--------------------------------------------------------------------------------

الدكتور جيلالي بوبكر
العولمة والأنسنة
* شهدت الإنسانية في بداية العصر الحديث تحوّلات بارزة في حياتها الفكرية والثقافية والعلمية، ومن ثم شملت باقي مجالات الحياة، فالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية عامة، وكانت تلك التحوّلات قد مسّت بقوّة مجال العمل من حيث وسائله ومناهجه في التأثير على الطبيعة، وفي استخراج الطاقة وتحويلها من صورة غير نافعة إلى أخرى نافعة، من منطلق تسخير الطبيعة والطاقة لخدمة مصالح الإنسان وتحقيق أغراضه، وكان للانفجار العلمي والثورة الصناعية ومن وراء ذلك الإصلاح الديني والسياسي والتربوي الداعي إلى تحرير العقل والإنسان الفرد والمجتمع من كل ما يعيق السير نحو التقدم والازدهار الدور في تفجير التكنولوجيا، وهو ما تميّزت به الحياة عامة في الغرب الأوربي الحديث في شرق الأطلنطي وفي الولايات المتحدة الأمريكية في غربه.
* إنّ تخطي الغرب الأوربي الحديث أزمات العصور الوسطى وامتلاكه شروط النهضة وأسباب القوّة والتقدم جعله يبني حضارة قوّية تقوم على الحرية والعلم والتكنولوجيا، هذه الحضارة مكّنته من الوصول إلى درجة عالية من الازدهار الاقتصادي والرفاهة المادية، ذلك لكثرة الإنتاج الصناعي وتنوعه وازدهار حركة التسويق والتجارة، وكان ذلك بفعل تطور وسائل النقل والاتصال، الحالة الجديدة التي عرفتها شعوب أوربا الحديثة وكذلك شعوب الولايات المتحدة الأمريكية غيّرت مجرى الحياة لدى شعوب العالم أجمع، بفعل انتقال منتجات الحضارة الغربية الفكرية والعلمية والتكنولوجية وغيرها إلى تلك الشعوب مع حرص الغرب على ذلك، وفي خضم النماء الاقتصادي والازدهار العلمي والتكنولوجي الغربي تنامت العديد من التحولات والتوجهات، وارتبطت بالوعي التاريخي وبظروفه الفكرية والمادية، ومن أبرز هذه التحولات توجّه العولمة، الذي ارتبط بمفاهيم عدّة قام عليها الفكر الغربي الحديث، مثل الحرية، العقلانية، الليبرالية، العلمية، العلمانية والحداثة والتحديث وغيرها، هذه المفاهيم في إطار الظروف التاريخية للغرب الحديث ومصالحه قامت بأدلجة العولمة حيث نشأت ونمت الظاهرة وأصبحت موضوعا يشغل الجميع، يشغل الغرب الذي يسعى إلى بسط سلطانه ونفوذه على العالم ودنياه بقوّته وحضارته المركزية ومن دون منافس، ويشغل الجهات الأخرى من العالم لحاجتها إلى التنمية وهي تفتقر إلى شروطها وتوجد في الأطراف خارج المركز.
* شغلت العولمة دنيا العالم باعتبارها ظاهرة جديدة ارتبطت بما أحدثته الثورة الصناعية من تطور هائل فمن الطاقة البخارية والميكانيكية إلى الطاقة البترولية ثم الطاقة الكهربائية والشمسية إلى الطاقة الذرية والنووية والالكترونية، وكان للغرب الحديث أن يؤدلج هذا التحوّل الصناعي الذي يحتكره، ويقدمه في صورة عولمة تغزو العالم بالحداثة والتحديث وبإيديولوجية جديدة هي الليبرالية الغربية، وتباينت الفهوم والمواقف بين مثقفي الغرب والمثقفين خارج الغرب، بين مؤيد ومعارض، بين من يعتبرها حقيقة ثابتة وحتمية تاريخية مثل أيّة حتمية طبيعية، اشترطتها التحولات الحضارية الجارية وحاجتها إلى تعميم استعمالها لدى كل شعوب العالم، وهو أمر طبيعي وحتمي لا مفر منه، وبالتالي فهي ضرورة حضارية ومكسب إنساني. وبين من يعدّها أحد أشكال الهيمنة الغربية الجديدة التي تعكس بجلاء اتجاه النزعة المركزية الأوربية الحديثة، الهدف منها الالتفاف على العالم ومن حول كافة شعوبه وجهاته، لتسليط النفوذ الغربي عليه ونهب خيراته وثرواته، وإحكام الطوق عليه واستغلاله طبيعيا وسياسيا واقتصاديا وبشريا، وهذا من منطلق الشعور بالعظمة والاستعلاء والاستكبار، والرغبة في التسلط والتعسف، وفرض إرادة القويّ وهيمنته، والعنصر الأبيض أفضل من غيره وهو أحقّ بالمدنية والتحضر، وغيره كُتب عليه التوحش والتخلف وخدمة الأبيض الذي يستعبده إلى أقصى درجة وبدون مشفقة.
