الدولة القاسمية في اليمن جذورها وأسس قيامها
الباحث:
أ/ وليد عبد الحميد أحمد النود
الدرجة العلمية:
ماجستير
تاريخ الإقرار:
2004 م
نوع الدراسة:
رسالة جامعية
الملخص:
كنت قد وطدت العزم للبحث في تاريخ اليمن الحديث، لنيل درجة الماجستير من كلية الآداب بجامعة صنعاء، ومما حدى بي تلك الوجهة، أنه ثمّة دراسات رائدة سبق وألقت أضواءً على بعض أركان تاريخنا الحديث في اليمن. وشجعني أكثر التوفر النسبي لمراجع ومصادر تخص الحُقَب اليمنية الحديثة، فضلاً عن شواهد باقية لهذه الحُقَب ما تزال لائحة في الزمن المعاصر.
قد لا يُعد بالمستغرب أن أول ما واجهته، هو تعيين موضوع للبحث، لكنَّ وجهاً للاستغراب ظهر لي، فما أكثر القضايا التاريخية الحقيقة بالدراسة، حتى كأنّ تاريخنا الحديث لا يزال ينطوي بنفسه على خبايا أزمنته، وإن كانت هذه هي أقرب الآماد التاريخية إلى الحضور اليمني المعاصر. ثم ترتب أن يجري الاختيار إما لموضوع مجتزئ Monograph أو لسياق تاريخي مُجْمَل؟، هذا أمر، والآخر، هل يجري تقديم الدرس العلمي لهذا أم لذاك من الجوانب التاريخية العدة المعروفة لعلم التاريخ المعاصر؟.
آثرت تبيّن سياق تاريخي ضمن كومة الأحداث والتحولات، التي راكمتها خطوط المؤرخين والنساخ في السير والتراجم والحوليات، وكان الباعث أن تُعطى أولوية لتسليط أوسع للضوء، مما شأنه أن يتيح استكشافاً أمضى للأبعاد العامة للتاريخ الحديث لليمن. وكان لطبيعة المادة التاريخية المتوفرة، خاصيتها الماثلة للعيان، فهي تتخذ عنصرها من تطورات الحكم وصراعاته، وإن تعددت زوايا النظر وأساليب التدوين ، وكذلك كان للسياقات الأصلية للمادة التاريخية سماتها التدوينية المخصوصة ، فهي يسمها كثيراً طابع عدم الاتساق فيما بينها ، وتفاوت كثافتها التاريخية ونطاقاتها الزمنية ، وقد وجدت أن الأمر بمجمله يقتضي التوصل إلى قصد تاريخي متعين وملائم للبحث في موضوع بذاته .
لقد وجدت كما قد يجد غيري، أن حكم الإمامة الزيدية كان بمثابة التعبير الرئيسي عن الحكم وعلاقاته، عبر أكثر أزمان العصر الحديث في اليمن. وإذا كثفنا هذا القول، فإن دولة للإمامة الزيدية، تصير هي المعنيّة على وجه الخصوص، تلك هي " الدولة الإمامية القاسمية " ، التي امتد بها العمر فيما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر الميلاديين (الحادي عشر والثالث عشر الهجريين). إنه لسياق تاريخي طويل ومُشكِل، فكان أن توجه النظر إلى الحلقات الأولى لتلك الدولة الإمامية، حيث منابعها وأسسها واستواء تكوّنها، أي قيامها.
وانهمكت فيما أنا بصدده وإذا بي أواجه مسألة أن تاريخ الحكم الإمامي في الحقب الحديثة ، كانت له مساقطه التاريخية الخاصة ، وكذلك أنه من المعروف أن الجذور التاريخية الأبعد للإمامة الزيدية نجدها في جانب من التربة التاريخية اليمنية ، تلك العائدة إلى العهود الإسلامية الباكرة نسبياً ( القرن الهجري الثالث / التاسع الميلاي ) ، على أن تاريخ الحكم الإمامي آل البنا ، إما متشتت على هامش تواريخ لتكوينات حكم أخرى ، أو منفرط عند مؤرخي الإمامة ، ويصدق هذا فعلياً ، فيما يتعلق بالحقب السابقة لـ " الدولة القاسمية " ( الدولة الإمامية القاسمية ) .
وعامة استدعى الأمر الابتداء بالمنابع الأبعد للحكم الإمامي ، فتتبع ـ قدر المستطاع ـ المسار الخاص الذي يمكن أن تكون قد تنامت عليه العناصر والمكونات التاريخية لهذا الحكم ، وذلك عبر سبعة قرون ، سبقت إطلال الدولة القاسمية على النطاق اليمني برمته . فصار لسياق ومعقد البحث بعد آخر ، يرجع إلى الحقب المتوسطة من التاريخ اليمني ، وربما هيأ هذا مقاربة أجدى ـ فيما أعتقد ـ لقيام الدولة القاسمية ، حتى لتبدو بوصفها الحكم الإمامي مرفوعاً إلى مستوى الدولة في اليمن ، التطور الذي يكاد أن يكون غير مسبوق إليه من قبل الإمامة الزيدية ، وتعين موضوع هذا البحث في المجمل ، إذ هو يخوض في التكون التاريخي للدولة الإمامية في اليمن ، وقد يتيح هذا أن يكون عنوان البحث هو " الدولة الإمامية في اليمن " على أن أكثر البحث استغرقه تعييناً مسألة قيام الدولة القاسمية ، فأردفت بعنوان فرعي هو " قيام الدولة القاسمية 1006هـ/1597م ـ 1054هـ/1644م " .
