السلطان محمد الفاتح.. محقق البشارة النبوية
بطلنا الذي سنسرد سيرته هو محقق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رائد الجهاد الإسلامي ضد الدولة البيزنطية فاتح القسطنطينية هو السلطان محمد الثاني (431هـ- 1481م)، يعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان يلقب بالفاتح وأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عامًا كانت خيرًا وعزةً للمسلمين، تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 16 محرم عام 855هـ الموافق 18 فبراير عام 1451م، وكان عمره آنذاك 22 سنة
نشأته وتربيته
أسهمت تربية العلماء لمحمد الفاتح على تنشئته على حبِّ الإسلام والإيمان والعمل بالقرآن وسنة سيد الأنام؛ ولذلك نشأ على حب الالتزام بالشريعة الإسلامية، واتصف بالتقوى والورع، ومحبًّا للعلم والعلماء ومشجعًا على نشر العلوم، ويعود تدينه الرفيع للتربية الإسلامية الرشيدة التي تلقاها منذ الصغر، بتوجيهاتٍ من والده، وجهود الشخصيات العلمية القوية التي أشرفت على تربيته، وصفاء أولئك الأساتذة الكبار وعزوفهم عن الدنيا وابتعادهم عن الغرور ومجاهدتهم لأنفسهم، ممن أشرفوا على رعايته.
لقد تأثَّر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته، ومن أخصهم العالم الرباني "أحمد بن إسماعيل الكوراني"، والشيخ آق شمس الدين، هذه التربية الإسلامية الصادقة، وهؤلاء المربون الأفاضل، من الطبيعي أن يتخرج من بين جنباتها أناس عظماء كمحمد الفاتح، مسلمًا مؤمنًا ملتزمًا بحدود الشريعة، مقيدًا بالأوامر والنواهي معظمًا لها ومدافعًا عن إجراءات تطبيقها على نفسه أولاً ثم على رعيته ثانيًا، تقيًّا صالحًا يطلب الدعاء من العلماء العاملين الصالحين، وكان المربون يقومون بالإيحاء دومًا لمحمد منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش"؛ لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور.
صفاته وأخلاقه
امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل، كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثيرٍ من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء، وخاصةً معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ؛ ما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال حتى إنه اشتهر أخيرًا في التاريخ بلقب محمد الفاتح، لفتحه القسطنطينية.
وقد ظهرت بعض الصفات القيادية في شخصية محمد الفاتح من أهمها الشجاعة، فكان يخوض المعارك بنفسه ويقاتل الأعداء بسيفه، ومنها الذكاء ويظهر ذلك في فكرته البارعة وهي نقل السفن من مرساها بجرها على الطريق البري، ومن صفاته العزيمة والإصرار، فعندما رفض قسطنطين تسليم المدينة قال السلطان محمد: "حسنًا عن قريبٍ سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر".
أما عن عدله فكان شعاره "العدل أساس الملك"، ومن صفاته عدم الاغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان، واتصف الفاتح بإخلاصه لدينه وعقيدته في مناجاته لربه سبحانه وتعالى؛ حيث يقول:
"نيّتي: امتثالي لأمر الله (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية 109).
وحماسي: بذل الجهد لخدمة ديني، دين الله.
عزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعًا بجنودي: جند الله.
وتفكيري: منصب على الفتح، على النصر على الفوز، بلطف الله.
جهادي: بالنفس وبالمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله.
وأشواقي: الغزو مئات الآلاف من المرات لوجه الله.
رجائي: في نصر الله، وسمو الدولة على أعداء الله.
محبته للعلم والعلماء
كان السلطان محمد الفاتح محبًّا للعلم والعلماء؛ ولذلك اهتمَّ ببناء المدارس والمعاهد في جميع أرجاء دولته، وبذل جهودًا كبيرة في نشر العلم وإنشاء المدارس والمعاهد، وأدخل بعض الإصلاحات في التعليم وأشرف على تهذيب المناهج وتطويرها، وحرص على نشر المدارس والمعاهد في كل المدن الكبيرة والصغيرة، وكان للعلماء والأدباء مكانة خاصة لدى محمد الفاتح، فقرب إليه العلماء ورفع قدرهم وشجَّعهم على العمل والإنتاج وبذل لهم الأموال ووسع لهم في العطايا والمنح والهدايا ليتفرغوا للعلم والتعليم، وكان يكرمهم غاية الإكرام ولو كانوا من خصومه، وكان السلطان الفاتح يحترم العلماء وأهل الورع.
وكان السلطان محمد الفاتح لا يسمع عن عالم في مكان أصابه عوز وإملاق إلا بادر إلى مساعدته، وبذل له ما يستعين به على أمور دنياه، ومن أجل أن يبعث محمد الفاتح نهضةً فكريةً في شعبه أمر بنقل كثير من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية.
يوميات الفاتح في رمضان
كان من عادة السلطان محمد الفاتح في شهر رمضان أن يأتي إلى قصره بعد صلاة الظهر بجماعةٍ من العلماء المتبحرين في تفسير القرآن، فيقوم في كل مرة واحد منهم بتفسير آيات من القرآن الكريم وتقريرها ويناقشه في ذلك سائر العلماء ويجادلونه، وكان الفاتح يشارك في هذه المناقشات ويُشجِّع هؤلاء العلماء بالعطايا والهدايا والمكافآت المالية الجزيلة.
تنظيمه لأمور الدولة
قام السلطان محمد الفاتح بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيرًا بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة، وطُرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف، وكذلك ركَّز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها، ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر، وعمل على تطوير إدارة الأقاليم وأقرَّ بعض الولاة السابقين في أقاليمهم وعزل مَن ظهر منه تقصير أو إهمال، وطوَّر البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة؛ ما أسهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الأمام.
وقاد السلطان محمد الفاتح حركة عمران كبيرة شملت بناء المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق والحدائق العامة، وشجَّع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات وغيرها من المباني التي تعطي المدن بهاءً ورونقًا واهتم بالعاصمة إستانبول اهتمامًا خاصًّا، وكان حريصًا على أن يجعلها أجمل عواصم العالم وحاضرة العلوم والفنون، واهتمَّ السلطان بالتجارة والصناعة وعمل على إنعاشهما بجميع الوسائل والعوامل والأسباب.
كما قنن السلطان محمد الفاتح القوانين حتى يستطيع أن ينظم شئون الإدارة المحلية في دولته، وكانت تلك القوانين مستمدة من الشرع الحكيم، وشكَّل السلطان محمد لجنة من خيار العلماء لتشرف على وضع (قانون نامة) المستمد من الشريعة الغرَّاء، وجعله أساسًا لحكم دولته، واهتم محمد الفاتح بوضع القوانين التي تنظم علاقة السكان من غير المسلمين بالدولة ومع جيرانهم من المسلمين، ومع الدولة التي تحكمهم وترعاهم، وأشاع العدل بين رعيته، وجد في ملاحقة اللصوص وقطاع الطرق، وأجرى عليهم أحكام الإسلام، فاستتب الأمن وسادت الطمأنينة في ربوع الدولة العثمانية.
وقام محمد الفاتح بحركة تطهير واسعة لكل الموظفين القدماء غير الأكفاء وجعل مكانهم الأكفاء، واتخذ الكفاءة وحدها أساسًا في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته، واهتم بالنظام المالي ووضع القواعد المحكمة الصارمة في جباية أموال الدولة، وقضى على إهمال الجباة وتلاعبهم.
لقد أظهر السلطان محمد في الناحية الإدارية كفايةً ومقدرةً لا تقلان عن كفايته ومقدرته في الناحيتين السياسية والحربية، وحرص السلطان محمد على تطوير الجيش البري والقوة البحرية وظهرت أهميتها منذ فتح القسطنطينية.
محمد الفاتح وتحقيق البشارة النبوية
بعد أن قطع القائد الشاب محمد الفاتح أشواطًا مثمرةً في الإصلاح الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولم يكتف السلطان محمد بذلك بل إنه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والمعقل الإستراتيجي المهم للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية، فقد دخل المسلمون في جهادٍ مع الدولة البيزنطية، وكان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع؛ ولذلك فقد بشَّر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك: ما حدث أثناء غزوة الخندق، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعًا في أن يتحقق فيهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش".
لذلك فقد امتدت إليها يد القوات المسلمة المجاهدة منذ أيام الخليفة معاوية بن أبي سفيان في أولى الحملات الإسلامية عليها سنة 44هـ، وقد تكررت حملات أخرى، وفي مطلع القرن 8هـ/ 14م تجددت المحاولات الإسلامية لفتح القسطنطينية في أيام السلطان بايزيد، وفي أيام السلطان مراد الثاني، ولم يتمكن العثمانيون من تحقيق ما كانوا يطمحون إليه إلا في زمن السلطان محمد الفاتح الذي كان يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويُفكِّر في فتحها، فقد بذل جهوده المختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، وبذل جهدًا كبيرًا في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية، وبفنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية الجهادية المنتظرة.
كما اعتنى الفاتح بإعدادهم إعدادًا معنويًّا قويًّا وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوةً معنويةً وشجاعةً منقطعةَ النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود وربطهم بالجهاد الحقيقي وفق أوامر الله.
وحينما وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م، خطب فيهم القائد محمد الفاتح خطبةً قويةً حثَّهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة، وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، وما في فتحها من عزٍّ للإسلام والمسلمين، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء، وكان العلماء مبثوثين في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين معهم؛ ما أثَّر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب.
استبسل العثمانيون المهاجمون للمدينة وعلى رأسهم محمد الفاتح، ولاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش إلى القرن الذهبي، وفي المراحل المتقدمة من الحصار لجأ العثمانيون إلى طريقة عجيبة في محاولة دخول المدينة حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفة إلى داخل المدينة.
وفي يوم الأحد 18 جمادى الأولى 27 من مايو وجه السلطان محمد الفاتح الجنود إلى الخشوع وتطهير النفوس والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة وعموم الطاعات والتذلل والدعاء بين يديه، لعل الله أن ييسر لهم الفتح، والسلطان يدور بنفسه على المواقع العسكرية المختلفة متفقدًا وموجهًا ومذكرًا بالإخلاص والدعاء والتضحية والجهاد، وكان الفاتح كلما مرَّ بجمعٍ من جنده خطبهم وأثار فيهم الحمية والحماس، وأبان لهم أنهم بفتح القسطنطينية سينالون الشرف العظيم والمجد الخالد، والثواب الجزيل من الله تعالى، وسيكون لأول جندي ينصب راية الإسلام على سور القسطنطينية الجزاء الأوفى والإقطاعات الواسعة.
وكان علماء المسلمين وشيوخهم يتجولون بين الجنود، ويقرءون على المجاهدين آيات الجهاد والقتال وسورة الأنفال، ويذكرونهم بفضل الشهادة في سبيل الله وبالشهداء السابقين حول القسطنطينية وعلى رأسهم أبو أيوب الأنصاري، ويقولون للمجاهدين: لقد نزل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة في دار أبي أيوب الأنصاري، وقد قصد أبو أيوب إلى هذه البقعة ونزل هنا، وكان هذا القول يلهب الجند ويبعث في نفوسهم أشد الحماس والحمية.
وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته ودعا إليه كبار رجال جيشه أصدر إليهم التعليمات الأخيرة، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية: "إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير فأبلغوا أبناءنا العساكر فردًا فردًا، إن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدرًا وشرفًا، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه، فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى، ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون".
عند الساعة الواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن صدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار، وكان الهجوم النهائي متزامنًا بريًّا وبحريًّا في وقت واحد حسب خطة دقيقة أُعدت بإحكام، وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة، ولذلك تقدموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء، ونال الكثير من المجاهدين الشهادة، وتمكَّن المسلمون من الاستيلاء على المدينة، وكان الفاتح مع جنده في تلك اللحظات يشاركهم فرحة النصر، ولذة الفوز بالغلبة على الأعداء من فوق صهوة جواده وكان قواده يهنئونه وهو يقول: "الحمد لله ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد، ولشعبي الفخر والشكر.. لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية الذي أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنأهم بالنصر ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرفق بالناس والإحسان إليهم ، ثم ترجل عن فرسه وسجد لله على الأرض شكرًا وحمدًا وتواضعًا لله تعالى".
كانت القسطنطينية قبل فتحها عقبةً كبيرةً في وجه انتشار الإسلام في أوروبا، ولذلك فإن سقوطها يعني فتح الإسلام لدخول أوروبا بقوة وسلام، ويعتبر فتح القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمي، وخصوصًا تاريخ أوروبا وعلاقتها بالإسلام حتى عده المؤرخون الأوروبيون ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة، وقد قام السلطان بعد ذلك على ترتيب مختلف الأمور في المدينة، وإعادة تحصينها، واتخذها عاصمةً للدولة العثمانية وأطلق عليها لقب "إسلام بول" أي مدينة الإسلام.
معاملة محمد الفاتح للنصارى
توجَّه محمد الفاتح إلى كنيسة آيا صوفيا، وقد اجتمع فيها خلق كثير من الناس ومعهم القسس والرهبان فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فاطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة، فلما رأوا تسامح محمد الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، أما من بقي على النصرانية فأعطاهم حرية إقامة الشعائر الدينية، أما الأسرى فقد أمر محمد الفاتح جنوده بحسن معاملتهم والرفق بهم، وافتدى عددًا كبيرًا منهم من ماله الخاص، واجتمع مع الأساقفة وهدأ من روعهم، وطمأنهم إلى المحافظة على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم، فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في اطمئنان، وكانت معاملة محمد الفاتح للنصارى خالية من أي شكل من أشكال التعصب والظلم، وما كان ذلك إلا بدافع التزامه الصادق بالإسلام العظيم، وتأسيًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبخلفائه الراشدين من بعده.
قالوا عنه
قال عنه عبد الحي بن العماد الحنبلي: ".. كان من أعظم سلاطين بني عثمان، وهو الملك الفاضل النبيل العظيم الجليل أعظم الملوك جهادًا وأقواهم إقدامًا واجتهادًا، وأثبتهم جأشًا وقوادًا، وأكثرهم توكلاً على الله واعتمادًا، وهو الذي أسس ملك بني عثمان وقنن لهم قوانين صارت كالأطواق في أجياد الزمان، وله مناقب جميلة ومزايا فاضلة جليلة وآثار باقية في صفحات الليالي والأيام ومآثر لا يمحوها تعاقب السنين والأعوام وغزوات كسر بها أصلاب الصلبان والأصنام، من أعظمها أنه فتح القسطنطينية الكبرى، فرحمة الله ومغفرته ورضوانه على السلطان محمد الفاتح وأعلى ذكره في المصلحين.
وفاته
مات السلطان الفاتح وسط جيشه يوم الخميس الرابع من ربيع الأول 886هـ / 3 مايو 1481م، وهو في الثانية والخمسين من عمره بعد أن حكم نيفًا وثلاثين عامًا، وبعد أن ذاع نبأ الوفاة في الشرق والغرب، أحدث دويًّا هائلاً اهتزَّت له النصرانية والإسلام، أما النصرانية فقد غمرها الفرح والابتهاج والبشرى، أما المسلمون في العالم الإسلامي فقد تأثروا لوفاة محمد الفاتح وحزنوا عليه حزنًا عميقًا، وبكاه المسلمون في جميع أقطار المعمورة، لقد بهرتهم انتصاراته، وأعاد إليهم سيرة المجاهدين الأوائل من السلف الصالح.
خاتمة المطاف
وصية السلطان محمد الفاتح.. للرئيس القادم لمصر:
هذه الوصية أوصى بها الفاتح محمد الفاتح وهو على فراش الموت لابنه، أُهديها إلى رئيس مصر القادم "كن عادلاً صالحًا رحيمًا، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها، وسع رقعة البلاد بالجهاد، واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، إياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام، واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين، وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال، لا يغرنك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا، خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، واحذُ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ولا تصرف أموال الدولة في ترفٍ أو لهو، وأكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك".