موقع الشيخ ابو الحسن الندوي لدى العالم العربي

بقلم الشيخ يوسف القرضاوي

كان الإمام أبو الحسن علي الحسني الندوي - رحمة الله عليه – سفير الشعب المسلم بالهند، بل سفير الشعوب المسلمة في بلاد العجم كلها، لدي البلاد العربية: علمائها ودعاتها ومفكريها المسلمين، ومجامعها العلمية والدعوية الإسلامية ومؤسساتها الثقافية والدينية.
الاعتبارات التي رفعت قدر الشيخ لدى العرب:
وقد أجمع العلماء واتفقت المجامع والمؤسسات والمجالس العلمية والدعوية المختلفة على اعتماد سفارة الشيخ أبي الحسن وتمثيله لمسلمي الهند خاصة والعجم عامة، وذلك لاعتبارات مهمة، نجملها فيما يلي:
أرومته العربية:
أولا: أرومته العربية، ونسبه الحسني الشريف، فلاشك أنه عربي قرشي هاشمي حسني، وإن نشأ في الهند وعاش فيها، كما عاشت فيه أسرته الحسنة الشريفة منذ قرون. وهذا ولا شك قربه إلى العرب، فهو في الحقيقة واحد منهم .
رسوخة في العربية:
وثانياً: تضلعه في اللغة العربية، وتشبعه بعلومها وأدبها منذ صباه، وقراءته لكتبها، وإطلاعه على مصادرها، وحفظه الكثير من شعرها ونثرها، واستحضاره لها، وحسن استشهاده بها. كأنما نشأ في أرض العرب، وتعلم في معاهدها، فكان يخطب ويحاضر بالعربية الفصحى، ويكتب بها مؤلفاته، من كتب ورسائل، فهو يكتبها في الأصل باللغة العربية، ثم تنقل إلى الأوردية، إلاماندر. على خلاف ما كان عليه الأستاذ الكبير أبو الأعلى المودودي، فقد كان يكتب بالأوردية، ثم تنقل كتبه إلى العربية. وهذا ما جعل الشيخ أبا الحسن يهتم بالأدب العربي ويؤلف فيه كتبا للناشئين منذ شبابه، كما يهتم بتأسيس رابطة للأدب العربي الإسلامي في شيخوخته، وظل رئيسا لهذه الرابطة حتى أدركته الوفاة.
ثقافته الواسعة :
وثالثاُ: ثقافته الواسعة التي جمعت بين القديم والحديث، وضمت إلى الثقافة العربية الإسلامية الشرقية. الثقافة الغربية الحديثة ، وساعده على ذلك معرفته بعدد من اللغات التي كانت نوافذه إلى الثقافات المختلفة ، فقد كان يعرف العربية والأردية والهندية والفارسية والإنجليزية . وقد تجلى أثر هذه الثقافة الموسوعية في إنتاجه العلمي وعطائه الفكري .
كتبه الأصيلة المعبرة عن ثقافته ووجهته :
ورابعاً: وصول كتبه ورسائله إلى العرب، فعرفه الناس بها قبل أن يعرفوه شخصيا، فوجدوا في هذه الكتب الفهم السليم للإسلام، والفهم السليم للتاريخ، والفهم السليم للواقع. مع حماس وغيرة على الإسلام وعلى أمته عامة، وعلى العرب منهم بصفة خاصة، كما يبدو ذلك واضحا في أول كتاب عرفه به العالم العربي، وهو (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) .
عنايته بالعرب وهمومهم ومشكلاتهم:
وخامساً: عنايته بالعرب وبمشكلاتهم المختلفة وبنهضتهم، وهويتهم، باعتبارهم عصبة الإسلام، وأهل الرسول الكريم، وأحفاد الصحابة الميامين. والمفروض فيهم أن يقودوا الركب الإسلامي، وأن يأخذوا بزمام القافلة الإسلامية. وهذا ما نراه في كتب ورسائل شتى مثل: من العالم إلى جزيرة العرب، ومن جزيرة العرب إلى العالم. و(اسمعياته) الموقظة التي خاطب بها عدداً من البلاد العربية مثل ( اسمعي يا مصر)(اسمعي يا سورية)(اسمعي يازهرة الصحراء) يعني الكويت(اسمعوها مني صريحة أيها العرب) إلى رسائل كثيرة أخرى.
أما قضية فلسطين، فكان لها جزء كبير في تفكيره وفي شعوره، كما كان لها في محاضراته ورسائله وكتبه مكان أي مكان، وهذا اهتمام قديم ظاهر وبارز في تراث الشيخ كله. وكان من رأيه أنها تحتاج إلى شخصية قيادية إيمانية تنفخ في الأمة من روحها، مثلما فعل صلاح الدين.
وسطيته واعتداله:
وسادساً: وسطيته الفكرية، واعتداله في تناول القضايا الخلافية والمسائل الشائكة، فهو يعرض لها برفق، ويتناولها بحكمة، تناول من يحرص على أن يبني ولايهدم، وأن يجمع ولا يفرق، تناول من يبحث عن القوا سم المشتركة لاعن نقاط التمايز والاختلاف، تناول الطبيب الممسك بالمبضع، لا القصاب الممسك بالساطور. وهكذا رأينا تناوله لقضية التصوف في كتابه(ربانية لا رهبانية) وللشخصيات التي لها دور في التجديد والإصلاح في تاريخنا الإسلامي، في كتابه(رجال الفكر والدعوة في الإسلام) بأجزائه المتعددة ومنها عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن الإمام السرهندي، والإمام الدهلوي.
مؤسسته التي ينتمي لها:
وسابعاً: انتماؤه إلى مدرسة ومؤسسة علمية وفكرية متميزة، هي (ندوة العلماء) التي عرفت بمؤسسيها من العلماء الكبار المجددين، من أمثال العلامة شبلي النعماني، والسيد سليمان الندوي ، وهذه المؤسسة قد جمعت بين علوم السلف ومعارف الخلف، وبين صفاء العقيدة, وروحانية التصوف، وبين العلم الواسع والإيمان الراسخ، وهي ترحب بكل جديد صالح، كما تستفيد من كل قديم نافع، وتأخذ من التراث ما صفا، وتدع ما كدر. وتؤمن بالثبات على الأهداف والكليات، وبالتطور في الوسائل والآليات. لهذا أحبها المسلمون المخلصون العاملون لإصلاح الأمة وتجديد الدين.
شخصيته المحببة:
وثامناً: شخصيته المحببة لكل من عرفه، واقترب منه، ناهيك بمن خالطه وعايشه، فهو رجل راسخ الإيمان، قوي اليقين، شديد الخشية لربه، عامر القلب بحبه، زاهد في الدنيا، مشغول بالآخرة، حسن الخلق، عف اللسان، غيور على دينه، حامل لهموم أمته، غائب عن حظ نفسه، كأنما استل من القرن الأول استلالا، ليوضع في زمننا هذا، هو بقية من السلف، وهدية إلى الخلف، وهو رباني الأمة بحق. فهو يعيش في هذه الدنيا بقلب أهل الآخرة، ويمشي على الأرض وعينه ترنو إلى السماء. وهذا ما جعل كثيرا من الناس - وأنا منهم – يتقربون إلى الله تعالى بحبه.
كان هيناً ليناً سهلاً سمحاً كريماً سخياً فيه من خلق الحسن السبط رضي الله عنه-ومن رفقه ولينه وزهده وتواضعه، ما يؤكد نسبه، ويؤيد حسبه، فهو حسني خلقا وأدبا، كما أنه حسني أصلا ونسبا.
ومما أذكره هنا من مناقب الشيخ أنه - خصوصا في مكة والمدينة - كان يترك الفنادق الفخمة - خمسة نجوم - لينزل في بيوت بعض إخوانه أو تلاميذه من الهنود - وهي عادة بيوت متواضعة - لأن هذه البيوت أقرب إلى فطرته وإلى حياته وإلى بساطة معيشته وطبيعة مأكله ومشربه.
إجماع قومه عليه :
وتاسعا:ً أن قومه – الذين يعتبر سفيرا عنهم – مجمعون عليه - لا يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح عنزان، كما يقولون. اجتمع عليه السلفيون والمتصوفون، والمذهبيون واللامذهبيون، كما اجتمع عليه المتثقفون بالثقافة الإسلامية التقليدية، والمثقفون بالثقافات الحديثة، وكان كلمة إجماع عندهم، أحبه الجميع لاعتقادهم بصدقه وإخلاصه وتجرده لله، وبعده عن الأغراض الشخصية، والمصالح الذاتية، والعصبية الجاهلية. ولهذا اختاروه رئيسا لكثير من مؤسساتهم، مثل مجلس عموم مسلمي الهند، ومجلس الأحوال الشخصية للمسلمين، وغيرها.
بل أقول: أن غير المسلمين من قومه كانوا يجلونه ويحترمونه, ويعرفون له قدره, الحكام منهم والمحكومين.
اختيار الشيخ للمجامع والمجالس المختلفة :
فلا عجب أن رأيناه من أوائل من اختيروا في (المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي) من أول يوم أنشئت.
كما اختير في المجلس الاستشاري أو المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة منذ إنشائها.
وكذلك اختير في المجلس الأعلى العالمي للمساجد, التابع لرابطة العالم الإسلامي منذ تأسيسه أيضا.
وكذلك كان عضوا في ( مجلس المجمع الفقهي) المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي منذ تأسسه كذلك. وقد سعدت بزمالته فيه.
وقد اختير من قديم عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق.
وكذلك عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. وفي أكثر من مجمع علمي.
بداية اتصاله بالعالم العربي:
وقد بدأت صلة الشيخ بالعالم العربي، وهو لم يزل في شرخ الشباب. كما ذكر ذلك في كتابه(في مسيرة الحياة) منذ قام برحلته الأولى سنة 1947م إلى الحج.
ومن أبرز رحلاته المبكرة إلى العالم العربي وأهمها: رحلته إلى مصر سنة 1951م، والتي التقى فيها بالعلماء والدعاة والأدباء والمفكرين، والجماعات الدينية في مصر، وحاضر في كثير من أنديتها وجامعاتها، ومدنها وقراها، ومكث فيها ستة أشهر.
التقى بقيادة الإخوان المسلمين وأصدر في ذلك رسالته(أريد أن أتحدث إلى الإخوان)، والتقى بسيد قطب والشيخ الغزالي والشيخ البهي الخولي والشيخ الشرباصي والدكتور محمد يوسف موسى، والأستاذ أحمد أمين وغيرهم من رجال العلم والفكر والأدب من علماء الأزهر وشيوخه الكبار، وأساتذة الجامعات.
ومما أذكره عن هذه الرحلة: أني كنت أول من علم بقدوم الشيخ إلى القاهرة. علمت بذلك قبل مقدمه بأيام، من بعض شباب الهند الذين كانوا يدرسون بالأزهر. قالوا لي: أتعرف الشيخ أبا الحسن الندوي؟ قلت : أليس هو مؤلف كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)؟ قالوا: بلى. قلت إذن أعرفه. قالوا: إنه على وشك الحضور إلى القاهرة . قلت لهم: أرجوكم أن تبلغوني بوصوله بمجرد حضوره لأسعى إلى زيارته. وقد فعلوا. فسارعت إلى زيارته. وكان يسكن في شقة صغيرة متواضعة في زقاق ضيق متفرع من شارع الموسكي بحي الأزهر. وقد أنزله بعض المصريين الأخيار ضيفا في هذه الشقة، لأن الشيخ لا يحب النزول في الفنادق، وما فيها من صخب ومتعة، لا تلائم حياته وحاله. وقد رأيت عيشته في شقته هذه ومعه اثنان من إخوانه من ندوة العلماء - فكانت غاية في البساطة والقناعة والزهد.
وحاضر في دار الشبان المسلمين، وفي كلية دار العلوم، وفي عدد من مدن مصر، منها: المحلة الكبرى التي كنت أعيش فيها وأخطب فيها. وأصلح بيني وبين رئيس الجمعية الشرعية في نفس المدينة، كما ذهب إلى بلدة(نبروه) مركز طلخا، وألقى فيها كلمة طيبة، وطلب من الناس أن يبيتوا في المسجد، قياما لليل، واستجابة لقول الله تعالى : (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) الفرقان:
فاستجاب أكثر المحاضرين لدعوته، وباتوا لله في المسجد، وبات الشيخ معهم، على طريقه جماعة الدعوة والتبليغ.
والتقى بمجموعة مختارة من شباب الإخوان في البيت الذي كنت اسكنه مع إخواني في حي شبرا بالقاهرة، وكان حريصا على أن يسمع منا عن أخبار الشيخ حسن البنا وعن انطباعاتنا عنه.
وكانت أيام الشيخ الندوي في مصر مباركة وحافلة ونافعة، وترتب على هذا أن ظهرت الطبعة الثانية من كتابه(ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) مشتملة على عدد من المقدمات المعرفة بالشيخ والمنوهة بشخصيته وبفضله، من سيد قطب ومحمد يوسف موسى وأحمد الشرباصي.
وقد ذهب بعد زيارة مصر إلى سورية، وكان له فيها أنشطة ولقاءات مع رجال الدعوة والفكر والأدب أيضا. وخصوصا مع السباعي والزرقا والمبارك والدواليبي.
وقد سجل الشيخ هذه الرحلة وآثارها وثمارها في كتاب خاص سماه ( مذكرات سائح في الشرق العربي).
دعوة الشيخ للمؤتمرات والندوات والمحاضرات:
ولقد دعي الشيخ رحمه الله من أكثر البلاد العربية إلى المشاركة في مؤتمرات وندوات أو لإلقاء محاضرات في الجامعات والأندية والمؤسسات والوزارات المختلفة.
دعي الشيخ إلى المحاضرة في سورية في كلية الشريعة بدمشق، حيث كان عميدها الداعية الفقيه الشيخ الدكتور مصطفى السباعي، وقد كان من ثمرة هذه المحاضرات كتاب (رجال الفكر والدعوة في الإسلام).
كما دعي الشيخ إلى ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر، وكان له نشاط ملموس هناك، وقد سعدت باللقاء به في ذلك الحين.
ودعي الشيخ إلى المحاضرة في جامعة قطر، كما دعي إلى المحاضرة من وزارة الأوقاف في قطر، كما شارك في المؤتمر العالمي للسنة والسيرة الذي كان بداية الاحتفالات بالقرن الخمس عشر الهجري في قطر. واختير الشيخ نائبا لرئيس المؤتمر بالإجماع.
ودعي الشيخ إلى المغرب، والكويت وإلى الإمارات العربية المتحدة، وكانت له صلة طيبة بالشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة.
مهرجان ندوة العلماء – لكهنو:
ولمكانة الشيخ الكبيرة في قلوب العلماء والدعاة في العالم العربي، استجاب عدد كبير منهم لدعوة الشيخ للاحتفال بمرور(85) خمسة وثمانين عاما على تأسيس(ندوة العلماء) في الهند، التي يتولى الشيخ رئاستها والإشراف عليها، وعلى مؤسساتها، ومنها(دار العلوم) والمعاهد التابعة لها.
وكان على رأس الحضور الإمام الأكبر شيخ الأزهر الرجل الصالح الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله ، الذي أبى الشيخ الندوي إلا أن يجعله رئيسا لهذا المهرجان الكبير، الذي أقيم في مدينة (لكهنو) بالهند، وقد حضر الألوف بل عشرات الألوف من أبناء الهند هذا الاحتفال الكبير، حتى من غير المسلمين. وكان عرسا لم تشهده هذه المدينة من قبل .
لقد عرف العالم العربي الشيخ الندوي بزياراته ولقاءاته، وعرفه بدروسه ومحاضراته ، وعرفه بكتبه ومؤلفاته ، فأحبه وقدره كل عربي مثقف محب لدينه ، غيور على أمته ، وإنه لأهل لهذا العجب والتقدير ، وما عند الله خير وأبقى إن شاء الله .