الحداد على عماتنا النخلات


جريدة المستقبل العراقية 11/8/2011



كاظم فنجان الحمامي

كانت السفينة الاماراتية (بيرل أوف دبي) منشغلة برحلاتها المكوكية, التي كانت تقطعها بين موانئ الامارات وميناء ام قصر جيئة وذهابا, بمعدل رحلة واحدة كل اسبوع, وشهد العقد الأخير من القرن الماضي حملة مسعورة لتسفير وترحيل عماتنا النخلات, وتهجيرهن عبر المنافذ البحرية من دون جواز سفر. وكنت اشاهدهن وقد نَشَرْنَ سعفاتهن خارج المياه الاقليمية العراقية. كأنهن عذارى يَلْطِمْنَ خدُودَهُنَّ من حرقة الفراق. اعداد هائلة من أجود أصناف النخيل المجتث من بساتين العراق غادرتنا نحو الامارات عن طريق البحر. هكذا فرطنا بعماتنا اللواتي أوصانا بهن سيد الكائنات, وأمرنا باكرامهن. إذ قال (صلى الله عليه وسلم): ((أكرموا عمتكم النخلة. فإنها خُلقت من فضلة طينة أبيكم آدم. وليس من الشجر شجرة تلقح غيرها. وليس من الشجر شجرة أكرم على اللَّه من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران. فأطعموا نساءكم الوُلَّد الرُّطب. فإن لم يكن الرطب فالتمر)). .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
فالنخلة هي الشجرة المباركة في القرآن الكريم , والسنة النبوية المطهرة. وهي الشجرة المحببة إلى النفوس في العراق والوطن العربي كله. فعندما تذكر النخلة يذكر الخير كله. حتى قيل بيت بلا تمر فيه: (بيت بلا طعام). وبلد بلا نخل, (بلد بلا خير). والنخلة سيدة الشجر. وقد ضربها الله مثلاً لقوله (لا إله إلا الله ). فقال تبارك وتعالى : (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة ). وهي قول (لا إله إلا الله), (كشجرة طيبة). وهي النخلة. فكان قول (لا إله إلا الله ) سيد الكلام, كذلك النخلة سيدة الشجر. وهي أيضا أعرق رموز حضارة وادي الرافدين, وأكثرها شهرة وقدسية. وللعلامة الراحل مصطفى جواد قصيدة طريفة في نخيل العراق. نذكر منها هذه الأبيات :

شربنا ماء دجلة خير ماء
وزرنا أشرف الشجر النخيلا
وفي عماتنا النخلات خير
عميم كان للقربى دليلا

وكم كان الدكتور تيسير الألوسي محقا عندما قال: إنَّ التفكير بعراق من دون نفط, ممكن ولو في أبعد مدى, لاحتمال نفاد هذه الثروة. لكن التفكير بعراق من دون شجرته التقليدية (النخلة) يعد من الأمور المستحيلة. فهو أمر مستحيل. وهو الذي ظل يحتفظ بأولوية عالمية في استنباتها, وأسبقية اهتمام بزراعتها. توفيرا لمصدر غذائي مهم, ومصدر ثروة وطنية أساسية بعد البترول طوال عقود عديدة..
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
اما دولة الإمارات, التي كنا نصدر إليها النخيل, والتي كانت قبل سنوات معدودات صحراء قاحلة. تسف بها الذاريات. وتحاصرها المياه البحرية الشديدة الملوحة. وتخنقها رطوبة المحيط الهندي. فقد تحولت بجهود أبنائها إلى واحات غنّاء. وكان رجالها أكثر منا برا واحسانا بعماتهم النخلات. فكرمتهم موسوعة غينس العالمية بأفضل تكريم. فمنحت دولة الإمارت شهادة علمية. لكونا الدولة الأولى في العالم من حيث زراعة النخيل, التي بلغت اعدادها عندهم أكثر من 40 مليون و700 ألف نخلة. فهنيئا لهم بهذا الفوز العظيم, وبارك الله بجهودهم المثمرة. أما نحن الذين كنا نتصدر طليعة أقطار الشرق والغرب بثلاثة وثلاثين مليون نخلة, في ستينيات القرن الماضي. فلم يتبق لدينا الآن سوى 14 مليون نخلة عجفاء. فقد دمرت بساتيننا الحروب المتلاحقة. وما رافقها من حصار اقتصادي شامل. وما تلاها من صراعات ونزاعات محلية كارثية. .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
ولم يتبق في البصرة سوى ثلاثة ملايين نخلة هزيلة, ضعيفة الانتاج. فمتى نحسن علاقتنا بعماتنا وخالاتنا وبقية اهلنا ؟؟. ومتى نهتم بزيادة البحث العلمي في هذا الاتجاه ؟. ومتى نستخدم الأساليب التقنية الحديثة في مجالات زراعة وري وجني وإكثار النخيل ؟؟. ومتى نتعاون مع المؤسسات الإقليمية والدولية التي تعنى بتنمية النخيل وتطويره ؟؟. ومتى نضع السياسة, التي تُعنى بالحفاظ على النخلة ؟؟. ومتى نسعى لتطوير سبل الاستفادة منها كمورد اقتصادي مهم ؟؟. ومتى نكف عن التساؤل بمتى وأخواتها ؟؟. وهل سيأتي اليوم الذي سنعلن فيه الحداد على أرواح عماتنا النخلات ؟؟.


على مائدة الإفطار

في هذا الشهر الكريم, وفي أوقات الإفطار تجتمع أسرتنا الصغيرة على المائدة الزاخرة بخيرات الله الواسعة, فنبدأ بالتمر اللذيذ من طبق نجدي سخي, وصلنا قبيل رمضان من المنطقة الشرقية, فنقرأ الفاتحة على روح الشيخ عبد الله الذكير
رحمه الله