* إنّ البحث في موضوع العولمة مجاله واسع، قضاياه متعددة ومتداخلة ومتشابكة ومعقدة، يصعب الإلمام بها دفعة واحدة وفي وقت قصير، وإذا تمّ تجاوز قضية مدلول العولمة لغويا، فإنّ إيجاد المعنى الاصطلاحي لها ليس بالأمر اليسير، ذلك لتباين الرؤى في تصورها بين الأنصار والخصوم والمعتدلين الموضوعيين، فهناك تمايز بين رأي صانعيها وحماتها وموقف الذين اكتووا بنيرانها واتجاه الذين وقفوا منها موقفا وسطا، فحماتها هم الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الغرب الأوربي وفي غيره، أما خصومها فهم سائر الشعوب التي تعاني ويلات العولمة في مختلف جوانب الحياة، ويبقى أصحاب الموقف الوسط في كل أنحاء العالم، وهم كل من يعدد سلبياتها وإيجابياتها ويدعو إلى تكييفها من جهة المركز والأطراف لتخدم مصالح الأغنياء والفقراء مع، وفي أتون هذا التباين في التصورات لحقيقة العولمة، وبغض النظر عن سلبياتها وإيجابياها، فهي توجه وإيديولوجية ونظام وعقيدة القوى الكبرى في العالم، قوى المركز تبنتها وتعمل على نشرها وتعميمها على كل بلدان العالم وشعوبها من غير استثناء، ليصبح العالم كوكبة واحدة، وكل سكانه منضمين في بوتقة واحدة، وتحت راية واحدة، ويعيشون في ظل نظام واحد تسيطر عليه دول المركز وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والعولمة تعني انتشار هوية المركز وثقافته ونظامه الاقتصادي والسياسي والعسكري وغيره، وانصهار كل الهويات والخصوصيات والدول الوطنية والقومية وكل الأشياء المحلية فيما هو مركزي، فالعولمة تحوّل من الخاص إلى العام ومن المحلي إلى العالمي ومن الخصوصي إلى الكوني ومن الوطني والقومي إلى الإنساني الشمولي العام في الفكر والسلوك والوجدان، فالعولمة تعني لا حدود ثقافية أو سياسية أو جغرافية في العالم، ولا كيانات أو تكتلات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية إلا في حدود العولمة وتحت سيطرة المركز وبقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
* ارتبط ظهور العولمة بعوامل شتى، ارتبطت هذه العوامل بالنهضة الأوربية والحضارة الحديثة، وتمثلت في الإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي والتربوي، وفي التقدم العلمي والتكنولوجي والثورة الصناعية، وفي الازدهار الاقتصادي والرأسمالية، وفي الديمقراطية الليبرالية، وفي تطور وسائل الإعلام والاتصال والإشهار والمعلوماتية التي غيرت مسار تاريخ الإنسانية المعرفي والحياتي بصفة عامة، الأوضاع الجديدة وفي ظل التطور التكنولوجي المتنامي والمتزايد باستمرار خاصة في نظام المعلوماتية فتح آفاقا واسعة أمام دول ومجتمعات الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية، وهي أكثر الدول استفادة من الحربين العالمتين الأولى والثانية، التي تُوجت بالسيطرة على العالم بمعية حلفائها علميا وتكنولوجيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا وعسكريا، ففرضت هيمنتها وسلطتها على العالم أجمع، وفرضت العولمة والنظام العالمي ورفعت شعارات كثيرة تدعو إلى الكونية أو الكوكبية كما تريدها هي وبحسب مصالحها الإستراتيجية، شعار الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية، وشعار حقوق الإنسان، وشعار الأمن والسلم في العالم، وشعار نقل التكنولوجيا للجميع، وشعار الحد من التسلح ومنع أسلحة الدمار الشامل، وشعار المحافظة على البيئة والأرض وغيرها كثير، لكن ممارسات العولمة في الواقع جعلت من الشعارات مجرد أوهام وخيالات، وجاءت مظاهر العولمة وتداعياتها تدل على التناقض الصريح المفضوح بين الوعود والواقع وبين الخطاب والممارسة وبين القول والفعل، فالعولمة تخدم الكبار في العالم ولا مكان في ساحتها للضعفاء، فهي تكيل بمكيالين الأول خاص بالمركز والثاني خاص بالأطراف، وتقودها إيديولوجية تستمد منظورها من منظور النزعة المركزية الأوربية ومن عقائد الحركة الصهيونية وصنوُها الماسونية في العالم ومن مطامح أصحاب المال والأعمال في العالم، لأن العالم في ظل العولمة صارت توجهه الشركات الاقتصادية المتعددة الجنسية والعابرة للقارات والمؤسسات المالية العالمية التي تسيّرها دول المركز، وهي صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة، الأمر الذي عمّق أزمة العولمة المادية والأخلاقية، لم يكن تأثيرها على العالم الثالث فحسب بل على مجتمعات العالم المتقدم كذلك، فهي أزمة خطاب وممارسة أولا، وأزمة مادة وروح ثانيا، غاب في ظل العولمة التوازن المطلوب في الإنسان بين جميع حاجاته ومطالبه الروحية والمادية، كما انتفى التكافؤ الضروري في المجتمع الدولي بين الأغنياء والفقراء لضمان للأمن والاستقرار في العالم، نجد واحد من خمسة "خمس" من سكان العالم يسيطرون على أكثر من ثمانين بالمائة من الناتج العالمي، وتقوم القوى المهيمنة باستغلال الطاقات البشرية والثروات الطبيعية للشعوب الضعيفة وبردع وتأديب أيّة جهة تخرج عن العولمة.
* تستند العولمة ومن ورائها القوى المهيمنة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في تنفيذ مخططاتها الخطيرة ذات التداعيات والانعكاسات الوخيمة على العالم عامة وعلى العالم النامي بصفة خاصة، إلى مجموعة من الآليات هي التي مكنتها من التوسع والانتشار والهيمنة، بعضها تاريخي ارتبط بنتائج وإفرازات النهضة الأوربية الحديثة، وتمثل ذلك في قيم ودلالات الحداثة التي أنقذت أوربا من التخلف والانحطاط وجعلتها تعيش نور العلم والحضارة والازدهار الاجتماعي، ومن نتائج هذا النهوض الحضاري الأوربي الاستعمار الغربي الحديث لشعوب العالم وممارسته أبشع الجرائم في حقها، والعولمة شكل من أشكال الاستعمار ووجه من أوجهه، ومن الدعائم التاريخية للعولمة نتائج الحربين الأولى والثانية، وما منحت من قوة وغلبة للولايات المتحدة الأمريكية وللدول الغربية وللرأسمالية في العالم وللثقافة الغربية التي انتشرت عبر مختلف أنحاء العالم في جو الاستقطاب والحرب الباردة وفي مواجهة المد الشيوعي الذي كان يهدد الليبرالية والمعسكر الغربي، أما من الناحية السياسية فقد اعتمدت العولمة على آلية الديمقراطية باعتبارها إيديولوجيا وآليات وتنظيما سياسيا، وأدخلت الديمقراطية الليبرالية في النظام الرأسمالي والحياة الاقتصادية مما زاد الأزمة تفاقما واعتمدت على ذلك في التوسع من خلال الاستثمارات التي تقوم بها الشركات العالمية المتعددة الجنسية، ومن خلال صلاحيات المؤسسات النقدية الدولية، وتحويل كل مناطق العالم إلى أسواق حرة للتبادل والمنافسة فيها شرسة من غير النظر إلى عجز الدول الضعيفة عن الدخول في هذه المنافسة الأمر الذي عمّق تخلف الشعوب المقهورة والتحقت بها شعوب كانت في طريق النهوض والتنمية.
* لم تلجأ العولمة إلى الآليات السلمية وحدها لفرض هيمنة النظام العالمي والدول الكبرى في العالم، بل استعملت الشرعية الدولية متمثلة في هيئة الأمم المتحدة وسائر فروعها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، كما استعملت القوة العسكرية لحلف الناتو، باعتبار الدول الأعضاء في حلف الأطلسي تمثل المركز في العالم، أما بقية الدول الأخرى فهي في الأطراف، وتحولت وظيفة حلف الناتو من حلف أُنشأ لمواجهة حلف "وارسو" في عصر الاستقطاب والحرب الباردة إلى حماية العولمة، وردع أية قوة في العالم تقف في وجهها، خاصة وأنّ حلف الأطلسي يملك أقوى ترسانة حربية، إلى جانب القوة العسكرية الأمريكية التي تعمل إلى جانب قوة حلف "الناتو" وتُسخر للدفاع عن العولمة ونشرها بقوة الحديد والنار ومن دون اعتبار للتنوع الثقافي والديني والطبيعي والجغرافي وغيره لدى الشعوب، ومن وراء هذه الآليات جميعا تعمل كل من الحركة التنصيرية والحركة الصهيونية العالمية على دعم العولمة، فإذا كانت الحركة الصهيونية تعمل في الخفاء وفي انغلاق لأنها لا تكشف عن مخططاتها القذرة وعملها في العلنية يقضي عليها لخطورته على الإنسانية، فإن التنصير على أشدّه في السر والعلن يمارسه الجميع، العمالة الفنية الأجنبية، المنظمات الخيرية، والجيوش وبأساليب ووسائل عديدة. ولكن رغم قوة العولمة وقوة آلياتها فإن ذلك لم يثن الشعوب عن تمسكها بثقافتها وتراثها وتاريخها المجيد، ولم تنصهر في الكوكبية كما كان ينتظر رعاة العولمة، خاصة الشعوب التراثية التي مازال فيها التراث حيّا في وعيها ووجدانها وفي سلوكها وممارساتها، وهي تدفع ثمن ارتباطها الوطيد بهويتها بتعرضها للعزل والعدوان.
* من الشعوب التراثية التاريخية الشعوب العربية والإسلامية، التي لم تستطع العولمة صهر هويتها أو تطهيرها، رغم كل الممارسات التي تقوم بها قوى مختلفة وعلى مستويات عديدة وبأساليب مشروعة وغير مشروعة، لأنّ هذه الشعوب لا تملك إمكانيات العولمة والنظام العالمي بل مسلحة بثقافة عريقة متجذرة في التاريخ وبإيمان قوي وراسخ بالله وبدينه الذي أنزله على نبيه وارتضاه لعباده ولفّه بعنايته وحفظه، إنّه الإسلام الذي وقف في وجه هيمنة العولمة وطغيانها، يكشف عن فساد أصولها ومراجعها، ويميط اللثام عن قيّمها الدنيا الوضيعة وعن عدم توازنها واختلالها، ويفضح أساليبها ومخططاتها ووسائلها الفاسدة التي تستهدف حفظ مصالح قوى الاستكبار والاستعلاء والغطرسة وقهر الآخرين من دون مشفقة أو مرحمة، ويعارض أهدافها ومطامحها التي تكرّس إرادة الهيمنة وحب التسلط على الآخر وقهره كما قهره بالأمس الاستعمار الحديث، والعولمة هي شكل من أشكال الاستعمار يمارس القهر والعدوان بمختلف صنوفه. يعارض الإسلام العولمة والأمركة والنظام العالمي في الفكر والممارسة، بما ينطوي عليه من قيم ومعاني تحفظ للوجود الإنساني الفردي والاجتماعي والعالمي حياته وكرامته وتوازنه، توازن بين المادة والروح، بين الفرد والجماعة، بين العقل والوحي، بين الدين والدنيا، بين الأخلاق والاقتصاد، بين النظر والعمل، بين المقدس واللامقدس، بين الله والإنسان، إنسان الخلافة والرسالة، لا إنسان المال والأعمال والمادية المفرطة والعلمانية المختلة والرأسمالية الفاسدة والديمقراطية الليبرالية المشبوهة، لا إنسان الغريزة والشهوة والخلاعة والإباحية الجنسية، إنسان يحيا في البهيمية ويموت ميتة حيوانية.
* لما كانت العولمة بالشكل الذي أراده الغرب الأوربي الأمريكي تُشكل وضعا خطيرا لا يمكن تجاهله، هذا الوضع يشق طريقه نحو المستقبل ويتحكم فيه، هذا لا يمنع إمكانية تهذيب العولمة وتطويعها وترشيدها بالتوجه نحو نماذج وأنماط تبتعد عن التوحش وهيمنة القوى العظمى لفائدة عولمة مؤنسنة تراعي مصالح الجميع. ففعل أنسنة العولمة يقتضي من جميع الدول وشعوبها بما في ذلك الدول العظمى احترام المبادئ والغايات التي لأجلها تأسست المنظمات الدولية والهيئات العالمية، وهي مبادئ تحافظ على حقوق الإنسان والسلم المدني والأمن العالمي وتحد من السباق نحو التسلح ونزع أسلحة الدمار الشامل وغيرها. إنّ ارتباط العولمة بالتفوق العلمي والتكنولوجي في الغرب الأوربي والأمريكي ونفوذ النموذج الليبرالي سياسيا واقتصاديا وعسكريا لا يعني تقويض دور الدولة الوطنية والقومية كما يريد الغرب، بل يمكن استفادة سائر الدول والشعوب من التقدم العلمي والتكنولوجي ومن النموذج الليبرالي دون التخلي عن خصوصيتها الثقافية والتاريخية والحضارية، خاصة إذا كانت الشعوب تاريخية تراثية مثل الشعوب العربية والإسلامية. فسبيل أنسنة العولمة وتخليصها من التوحش يستلزم الاحتكام إلى نظام إنساني يحترم القيّم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية من عدل ومساواة وأخوة وتعاون وتكافل وغيرها، كما يحترم التنوع الثقافي والتعدد الديني والمذهبي ويحارب الظلم والقهر والاستبداد والاستعباد. العولمة المتوحشة التي يفرضها العالم المتقدم لا تجلب إلا التوتر وفساد العلاقات بين الدول والشعوب ولا تنتج إلاّ الكراهية والبغضاء والفتن والحروب وسقوط الجميع في الانحرافات التي تُفقد البشرية إنسانيتها، ولا تكون العولمة صالحة إلاّ بالتشبع بالقيم الإنسانية والأخلاقية واحترام الآخر في ثقافته وأفكاره ودينه وفي جميع حقوقه، ويُصبح ذلك واقعا مجسدا وعالما مشخصا ثقافة وفكرا وسلوكا وحضارة.
* إنّ التاريخ لم ينته كما تذهب أطروحة نهاية التاريخ وخاتم البشر، ولا الثقافات انصهرت في سياق الصدام الحضاري، فالتاريخ في حراك بدأب وديدان، والثقافات شامخة لم تهتز في وجه رياح العولمة والأمركة، وسلطة المركز لم تحل محل الدولة الوطنية والقومية المستقلة في الأطراف، وحقوق الإنسان التي ينادي بها الآخر في العالم هي جزء من أعمال التحرر والتنمية، ومن غايات الإسلام ومراميه قبل العولمة ومنذ أكثر من أربعة عشر قرنا، والتنوع الطائفي والثقافي والمذهبي من أشكال التعددية تعيش في إطار المساواة فيما للمواطنين وما يلزمهم من حقوق في وطنهم. من التحديات الفعلية الواجب على الدولة الوطنية التاريخية التراثية -دول العالم العربي والإسلامي- إدراكها نضج الوعي التاريخي الراهن الخاص واكتماله وربطه بالماضي، واستيعاب مرحلة الإبداع الأولى في عز الحضارة الإسلامية ووعي مرحلة محاولات النهوض الحضاري في العصر الحديث وإدراك مرحلة التنمية الراهنة والتحرر الجاري في إطار وطني وإقليمي، إطار يتم فيه الإبداع وتتبلور المفاهيم والتصورات والرؤى والمناهج والغايات الخاصة من دون السقوط في أحضان العولمة والأمركة واعتبارهما ضرورة تاريخية كما يروج لذلك حماة الكونية ودعاة الكوكبية. إنّ وصول عالم الأطراف إلى فرض الاستقطاب في معارك العولمة يستدعي "منولوغات" عميقة وإعادة بناء الذات بالحوار دوما وبالنقد الذاتي وحشد القوى وتجميعها بعيدا عن التطرف ومنطق الإقصاء، ففي العالم العربي والإسلامي يحتاج الأمر إلى التوحد في جبهة تأخذ على عاتقها العمل من أجل تحقيق المشروع القومي العربي الإسلامي، المشروع الذي تنتفي فيه الاختلافات المدمرة لكل أمل في التوحد والنهوض والتحضر، مشروع يتجسد في الميدان، يحافظ على الذات ويصنع التنمية ويحقق الوحدة ويضمن الديمقراطية والعدالة، ويحرر الأرض-أرض فلسطين- من الاحتلال، وهذا من شأنه يقضي على الهروب من الوطن داخل الوطن بالحراك في مسار اليأس والقنوط واللاّأمل ونتائج ذلك وخيمة، كما يمنع الفرار نحو الخارج المفضي إلى الموت المحتم في الطريق أو خدمة العولمة.