شعرية الثورة التونسية من خلال رمزية " المرأة " و" السندباد ":عند محمد علي الهاني

الناقد القدير الأستاذ: عبد الرحمن الخرشي( المغرب)


لايختلف اثنان في كون الشاعر التونسي " الشابي " كان في مقدمة موكب الثائرين بشعره خلال اندلاع (( الثورة التونسية )) الأخيرة (1). كما لا يمكن لمنكر أن ينكر ، ولا لجاحد أن يجحد أن هناك موكبا من الشعراء المبدعين قد قادوا - كل من موقعه الخاص به - هذه الثورة ، وغيرها من الثورات في تونس ، ومصر ، واليمن ، والبحرين ، وسوريا ، وفي كافة الوطن العربي الكبير . والأداة : الكلمة الشعرية وقد استحمت في مياه الثورة العميقة الهادرة المباركة ؛ وذلك في شكل نصوص شعرية ارتقت إلى مستوى ما فوق الكونية الشعرية العربية اليوم ؛ تحميسا للثوار ، أو وصفا للثورة وصفا يسمو بالمتلقي إلى مافوق المدارك . سواء بالدلالة المباشرة ، أو بالدلالة الإيحائية والرمزية . ولم يشذ عن هذا التوجه الأخير الشاعر التونسي محمد علي الهاني في قصيدته " أحتاج دوما إلى عينيك ياقمري " .(2)
ومن القراءة الأولية لهذا النص ندرك أننا أمام تجربة شعرية غنية تمتح من التراث ، وتترسم نهج الشعراء المجددين ، الرومانسيين ، الابتداعيين الكبار في تخندقاتهم المعروفة ( الرابطة القلمية ، أبولو بخاصة ) . تجربة تعبر – بصدق - عن المشاعر الذاتية للشاعر محمد علي الهاني ، وتتغني بالسعادة المبررة . وبالجمال ؛ جمال الطبيعة ، فجمال الإنسان / المرأة ، وكذا التعلق بمحاسنها . لا باعتبارها أنثى ، وإنما باعتبارها رمزا شعريا وأسلوبا للتعبير غير المباشر عن ابتهاج النفس ؛ النفس الشاعرة وهي تعيش أسعد اللحظات التي ظل يترقب إطلالتها عليه منذ زمان ، وما
بالك أنها حلت . ومع حلولها انعتاق النفس من أسر كوابيس الجلاد الذي ظل جاثما على الحوباء المعذبة يذيقها مرارة كنت أجد ظلالها في أشعار الشاعر محمد وأنا أتابع تجربته الشعرية المغاربية الغنية بالعطاء والتجدد في المضامين والفن الشعري .

لست أدري ما الذي جعلني أبتهج وأنا أضع اليد على عتبة النص وبؤرته وشرارته الأولى ، تلك الماثلة في فكرته الأعمق ، أعني رمزية " المرأة " / الأرض (3). ورمزية " السندباد " / الشاعر. عتبة باعتبارها محملة بموضوعة ظلت تسكن سويداء الشاعر حتى تختمر ، ومنهاجاءت فكرة النص المبثوثة في عتبة عنوانه بطريقة رمزية ، استدعت مني القراءة ، والتدبر ، استكناها لبعض ماحوى النص من عناصر الجمال الفني ، والانفتاح على القراءة ، والتأويل المشروع
أولا :عتبة العنوان ( أحتاج دوما إلى عينيك ياقمري ) .

لاشك أن هذا العنوان يختزل بالتعيين دفقا شعوريا للشاعر التونسي محمد علي الهاني في لحظة / لحظات ؛ اختزلها في جملة فعلية مركبة تصدرت بفعل ( أحتاج ) ؛ أعني اللفظة الأولى من صدر البيت الثامن من النص .. بدون شك أن هذا الفعل يؤشر لزمنين : حاضر ، ومستقبل دون تحديد لأي الزمنين يريد الشاعر بحاجته متى هي ؟ . بدا الفعل في صورة الفعل المضارع أي المشابه للاسم لما يعتوره من اختلاف الدلالة باختلاف العوامل الداخلة عليه مشاكلة للأسماء فيما يلحقها من الإعراب . ومعنى ذلك أننا أمام صفة سلبية يتصف بها من عاد عليه الضمير ( أنا ) .. وهذا الفعل ( احتاج ) من الحوج . وهو الاضطرار إلى الشئ . أي المأربة . ومعناه أن الشاعر محمد علي الهاني اليوم يعلن - من هذا العنوان - عن حاجته المستديمة والدائمة في الزمان الحاضر ، والمستقبل . وقد تم التعبير عن ديمومة حاجة الشاعر بواسطة ظرف الزمان المنصوب . أي ( دوما ) ، المشتق من الفعل ( دام ) لبيان وتأكيد مدته الزمنية المفتوحة .. وبالتأمل ندرك أن حاجة الشاعر ذات ديمومة في الإحساس ، وفي علاقته بالزمان المذكور .
( إلى ) حرف جر أفاد الانتتهاء والوصول إلى مُنته ٍ ، أعني ( عينيك ) .. هنا يضعنا الشاعر أمام مركب اسمي مجرور ؛ تَـمَّ تشكله عبر الاسم المؤنث ( عين ) أي عضو النظر أو البصر عند الإنسان وعند غيره من الكائنات . وقد ارتبط هذا الاسم الدال على الإبصار بلاحقة صرفية ( ياء ) التثنية المؤنثة . ( وكاف ) المخاطبة الدال على ( أنثى ) ، القابل للتأويل والمفتوح عليه بسلاسة ؛ الشئ الذي يذهب بنا إلى السؤال عن رمزية المرأة عند الشعراء قديما وحديثا منذ امرئ القيس الكندي حتى محمد علي الهاني التونسي . أي بدءا من النظرة المادية المتتبعة لجمال أعضائها عضوا عضوا . إلى النظرة الصوفية ( الحضرة ) . فالنظرة الرومانسية وصفا للمشاعر الصافية ذات الدفق العاطفي الهادر. إلى النظرة المعاصرة التي نظرت إليها باعتبارها رمزا للمقدس ( الوطن / الأرض ) . وتلك لعمري نظرة الشاعر محمد علي الهاني إليها في هذا النص بالذات ، فهي بفصيح التعبير ومختزله وبدقة الاسم ( تونس ) ، وبالصفة ( الخضراء ) ، فهي (( تونس الخضراء )) !!!.
( يا ) هَـتَـفَ الشاعر بهذا الحرف - مناديا - على مايراه قريبا منه – حبيبته – توكيدا للنداء ، ورفعة من قدر المنادى ، وتعظيما لشأنه ؛ إنه ( الوطن / تونس ) !!.
( قمري ) : من ( القمر ) ، اسم معرفة ، صحيح الآخر ، مذكر - كذا في معاجم اللغة ، وفي القرآن الكريم - اتخذ اسما للنساء ، ولايسمى به الذكور . سمَّـيْـن به لجمال شكله ولونه الأبيض ، وللإحساس المتولد عنه ، ولحميمية التواصل معه . ولما له في حياة العربي بعامة ، والشعراء منهم بصفة أخص مكانة سامقة ؛ رافقهم في السمر ، والأنس ، والترحال . ولهم منه موقفين : الأول فكري ذهني تأملي .والثاني مثالي . والشاعر محمد علي الهاني هنا اتخذه وصفا بكل الصفات المذكورة لصاحبة العينين الخضراوين . أما ( ياء المتكلم ) في السياق ( قمري ) فهي تعود على المتكلم / الشاعر . وهي يتنازع صورتها تلك علم العروض قاطعا الصوت عند النطق بالياء ساكنة ( قمري ) . والدلالة النحوية بالنصب ( قمريَ ) ، حيث الغلبة للعروض بالتسكين ، وانسجاما مع تلطيف الشاعر لإحساسه بحاجته وهي تتماهى في جمال من أحب ...

ثانيا : الإهداء .

استهل الشاعر قصيدة " أحتاج دوما إلى عينيك ياقمري " بإهداء دال . أورده بهذه الصيغة : ( إلى ذات العينين الخضراوين ) . راميا إلى تثبيت حقيقة مفادها أنه (( المُـهدِي )) بقوة أهليته الإبداعية ، والفنية في الشعر ، والإبداع . وأن النص هو الـ (( هدية )) . أهداه لمن ذكرها بأبرز صفاتها كما يرى باعتبارها (( مُهدَى إليهَا )) .. وقد انصب اهتمام الشاعر في الإهداء بميزة في ( العينين ) دون غيرهما من الأعضاء لكونهما مرآة الروح في الإنسان ، وناقلتي أسرارهما الأعمق .. أما لون ( الخضرة ) ففيه إشارات دالة - حسب الدراسات النفسية وعلم البراسيكولوجي - على أن صاحبة تينك العينين من الإنسان شخصيتها تكون في الأغلب : قوية ، عنيفة ، قاسية ، قوية الإرادة ، صلبة الرأي ، عنيدة ، (( ... )) ، محبة للعمل ، وباردة العاطفة . وهي فوق كل ذلك كريمة تحتكر السحر كله ، ولها جاذبية خاصة بها . لو وقعت في الحب أسرفت إلى حدود التضحيات .. وصف الشاعر عينيها بالخضرة أي اللون الأخضر ، وهو لون غير رئيس في عالم الألوان (4) ، وهو لون مركب من لونين هما : الأزرق والأصفر . ومما له علاقة بالدلالة الإيحائية تركيز الشاعر على حصر الجمال في اللون دون عناصر أخرى ترتبط بالعينين - كحركة البؤبؤ ، أو الجفون ، أو حركة المحاجر مثلا – وهو ما يؤكد النظرة الحسية لمفهوم الجمال عند الشاعرمحمد علي الهاني هنا ؛ بل ربما هذا ما أملاه عليه إحساسه اليوم ، وهو يعالج الدلالة الرمزية في هذا النص الجميل بشكل مختلف !!.
نستنتج . أن إسناد الصفات المذكورة أعلاه للإنسان / المرأة قد جعلها سلبية ، لكنها لم تعد كذلك لواقتربنا من دلالتها الرمزية ( الوطن ) الذي شدد الشاعر – وهو العالم بأسراره - على أبرز خصوصياته المادية : الطبيعة باعتبارها طبيعة ( خضراء ) خضرة تتشكل بلون يعتبرقاعدة للألوان في الطبيعة ؛ الأشجار ، والورود ، والزهور ، وكافة عناصر الفرش النباتي .. وبناء عليه قالجمال الذي يرمي الشاعر إلى إشاعته اليوم ، هوجمال الوطن !!.

ثالثا : مضامين النص :

النص في محتواه بوح جميل من شاعر مفتون ؛ وفاتنته غادة الغادات ، ولا من يجادل في فتنتها . إنها : الأرض / الوطن / تونس / جمال تونس ... كلها عناوينها . لقد أغوت هذه الفاتنة الشاعر التونسي محمد علي الهاني بجمالها المتنوع الأخاذ ، فكان حبه لها قويا ، عاتيا ، وسرمديا . لذلك جاءت مناجاته لها في خلوته ، ووحدته ، وتفرده على طريقة : أنه ولج محرابها متعبدا بصلواته و تمتماته الشعرية في خشوع ، وخضوع .. بل صار يعزف - في عزلته تلك - لحن المشاعر الرقيقة . ويرتل تراتيل السعادة الأزلية فرحا بإحساسه الجديد الذي لاطالما انتظره . كما تغنى بالجمال ؛ جمال الخصوصية ، كما النساك مدفوعا إلى ذلك بأناشيد الحرية وهي تـُـعـزَفُ في الطرقات والساحات ، والدروب ، والمجامع التونسية ، والعربية من حناجر الجماهير .
لذا كانت الحصيلة المضمونية للنص وليدة أحاسيس الشاعر الذاتية بأبعادها الوجدانية ، والتأملية . في نوع من التماهي مع الطبيعة صائتة – بقلة - وصامتة – في لوحة متكاملة - لتشكيل عالم يحتفي بالمرأة ، وبجمالها خلفية للأرض / للوطن كما هو .
لقد تمحورمضمون النص " أحتاج دوما إلى عينيك ياقمري " حول هذه المضامين التي سنركزها – باختزال شديد - في ثلاث موضوعات :

أولا : استجلاء الذاتوية في النص .

النص يحيل على ذات الشاعرمحمد علي الهاني باعتبارها الذات الفاعلة في تشكيل عالم جديد ، والكشف عما فيه من جمال أخاذ . ذاتا مقنعة بقناع الرمزية الأسطورية ( السندباد ) رمزالارتحال في الأسطورة الشرقية (5) . والمؤشر على وجوده اليوم في النص بكونه الضحية ؛ ضحية ( السُّـكرالحـلال ) حتى الثمالة !. واللجوء إلى حرم الطبيعة في مشاركة وجدانية خالية من البث والشكوى ؛ وذلك في صورتين متقابلتين دلاليا : صورة الشاعر ، وصورة البحر . إذ كلاهما استولى عليه الحب ، والحزن/ الوجد وتأذى منه ، وذاق منه عنثا ، وغُـلْـبا .. فكل واحد منهما ينازعه الشوق الحارق ، الجارف . ولم يخفف من هذه المواجدة القاهرة عند الشاعرغيرمرورطيف المحبوب ، ذاك الذي تسلل إليه خفية ، فأهداه المنى ؛ منى الأفراح في الأحلام رائحة ذكية ، وأبوابا مشرعة نحو عينيها الجميلة الخضراء التي ستفتح له الدنيا ؛ تلك ( تونس ) والله !!! .
هي إذن ثنائيات الشاعر / الطيف . الارتحال في حركة / التأمل في سكون . الإنسان / الطبيعة . السكر / الصحو . الحزن / الفرح .. وكلها تستجلي ذات الشاعرليس إلا.
ثانيا :

من أجلها يبني الشاعر للطبيعة عالمها الموحد .

حضور الطبيعة في قصيدة " أحتاج دوما إلى عينبك ياقمري " يعكس خلفية الشاعر الرومانسية ، تلك البادية في جل ماعرفت له من شعر . فهو هنا قد لاءم بين مجموعة من العناصر الطبيعية المنسجمة ، والمتناغمة ، مع إحساسه اليوم ، تعبيرا عن جمال الطبيعة . وتعبيرا عما في وجدانه من سعادة وأفراح ؛ فالبحر بدلالته اللغوية وإن أوحي بشساعة حيزه المكاني ، فإنه بدلالته الرمزية يوحي ببحر معشوقة الشاعر الأزلية ، كما أنه يوحي بما يكن لها من مشاعر لاتـُحَـدُّ ( تونس ) ؛ تلك التي في عرس أعراس ثورتها وحريتها ؛الطبيعة شكلت عالمها الحي الموحد المتصل الوشائج والعلائق إذ كل عنصر فيها ينبض بالحياة ابتهاجا بالذي حدث . البحر من عينيها يكتحل !!. والروض بعشبه ومائه في أعياد خضرته منها يستلهم العطر ويستلهم رائحته ، ومن غيمها يغتسل . أما الفجر فهو حاضر منشرح في تماهى عجيب مع عينيها الخضراوين . أما القمرإذا امتلأ وتمَّ ، وبادر إلى غروب أو طلوع الشمش فهو باد في ثياب مزينة منقوشة كالدرَّة المضيئة اللامعة البراقة المنيرة المشرقة ، فهو حينذاك في ضوء البرق – مخضرا – يغني وينتقل في المكان ..أما الطيرفقد اختارت أن تجتمع في البستان أو الوادي الخصيب مشكلة بأصواتها ملتقى غنى للعشاق أغنية اكتملت عناصرها بشتى أصناف الجمال في اللحن ، والكلمة ، والأداء ...

ثالثا : محبوبة الشاعر .

إنها تلك التي صرح الشاعر بحبه لها في أول كلمة من النص ، وفي آخر بيت منه ، وفي غيرهما في جملة إنشائية طلبية – تكررت ثلاث مرات - تلك جملة النداء بدون أداته ( يا ) أو غيرها . وهي حاضرة فيها تقديرا ( حبيبتي ) المحمولة على الفعلية حيث المنادى مفعول به ، وعامله محذوف تقديره ( أنادي ) أو ( أدعو حبيبتي ) . وأراها قد غابت لسببين : الضرورة العروضية ، وتحقيقا للقرب والتلاحم بين الشاعر وهذه الحبيبة ، والالتصاق بها ، والتحبب إليها ، وهو ما يعني أن الشاعر محمد علي الهاني لحظتئذ قد هاجت مشاعره بمعاني الخضوع ، والدلال ، والصدق في المشاعر ، والسحر في التعبير المنبثق من شعاع القلب المخصوص بالوداد تصريفا لشحنة أسمى فاض بها قلبه لطيفها ، وعينيها الخضراوين ، النفيستين ؛ لكونهما من حجر كريم غير شفاف نعرفه بلونه السماوي المائل إلى الخضرة ( الفيروزج ) .
رابعا : قراء فنية في النص .

القصيدة من اثني عشر بيتا ، عمد الشاعر إلى جعل شطراتها متراكبة ومتتابعة وسط فضاء الورقة / فضاء الحاسوب ، وجعلها مفتوحة على البياض من جناحيها لا للفصل بين الشطرتين ؛ تأكيدا منه على تغيير الشكل الطباعي للنص ، وتجاوزا للتشكيل التناظري ( صدر / عجز ) ، أو توازي الأبيات تكريسا لروح الثورة اليوم . وترسيخا لروح الحرية في الثورة على المقاييس الشعرية القديمة من حيث تشكل بناء القصيدة . ومسايرة للعصر ووسائط النشر الحديثة . وهي – من الشاعر - مجاراة لبنية بعض نصوص شعراء المهجر الشمالي المشهورة ( النهرالمتجمد لميخائيل نعيمة مثلا ) .
لقد وفر الشاعر لهذا النص – فنيا – ماجعله سبيكة لغوية مفرغة ، ووشيا منمنما في الإبداع ، وعقدا منظما من الجمال ؛ فيه إبداع أثيل ، وإبداع حديث ، ومعاصر ، مرتب . دلل بكل ذلك على قدرته في بناء معمار نص شعري أثيل ومنفتح على كل ما هو جديد لغة ، وإيقاعا ، وتخييلا ، و ...

اللغة :

وفق الشاعر في انتقاء معجمه الشعري الذي استقاه من لغة مألوفة ، تتسم برقة ، وسهولة ، مع سلاسة وإشراق في اللفظ ، وخدمة للمعنى المقصود إليه وذات نبرة واضحة الجرس . كما أنها توحي بمعانيها في الغالب ، بعضها من لغات غير عربية ( الديباج ، الفردوس – عدها ابن سيده من لسان الروم مخالفا الفراء الذي عدها عربية - ، فيروزتاي ) ؛ بعضها من حقل الطبيعة صائتة وصامتة ( طير ، البحر ، البدر، اللؤلؤ ، السنى ، قمري ... ) وبعضها من المعجم النفسي الاستبطاني ( منشرحا ، الأفراح ، حلم ... )) . ومن معاجم : اللون ( يكتحل ، الخضرة ، اخضرار ، فيروزتاي ... ) . والصوت الموقع بالإيقاع الموسيقي ( يشدو ، أغنية ، احتفل ... ) كما تخللتها ألفاظ قليلة من المعجم الشعري القديم قوية الجرس ( لجِّه ، خضل ، الدَّيبَـاج ُ، برَّح َبي ... ) . وألفاظ تجاوزت دلالتها المعجمية إلى الدلالة الإيحائية ( السندباد ، الفردوس ، البحر ، الملاح ، فيروزتاي ... ) . بل إن بعضها يوحي بالخصوصية التونسية ( يكتحل : من الكحل – الإثمِـد – تستعمله المرأة التونسية وغيرها للزينة ) .. وما تواجد هذه الثروة اللغوية – وغيرها – في هذا النص القصير ، وبهذه الكثافة الفنية ، وبهذه الخصوصيات اللغوية إلا الدليل القاطع على عمق تجربة الشاعر محمد علي الهاني ، وعلى عمق ثقافته اللغوية ، وغيرها، ومراكمة كل ذلك في خدمة كل ماهوإنساني فيه ، وكل ماهو إبداع .
أما التراكيب اللغوية فهي تراكيب متنوعة ، مثينة ، محكمة الترابط بين أجزائها ، عدا مافيها من تقديم وتأخير في جمل عدة ؛ منها جملة ( السندباد أنا ) في صدر البيت الأول ؛ فالتقديم هناك محمول على وضع ذات الشاعر المنشغلة بهموم الترحال ، والفرح المباغث في لجة رحلة الحياة في بؤرة التعبير .. وقد جاءت التراكيب كلها معبرة عن هاجس الإحساس باقتضاب ، وباحترافية في تصريف قواعد اللغة العربية انسجاما مع خصوصية التجربة ككل ، وانحيازا لما تستوجبه الدلالة النحوية ، والإيقاع .

البنية الإيقاعية :

يرى الدكتور ابراهيم أنيس في كتابه ( موسيقى الشعر) (6) أن الشعراء – وهو يعني الشعراء لا ( الشعراء ) إذا نظموا مواضيعهم الجدية الجليلة الشأن نظموها في وزنين هما الطويل ، والبسيط . لذلك لانستغرب أن يختار الشاعر التونسي محمد علي الهاني بحر البسيط لبناء أوصال قصيدته " أحتاج دوما إلى عينيك ياقمري " . اختاره لا باعتباره وزنا يتيح للشاعر إمكانية إيجابية لإيصال معاني معينة ألحت عليه ، بل ومنحه نفسا تركيبيا ودلاليا كي يشحن تفاعيله بتجربة شعرية وشعورية معقدة يتوزعها الواقع والمأمول ، والإحساس بالجمال . ولاباعتباره وزنا من الأوزان الطويلة بتفعلتيه المزدوجة ( مستفعلن فاعلن ) أربع مرات . ووفق مايلحقها من زحافات وعلل ، حسب ما نص عليه الخليل بن أحمد الفراهدي ، وإنما لانسجام هذا الوزن مع الحدث ، ولقدرته على ترجمة الحالة النفسية للشاعر/ السندباد حينذاك مما يوحي بصدق التجربة ، وبقدرتها على التأثير ، وكلها من خصوصية هذا الوزن . ولما فيه من بساطة وطلاوة على حد تعبير حازم القرطاجني في المنهاج (7) ؛ بساطة وطلاوة ساعدتا الشاعر على نفث سحر إبداعه الشعري المجدد والأثيل . وقد توفق الشاعر في اختيار هذا البحر لتجربة الشعرية اليوم ، والشعورية لكونها جمعت بين النقيضين اللين ، والقوة ؛ الأولى في موضوعة غزلية رمزية بامتياز ، والثانية في موضوعة الثورة باعتبارها بطارية الشحن التي عبرت عما خالج الشاعر حينذاك من إحساس بالحرية ، والعدالة ، وحب الأرض / الوطن / تونس الخضراء ... وكان لنا من ذلك الإحساس هذا النص الجميل !!!.
وقد عزز الشاعر إيقاع الوزن هذا بإيقاع موحد ؛ هو إيقاع القافية استعملها تارة كلمة ، وتارة كلمة وجزءا من كلمة . وهي قافية مطلقة تعبيرا عن اجواء جديدة ظلت تتوق إليها نفس الشاعر وهو يحسها اليوم ، مشبعة بواو تعبيرا عن تطلعات الشاعر إلى مستقبل أفضل ، وبتفاؤل أرحب . كما مد الصوت بالواو المتولد عن الإشباع (يكتحلُ / يكتحلو - في صدر البيت الأول - هِـثمل / هي ثملو – في عجزه - ... ) في صورته العروضية بالتصريع ( - 0 - - - 0 ) ، وفي صورته الصواتية في هذه المصفوفة ( صوت متحرك + صوت ساكن + صوت متحرك + صوت متحرك + صوت متحرك + صوت ساكن ) ؛ حيث دلت كثرة الحركة في القافية على حركة مسترسلة في النفس وفي الواقع المعيش ، وفي ماواكبها من تفاعلات نفسية الشاعر مع الواقع . لذلك كان للقافية في النص عدة وظائف : فبقدر ما أنها دلت على الإيقاع ، وعلى نهاية البيت / العجزالمقفى ، فهي مؤشر على توالي الأبيات رغم الصورة التي جاءت عليها الشطرات متراكبة ، لذلك نراها توحي بالسكون الذي يتوق إليه الشاعر حتى ينعم بجمال اللحظة ويرصد قوة الحدث والتعبير عنهما . بل وتكرس ، وترسخ جمالية في النص بتكرار أصواتها في نهاية كل بيت في وحدة صوتية مطردة اطرادا منظما في نهاية الأعجاز / الأبيات ، وفي صدر وعجز البيت الأول ( التصريع ) . ناهيك عن نوع الروي منذ البيت الأول .
أما الروي ( اللام ) فهو الآخر منسجم مع إحساس الشاعر ، ومع طريقة التعبير عنه ؛ وهو صوت / حرف لثوي – من حروف مُـقـدَّم ِاللسان – مجهور، متوسط / مائع ، مضموم . من أكثر الحروف استعمالا رويا في الشعر كما دلت على ذلك الكثير من الدراسات (8) . استعمله الشاعر لما هو عليه من قوة للدلالة على حماسته منخراطا – بقوة - في الفعل الثوري استعادة لكرامة الأرض/ الوطن / تونس / المرأة ممن استباح جمالهم المادي والمعنوي ، وأخفاه وإن لم يكن في النص مايؤشر عليه من يكون ؟ !! . أما على مستوى الصوت لاشك أننا نلاحظ انسجام الخصائص الصوتية لهذا الحرف وصفاته مع مقصدية الشاعر ، وإحساسه في بناء إيقاع النص .
وتعزيزا لإيقاع النص في شكل إيقاع إضافي وظف الشاعر أدوات فنية قديمة وحديثة نجمل بعضها في :
1) ظاهرة التصريع كما أسلفت ذكره .
2) التكرار الصوتي : كثف الشاعر من استخدام مجموعة من الحروف ترجمة لإحساسه ؛ كما حرف اللام ، والباء ، في البيت الأول ( أربع مرات ) ؛ فاللام مثلا أورده في هذا البيت أربع مرات ساكنا ثم مضموما مرتين مجاراة لحرف الروي المضموم .
3) التكرار اللفظي : استجابة من الشاعر لإلحاح إحساسه عليه أيضا كرر بعض الألفاظ في صيغ تختلف أو تتفق لغاية دلالية . ولا إخالها بلاغية إلا على سبيل الصدفة غير المقصود إليها ؛ كررها أفقيا اسما صريحا ( الطيف / طيفك ) ، وكذا اسما نكرة للعموم ( كل / كل ) وضميرا منفصلا للدلالة على الغائبين الاثنين (هما / وهما ) . وكررها عموديا ( حبيبتي ) – ثلاث مرات – ( الحب ) – مرتان – ( عينيك ) – خمس مرات – وهكذا... كررها جميعها لغايات دلالية تأكيدا لمعانيها الملحة عليه حينئذ . وإيقاعية تعزيزا للإيقاع الداخلي . وجمالية لتأثيث النص وتزيينه وتجميله ...
4) التقسيم ( الترصيع ) : عمق به المستوى الصوتي ، وأبرز من خلاله مدي عنايته بالدلالة كما في البيت :
والْحُـبُّ تَيَّمَنِي، والْوَجْـدُ بَرَّحَ بِـــــي
و الشَّـوْقُ جَـمْـرٌ وفِي الشِّرْيَانِ يَشْتَعِــلُ

الصورة الشعرية :


في هذا الإطار بدا الشاعر محمد علي الهاني في صوره الشعرية الراقية يمتح من الجديد في تشكيل الصور ، التي حاد بها عن أن تكون صورا تتأسس على قواعد البلاغة العربية ، من خلال عنصر البيان بمكونيه التشبيه والاستعارة كما عند شعراء ذوي الذائقة الأثيلة ( الكلاسيكية الجديدة مثلا ) ؛ كما في هذه الصورة المشكلة من مقوم " التشبيه البليغ " ؛ وهي ( الشوق جمر ) التي لاتتعدى كونها ربطت ماهو مجرد ( الشوق ) بما هو مادي ( جمر ) على سبيل المشابهة بين نزاع النفس ، بالنار المتقدة ، لوظيفة التزيين والتجميل . وكأنه بذلك يكرس موقفه من هذا المقوم الجمالي في بناء النص الشعري . أما ما غلب على صوره فهو تشكيلها من خلال عنصر المجاز باعتباره أداة للتعبير وللتوصيل والتبليغ الذي من سماته في النص :
- تجسيد توحد الشاعر بعالم الطبيعة ، واندماجه ، وحلوله فيها ؛ من خلال تشخيصه وأنسنته لعناصرها : ( البحر من عينيك يكتحل ) . ( البدر في حلل ) . ( اخضرار السنى يشدو ) . أنسنة المشاعر والأحاسيس ( الحب تيمني ) يعني استولى علي . ( الوجد برح بي ) يعني آذاني بإلحاح المشقة فغلبني . أنسنة وتشخيص الزمان ( الفجر من عينيك منشرحا ) . أنسنة اللون ( اخضرار باسم ) . وما كان مصَـنَّـعا ( العطر من عينيك يغتسل ) .
كما أن الشاعر قد بنى صوره مستعملا – بكثرة – الرمز ؛ إذ في ضوء تجربته النفسية اليوم استدعى أسطورة (( السندباد )) في البيت الأول تكثيفا لمعاني لم تسعفه الكلمة / الكلمات العادية على التعبير عنها بالحرارة الوجدانية ذاتها التي في نفسه ، وتعميقا لإحساس المتلقي بالجمال الساكن في عينيها ، وفي الطبيعة صائتة ، وصامتة . ولعل الشاعر بذلك يرمي إلى التعبير بواسطة أسطورة السندباد عن موقفه ورؤاه من الوطن الذي اقتضى منه المساءلة ، والتوصيف ، والانخراط في فعله الثوري . جاعلا هذه الأسطورة مرآة عاكسة لحياته الخاصة معه ، وعاكسا أيضا للحياة الجمعية في مجتمعه التونسي المزهو بـ " ثورة الياسمين " الناعمة ، السريعة ، المعطرة لأنفاس الشعوب العربية ؛ تعبيرا عن تفاعله مع الحدث ، وعن إحساسه بالذي جرى ويجري . بل وجعل المتلقي يعيد الإنتاج من خلال تخيل شخصية السندباد التي تتماهى اليوم في شخصية الشاعر محمد علي الهاني ، لتبني الحدث برمزية فائقة الدقة .
إن الشاعر التونسي محمد علي الهاني بفعله هذا – لاشك – أنه ينقل الصورة الشعرية من مستواها الشخصي إلى المستوى الإنساني ، ومن مستواها الحسي المباشر والمستوى الاستعاري إلى حدود أرحب . أعني حدود الحس والعقل في إدراك حدث اليوم ، وإن ألبسه الشاعر إهاب المرأة / الأرض ، أعني تونس الخضراء ذات العينين الخضراوين قي ثورتها الربيعية وبنشرها الفواح . تونس التي أغرقت الطغاة في بحرها ، وأسرت قلوب العاشقين ؛ ومنهم الشاعر محمد علي الهاني ، الذي لانعجب إن ولد عشقه الثوري هذا العزف المسترسل ترجمة لإحساسه ، وعشقي أنا لهذه التجربة الشعرية الناضجة التي أمهرتها من وقتي واهتمامي ماهي أحق به ، بل حقها علي أكثر .



-------------------
الهوامش

(1) قصدنا ثورة الياسمين سنة 2011 .
(2) منشور في مواقع إليكترونية عدة . اطلعت عليه بدعوة من الشاعر . المحرك " كوكل " يدل عليه من العنوان .
(3) من الشعراء الذين ارتبطحبهم للمرأةباعتبارهاالمعادلالموضوعيللأرض أذكر : محمود درويش ، في نصه(موت أخر وأحبّك) حيث فيها تجلى عشقه اللامتناهى لأرض أجداده / فلسطين :
وما كانت سيدة الأرض يوماً
لأن الحروب تلامس خصرَك سربَ حمامْ
وتنشرين على موته أفقاً من سلامْ
وما كنت ألعب فى الرمل لهواً
لأن الرّذاد يكسّرنى حين تعلن عيناكِ
... أن الدروب إلى شهداء المدينة.
... مقفرة من يديكِ
وما كان حباً
وما كان يوماًً
وما كنتُ
وما كنتِ
إنى أجدّد يوماً مضى
لأحبّك يوماً
وأمضى ...
(4) الألوان الرئيسة هي : الأسود ، الأزرق ، الأحمر ، الأصفر ، الأبيض .
(5) الشخصية الأسطورية في ( ألف ليلة وليلة ) .
(6) موسيقى الشعر . ابراهيم أنيس . دار العودة ، بيروت ط 1 ص 16 .
(7) منهاج البلغاء وسراج الأدباء . تحقيق محمد الحبيب الخوجة . دار الغرب الإسلامي ، بيروت ط 2 . 1988 ص 269 .
(8) مع حروف : الراء ، الميم ، النون ، الباء ، الدال ، السين ، العين .