تذوب في بحر الأمهات القادمات إلى محطة سيدي جابر . يحملن همومهن تقتات عليهن الإسكندرية . تأكلهن المدينة على الأرصفة. لا يريْن بحرها !
منزوية .. معصوبة الجبين . تتقاذف رأسها الأفكار تفلجها، تصدعها . تلقى بها في جُبّ مظلم ، يُولد به الليل ألف غول ، ينهش قلبها ولا ترى معه نهار شفاء يمنى البنت الكبرى..
- " ابنتك مصابة بلوكيميا الدم . في مرحلة متأخرة "
انغرست عبارة الطبيب في مستشفى أمراض الدم بالشاطبي في صدرها سكيناً.
- " يعنى إيه يا دكتور . البنت حاتموت . ده أربعتاشر سنة يا ضنايا يا بنتي . أنا سايبه الثلاثة الفاضلين " متشحططة " بيها بقالي شهر من البلد لهنا . يا ضنايا يا يمنى .. يا يُمنى يا يابنتي "
ألقى في وجهها ليلاً مظلماً .. غرقت في نهر دموعها المُرّة ، بعد رحلة التحاليل والعلاج الكيماوي .
- " فيه جمعية أصدقاء مرضى السرطان ممكن تساعدك زى الحالات التانية .. العلاج مُكلف جدا.. والرحمة من ربِّنا "
- " ربِّنا كبير يا دكتور "
بعدها بأقل من شهر زادت الأحوال سوءاً .. الأوان قد فات .
افترشت المعزيات أرض الغرفة الضيقة ، التي غطت نافذتها الوحيدة ستارة من قطعة قماش من الكتان بالية حيث لا يوجد تلفاز ولا مذياع .. أمام المنزل المتواضع تُحدثهن بدموعها .. وتحادث نفسها :
- " يُمنى دائما تذهب إلى منزل الجيران لمشاهدة ( التلفزيون ) .. تحب برامج الأطفال كلها .. تنظر للبنات فيها " أكنهم " مش بنات في عمرها ما عرفناش نوديها للمدرسة "
تجهش بالبكاء فتُمسك إحداهن بها :
« لها بيت بالجنة إن شاء الله مع والدها.. يُمنى لها بيت بالجـنة إن شاء الله يا أمّ يمنى »
يُقاطعنها :
" هذا أمر الله وقضاؤه .. الفاتحة على روح ( أبو ) يُمنى و يُمنى .. لازم تتقوى عشان التلات بنات يا أم يُمنى "
لا زالت تُطل من مخيلتها ذكريات طفولتها بمعالمها الباهتة.. تشتاق إليها ، صورتها لا تكاد تفارق عيناها .. تنتقل إلى الزاوية الأخرى من الغرفة .. صندوق خشبي صنعه بيده أبوها .. تفتحه .. تتناول مجموعة أساور بلاستيكية تشم رائحتهن .. وحذاء جديد « ده ليُمنى ( جابوهولها ) ابن حلال في المستشفى .. ماشفتهوش يا ضنايا .. قلت ( أشيلوليها ) للعيد لما تصحي.. أتعذبت كتير يا ضنايا .. قلبي موجوع يا ناس "
شرعت تبكي في حرقة ولوعة وأسى .. فقدت فلذة كبدها وهى لا تزال في عمر الأزاهير.. لا تنطفئ النار المستعرة في قلبها .. تبكي ماسكة متشبسة بفستانها . كانت تحب هذا الفستان رغم أنها لم يكن لديها غيره :
" قبل ما تموت بيومين طلبت عروسة "
- " يا امَّا نفسي في عروسة زى بنات الجيران ، (عندهم)الكثير من العرائس وماعندناش واحدة .. أنا عايزاها مش ليا .. أنا عايزة أفرَّح بيها خواتى يا امّا "
يرتفع صوت النسوة المعزيات بالبكاء على يُمنى وعلى حال والدتها المكلومة .. تحيا بدموع شقت لنفسها نهرين على وجنتِّيه ا على البنات من بعد أبيهن .. لا تدرى أم على موته .. لا تعرف له قبرا تخبرهن به في العراق . لم يَطلْ غيابه كثيراً بعد آخر خطاب استلمته منه :
" لا أستطيع يا أم يُمنى أغيّب عن بناتي .. خلى بالك من سعاد وبسمة وهند و يُمنى .. قلت نعملهم قِرشين يستَّروا بيهم وما عملناش حاجة .. حابعتلك اللي اكسبه .. ده آخر سنة وألملم حالي وأرجع ليكم .. ملحوظة بعتلكم مع الأسطى صادق النجار فساتين العيد الكبير للبنات وتلات ورقات دولار اللي قدرت أوفرهم .. دبرى الحال بيهم "
"الأسطى" صادق لم يأتِ . لم يصبح العيد عيدا . انخلع قلبها مع المدفعية والطائرات تقذف بغداد ، وسط جنح الظلام .. رأت كل شيء في التلفاز ، مع الجيران يوم شبت الحرب . لم تسمع صرير مفتاح الغرفة الضيقة . لم يأت الغائب أبدا !
استلمت خطاب الخارجية ، يُفيد موت ( إسماعيل على همّام) القاطن عنوانه، قرية الشيخ متوِّلي . عرفت طريق الإسكندرية . تنحدر مع كل فجر تبيع بعض الخضروات بمساعدة البعض ، بما استطاعوا توفيره من مؤنه ، لتقيت بناتها. تسافر ، وتعود مع المغرب . تلقى بجثتها على فراش متهاوٍ خاوٍ إلا من هموم الليل ، وخوفها الدائم على البنات ، ناسيةً أنها أنثى . لم تتذكر أبدا سوى أنها أم .. كذبيحة تصارع القصَّاب الذي لا تزوره !
لا تلتقط أنفاسها . كل يوم تراجع كلمته . دستور حياة ومهمة تحافظ عليها:
- " سعاد وبسمة وهند ويُمنى .. البنات بالك عليهم خلِّى بالك منهم دايما . الدنيا غدارة !!"
" يمنى هي الوحيدة اللى بتخدم البيت . ملاك يا ضنايا .. مطيعة وهادية . بنعتمد وبيعتمد عليها البيت في كل شيء . بتحب ( الكرملة ) . بتوزعها على خواتها ، مابتسبش لنفسها حاجة.. زى اسمها كانت نعمة من الله "
تتابع رحلتها كل يوم بطِست تحمله على رأسها ثقيلا بكلمات أبى يُمنى لها:
- " سعاد وبسمة وهند ويُمنى .. البنات بالك عليهم دايما.. خلى بالك منهم دايما.. الدنيا غدارة !! "
رحلت يُمنى !!

بقلم د خالد العرفي