قد يسع الباحث أن يركز نظره على الأحداث السياسية (والعسكرية) لتطور الحكم الإمامي، غير أن هذا سيضفي تجريداً قاتم الظل على سياق التناول التاريخي، فذكر تلك الأحداث على كثرته أما شديد التناثر، أو متقطّع السياقات، أو يدور حول إمام بعينه، وبسرد حكوي أكثر منه تأريخي أحياناً كثيرة. وتظهر كذلك التقاطعات الكثيرة للأحداث السياسية بالوقائع الدينية الطابع، وهذا ناشئ عن اتخاذ حكم الإمامة لغلاف مذهبي ديني غالباً، حتى أنه قد تتعسّر الممايزة أحياناً بين ما هو سياسي وما هو ديني أو مذهبي في ذات الحدث أو التطور.
اقتضى الحال - كما أعتقد - تناولاً عريض المجال نسبياً، يمكن عبره لم شتات المادة التاريخية، وتجاوز ما تتصف به كثيراً من طبيعة خامّة. وكذلك استخدمت - ما استطعت - ما لقيت من مادة المصادر والمراجع، خاصةً المادة ذات الدلالات الاجتماعية والاقتصادية وإن قلّت أو دفع بها مؤرخو الإمامة وربما غيرهم إلى الزوايا المعتمة للتدوين التاريخي، وقد ألجأ إلى مادة ذات طابع اعتقادي أو حتى أدبي، عندما لا تكون مثل هذه خارج مجرى تاريخي ذي سعة أردت للبحث هذا أن ينمو عبره.
يتكوّن البحث من هذه المقدمة وأربعة فصول وخاتمة. والفصل الأول هو "تطور الحكم الإمامي قبل الدولة القاسمية"، وهو يتعرض تعرضاً عاماً لسياق تاريخي مديد يبدأ خلال القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري)، ويبلغ أوجه في بداية التاريخ الحديث. ويتعلق السياق بتأسيس الإمامة الزيدية باليمن وتطور نفوذ الأشراف الزيديين، فتطور الحكم الإمامي على طريق الدولة، ثم مشارفته لأن يكون التطور الرئيسي للدولة في اليمن بقيام ( دولة الإمام شرف الدين ) ، فتصدع هذه الدولة، ثم تمكن الحكم العثماني من احتواء آخر بقاياها أواخر القرن القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري).
والفصل الثاني "إمامة القاسم بن محمد والتمهيد للدولة القاسمية"، ويتناول إحياء الإمامة الزيدية إحياءً متشيعاً على يد ذلك الإمام ، وخوض إمامته صراع طويل مع الحكم العثماني لليمن، وتمكن هذه الإمامة من انتزاع الحق في حكم الشمال الأعلى، واعتراف الإدارة العثمانية بذلك في أوائل القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري)، مما مهد لقيام الدولة الإمامية القاسمية خلال العقود التالية.
ويتطرق الفصل الثالث إلى "الإمام المؤيد محمد وظهور الدولة القاسمية"، ويتضمن دفع هذا الإمام وإخوته الكبار بحكم إمامي ناشئ خلّفه أبوهم الإمام القاسم، والانعطاف به نحو أفق يمني واسع ضمن إطار عام كفاحي وإصلاحي ذي طابع إسلامي وقطري، مما أسفر عن الاستقلال عن السلطنة العثمانية وظهور الدولة الإمامية في اليمن. أما الفصل الرابع والأخير فهو "بناء الدولة القاسمية بعد خروج العثمانيين"، ويعالج سعي إمامة المؤيد محمد إلى أن تتحقق الدولة الإمامية في نظام حكم قاسمي موحد يتسم بثبات نسبي، محتفظةً بالطابع الإحيائي للإمامة الزيدية التي بعثها مجدداً الإمام الأب القاسم بن محمد.
وتعتني الخاتمة بموضوع التكون التاريخي للدولة الإمامية في اليمن اعتناءً مركزاً، يدور حول تصور تاريخي للتنامي التطوري الذي مر الحكم الإمامي به، إلى أن أسفر عن بلوغه مستوى تجسيد التطور الرئيسي للدولة في اليمن، وتأثير كل من الوجهات الأصلية التي عرفها تطور الحكم الإمامي، وكذلك دور الروافد التي أمدته بعناصر جديدة خاصة على صعيد بناء الدولة، ثم غَلَبَة نزعة الاستحواذ على السلطة والنفوذ فور وفاة الإمام المؤيد محمد بن القاسم، الأمر الذي شكل التحقق الفاصل لقيام الدولة الإمامية في اليمن حوالي منتصف القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري).
أُتيح للبحث قدر لا بأس به وحتى مجدي من المراجع والمصادر وشيء من الوثائق التاريخية، وكان للزمن دوره والصدفة كذلك، فقد أضفيا اتساعاً ملحوظاً على دائرة المراجع والمصادر، إذ تحتم على الباحث أن يفتش عن مصادر ووثائق اينما توجه وكيفما اتفق له. وجدير بالإشارة إليه أن السفر إلى خارج البلاد، أفاد في العثور على دراسات جديدة لها اتصال بمسائل هذا البحث، خاصةً على صعيد التاريخ الاقتصادي.
وتتصدر القائمة جُملة من المخطوطات، قدمت الكثير من مادة الدراسة، وأهمها السير الثلاث الكبيرة التي تناولت حياة الأئمة القاسميين الثلاثة الأوائل، أي "النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة" و"الجوهرة المنيرة في جمل من عيون السيرة" و"تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار" (وهذه الأخيرة محققة). وجميعها ألفها المؤرخ مطهر الجرموزي، وقد عاصر أحداث قيام الدولة الإمامية في اليمن، وكان قريباً من الأحداث مقرَّباً من صانعيها فضلاً عن مشاركته المباشرة في الإدارة العليا لتلك الدولة، حين كتابته لتلك السير.وحري بالذكر أن " تحفة الأسماع والأبصار " قد قام بتحقيقها الباحث الهمام / عبد الحكيم الهجري ، وأشفعها بدراسة تاريخية ضمت رسالته للماجستير .
إن السير الثلاث التي وضعها الجرموزي ، تشكل مجتمعة سجلاً ضخماً ، يحوي الرواية شبه الرسمية العامة لقيام الدولة القاسمية ، واتخذت السير الثلاث طريقة الاسناد على طول الخط ، ولم تفرق بين الإسناد الشفاهي و المكتوب ، حتى وإن كان الأخير مؤلفات تاريخية . وسار الجرموزي على تدوين أية شاردة أو واردة ، قد تضيف إلى الطابع المميز لكتابته ، وتكثف من هالات الهيبة الدينية والمجد السياسي حول أ حداث قيام الدولة القاسمية وأئمتها وشخصياتها ، ولم يحتفظ بأي مسافة بينه كمؤرخ وبين موضوعه من جانب ، وأسقط غالباً التعيين الزمني ، بل إنه كثيراً ما تجاهل إيراد تواريخ كثير من الوثائق التي تُقل متونها ، وما أكثرها في السير المعنية من جانب آخر ، على أن ما سطره الجرموزي بمجمله هو بحد ذاته انعكاس عريض في داخل المجرى التاريخي .
واستفاد البحث كثيراً من مخطوطات ذات مادة تاريخية ضافية؛ "روح الروح فيما جرى بعد المائة التاسعة من الفتن والفتوح"، للمؤرخ عيسى بن لطف الله (حفيد للحاكم الإمامي المطهر بن الإمام شرف الدين الذي سيأتي ذكره في البحث). وكان قريباً من الإدارة العثمانية بصنعاء في لحظات تاريخية فاصلة، على صعيد إمامة القاسم بن محمد والحكم العثماني لليمن معاً. واستعان الباحث أيما استعانة من مخطوطة محققة هي " بهجة الزمن في تاريخ اليمن " ليحيى بن الحسين وهو حفيد مباشر للإمام القاسم بن محمد ، وأحد أهم مؤرخي الإمامة ، وقد قامت بتحقيق ودراسة المخطوطة الباحثة أمة الغفور عبد الرحمن الأمير ، وذلك في رسالتها للماجستير ، التي تناولت الجزء الأول من ذلك المؤلِّف الذائع الصيت .
وتظهر أهمية كبيرة لبعض المخطوطات ، بالرغم من محدودية أو قلة المادة التي أُخذت عنها ، ولكن تميز ما التقط منها بدلالات تاريخية متفردة ، ونقصد بالذات مخطوطة " مناهج الخلف إلى منازل السلف ونصيحة إلى حماة البيت الحرام " وقد صدرت باسم المؤيد محمد بن القاسم ( الذي قامت الدولة القاسمية إبّان عهد إمامته ) ، وتتضمن عرضاً مسهباً نسبياً ذا نبرة دينية غامرة للموقف المذهبي ، والوضع السياسي للإمامة القاسمية على المستويين الإسلامي واليمني ، وتعود المخطوطة إلى زمن يسبق ظهور الدولة القاسمية بعقد ونيف فحسب . ثم هناك مخطوطة " بغية المريد وأنس الفريد " للمؤرخ عامر بن محمد عامر ، وهو أحد مؤرخي الدولة القاسمية في عهودها الأولى ، ومخطوطة " مطلع البدور ومجمع البحور " للعالم والمؤرخ أحمد بن صالح أبي الرجال ، وقد أدرك قيام الدولة القاسمية ، وكذلك مخطوطة لمؤرخ أسبق هي ، " اللآلئ المضيئة " لأحمد بن محمد الشرفي ، وكان وثيق الصلة بالإمام القاسم بن محمد .
واستند البحث إلى العديد من المؤلفات التارخية المنشورة ، كان بين أهمها تلك التي في الأصل مخطوطات ، فجرت الاستفادة من "غاية الأماني في أخبار القطر اليماني" وهي كذلك للمؤرخ يحيى بن الحسين. وقد أخذ عن المؤرخ نفسه مؤرخ آخر هو عبدالله بن علي الوزير، استعنا بكتابه "طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى" وأمدنا بمادة تاريخية، تناولتها يده بالتدقيق والانتقاء والاضافة، فضلاً عن اتسام المؤرخ نفسه بخصائص العالم الديني المتمكن، ورجل الإمامة القاسمية المقرب والمطلع على تراث الحكم الإمامي القاسمي وتقاليده، ثم هناك "البدر الطالع" (المحقق) للعالم والمؤرخ محمد بن علي الشوكاني، وهو مؤلف زاخر بمعلومات متنوعة، جرى التقاطها وصياغتها بتمكن.
إن يحيى بن الحسين وابن الوزير والشوكاني ، هم بين أهم من خاضوا في تاريخ الإمامة ، وكلهم عاشوا في الكنف الإمامي القاسمي ، على التوالي ، ويحيى بن الحسين هو أغزرهم كتابة ، ورغم ذلك عانت ذكراه من التجاهل ، الأمر الذي لمسه الشوكاني عند ترجمته لهذا المؤرخ الهام في " البدر الطالع " . ربما لأن يحيى بن الحسين كان بمثابة المغرد خارج سربه ، سرب الأسرة الإمامية القاسمية التي ينتسب إليها ، ولعل المذهبية المعتدلة ليحيى بن الحسين وميسم الحافظ للحديث الشريف ، جعلته لا يعير التفاتاً إلى مؤلفات المؤرخ الجرموزي ، كما أفصح في " بهجة الزمن " . ويمكن عدّ ابن الوزير كمؤرخ رسمي بارز للدولة القاسمية ، اتبع طريقة الحوليات ونقل في " طبق الحلوى " عن حوليات يحيى بن الحسين ( بهجة الزمن ) مصرحاً بالنقل بينما ألمح فحسب إلى المنقول عنه . فغمط بهذا من جانب ذكرى يحيى بن الحسين ، وربما جاء الأمر اتساقاً مع موقف الأوساط الإمامية القاسمية السائدة . بيد أن ابن الوزير لم يسر بسير يحيى بن الحسين في النظرة والأسلوب ، واستطاع أحياناً أن يمسك به تلميحاً ، ليبين أن المنقول عنه قد ضيق من دائرة التحري للمصادر التي استند إليها ، وهو أمر قد يعاب من مؤرخ ، على أية حال ، وقد يقدم مبرراً آخر ـ عند ابن الوزير ـ للأخذ عن يحيى بن الحسين وتجاوز جانبه التاريخي في آن واحد . أما محمد بن علي الشوكاني ، فهو آخر الفقهاء اليمنيين المجتهدين الكبار وأبعدهم صدىً ، ولم يضع في التاريخ غير كتابه " البدر الطالع " كما هو معلوم ، واتخذ فيه طريقة أهل التراجم ، وجمع فيه بين أهل الحكم وأهل العلم ، ليس يمنياً فحسب بل وإسلامياً ، ولعل بين أهم سمات " البدر الطالع " هو التعليقات التاريخية والدينية التي بثها الشوكاني على صفحات كتابه هذا .
وتحضر خلال صفحات البحث، خاصة في فصله الأول، وهي بالطبع أبعد زمناً، مؤلفات مماثلة عديدة، وأهمها "قرة العيون بأخبار اليمن الميمون" لعبد الرحمن الديبع الحافظ للحديث الشريف ومؤرخ الدولة الطاهرية، ومؤلفه المذكور ذائع الشهرة، وأساسي لتاريخ اليمن الوسيط (الإسلامي). وجدير بالاهتمام كذلك كتاب يُعرف بـ "تاريخ الدولة الرسولية" لمؤرخ لا يزال مجهولاً، ويظهر أيضاً كتاب "البرق اليماني في الفتح العثماني" للنهروالي، وهي ذات فائدة بيّنة عند الاقتراب من تطور الحكم الإمامي في بداية التاريخ الحديث. ويتميز بأهمية خاصة كتاب السيرة الموجزة للإمام شرف الدين، وقد كُتبت في زمن متأخر، وهي "السلوك الذهبية في خلاصة السيرة المتوكلية" للعالم الشيخ والمؤرخ محمد بن إبراهيم المفضل وهو سليل للإمام شرف الدين نفسه ، ويذكر أنه لم يضع غير هذه السيرة في التاريخ أو سواه .
ولم يكن البحث يستغني عن مؤلف تاريخي معروف ، هو " الإحسان في دخول مملكة اليمن تحت ظل عدالة آل عثمان " للمؤرخ عبد الصمد الموزعي ، وهو فقيه يمني شافعي المذهب عمل بالقضاء العثماني بمدينة تعز ، وكان مقرباً لدى الأوساط العثمانية الحاكمة هناك ، وشديد الولاء لجانب السلطنة العثمانية . وقد صب اهتمامه على الأحداث في جنوب الولاية ، وأبان عن تطورات السيطرة العثمانية في جنوب الهضبة اليمنية خصوصاً ، فأورد مادة تاريخية لم تتوفر عند غيره .
وتمت الاستفادة من مؤلفين فريدين ، الأول هو "روضة الأخبار" للمؤرخ اليمني الإسماعيلي المذهب إدريس بن الأنف، وهو المؤلِّف الوحيد الذي توفر لنا ، ومؤلِّفه من اليمنيين الإسماعيليين، وقد عاصر جانباً من أحداث القرن التاسع الهجري ( الخامس عشر الميلادي ). أما الثاني فهو " بهجة الزمن في تاريخ اليمن " للمؤرخ تاج الدين اليماني ، وتضمن إشارات تاريخية هامة تتعلق بالتاريخ المبكر للإمامة الزيدية وحكمها باليمن ، وكذلك ببعض تطوراتها اللاحقة ، ويعود المؤرخ ذاته إلى القسم الأخير من القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) ، والقسم الأول من القرن التالي . ويمكن أن نضيف هنا كتاب " تاريخ مدينة صنعاء " للرازي ، وذيله للعرشاني ، لما تضمنه من إشارات تاريخية مركزة ومتنوعة ، تخص الحقب اليمنية السابقة لقيام الدولة الرسولية في اليمن في القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) .
كان لقيام الدولة الإمامية في اليمن جوانبه الدينية المذهبية، وهي جوانب قد لا تنفصم عراها أحياناً عن سير الوقائع، ويتصل بذلك حدوث جدالات واعتراضات اعتقادية وفقهية، وقد تجر هذه إلى الكشف عن معلومات تاريخية سياسية وإدارية واقتصادية وثقافية يندر الوقوع عليها في كتب التواريخ. وأدى بنا الأمر إلى الاستعانة بمؤلفات اعتقادية وفقهية من بينها كتاب " المجموعة الفاخرة " للإمام الهادي يحيى بن الحسين المؤسس الأول للإمامة الزيدية باليمن ، ويتضمن مجموعة رسائل تعبر عن المعتقد الإمامي الزيدي وحيثياته المتشيعة ، كما رآه ذلك الإمام ودفع به على مسار سعيه لإطلاق دعوته المذهبية وتحقيق إمامتها باليمن .
ويبرز في المقام المعني "كتاب الأساس لعقائد الأكياس" للإمام القاسم بن محمد، وهو مؤلِّف في أصول العقائد (علم الكلام)، وعده مؤلِّفه تأسيساً جديداً للنظرة الزيدية المتشيعة، و"كتاب عدة الأكياس في شرح معاني الأساس" لأحمد بن محمد الشرفي ويكاد يكون الشرح الرسمي لـ"كتاب الأساس" الآنف الذكر. وحقيق بالتنويه المؤلفات الثلاثة المنشورة للعالم اليمني صالح بن مهدي المقبلي، وهي تخوض أساساً في العقائد وشيء من أصول الفقه وقضاياه، وهي "العلم الشامخ" و"الأرواح النوافخ" (منشورتان دون تحقيق) و"الأبحاث المسددة" (محققة)، وقد عاصر مؤلِفها العهود الأولى للدولة الإمامية القاسمية، وكان له موقف ناقد متفرّد من سياساتها، ومن صياغاتها الدينية والمذهبية لتوجهات حكمها، ومن استبقاء نظام حكمها واقعاً لعادات عثمانية تلحق الحيف بالرعية، وتتسم المؤلفات الآنفة برؤية نقدية وتتضمن ثناياها إشارات مكثّفة إلى وقائع التطورات المذهبية والاعتقادية في اليمن.
ويمكن إضافة مؤلِّف للعالم الزيدي الصاحب بن عبّاد الذي عاش بالعراق، ويعود إلى القرن الهجري الرابع (العاشر الميلادي)، وتضمن إيراداً مركزاً لمسائل الدولة والحكم عند الزيديين، وأفادتنا على صعيد تبيّن فكريّة السياسة والسلطة في الفقه السياسي الزيدي، وقد رأينا أن مثل ذلك لا مندوحة عنه لتبيّن متسق لتطور الحكم الإمامي باليمن.
لم تكن يد الباحث خالية من مؤلفات تاريخية عربية معاصرة، وهي على قلتها وجدناها ذات فائدة يُعتد بها، بل أن بعضها ذلل من مسالك البحث أو خفف من مشقته. وتتوفر في المتناول التصانيف التاريخية الجامعة للمؤرخ اليمني (التقليدي) المعاصر محمد بن محمد زبارة، وتكاد أن تقدم مجتمعة موسوعة تاريخية منتخبة للإمامة والحكم الإمامي باليمن، وقد سوّغ المؤرخ زبارة تاريخية ملحوظة للإمامة الزيدية وحكمها باليمن، ومهما كانت كيفية ذلك، فقد يتيح للقارئ أن يتلمّس جسماً تاريخياً للحكم الإمامي باليمن، وإن بدت الإمامة الزيدية ذاتها عند المؤرخ زبارة، بمثابة الأصل الثابت للدولة اليمنية الإسلامية الحقة التي تحفظ لليمن إيمانه وتقيم له قطريته، منذ أن وطأت أقدام الإمام الهادي يحيى بن الحسين أعالي البلاد قبل ألف سنة ونيف. وقد استفاد البحث مِنْ مؤلَفي زبارة "أئمة اليمن" و"نشر العَرف"، ومن "الملحق" الذي وضعه لكتاب "البدر الطالع" لمحمد بن علي الشوكاني.
وحري بالذكر جهد آخر لمؤرخ يمني ( تقليدي ) معاصر ثانٍ هو عبد الله بن عبد الكريم الجرافي صاحب الكتاب المعروف بـ " المقتطف من تاريخ اليمن " ، وقد لجأ فيه إلى تناول ثنائي السياق لتاريخ اليمن عبر العشرة القرون الأخيرة ، فضم " المقتطف " بين دفتيه تاريخين ، الأول ويحوي حقب الدول أو مجموعات الدويلات ( غير الإمامية ) ، التي عرفتها اليمن عبر أكثر تلك القرون المديدة ، أما الثاني فحوى المسار الإمامي وحكمه مقسماً إلى فترات متتالية ، على خلفية معاصرتها ـ غالباً ـ لحقب الحكم اليمنية أو الإسلامية الأخرى ، إلاَّ أن الجرافي لم يأت بشيء آخر ، عند سرده لكل فترة ( إمامية ) على حدة ، إذ تبدو عنده فَرْط من الأئمة أو الشخصيات الإمامية ، ولم يشرع في تجاوز هذا بعض الشيء ، إلاَّ عند بلوغه القرن الحادي عشر الهجري ، فذكر أن دولة للإمامة بسبيلها للقيام ، حددها بـ " الدولة القاسمية " ، وقد أفاد هذا البحث عموماً من " المقتطف " .
وقد استعنا بكتابي "الفتح العثماني الأول لليمن" و"وثائق يمنية" للمؤرخ الدكتور سيد مصطفى سالم، ويُعدان مؤلفان أساسيان رائدان في التاريخ اليمني الحديث. وأفدنا كذلك من كتاب " تاريخ اليمن في الإسلام " للمؤرخ الدكتور عبد الرحمن عبد الواحد الشجاع ، ويحوي إطلالة متروية على تاريخ اليمن عبر القرون الهجرية الأربعة الأولى ، ورجعنا كذلك إلى كتاب " دولة الهادي وفكره " للباحث الدكتور علي محمد زيد ، فأفاد في التعرف إلى السياق الحدثي المبكر للإمامة الزيدية .
ومما يجدر التنويه به كتاب "اليمن في أوائل القرن السابع عشر" الصادر بالعربية لمستشرقين هولنديين هما براور وكبلانيان. ويضم مجموعة وثائق محققة ومترجمة إلى العربية، وتخص الوثائق شركة الهند الشرقية الهولندية، وهي رسائل أو تقارير خطها بعض موظفي تلك الشركة، وتعلقت بتطلع الهولنديين إلى التوسع تجارياً في السواحل اليمنية خاصة ساحل المخا، وتعود تواريخ الوثائق إلى العقود الأولى من القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الميلادي)، وتفصح عن نمو دور السواحل اليمنية في إمداد الاقتصاد العثماني بحاجاته من التجارة الهندية خلال تلك العقود، وقد ران على الوثائق مدى غيظ الهولنديين، من الحكم العثماني لليمن، إذ حيل بينهم وبين نصيب كبير من تجارة المخا. ونشير بنحو خاص إلى مجموعة وثائق عثمانية مترجمة إلى العربية، صدرت عن جامعة الكويت، وتتعلق بحالة وأهمية السيطرة العثمانية في اليمن أواسط القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، وكذلك حقيق بالإشارة إليه كتاب "تاريخ الفرقة الزيدية" للدكتورة فضيلة الشامي.
وننوه كذلك بكتابي "تاريخ الدولة الكثيرية" لمحمد بن هاشم و"صفحات من التاريخ الحضرمي" لسعيد عوض باوزير وكلاهما مؤرخان (تقليديان) معاصران، سدا فجوة ملحوظة فيما يتعلق بتاريخ ’المشرق‘ (نقصد الأقسام الجنوبية الشرقية من اليمن).
وانتفع البحث بهذا القدر أو ذاك من بعض الدراسات الحديثة المترجمة إلى العربية، "اليمن قبل الإسلام والقرون الأولى للهجرة" للمستعرب السوفيتي (سابقاً) بيوتروفسكي، وتضمّن بعض التناولات للعهود الأولى للإمامة الزيدية باليمن. و"تجار القاهرة في العصر العثماني" للدكتورة نللي حنا التي وضعته باللغة الإنجليزية، ويقدم تناولاً متميزاً للتجارة العابرة بالبحر الأحمر وتطور تجارة محصول البن اليمني خلال أواخر القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري)، وأوائل القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري)، ورجع الباحث أيضاً إلى "اليمن والغرب"، المترجم عن الإنجليزية، وقد وضعه إريك ماكرو، وهو بريطاني معاصر له اهتمام بالأوضاع اليمنية.
لم يكن في المتناول سوى عدد محدود من المراجع الأجنبية غير المترجمة، وجرت الاستعانة أساساً بثلاثة مراجع إنجليزية، ’Sana An Arabian Islamic City‘ و The Portuguese Off the Southern‘ ’Arabian Coast وكلاهما لمؤلف واحد معاصر هو R. Serjeant،و’A History of Arabia Felix or Yemen‘ وقد وضعه موظف إنجليزي كبير بمستعمرة عدن هو R. Playfair خلال القرن الماضي. وتبرز أهمية خاصة لمقدمة بالإنجليزية صدّر بها المستعرب الياباني هيكوايشي ياجيما تحقيقه لمخطوطة تتعلق بتاريخ الدولة الرسولية. وتتصف المراجع الآنفة بتحريها أحياناً كثيرة لجوانب ومسائل تتصل بالتاريخ الاقتصادي (التجاري والمالي والنقدي) لليمن، خلال القرون المتأخرة من التاريخ الوسيط والحقب المتقدمة من التاريخ الحديث.
إن الوثائق التاريخية ذات أهمية علمية فائقة ، حتى أن الاعتناء بها وأساليب دراستها والاستفادة منها تمثّل أبرز جوانب تطور علم التاريخ اليوم ، فهي تعبيرات حية تعود إلى النسيج الأصلي لأحداث الماضي ، وكانت هناك مجموعتي الوثائق الهولندية والعثمانية المحققتين والصادرتين بالعربية اللتين أشرنا إليهما بين أهم مصادر البحث ، فماذا عن نصيبه من الوثائق اليمنية ذاتها ، إن وثائقاً رسمية وسياسية وإدارية ( وفقهية ) كان يجري إصدارها وتناولها في سياق أحداث هذه الدراسة ، ولم تكن بالقليلة كماً ، أو الضئيلة شأناً ، وهذا نجده بادياً من النقول أو النسوخ لتلك الوثائق ، وإن تناثرت على غير سياق الأحداث ، وأُغفل نقل تاريخ صدورها ، أو لم يجر تحريه حقاً ، عند المؤرخين والنساخ ، أحياناً كثيرة ، ويثير ذلك الكثير من الالتباس والارتباك ، ولم يسلم من الأمر بعض أبرز مؤرخي الإمامة ، فمثلاً ، أورد المؤرخ يحيى بن الحسين في " بهجة الزمن " مرسوماً إمامياً ، عده تالياً للاستقلال عن الدولة العثمانية ، وهو بنصه سبق وجاء عند المؤرخ الجرموزي في "الجوهرة المنيرة" ، ويعود إلى أمد سبق الاستقلال بسنوات ، ثم نجد عند ابن الوزير في "طبق الحلوى" فحوى موجزة لمرسوم إمامي ، أحله موضعاً يناظر ما كان قد أورده يحيى بن الحسين ، بل وزاد أن أحال القارئ لمراجعة النص الأصلي " من موضعه " !.
إن تلك النقول والنسوخ على حالتها ، أفادت وأجدت ـ وإن غلب عليها طابع الإسناد ، وأسلوب الراوي وتدوينه للتاريخ ـ إذ تبقى نبضاً ما للأحداث وصانعيها ، لكن الأمر لا يبلغ ما تنطوي عليه الوثائق الأصلية من دفق تاريخي بكر ، غير أن الباحث لم يدر كيف لبصره أن يقع على مثل تلك الوثائق ؟ فإذا حدث فماذا عن استنطاقها علمياً ؟ . وما توفر بعد لأي ، هو عدد من وثائق تتعلق ببيع وشراء أراضٍ زراعية أو أرض بناء ، ووثيقة وقفية لعدة حقول زراعية ، فتوفرت مادة تاريخية قيمة ومتنوعة الدلالات ، فأفادت على قلتها ـ كما هو الظن ـ عبر بعض أقسام هذا البحث . وهناك وثيقتان رسميتان جاءتا محققتين في كتاب " وثائق يمنية " الذي جرت الإشارة إليه ضمن الصفحات السابقة .
إن الوثائق القليلة التي جرى استخدامها ، ربما اتخذت أهمية مضاعفة ، مصدرها أنها تناثرت في بضعة مدارات تباينت بها الأقدار التاريخية ، فقد كانت تحدث تحولات حاسمة على صعيد علاقات الحكم والنفوذ في اليمن بين انجلاء الفتح العثماني وقيام الدولة الإمامية القاسمية في اليمن ، فقدمت الوثائق بضعة مؤشرات طازجة فيما يتعلق بالواقع التاريخي إذ ذاك ، كما يبدو . وإذا البحث تعلق بصراعات وتحولات سياسية فاصلة ، فإن للمسكوكات المالية أي النقد أهميته باعتباره بين أهم مظاهر السيادة والسلطة ، فكيف إذا أحاطت بالأحداث تحولات اقتصادية بعيدة التأثير ، وأكثر المؤرخون أحياناً عدة من ذكر وقائع تتصل بالتجارة والمال ، في صلب تدوينهم للأحداث ، بيد أن الاستفادة من مخلفات مسكوكة لم تتوفر أسبابها للباحث .
إن الوعورة تكتنف مسالك البحث في التاريخ اليمني، وما أظهر ما يعانيه هذا الحقل البحثي من محدودية النطاق العلمي، وقلة المُتَوَفَر من أسباب الخصب المعرفي. وإذا تعلق الحال بالتاريخ الحديث لليمن، فإن الطابع الاستكشافي والسعي التأسيسي لا يزالان ماثلان. ولا نعد هذا البحث يخرج عن الأمرين إياهما. وقد يحضرنا القول بأن التاريخ هو حوار بين المؤرخ ومصادره، وربما ظهر للباحث أن القدر الضروري من التراكم المعرفي التاريخي المباشر والمساند لم يتوافر بعد، مما يجعل الحوار مع المصادر اليمنية بحاجة إلى المزيد فالمزيد من الجهد التأسيسي. وقد عانى الباحث من التعامل مع مصادر ما تزال ذات طبيعة خامّة، وقليلاً ما مستها يد العلم الحديث، وقد تخللت المصادر وكذا الوثائق أقلام التصحيف، وكثيراً ما يتعثّر الباحث بألفاظ وعبارات وجمل يجدها مبهمة، وقد لا تجدي معاجم اللغة معها، والأغلب إنها ذات طابع اصطلاحي كان متداولاً.
قد يرى البعض أن التاريخ من صنع المؤرخ، وهكذا فالمصادر والوثائق هي الخامات اللازمة، فكيف إذا كانت قليلاً ما تكون طوع الباحث، وما أكثر ما تطويها أسمال أو جلاليب غياب الوعي بالتاريخ والدوافع العابرة، بل وقد يتخطفها الضياع. وقد واجه الباحث أيضاً افتقار مصادره إلى التوازن، فقليلة هي التي عبرت عن تناول مغاير أو متفرد جدياً، مقارنةً بالكم الغالب لما سطره المؤرخين الإماميين أنفسهم، فضلاً عن سيطرة اعتبارات تتعلق أما بجهة من البلاد أو بشخصية أو شخصيات بعينها وهكذا.
وانطبعت بعض أهم المصادر بميسم تاريخي فج، جعلها أقرب إلى مدونات دعائية، تختلط فيها الوقائع التاريخية بمقتضيات تناول حكوي يقوم على الخوارق والإثارة للعواطف. وقد سمح بعض المؤلفين و النساخ كذلك لأنفسهم على صعيد إقحام سافر لمواقفهم أو معتقداتهم أو مصالحهم وحتى مطامعهم الشخصية على التدوين التاريخي، بل قد لا تسلم مدونات الفقه، وقد شكى العالم والمؤرخ محمد بن علي الشوكاني صراحةً من بعض مظاهر هذا في كتابه "البدر الطالع". وزاد الطين بلة أن التعيين التأريخي للوقائع والأحداث نجده مراراً، أما جرى التغاضي عنه، أو تم أخذه بخفة، وبلغ الأمر أن اعتذر مؤرخ إمامي قاسمي بارز عن إيراد تواريخ دقيقة للأحداث في مصنفه، وعدّ هذا مجافياً لتوخيه الصحة، وأنحى باللائمة على مَنْ عبثوا (بقصد أو بغير قصد) بما وقع تحت أيديهم من مصادر، وكان ذلك المؤرخ هو عبدالله ابن علي الوزير، وقد نبه إلى الأمر في بداية تاريخه المعروف بـ "طبق الحلوى". أما فيما يتعلق بهذا البحث فقد كان علينا أن نكثف الجهد مراراً للأم التطورات تاريخاً ما أمكن، استناداً إلى التقييم المتكرر لسياقات البحث والاعتناء بمجمل المناخ التاريخي للأحداث.
وكيفما بلغ حال التدوين أو النسخ، فلدينا كذلك إشكالات التحقيق، فقد استخدم البحث العديد من المراجع التي هي في الأصل من المخطوطات المحققة المنشورة ، وواقع الأمر أن الاستعانة بجانب منها ، إنما حتمه سهولة وضعها تحت تصرف الباحث، وإلاّ فالأصل المخطوط في حالتها قد يتيح تقليباً أوسع للنظر إذ يبقى المخطوط ماثلاً بهيئته المادية ومحتواه المفهومي معاً. وقد لا يزيد تحقيق كهذا عن كونه نسخاً طباعياً، يفتقر إلى أساليب التحقيق العلمي، مما شأنه حمل الباحث على توخي الحذر في التعامل مع متون وحواشي تحقيقات مثل تلك، وهكذا قد يجد الباحث نفسه يخوض أكثر في تعقيدات ما كان أغناه عنها.
لا أزعم بحال أني قد بلغت غاية ما أرجوه ، بعد أن اقتحمت الصعاب اقتحاماً ، بل الحق أنني كثيراً ما انقطعت حائراً دون مسائل البحث هذا ، ومحصت الدرس تكراراً ، ووسعت من التقصي ما أمكنني ، واستغرقت سنوات في التحصيل والعرض والصياغة ، كيما تأتي هذه الدراسة على سبيل من العلم التاريخي ، ما تهيأ هذا لباحث مثلي ، مراده أن يخطو ولو خطوات قليلة علىدرب المؤرخين المشمرين والباحثين المجدين ، فعلم التاريخ عله لم يكن كما هو اليوم ، في الصدارة من علوم العحد ومعارفه . تعلو به درجات الدرس والثقافة بكل لسان حي وذهن يقظ .
وثمة تعقيدات أخرى ، في الناحية الجغرافية التاريخية ، إذ يخوض البحث في أحداث شرقت وغربت على الأرض اليمنية ، والتاريخ يراه من المعاصرين ، إنه علاقة بين الإنسان والمكان . بيد أن التعويل على دراسات من هذا القبيل ، أمر متعذر ، والجغرافيا اليمنية الحديثة ، لم تنعقد لها عروة بعد . وكان لمادة البحث جغرافيتها المتقادمة المجملة غالباً ، وهي تقريبية أحياناً وغائمة أحياناً أخرى ، نجدها رسمت خطوطها ، مسارات تدوين الأحداث ، فتظهر وتتكثف معها ، وتنزاح وتتلاشى على جانبها أو خلفها ، فضلاً عن معالمها الاصطلاحية ، التاريخية الجغرافية المخصوصة ، التي جرت الدلالة بها على قطاعات ( جغرافية تاريخية ) لليمن في عهود المسالفة تلك ، وستأتي في البحث ، حيث أُستخدم كذلك تعبيرات مقابلة لها ، على تقرب المسرح التاريخي من يمن اليوم .
كان من المتيسر مُؤلَفان ، أو بالأحرى مصنفان صاغا كثيراً من معارف جغرافيه شتى ، على منوال منفذيهم من اليمنيين غالباً . أعني " مجموع بلدان اليمن وقبائلها " لمحمد بن أحمد الجمري ، و "اليمن الكبرى" لحسين بن علي الويسي ، وكلاهما معاصران . وأفاد البحث فهماً كثيراً ، غير أن المصنفين هما في حكم مادة البحث ذاتها وجغرافيتها . وكان لتوفر خرائط حديثة لليمن جدواها الهامة . ثم ظهر للباحث على غير توقع ، دراسة بالانجليزية هي “ The Vegetation of the R.O.Yemen ” وتعلق موضوعها بالجانب الغربي من اليمن ، واستمد البحث منها إطلالاً نافعاً في العموم ، على (طوبونمرافيا) ـ أو التضاريس الفائقة للهضبة اليمنية ( الغربية ) . وألحقت في آخر البحث خارطتين ، علهما تفيدان في تبين مسرح الأحداث .
وقد توخيت الحقيقة التاريخية الموضوعية ما استطعت فيما أحسب ، وكيف إذا كان التوصل إلى ذلك في البحث التاريخي ، هو بطبيعته أمر تقريبي ، لا يحتمل قطعية العلوم الطبيعية . وأنى لي أن أزعم أنني قد سددت فقاربت في المسألة تلو المسألة من هذه الدراسة . وقد قدمت أطرافاً مما يعانيه أمثالي من المتطلعين إلى التحصيل في تاريخنا اليمني ، ثم لا أجد للنفس إلاَّ أن أتمثل القول العربي المأثور : " رحم الله امرءً أهدى إليَّ عيوبي " فأعانني على نفسي .
وأتاحت فرصة يُحمد أثرها أن يكون في لجنة المناقشة الأستاذ الدكتور عبد الشافي الصديق ، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر ، وعميد كلية الآداب بجامعة إب ، فتفضل عليَّ ، خاصة في جانب الموضوعية التاريخية للبحث المقدم ، واستكمال عناصره ، وأسبغ عليَّ من تشجيعه الكريم .
وضمت لجنة المناقشة الموقرة كذلك الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عبد الواحد الشجاع أستاذ التاريخ الإسلامي ، ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب ، جامعة صنعاء . وهذا ذو أهمية مخصوصة ، إذ خاض هذا البحث فيما خاض عبر حقب مما يعرف بتاريخ اليمن الإسلامي ( أو الوسيط ) ، فأغدق عليَّ من علمه وسخي عنايته ، ووجهني ناحية الاهتمام أكثر ، أن أستقى المادة التاريخية من مصادرها الأصلية ومنابعها التليدة ، وأمدَّ على تفضلاً من سماحة شخصه الكريم .
لقد بذلت الوِسْع ما أمكنتني ظروف العيش وأسباب المعرفة، وحسبي جزاء مَنْ طلب الحق فأخطأه، والمنّة لله المولى أني أتممت هذا البحث. وحيث أن الحري بالمرء أن يذكر الفضل لأهله، وحقيق بذكر فضل له أستاذي المشرف، الدكتور سيد مصطفى سالم أستاذ التاريخ الحديث و المعاصر بكلية الآداب جامعة صنعاء ، فقد أخذ بيدي سنوات عدة حتى تهيأ لي أن أسطّر بحثاً في تاريخ اليمن الحديث، وقد شرعت في البحث وأنا قليل الدراية بأساليب التناول التاريخي، مضطرب المعارف بصددها . وعلني قد وفقت أو كدت أثناء أخذي بالبحث بين يدي أستاذي المشرف الكريم، جزاه الله عني خير الجزاء.
ولا يغيب عني ختاماً أن أزجي الشكر للصديق والأخ المهندس جمال محمد العنسي، فقد اهتم مخلصاً بإخراج هذا البحث وتصييره ناجزاً ، ثم أعبر عن إمتنناني لإبراهيم عبد الرحمن الشجاع لإخراجه الختامي ولمساته الأخيرة . ولئن أردت أن أوجه الشكر لكل مَنْ أعانني على أمري هذا، فالخطاب طويل، وأوجز محيياً الزملاء والأصدقاء والمعارف خاصةً مَنْ أدرك أن المعرفة التاريخية العلمية مناط جوهري للحضور الثقافي والروحي، فلم يضن بما في اليد من مصادر أو وثائق أو حتى روايات تروى.
والحمد لله فاتحة كل خير وتمام كل نعمة.