي كتفي فابتسمت و هي تعدل سروالها و أيقن أنها دفعت ثمن قسمه فانقسمت هواجسه بين الوفاء و الحنث بالعهد و رأى علي الشاطئ الأخر للنهر تيساً ينطح نعجة فالتف يمينا و رأى زوجاً من الحمام يتراقص .... التفت إليها و لم يتمكن من جمع الرجلين في نفسه... نكس رأسه و جمع بعض أوراق التوت حول بطنه فلم تستر الحشائش في أرضها... نكس رأسه و سار نصف عارٍ متخذاً عصاه مرشداً إلي بيته و كان من أمرها أن سارت خلفه و حولهما آلاف الكلاب تعزف بنباحها نشيد الفرح و موسيقى العودة.... و دخل إلي داره و رأسه عند صدره و قد تدلى لسانه.... بعث الرجال من رقدتهم متجهين إلى بيته المعمور و زغردت النسوة حتى مطلع الفجر و ظل حبيس الجدران حتى انقضي الصبح و استطالت الظلال و غربت الشمس و غربت عينه عن مستقبليه من الرجال وطفق يذكر بلسانه المتلعثم خطيئته الكبرى إذ أقسم و لم يفعل و أصبح الرجلين في قلبه أحدهما يبكي و الآخر يتراقص طرباً فلا هو هو و لا هو غيره ... و رفع كفه للسماء و تمتم و بكى و وقعت كفه في يد رجلاً يشبهه فتصافحا ثم رفع كفه للسماء فسمت رأسه المتدلية علي صدره حتى ركنت علي الجذر المتشقق خلفه
اهتز جسده قام من رعشته جرى من أمامه الأشداء حتى استقرت قدماه عند الربوة... حدق في عنقود النجوم و تحرك لسانه و جرى جرى الوحوش في البرية و تساقطت عن جسده أوراق التوت حتى أصبح في الخلاء ... خلى بنفسه حيناً .. و لما قامت روحه سحبت كفيه إلي طوقه فمزق آخر ما تبقى من ملابسه حتى الذيل و هرول بعيداً... الليل كان قد ابتلع في جوفه المتسع كائنات النهار و تراقصت صور البيوت بعيداً و تنزل الصمت علي كائنات الليل فبدت الدنيا قبراً معلقاً بين السماء و الأرض .... لما تثاءب الليل و أذنت الديوك و فضح النهار وجه البسيطة و انفرجت أخر ستائر الليل ...وجده الناس ممدداً و رأسه في اتجاه البيت و عينه في السماء ... غطت أوراق الأشجار جسده الذي توسط قوائم عرشه في البقعة المباركة... و كان جسده طرياً