2 - فضل الأمة الإسلامية:

من فضل الله تعالى على هذه الأمة المسلمة أنه جعلها خير أمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] وحدّد وظيفتها الكبرى في هذه الأرض، ومكانتَها العظيمة في حياة البشرية، و دورَها الأساسي في حياة الناس، إذ جعلها خيرَ أمة، وأرسل إليها خيرَ رسول، وأنزل عليها أفضلَ الكتب وخيرَ المناهج، وخصَّها بأفضل الشرائع، ومنحها خيرَ الأخلاق، ونقلها من ظلام الجاهلية الدامس، وأفكارها المضطربة، ومقاييسها الفاسدة، لتقود الأمم بهذا المنهاج الرشيد إلى نور الحق والخير، وسداد الحكمة والعدل، وكمال العلم والرشد {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143]. فهي شهادة ريادة وتوجيه؛ لا شهادة تسلط واستكبار.

ولم يعوِّق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه اللّه لها، إلا أنها تخلَّت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغةُ اللّه واحدةً منها، واللّه يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحده {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]، ولا يزال القرآن يهتف بالذين يلتمسون الهدى في غير الإسلام {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

ولا يقدح في هذا الدور القائد للأمة أنها جاءت إلى الحياة متأخرة عما سبقها، بل قد أتاح لها ذلك أن تأخذ خير ما سبقها وأن تتجنب ما وقعت فيه تلك الأمم من انحراف وضلال، أخرج الشيخان -واللفظ لمسلم- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَاخْتَلَفُوا، فَهَدَانَا اللهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، هَدَانَا اللهُ لَهُ - قَالَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ - فَالْيَوْمَ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى».

وهذا الفضل الذي اختص الله به هذه الأمة أوقع -ولا شك- الحسد في قلوب الأمم السابقة، إذ هدانا الله لما ضلوا عنه من الجمعة والقبلة وصلاة العصر وغيرها، ورزقنا الثبات على ما انحرفوا عنه من أسباب الخير، فأخرج أحمد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عن النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلمقَالَ: «إِنَّهُمْ (يعني اليهود) لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ».

ولعل ذكر صلاة العصر في هذا الحديث لكونها إحدى ما ضيعه اليهود والنصارى مما افترض الله عليهم، فاختص الله بها المسلمين، ودعاهم النبي صلي الله عليه وسلم للمحافظة عليها، فقد أخرج مسلم عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم بِالْمُخَمَّصِ(موضع بالمدينة)، فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا - وعند أحمد: فَتَوَانَوْا فِيهَا وَتَرَكُوهَا- فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ» ، وَالشَّاهِدُ: النَّجْمُ. وأخرج البخاري عَن بُرَيْدَة رضي الله عنه قَالَ: قال النَّبِيصلي الله عليه وسلم: «من ترك صَلَاة الْعَصْر حَبِطَ عَمَلُه» وأخرج الشيخان عَن ابْن عمر رضي الله عنهم أَن رَسُول الله صلي الله عليه وسلم َ قَالَ: «الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ العَصْرِ، كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» مُتَّفق عَلَيْهِ.

ولهذا الحفظ للدين وعدم التحريف فيه كانت هذه الأمة أعظم عند الله أجراً، وكان المسلمون أكثر الناس نجاة يوم القيامة ودخولا إلى الجنة، أخرج البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم، قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا ذَلِكَ الوَاحِدُ؟ قَالَ: «أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا». ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: «أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: «أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: «مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ».

وأخرج أحمد عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلَ وَالرَّجُلَيْنِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقُلْتُ: هَذِهِ أُمَّتِي، فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ ...» الحديث.

على أن هذا الفضل للأمة لا يعني التقصير في العمل أو الاتكال على الفضيلة، فالتفاضل عند الله بالأعمال، لا بالأنساب والألقاب، قال تعالى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]. وأخرج البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا».

3 - شمول الشريعة الإسلامية وتتميمها لما سبقها من الشرائع:

ماجاء النبي صلي الله عليه وسلم لينقض ما سبقه من الرسالات، بل جاء يدعو إلى الإيمان بكل رسل الله وكتبه على ما نزلت عليه من غير تحريف المبطلين، ويدعو إلى ذلك سائر الناس، ويكشف لهم أن لا معنى للإيمان بمن سبق من الأنبياء ما لم يؤمنوا بكل الرسل، فقال تعالى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 136، 137] وقال تعالى {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 84، 85]

كما بين صلي الله عليه وسلم أنه جاء ليتمم ويصحح وينفي تحريف من سبقه، ففي صحيح مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَرضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ! قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ»، وأخرج أحمد وصححه الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَرضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ»، وفسَّر الطحاوي في شرح مشكل الآثار: «صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» فقال: أَيْ: صَالِحَ الْأَدْيَانِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ.

وجعل الله من خصائص هذه الشريعة صلاحيتها لكل زمان ومكان، وتكفل بحفظ القرآن من التحريف فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ولهذا كان القرآن ناسخا للتوراة والإنجيل التي نزلت من قبله، ومهيمنا عليها، وكانت شريعته صلي الله عليه وسلم ناسخة لما سبقها من الشرائع، قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].

ولو أن الأنبياء أدركوا محمدا صلي الله عليه وسلم لاتبعوه وحكموا بشريعته، بما أخذ الله عليهم من الميثاق، كما في قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81-82]

وأخرج الدارمي وأحمد وغيرهما عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنهأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِنُسْخَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ. فَسَكَتَ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ! مَا تَرَى بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم؟ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي، لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي، لَاتَّبَعَنِي».

على أن هذا ليس معناه الإعراض عن كل ما لدى القوم، بل ما كان عندهم من حق وصواب فنحن أولى به، وقد رأى النبي صلي الله عليه وسلم اليهود يصومون عاشوراء شكرا لله أن نجى موسى فيه، فصامه وأمر بصيامه لأنه أولى بموسى ممن حرفوا شريعته، فقد أخرج الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا اليَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ» ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ.

وقد أخبرنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم ببعض ما بقي من آيات في التوراة لم يمسها التحريف، في الحديث الذي أخرجه البخاري عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهم قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: «أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (الأحزاب: 45)، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا».

فما جاءنا عنهم مما يوافق ما جاء في القرآن والسنة قبلناه، وما جاء مما يخالفهما رفضناه، وما لم يأتنا فيه خبر صحيح بالإثبات أو بالنفي، فقد أمرنا النبي صلي الله عليه وسلم ألا نصدقهم ولا نكذبهم فيه، فأخرج أحمد وأبو داود بسند حسن عن أبي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلي الله عليه وسلم جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجَنَازَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم: «اللهُ أَعْلَمُ». قَالَ الْيَهُودِيُّ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم: «إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ».