مقامة للاطفال
حدّث سعدون عن جدّه قال:
كنّا في زمن تغلب عليه الأمية العمياء ْ ، وتسوده الجهالة الجهلاءْ، نرنو إلى العلم بعيون نهمهْ ، ونجتهد في النهل من منابعه الدّسِمهْ، حينذاك لم تكن لأغلبنا سوى محافظ من خيش أو خشب ْ، ويراعات ذهبية من قصبْ، نكتب بها في دفاتر على الرُّكبْ، مُفْترشين بُسُطا من حصيرْ ، ليس كمثلها نظيرْ..
كنّا ننتظم في حلقة حول شيخ يتربّع في الصّدارهْ، بجُبّة خمرية لمّاعهْ، يبدو مُتبرْنِسا مُعْتمّا، يُلقي علينا دُرره مُهتمّا ، وكلّنا له آذان صاغيهْ، وعقولٌ واعيهْ، يخرج الحرف من فيه بالمِثقال ْ،ويستقرّ في عقولنا بالأرطالْ، لتزْكُو به نفوسنا الطامحهْ، وتعلو به هِممنا الطافحهْ، فنغْدو منتشين بخمرة حلال ْ،سابحين في عوالم يقودنا إليها الخيالْ، لا نُفيق منها إلا إذا سكتنا لأمر ذي بالْ : لشُرود منّا أو لسُؤالْ، فكنّا نراه يُرعد ويُزبد، وان هي إلا زجرة واحدة تُفِيقنا من غفوتنا وتُعِيدنا إلى سواء الحالْ..
قال جدّ سعدون:
أما وقد قوّس الدّهر ظهري ، وأوهن عظامي ، وعلى ثلاثة أمشاني، وبالشيب كساني، فلم تفتُر في طلب العلم همّتي، ولم تَوْهنْ عزيمتي، ولم تنطفئ في العلم جذوتي.. أليس العلم للإنسان زينهْ، والعيش من دونه غبينهْ؟ إنّ النبت لا يستقيم حاله بلا ماءْ، والأرض لا تحيا بلا رُواءْ، إي وربّ السّماءْ، فما بال أقوام يُدفعون إلى العلم دفعا ويفرّون منه فرّا؟ ألا يعلمون أنّه بالعلم تنجُو الأمم ْ، وبه تعلو الهممْ ، وترسُخ القدمْ؟ تالله لقد فاقت بلاغة القرآن كلّ الفنونْ، ألا فاسمعْ قوله تعالى: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟ "