تجربة الفرجة المسرحية في السودان واسئلة مابعد الدراما- 2011-07-24


مدخل : السودان قطر عربى افريقى ، ويشغل حيزا جغرافيا مميزا ساهم فى ان يكون معبرا للثقافات الافريقية الواردة الى المجتمع العربى ، كما ويعتبر معبرا للثقافة العربية المتجهة نحوالمجتمع الافريقى ، وهذا الدور المزدوج بطبيعة الحال جعل من السودان قطرا مختلفا ومميزا فى منتوجه الثقافى. ان شاغل الفن المسرحى على وجه العموم فى السودان بدأ منذ حوالى القرن او يذيد ، فلقد تعرف المجتمع السودانى على فنون المسرح ابان الاستعمار الانجليزى ، ولقد اسهمت الجاليات الاجنبية التى كانت تتواجد فى تلك الفترة فى تقديم حراك مسرحى شاهده السودانيون وتأثروا به ، لا سيما وان نضالهم ومناهضتهم للمستعمر دفعهم لاستغلال هذا الفن ليحمل عنهم ما لا تستطيع ان تحمله اساليب النضال التقليدية فى بث الوعى لدى عامة الناس لينهضوا ضد الاستعمار. ان تطور الفن المسرحى فى السودان مرتبط بحتميات تاريخية وفنية متعددة، فنجد ان الفترة من 1905 وحتى 1938 تقريبا هى التى تميزت بالعروض المسرحية التى تقدمها الجاليات المتواجدة مثل الجالية السورية والمصرية والهندية وغيرها ، كما وتعرف المتلقى السودانى والمهتمين بالمسرح عموما على موليير وشكسبير من خلال هذه العروض . ثم الفترة التالية تبدأ من 1938الى 1967م منذ كتابة اول مسرحية سودانية تحمل موضوعا يهم الشأن السودانى كان بواسطة مأمورمصرى الجنسية كان يعمل باحدى مدن السودان وتسمى " القطينة" تقع جنوب العاصمة، وذلك ابان الحكم الانجليزى المصرى المعروف بالحكم الثنائى ،فكتب مسرحية "نكتوت" او المرشد السودانى وهى فكرة استهدفت أغراض التعليم ، ويستفاد من دخلها المادى لبناء جامع القطينة العتيق ،خلال هذه الفترة ظهرت فرق مسرحية سودانية متعددة تمارس نشاطها عبر الاندية الثقافية كفرقة نادى الزهرة بام درمان ومؤسسها الراحل خالد ابوالروس، وكانت فرقة السودان للتمثيل والموسيقى لمؤسسها الرائد المسرحى السودانى ميسرة السراج ، و افرزت هذه الفرق مجموعة من المسرحيين قادوا الحراك المسرحى، وأسسوا بدورهم مجموعات متفرقة ليتم التطور الحتمى لقدرات المشتغلين فى الهم المسرحى عبر الفترات التاريخية اللاحقة والتى تمثلت فى الفترة من عام 1959م ، حين انشئ المسرح القومى السودانى ثم قدمت اولى مواسم المسرح فى العام 1967م وامتدت المواسم المسرحية الى يومنا هذا ، فضلا على تأسيس المعهد العالى للموسيقى والمسرح عام 1969م والذى اصبح فيما بعد كلية الموسيقى والدراما واسهم فى تخريج كوادر مؤهلة لها دورفى دفع الحركة المسرحية السودانية. مدخل متقدم : سأستفيد من اسلوب التحليل الراجع فى القفز الى اخر محطة انتهى عندها الشاغل المسرحى فيما يخص الفرجة المسرحية ومن ثم نعود ادراجنا لاحالة هذه القفزة الى مصادرها الاولية . ان استخدام طريقة العرض المسرحى المسماه بالفرجة المسرحية وصلت الى الحد الذى تدخلت فيه الوسائطية فى سياق العرض المسرحى فى السودان ، والذى يسير فيه صناع العرض والمشتغلين بمسرح مابعد الحداثية أومابعد الدراما والتى لها جزور ضاربة فى عمق تاريخ المسرح السودانى كما سنري عندما نعود بالتحليل الراجع . ان عرض مثل "بوح الجدران" لمجموعة الجزور الفنية بالسودان للمؤلف و المخرج " جاستن جون بيلى" قدم فى فضاء المتحف القومى السودانى واستند العرض على توظيف الجداريات فى المعابد السودانية القديمة ودراسة المنحوتات واستخلاص التجارب الحياتية فى تلكم الحضارات فى جوانب الحياة المختلفة (سياسية و اقتصادية وعقائدية )، ومحاولة لاستنطاق هذه الجداريات فى شكل عرض مسرحي يوظف فيه المكان والاداء الجسدي وذاكرة الممثل الجسدية . اعتمد العرض على الارتجال و تحرير جسد الممثل ، واستخدام المعبد كمكان ذو خصوصية عقائدية تلتقى فيه كل التجارب الحياتية عند الانسان وموقفه منها ، مع او ضد ، وفى ما يخص تحضير وتخطيط العرض ، بدأ بدراسة نظرية ثم ورشة ثم كان العرض ،امتد العرض فى خمس مساحات جغرافية تتم فيها الاحداث متزامنة داخل المعبد ين فى مستوى اول ، والمستوى الثاني داخل غرف في المعبدين ، والمستوي الثالث هو الوسيط وهو كاميرا تلفزيونية تنقل الاحداث الداخلية فى الغرفتين المختلفتين و الاحداث المتحركة فى الجداريات ومن ثم الانتقال الى رسومات فى جداريات المعبد ، ويعرض ذلك فى شاشات موضوعة فى ناحية من ضمن امكنة الفرجة . كان الجمهور حرا فى تحركه لمشاهدة جزئيات العرض ، ويمكن ان يشاهد اي جزئية وتكون هى بداية لدخوله فى العرض ،وتؤسس فكرة العرض : لخطوة متقدمة بوساطة دراماتورجيا بصرية متجاوزة فيه حدود المسرح الدرامى المعتمد على اطر ارسطية ولوائح محددة لوجود الجمهور فى حالة شعورية واحدة ، كما ويستلهم صانع العرض الطقوس السودانية فى محاولة منه لايجاد صورة مسرحية جديدة تساهم فى تطور تيار الفرجة المسرحية فى السودان. كما ان هذا النموذج يقترن به عدد لابأس به من التجارب المماثلة والتى تشتغل فى نفس الاطار، فمثلا بالرجوع للوراء نجد تجربة الورشة المستمرة لتطوير فنون العرض وهى فرقة سودانية تعمل فى تقديم عروض تعتمد تقنيات الفرجة المسرحية كأساس لمنجزها المسرحى ، فقدمت عرض " أغنية الدم " وعرض" موت مواطن عادى" واللصوص يسرقون ا لمنزل مرتين" . وجميعها من تأليف واخراج سيد صوصل . فقدمت عرض اغنية الدم فى مهرجان القاهرة التجريبى 2006م وفى مهرجان طقوس بالاردن 2008م وكذلك فى مهرجانات محلية بالسوادن ، ففى عرض اغنية الدم انعشت ذاكرة المتفرج بقيمة التراث كملجأ للحنين والتطلع والطموح نحو بناء مستقبل انسان ينطلق من تجاوز الاستلاب الثقافى الجاثم على صدره ، فكان الارث الثقافى السودانى يؤطر لبنية وعى تواجه تعقيدات النظام العالمى المفروض . وهذا الموقف لا ينفصل عن عموم الافكار التى تطرح فى غالب العروض المسرحية العربية والافريقية التى تعانى الاحتلال والاستلاب والهيمنة. تتعامل عروض هذه الفرقة مع المتفرج كجزء اساسي ومؤثر فى سياق العرض المسرحى وقد يؤسس النص فقرات يتمكن المتفرج الدخول فى وتيرة العرض المقدم. وهناك فرقة سنبل المسرحية والتى قدمت شكلا من اشكال الفرجة المسرحية عبر مسرحية "ناس حلة فوق " فى جزئين قدم الجزء الاول فى مهرجان البقعة المسرحى عام 2008م و والجزء الثانى فى عام 2011م ويتميز شكل الفرجة المسرحية عند الفرقة بالحفاظ على الاطار التعبيرى والتشكيلى المستخدم فى مسرح العلبة مع تقديم منهج تمثيلى يناسب اللحظات الشعورية للجمهور الحاضر . كما ظهرت تجربة مجموعة سودان فلكلور والتى تعتمد بشكل اساسي على الفلكلور بمختلف اشكاله ، فتقدم العرض المسرحى الذي لا يعتمد على النص الدرامى فى شكله الادبى المعروف .. بل وتتجاوزه الى ابداع شكل خاص لتقديم عرض مسرحى خالى من الصراع المعروف وذلك باحالة مخيلة وذاكرة المتلقى الى تصورعرض انطلاقا من الصراعات التى تدور فى ذهنه . فمثلا تطرح اشكالية استلاب الارض عبر قصائد للشاعر محمود درويش فى عرض تحت اسم " ثلاثة قصائد فى حب الوطن " تستثير فيه موقف المتفرج عبر الرقص الفلكلورى السودانى به جمل راقصة تعبر عن معاناة الانسان المجروح بافتقاده لاوطانه ، وقدمته فى الاردن بمهرجان ليالى المسرح الحر الدورة الرابعة عام 2009م ومهرجان حمام الشط بتونس فى الدورة الخامسة عام2010م. كما قدمت عرض دراما فلكلورية فرجوية تحت اسم " ملامح" فى مهرجان الفنون الزنجية بالسنقال فى ديسمبر 2010م . ويمتد تحليلنا الراجع الى فرقة مسرح البقعة وقد اسهمت فى مجال الفرجة المسرحية منذ تسعينيات القرن الماضى ، فكان على مهدى منظرا اساسيا لتجربة مسرح البقعة نحو الفرجة المسرحية بدعوته الى التكوين لخلق فرجة مسرحية سودانية مميزة ، فقدمت مسرحية سلمان الزغرات " فى معهد العالم العربى بباريس ، وقدم عرض بين سنار وعيزاب فى عام 2005م بمهرجان القاهرة للمسرح التجريبى وفى الفلبين وبولندا وتركيا ، كما قدمت فرقة مسرح البقعة مسرحية البوتقة فى امريكا – نيويورك. وفى اسبانيا وايران . وتستلهم فى فرجتها التراث الصوفى السودانى فى مسرحية سلمان الزغرات مثلا عبر قصة احد المتصوفة السودانيين مستفيدا من ذاكرة مرجعية بشأن الاولياء والعارفين بالله متمثلة فى كتاب " طبقات ودضيف الله " الذى يرصد تاريخيا احوال الاولياء الصالحين والمتصوفة بالسودان،ولقد كتبها مسرحيا البروفيسور عثمان جمال الدين . انتقل مشروع فرجة مسرح البقعة مع تنظير جديد لعلى مهدى وهو الانتقال بالمسرح فى مناطق الصراع وقدمت عروضا بولاية دارفور وولاية كردفان وفى جنوب السودان ايضا. ليقدم عروضا تتسم بازالة الفروقات الثقافية التى تظل عائقا امام اى تقدم للمقاربة و تعزيزالسلام بين قوميات السودان المتناحرة حول السلطة والثروة. وبالرجوع الى المصادر الاساسية لتيار الفرجة المسرحية، نجد ن تأريخ المشهد المسرحي في السودان ارتبط بالأساس بالعروض الفرجوية الشعبية ، فلقد استقي كتاب ومخرجو المسرح في السودان موضوعاتهم من الظواهر " السيسيوثقافية" الخاصة بالمجتمعات السودانية المختلفة الاعراق والاثنيات والاديان، فكان الطقس الشعبي (الزار) ،و يقول سعديوسف : (وهو ممارسة شعبية وتعني الروح أو الشخص الذي يعالج الناس عن طريق الاتصال بالأرواح ولقد ارتبطت ممارسته فى السودان بالنساء ويشترك فيها الرجال احياناو يتكون حفل الزار من أغنيات ورقصات بإيقاعات مختلفة وبالزار شخصيات معروفة تشبه الشخصيات المسرحية مثل شخصيات الخواجة والحبشي والعربي . أما المدعوات فهن "متفرجات" ويشاركن في ذات الوقت) . ويقول سعد يوسف :( ان الصراع ـ المعبر عنه بالرقص والغناء ـ ينشا بين المريضة والشخصية التي تتقمصها حتى مرحلة الوصول إلي جزء حواري بين الشيخة والمريضة ( وهي في إهاب شخصية أخرى كالخواجة مثلاً ) حيث تتقدم المريضة بمطالبها ورغباتها المكبوتة التي ربما لا تسمح لها ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والدينية بالتعبير عنها . يحسم الصراع في النهاية بتعهد الشيخة بالاستجابة لتلك المطالب) . و طقس (رقصة الحرب عند قبائل الشلك بجنوب السودان ) حيث يصف نعوم شقير مشاهداته لرقصة الحرب عند قبيلة الشلك فيقول بأن أفراد تلك القبيلة يجتمعون في ساحة الرقص وقد لبسوا علي رؤسهم شعوراً غريبة وتزينوا بالريش والخرز ورسموا علي وجوهم بالأصباغ البيضاء والحمراء واستخدموا أزياء خاصة وإكسسوارات من العاج والنحاس وبعض الرماح والنبابيت . فعناصر الفرجة المسرحية تكمن فى الصراع في هذه الممارسة بان المجموعة تنقسم إلي قسمين كل منهما يمثل قطباً من قطبي الصراع .كما ان الجمهور هنا مشارك بشكل أو بآخر وله موقف يساهم به فى الصراع ، فضلا على إن هذه الممارسة لا تشكل معركة حقيقية ولكنها محاكاة لمعركة ، إنها معركة وهمية المشاركون فيها يمثلون أدوار المحاربين. و هناك طقس (الذكر الصوفي ) و (المصارعة عند قبائل جبال النوبة او ما يسمي بالصراع) وغيره من الطقوس التي تكون بالاساس في شكل فرجة شعبية عند ممارستها في سياقها الاجتماعي . كما ان التطور الحتمي التاريخي والفني للمشهد المسرحي في السودان قاد الي اعادة انتاج بعض اشكال العرض المسرحي- ومنها الفرجة المسرحية- المعتمدة علي مناهج تجريبية علي مستوي الافكار والتقنيات ،لاسيما وان تيار مسرح ما بعد الحداثة او- ما بعد الدراما في مسمياته الاخري قد اثر بشكل واضح في المشهد المسرحي في السودان ككل. فى بعض الاحوال نجد ان هناك نوعا من الفرجة المسرحية الشعبية التي انتجها بعض المسرحيين في السودان لم تكن بنفس الشروط التي يعتمدها خبراء علوم ومصطلحات التقنيات المسرحية في العالم ، انما كانت في اعلي مستواها تتم وفقا لشروط تفرضها ظرفية المكان والزمان عندما يقدمها المسرحيين في السودان – فكانت في بعض الاحوال تسمي مسرح الشارع – ولكن لم يكن المصطلح المعروف بمسرح الشارع هو المقصود وذلك لان التقنية التي تصاحب العرض من فنون اداء تمثيلي وفنيات العرض المختلفة "السينوغرافيا" – كانت تلامس الي حد كبير تقنيات الفرجة المسرحية – وان لم يكن يعترف منتجوا العروض بهذا المصطلح ولكن مؤرخوا الحركة المسرحية في السودان يضعونها ضمن تجربة الفرجة المسرحية .. لا سيما وان معظم منتجو المسرح في السودان لا يكترثون بقليل او كثير بتوثيق الانتاج المسرحي ،وهذا حال معظم الدول العربية المحيطة ، ولكن في تصور الدارس ان هذه اللامبالاة بالتوثيق قد انتهت في الاونة الاخيرة ، مما يتيح لمؤرخى الحركة المسرحية في السودان علي وجه الخصوص ان يشركوا منتجوا المسرح في تثبيت اطر نظرية لفعلهم المسرحي وتنظيرا معرفيا يؤسس لجدلية ايجابية في شاغل المسرح وتنوع تقنياته من حيث مكان العرض والراهن السياسي والاجتماعي واحتياجات المجتمع الآنية . و ظهرت في الاونة الاخيرة تقنيات جديدة للفرجة المسرحية تبدأ من الكتابة المسرحية وتنتهي بتقنية جديدة في الاداء التمثيلي يتيح للممثل ان يوجد طرقا واساليب مستحدثة لجذب المتلقي ، وهذه الكتابة المسرحية تتخذ من الفرجة اداة من ضمن اهداف المحتوي والمضمون الاهداف التعليمية المراد توصيلها للمتلقي في تلك اللحظة التي يشاهد فيها ذاك العرض المعتمد علي تقنيات الفرجة ،، فكثير من الفرق المسرحية في السودان اصبحت تستخدم تقنية الفرجة المسرحية لتوصيل موضوعات اجتماعية تعليمية تربوية وتوجيهية ، وعلي سبيل المثال تكون الموضوعات حول " مرض الايدز وكيفية الوقاية منه ، العادات الضارة في بعض مجتمعات السودان الطرفية كالزواج المبكرو ختان الاناث وغيرها. ختاما سعت هذه الورقة الي ابراز دور الفرجة المسرحية في السودان في تاسيس وعي جمعي بادراك السؤال الملح حول قضايا الهوية والتعددية الثقافية السودانية، ومن ثم المساهمة في ايجاد الحلول المنطقية.لا سيما وان السودان يواجه علي المستوي السياسي ازمات يعتقد كثير من المراقبين بانها ذات ابعاد ثقافية – مثلا- "ازمة العرقيات في دارفور"،فضلا علي ان الوعي بهذه المشكلات يتم باشراك فناني المسرح السوداني لوضع رؤي ثقافية من خلال فنون المسرح التي تعتمد باشراك المتلقي وتجادله ، ويتحقق ذلك عبر تقنية الفرجة المسرحية . سيداحمداحمد – السودان الندوة الدولية للوسائطية والفرجة المسرحية مركز دراسات الفرجة المسرحية – جامعة عبدالمالك السعدى – طنجة- يونيو 2011م