الدكتور جيلالي بوبكر
*التراث سنة كونية وضرورة تاريخية
الإنسان الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء، في كل الأحوال وفي كل العصور، في الزمان وفي المكان، يعيش على التراث، أو الموروث التاريخي، الفكري والثقافي والاجتماعي والديني والحضاري عامة، الموروث الدفين في اللاشعور أو في ما تحت الشعور أو على هامش الشعور أو المغروس في الشعور ومن دون شك في الشعور واللاشعور معا، يشتغل في العمق أو في السطح أو فيهما معا، على المباشر أو على غير المباشر، في السر أو في العلن،عموديا أو أفقيا،في حالة القوة والتقدم أو في حالة الضعف والتقهقر، في حالة الانتشار أو في حالة الانصهار، في النوم أو في اليقظة، في حالة الشك أوفي حالات اليقين، في حالات الانتصار أو في حالات الانكسار، في الوحدة والتكتل والاستقرار أو في التمزق والتشرذم والتناحر، في جو الحرية والتحرر والاستقلال والإبداع أو في أتون العسف والاستبداد والطغيان والاستعمار، في فضاء النظام والعدل أو في جو التوتر والجور، في البداوة أو في الحضارة،في عالم الأفكار والخيال أو في عالم الواقع والمادة، في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، في الإيمان والتصديق والتسليم بالله وبملائكته وبرسله وبكتبه وبالجنة والنار وبالقضاء والقدر خيره وشره أو في الكفر بكل أشكاله وأساليبه، في الدنيا والآخرة.
وفي حالات أخرى كثيرة ومتنوعة تتفاوت في درجة القوة والشدة والمدة من حيث النفع أو الضرر يبقى التراث الكيان الرئيسي الفردي والاجتماعي والإنساني التاريخي والحضاري والثقافي الذي يؤسس لكل بناء جديد في أي مستوى إنساني مهما بلغ من التعقيد والقوة أو مهما وصل من الضعف والانحدار، فيحدد عناصر الثبات والدوام في الذات وتتحقق الهوية الذاتية الجامعة لشروط التأليف والتركيب والوحدة التي تتصدى لكل دواعي التجزئة والتفتت والانقسام، وكلما كانت تراثيات الوحدة أقوى وأمتن وفي مستوى التوحيد كلما استقرت في الزمان والمكان، فكثير ممن هزتهم رياح التشرذم ونالت منهم في المجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل فقدوا لوازم المواجهة وأسباب التصدي وشروط التحدي لهشاشة أواصر الوفاق والإجماع في الموروث التاريخي، وكثير ممن هلكوا وهلك بناؤهم الجديد إنسانيا واجتماعيا لانعدام التراث لديهم ولحاجتهم إلى ما يحمي صنيعهم من الانهيار ويحفظ ويقي كيانهم من الإتلاف ويكون لهم سندا و وجاء، وكثير ممن هم مازال التراث هو عصب حياتهم على الرغم ما تحقق لديهم من تطور حضاري علمي وتكنولوجي، جمعوا فعلا وممارسة بين الأصالة والإبداع والمعاصرة، فازداد عندهم التراث رونقا وجمالا ودعما وتعزيزا وقوة ومنعة، كما ازداد حاضرهم عظمة وإجلالا وإكبارا وصاروا مثالا يُحتذى به وقدوة يُقتدى بها وعبرة لمن يعتبر، فإنّ من لم يعظه الموت فلا واعظ له، ومن لم يقتد بالتجربة اليابانية الحضارية المعاصرة فلا قدوة له، ومن لم يتعظ بإعصار فوكوشيما اليابانية فلا واعظ له.
التراث يقبل الكف والإحياء كما يقبل التغيير والتعديل والتجديد، ولما كان التغيير من سنن الكون فالتراث يؤسس للجديد في إطار عصرنته ليتحرر من الماضي وباعتباره قديما ليحل في الحاضر بثوب جديد يُلبسه إيّاه العصر ويسافر به في اتجاه المستقبل الذي يُفترض أن يكون مشرقا بضياء الماضي وبشعلة الواقع والحاضر وبما يضفيه نور المستقبل على الإنسان وعلى التراث وعلى الحضارة وعلى التاريخ وهو يتحرك ويتكون وينبني، أي على تاريخ الإنسانية المفضّلة والمشهود لها بالتكريم وهو ينتقل من التكوين إلى البنية في دأب وديدان منتصرا للسنن الكونية. فلن تجد لسنّة الله تحويلا. ولن تجد لسنّة الله تبديلا.