قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح :

حدثنا محمدُ بن العَلاَء، قال: حدثنا حَمَّادُ بنُ أسامةَ، عن بُرَيْدِ بن عبد الله، عن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : « مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثيِرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَت الماءَ، فَأَنْبَتَت الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَت الماءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً.

فذلك مَثَلُ منْ فَقُه في دينِ الِله ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِمَ وعلَّم، ومَثَلُ مَنْ لَمْ يرفعْ بذلك رأساً، ولَمْ يقبلْ هدى اللهِ الذي أُرْسِلْتُ به».

1- شرح الحديث والمثل:

خلق الله العباد متفاوتين في تقديرهم للحق وقبولهم لأسباب الهدى، فجعلهم فريقين، {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَة} (الأعراف/30)، ولم يزل الحق سبحانه وتعالى يرسل الرسل إلى الخلق وينزل الكتب عليهم ليرد الشاردين ويهدي الضالين، ويضيء بنور العلم حياة البشر ويحيي بالوحي أرواحهم، والناس أمام هذا الهدى والنور ما بين مصدق مستفيد وما بين مكذب عنيد، وفي هذا الحديث الشريف يضرب النبي صلي الله عليه وسلم لما جاء به من الدين والوحي مثلاً؛ بالغيث الذي يعمُّ الأرضَ عند شدَّة احتياجِ الناسِ إليه، فكذلك كان حالُه وحالُ الناس عند مبعثه صلي الله عليه وسلم، وكما أن الله يحيي بهذا الغيث الأرضَ الميتةَ؛ فإنه يحيي بالدين والوحي القلوبَ الميتة. والناسُ في استقبالهم لهذا الدين وانفعالهم به وانتفاعهم بما فيه أصنافٌ متباينةٌ متعددةٌ، كتباين أصناف الأرض في انتفاعها وانفعالها بالغيث الهاطل.

وهذا التباين ينحصر في أصناف ثلاثة:

الأول: أرض طيبة، تستقبل الماءَ فتنتفع به، فتحيا بعد موتٍ، وتهتز، وتربو، وتخرج نباتَها بإذن ربِّها من أصنافٍ شتَّى، فينتفع به الناسُ والدوابُّ والأنعامُ، كما قال تعالى {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طـه:53-54) .

الثاني: أرضٌ أَجَادِبُ صلبة، ينْزل عليها الماءُ، فلا تشربُه ولا تنتفعُ به في نفسها، لكنها مع ذلك تُمْسكُه عن التسرُّب والضياع، وتحفظه حتى يأتي الناس، فيشربوا منه، ويَسقُوا زروعَهم ودوابَّهم.

الثالث: أرضٌ سَبَخَةٌ قِيعَانٌ ملساء، ينزل عليها الماء، فلا هي تنتفع به في نفسها، ولا هي تحفظه لينتفع به غيرها.

وكذلك الناس أمام الوحي الإلهي والهدي النبوي أصناف ثلاثة:

الأول: يبلغه الهدى والعلم فيحيا به قلبُه، ويعملُ بما فيه، ويفقهُ معانيَه، ثم ينقله إلى غيره قولاً وسلوكاً، فينتفعُ في نفسه وينفعُ غيرَه.

الثاني: يبلغه الهدى والعلمُ، وليس له فهمٌ ثاقبٌ أو عقلٌ راسخٌ، يستنبط به المعاني والأحكام، لكنه مع ذلك ذو قلبٍ حافظٍ وعقلٍ ضابطٍ، فيجمعُ هذا العلمَ ويحفظُه ويستغرقُ فيه زمانه، حتى يأتيَه طالبٌ محتاجٌ متعطِّشٌ لما عنده قادرٌ على الفقه فيه و الانتفاع به، فيؤديَه إليه، فهذا صنفٌ نفع غيرَه بما بلَّغه وأدَّى إليه.

الثالث: يبلغه الهدى والعلمُ، فلا يصادف لديه قلباً حافظاً ولا عقلاً واعياً ولا فهماً مستوعباً، فلا هو ينتفعُ بما بلَغه من العلم، ولا هو يحملُه إلى مَنْ ينتفع به، بل هو يفسدُه عليه .

2 - الدين حياة القلوب والأرواح:

أشار هذا الحديث الشريف إلى معنى في غاية الأهمية، وهو حاجة الإنسان إلى الدين، التي هي مثل حاجته إلى الطعام والشراب، وقد تكون أكثر، ومن هنا شبه رسول الله صلي الله عليه وسلم ما جاء به من الدين القيم بالغيث الكثير الذي ينزل على الأرض وهي أشد ما تكون حاجة إليه، فيكون غوثا وإنقاذا لها من الجدب الذي أصابها والقحط الذي حل بها.

ومن هنا وصف الله القرآن بالروح في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (ص52-53)، وعد الله الذين لم يستضيئوا بنور القرآن ولم يحيوا بحكمته أمواتا وإن سارت بهم أقدامهم وتحركت جوارحهم ونطقت ألسنتهم، كما قال تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: 122]، ووصف الذين لا يستجيبون لما جاء في القرآن العظيم ولما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم بالصم البكم، وحذر المؤمنين أن يقعوا فيما وقعوا فيه من الإعراض عن حياة الأرواح، فقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 20 - 24].

ومن العجيب أن القرآن الكريم كثيرا ما يقرن بين إنزال المطر من السماء غوثا للأبدان وبين إنزال القرآن والوحي غوثا للأرواح، كما يقرن بين إرسال الرياح اللواقح محملة بأسباب الخير وألوان الرزق وبين إرسال الرسل الذين يحملون للبشرية أسباب الهداية وأصول السعادة في عاجلهم وآجلهم، وتأمل معي حديث القرآن عن الإنزالين في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ. أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 21- 23].

{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم: 46 - 53]

وإن الأمة التي اختصها الله بهذا النور الهادي لجديرة بأن تقف مع نفسها لتتأمل أين هي من الحياة بهذا القرآن العظيم الذي ضمنه الله كل أسباب الهداية إلى كل ما هو خير{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وأن تعود بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم، فتحكمه وحده في حياتها. وتتحاكم إليه وحده في شؤونها. وإلا فهو الفساد في الأرض، والشقاوة للناس{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص/). ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها، ونكبة قاصمة في حياتها، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات.

«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.

ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.

ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار. ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.

ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجا، وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى ولا تميل مع المودة والشنآن ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.

ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.

ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة المسكينة الحائرة، التي أهملت الأخذ بهذا الكتاب، والتي لن تجد الرشد، ولن تجد الهدى، ولن تجد الراحة، ولن تجد السعادة، إلا حين ترد هذا النور يضيء حياتها، وتعيد هذه الروح لتحيي مواتها، فهل من مدكر؟.

عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : « مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثيِرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَت الماءَ، فَأَنْبَتَت الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَت الماءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً.

فذلك مَثَلُ منْ فَقُه في دينِ الِله ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِمَ وعلَّم، ومَثَلُ مَنْ لَمْ يرفعْ بذلك رأساً، ولَمْ يقبلْ هدى اللهِ الذي أُرْسِلْتُ به».

3 - تفصيل أصناف الناس مع الوحي والهدى :

للإمام العلامة ابن القيم رحمه الله في فهم هذا الحديث كلامٌ طيبٌ يحسن نقلُه هنا ، قال رحمه الله : « فجعل صلي الله عليه وسلم الناس بالنسبة إلى الهدى والعلم ثلاث طبقات:

فالطبقة الأولى: ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين قاموا بالدين علماً وعملاً ودعوةً لله عز وجل ورسوله صلي الله عليه وسلم، فهؤلاء أتباع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه حقاً، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زَكَتْ فقبلت الماءَ، فأنبتت الكلأ والعشبَ الكثير، فزَكَتْ في نفسها، وزَكَا الناسُ بها، وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثةَ الأنبياء صلى الله عليهم وسلَّم، الذين قال الله تعالى فيهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} (ص/45) أي البصائر في دين الله عز وجل، فبالبصائر يُدرَك الحقُّ ويُعرَف، وبالقوى يُتمَكَّن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه.

فهذه الطبقة كان لها قوةُ الحفظ، والفهمُ في الدين، والبَصَرُ بالتأويل، ففجَّرتْ من النصوص أنهارَ العلوم، واستنبطتْ منها كنوزَها، ورُزِقت فيها فهماً خاصَّاً، كما قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سُئل (كما في البخاري): هل خصَّكم رسول الله صلي الله عليه وسلم بشيءٍ دون الناس؟ فقال : «لا، والذي فلق الحبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمةَ؛ إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه».

فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض، وهو الذي تَمَيَّزَت به هذه الطبقةُ عن الطبقةِ الثانية، فإنها حفظت النصوص، وكان همُّها حفظَها وضبطَها، فورَدها الناسُ، وتلقوْها منهم، فاستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها، واتَّجروا فيها، وبذروها في أرض قابلةٍ للزرع والنبات، ووردها كلٌّ بحسبه {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ }(الأعراف/160). وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي صلي الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: «نَضَّرَ اللهُ امْرَءاً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ».

وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم حَبْر الأمة، وتُرْجُمان القرآن، مقدارُ ما سمعه من النبي صلي الله عليه وسلم لم يبلغ نحو العشرين حديثاً، الذي يقول فيه: سمعت و رأيت، وسمع الكثير من الصحابة، وبورك في فهمه والاستنباط منه حتى ملأ الدنيا علماً وفقهاً. قال أبو محمد بن حزم: «و جُمِعت فتاويه في سبعة أسفار كبار»، وهي بحسب ما بلغ جامعَها، وإلا فعلمُ ابن عباس كالبحر، وفقهُه و استنباطُه وفهمُه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناسَ، وقد سمع ما سمعوا، وحفظ القرآنَ كما حفظوا، ولكنَّ أرضَه كانت من أطيب الأراضي وأَقْبَلِهـا للزرع، فبذَر فيها من النصو، فأنبتتْ من كل زوجٍ كريم {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ }(الجمعة/4) .

وأين تقع فتاوى أبي هريرة رضي الله عنه وتفسيره واستنباطه من فتاوى ابن عباس رضي الله عنهم وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق، يؤدِّي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درساً، فكانت هِمَّتُه مصروفةً إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهِمَّةُ ابن عباس مصروفةً إلى التفقه و الاستنباط، وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها.

وهكـذا الناس بعده قسمان: قسمٌ حفاظٌ مُعْتَنُون بالضبط والحفظ والأداء كما سمعوا، ولا يستنبطون ولا يستخرجون كنوزها مما حفظوه، وقسمٌ مُعْتَنُون بالاستنباط واستخراج الأحكام من النصوص، والتفقه فيها.

فالأول : كأبي زُرْعَــة وأبي حــاتم،وابن وَارَة. وقبلـهم: كبُندار محمد بن بشّار، وعمرو النَّاقـد، وعبد الـرزَّاق. وقبلــهم : كمحمـد بن جعفر غُنْدَر، وسعـيد بن أبي عَـرُوبة، وغيرهم من أهـل الحفظ و الإتقـان والضبط لما سمعوه، من غير استنباط وتصـرُّفٍ واستخراج الأحكام من ألفاظ النصوص .

والقســم الثاني: كمــالك، والشافعي، والأوزاعي، وإسحـاق، والإمـام أحمــد بن حنــبل، والبخــاري، وأبي داود، ومحمـد بن نصر المرُّوزي، وأمثالهم ممن جمع الاستنباط والفقه إلى الرواية.

فهاتان الطائفتان هما أسعدُ الخلق بما بعث الله تعالى به رسولَه صلي الله عليه وسلم وهم الذين قبلـوه ورفعوا به رأسا.

وأما الطائفة الثالثة، وهم أشقى الخلق، الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأسا، فلا حفظَ لهم ولا فَهـمَ ولا روايةَ ولا درايةَ ولا رعاية.

فالطبقة الأولى: أهل رواية ودراية، والطبقة الثانية : أهل رواية ورعاية، ولهم من الدراية نصيب، بل حظهم من الرواية أوفر، والطبقة الثالثة: الأشقياء، لا رواية ولا دراية ولا رعاية {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان/44) فهؤلاء الذين يضيِّقون الديار، ويُغلون الأسعار، إنْ همَّة أحدهم إلاّ بطنه وفرجه، فإن ترقَّت هِمَّتُـه كان همُّـه مع ذلك لباسه وزينته ...».

وهذا التوضيح من العلامة ابن القيم رحمه الله طيب بالغ غاية الحسن والدقة، فإن الحوافظ متفاوتة والعقول متباينة، والفقه صناعة لا يحسنها كلُّ أحد، وهبة لا يُؤْتَاها كلُّ طالب، كما أن الحفظ لا يُلْهَمه كلُّ أحد، ولا غِنى لكل من العقل الواعي والقلب الحافظ عن الآخر.

وقد جمع كثيرون من الصحابة رضي الله عنهم بين الحفظ والفقه، وكذلك بعض التابعين وبعض الأئمة المهتدين، فأضاءتْ لهم عقولُهم وأنار لهم حسنُ فهمهم وفقههم نصوصَ الكتاب والسنة التي حفظوها، فأدَّوْا الدين كاملاً غير منقوص.

{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 31، 32]

سنن الترمذي ت شاكر (5/ 363)

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] قَالَ: «هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّهُمْ فِي الجَنَّةِ» . «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ

مسند أبي داود الطيالسي (3/ 92)

عُقْبَةُ بْنُ صُهْبَانَ الْهُنَائِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] الْآيَةَ، فَقَالَتْ لِي: " يَا بُنَيَّ كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ فَأَمَّا السَّابِقُ إِلَى الْخَيْرَاتِ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَيَاةِ وَالرِّزْقِ، وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنْ تَبِعَ أَثَرَهُ مِنْ [ص:93] أَصْحَابِهِ حَتَّى لَحِقَ بِهِ، وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ. قَالَ: فَجَعَلَتْ نَفْسَهَا مَعَنَا "

سنن سعيد بن منصور (2/ 151)

عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَنْزِعُ هَذِهِ الْآيَةَ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [ص:152] وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] أَلَا إِنَّ سَابِقَنَا: أَهْلُ جِهَادِنَا، أَلَا وَإِنَّ مُقْتَصِدَنَا: أَهْلُ حَضَرِنَا، إِلَّا وَإِنَّ ظَالِمَنَا: أَهْلُ بَدْوِنَا، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا نَزَعَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: «إِلَّا إِنَّ سَابِقَنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدَنَا نَاجٍ، وَظَالِمَنَا مَغْفُورٌ لَهُ»

مسند أحمد مخرجا (36/ 57)

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32] فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ اقْتَصَدُوا، فَأُولَئِكَ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا، وَأَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ [ص:58] يُحَاسَبُونَ فِي طُولِ الْمَحْشَرِ، ثُمَّ هُمُ الَّذِينَ تَلَافَاهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] ، إِلَى قَوْلِهِ، {لُغُوبٌ} [فاطر: 35] "

ولقد شهد تاريخُنا الفقهيُّ في مختلف عصوره وجودا لأهــل الحديث والأثــر، ووجودا لأهــل الرأي والنظــر، ودتارت بين الفقهاء من الطرفين محاوراتٌ ومناقشاتٌ طويلةٌ، وعُقدت مناظراتٌ كثيرةٌ، وصُنِّفت كتبٌ كِثَارٌ، دون أن يؤديَ ذلك في الغالب إلى إهمالٍ للنصوصِ أو تضييعٍ لأدبِ الحوارِ، أو إلغاء لمعايير الفهم الصحيح، فأنتج ذلك ثروةً فقهيةً وفكريةً ضخمةً، تفخر بها المكتبةُ الإسلامية.

إلا أنه في العصر الحديث ومع غياب كثيرٍ من الأصولِ والمعاييرِ الصحيحةِ واللازمةِ للتعاملِ مع النصوص؛ غلب على كثير من المنتسبين إلى العلم التراشق بالتهم، والترامي بسوء الظن، وقلة الفهم، وضعف الديانة، حتى خاض في الموضوع مَنْ لا يُحسن الخوضَ، وادعى العلمَ مَنْ لا يملك أدواتِه، هذا مع تعصبٍ للرأي يُعمي عن رؤية الحق في تجردٍ وإنصاف، مما مكن الفئة الثالثة من قيادة الحالة الثقافية للأمة، مع أنها لا علم لها يعصمها، ولا خلق أو دينا لها يهذب سلوكها ويحجزها عن ارتكاب المحرمات.

ومن ثَـمّ وجب على أهل العلم أن يجردوا الحقَّ، ويتجردوا له، وأن يزيلوا سوءَ الفهم للإسلام وللدعوة الذي نتج عن ضيقِ أُفُقِ بعض المتعصبة.