أخرج مسلم عن أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مُهْلَتِهِمْ، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ».

وأخرج مسلم أيضا عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ، وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَا: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، قَالَ: انْطَلَقَ نَبِيُّ اللهِ صلي الله عليه وسلم إِلَى رَضْمَةٍ (أي حجارة مجتمعة) مِنْ جَبَلٍ، فَعَلَا أَعْلَاهَا حَجَرًا، ثُمَّ نَادَى «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافَاهْ، إِنِّي نَذِيرٌ، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ (أي يحفظهم ويتطلع لهم)، فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ، يَا صَبَاحَاهُ».

وأخرج أحمد بسند حسن عَنْ بُرَيْدَةَ بن الحَصِيب رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم يَوْمًا فَنَادَى ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ تَدْرُونَ مَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمٍ خَافُوا عَدُوًّا يَأْتِيهِمْ، فَبَعَثُوا رَجُلًا يَتَرَاءَى لَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ أَبْصَرَ الْعَدُوَّ، فَأَقْبَلَ لِيُنْذِرَهُمْ، وَخَشِيَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ، فَأَهْوَى بِثَوْبِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ أُتِيتُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ أُتِيتُمْ» ثَلَاثَ مِرَار.

1 - شرح الحديث والمثل:

بعث الله عز وجل رسوله صلي الله عليه وسلم للناس بدعوة الحق {شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]، وأمده ربه بالآيات البينات التي تؤكد صدقه، فآمن به السعداء الموفقون، وأعرض عن دعوته الأشقياء المخذولون، وكان النبي صلي الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية الضالين وإرشاد الحائرين وإنقاذ الناس أجمعين، حتى كادت نفسه تذهب حسرات على قومه الذين كفروا به وصدوا عنه، ومع شدة إيذائهم له كان يشفق عليهم ويتمنى هدايتهم، ويدعو لهم بالمغفرة، أخرج الشيخان عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» ويأبى أن يعذبهم الله مع كل ما أنزلوه به من الأذى، ويقول فيما أخرجه الشيخان من حديث عائشة ر ضي الله عنها: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»، ولا يقطع الأمل مطلقا في هدايتهم وإنقاذهم.

وفي هذا الحديث يضرب النبي صلي الله عليه وسلم مثلا لهذا الحرص عليهم، وصدق الرغبة في إنقاذهم؛ بجماعة خافوا جيشا من أعدائهم يباغتهم بالهجوم عليهم، فبعثوا رجلا عاقلا منهم يراقب العدو وينظر ما يصنعون ويستطلع الأمر، فرأى الرجل جيش العدو وقد أقبل يريد غزو قومه وَيريد أَنْ يُفَاجِئَهُمْ، وَكَانَ يَخْشَى أن يلحق العدو قومه قَبْلَ لُحُوقِهِ، فأراد أن يسرع بتبليغهم ليأخذوا حذرهم ويعدوا عدتهم، حتى لا يأخذهم العدو على غِرَّة، فخلع ثوبه ورفعه على خشبة أو عصا ليراه قومه، وجعل يرفع صوته وهو يقول لهم: إن العدو في طريقه إليكم، وقد أوشك أن يدخل عليكم، فأدركوا أنفسكم، وكان قومه حيال ذلك فريقين: فريقا صدق النذارة فأخذ أهبته وأعد للأمر عدته فانطلقوا ونجوا بأنفسهم، وفريقا آخر لم يحفل بصياحه ولم يلق بالا لتحذيره، فبقوا في غفلتهم حتى تمكن العدو منهم، فأهلكهم قتلا وأسرا، ولم يبق منهم أحدا.

وهكذا الناس مع رسالة الحق التي جاء بها محمد صلي الله عليه وسلم، فهو يصيح فيهم لينقذهم من النار، فقد أخرج الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى البَطْحَاءِ، فَصَعِدَ إِلَى الجَبَلِ فَنَادَى: «يَا صَبَاحَاهْ» فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ، أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا تَبًّا لَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] إِلَى آخِرِهَا. فهدى الله به للإيمان قوما أخلصوا لله، فنجوا وفازوا بعز الدنيا وسعادة الآخرة، وأضل آخرين بكفرهم وعنادهم؛ لا عن يقين يعتقدونه، ولكن تكبرا وعتوا، كما فعل أبو لهب وغيره، فباؤوا بالخزي والعذاب الأليم.

ومن أبلغ الأمثلة القريبة من ذلك -وإن كان ضعيف السند- ما أخرجه ابن المبارك في (الزهد والرقائق) قال: بَلَغَنَا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَلَكُوا مَفَازَةً غَبْرَاءَ، لَا يَدْرُونَ مَا قَطَعُوا مِنْهَا أَكْثَرَ أَمْ مَا بَقِيَ مِنْهَا، فَحَسَرَ ظَهْرُهُمْ، وَنَفِدَ زَادُهُمْ، وَسَقَطُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمَفَازَةِ، فَأَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ، يَقْطُرُ رَأْسُهُ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالرِّيفِ، فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ يَا هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: مَا تَرَى، حَسَرَ ظَهْرُنَا، وَنَفِدَ زَادُنَا، وَسَقَطْنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمَفَازَةِ، وَلَا نَدْرِي مَا قَطَعْنَا مِنْهَا أَكْثَرَ أَمْ مَا بَقِيَ عَلَيْنَا؟ قَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ أَوْرَدْتُكُمْ مَاءً رُوَاءً، وَرِيَاضًا خُضْرًا؟ قَالُوا: نَجْعَلُ لَكَ حُكْمَكَ، قَالَ: تَجْعَلُونَ لِي عُهُودَكُمْ، وَمَوَاثِيقَكُمْ أَنْ لَا تَعْصُونِي، قَالَ: فَجَعَلُوا لَهُ عُهُودَهُمْ، وَمَوَاثِيقَهُمْ أَنْ لَا يَعْصُوهُ، فَمَالَ بِهِمْ، وَأَوْرَدَهُمْ رِيَاضًا خُضْرًا، وَمَاءً رُوَاءً، فَمَكَثَ يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ: هَلُمُّوا إِلَى رِيَاضٍ أَعْشَبَ مِنْ رِيَاضِكُمْ هَذِهِ، وَمَاءٍ أَرْوَى مِنْ مَائِكُمْ هَذَا، فَقَالَ جُلُّ الْقَوْمِ: مَا قَدَرْنَا عَلَى هَذَا حَتَّى كِدْنَا أَنْ لَا نَقْدِرَ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: أَلَسْتُمْ قَدْ جَعَلْتُمْ لِهَذَا الرَّجُلِ عُهُودَكُمْ، وَمَوَاثِيقَكُمْ أَنْ لَا تَعْصُوهُ، وَقَدْ صَدَقَكُمْ فِي أَوَّلِ حَدِيثِهِ، فَآخِرُ حَدِيثِهِ مِثْلُ أَوَّلِهِ، فَرَاحَ وَرَاحُوا مَعَهُ، فَأَوْرَدَهُمْ رِيَاضًا خُضْرًا، وَمَاءً رُوَاءً، وَأَتَى الْآخَرِينَ الْعَدُوُّ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِمْ، فَأَصْبَحُوا مِنْ بَيْنِ قَتيِلٍ وَأَسِيرٍ».

2-حرصه صلي الله عليه وسلم علي هداية أمته والناس أجمعين :

شبه النبي صلي الله عليه وسلم نفسه بالنذير العريان، وهو «مَثَلٌ مَشْهُورٌ سَائِرٌ بَيْنَ الْعَرَبِ، يُضْرَبُ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَدُنُوِّ الْمَحْذُورِ وَبَرَاءَةِ الْمُحَذِّرِ عَنِ التُّهْمَةِ، وَأَصْلُهُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا رَأَى الْعَدُوَّ قَدْ هَجَمَ عَلَى قَوْمِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُفَاجِئَهُمْ وَكَانَ يَخْشَى لُحُوقَهُمْ قَبْلَ لُحُوقِهِ تَجَرَّدَ عَنْ ثَوْبِهِ، وَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ خَشَبَةٍ وَصَاحَ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي غَشِيَهُ الْعَدُوُّ وَكَانَ رَبِيئَةَ قَوْمِهِ، أَيْ: جَاسُوسَهُمْ، فَأَخَذُوهُ وَتَعَلَّقُوا بِثِيَابِهِ، فَانْسَلَّ مِنْهَا وَلَحِقَ بِقَوْمِهِ فَأَنْذَرَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَلَى حَالَتِهِ تِلْكَ ارْتَحَلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي سَلَبَ الْعَدُوُّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ فَأَتَى قَوْمَهُ عُرْيَانًا يُخْبِرُهُمْ، فَصَدَّقُوهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ آثَارِ الصِّدْقِ، وَخُصَّ الْعُرْيَانُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ أَبْيَنُ فِي الْعَيْنِ وَأَغَرُّ وَأَشْنَعُ عِنْدَ الْبَصَرِ»([1])

وفي تشبيه النبي صلي الله عليه وسلم نفسه بالنذير العريان بيان لكونه حريصا كل الحرص علي هداية الناس أجمعين، ويتبين ذلك في أنه لم يدع بابا من الخير إلا ودل الناس عليه، ولم يدع بابا من الشر إلا وحذر الناس منه، فقد أخرج أحمد والطبراني في الكبير -واللفظ له- وصححه ابن حبان عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: تَرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صلي الله عليه وسلم وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، إِلَّا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: فَقَالَ: صلي الله عليه وسلم: «مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ، ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ، إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ».

ولم يدع شيئا مما يكون بينه وبين الساعة للأمة خير في معرفته إلا أخبرهم به، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه، فقد أخرج البخاري عن عُمَرَ رضي الله عنه قال: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الخَلْقِ، حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَه.

وأخرج مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم مَقَامًا، مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، إِلَّا حَدَّثَ بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ».

وأخرج مسلم أيضا عن عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم الْفَجْرَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا».

وأخرج الترمذي وحسنه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَوْمًا صَلَاةَ العَصْرِ بِنَهَارٍ، ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا، فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا أَخْبَرَنَا بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» الحديث.

ومن ذلك أنه حذر أمته من التنافس على الدنيا، ومن المتابعة لأعدائها، ومن الفتن التي تموج كموج البحر، ومن فتنة الدجال، وأطلع الأمة على علامات الساعة الصغرى والكبرى، لتبقى الأمة في حالة يقظة مستمرة.

ويدل على حرصه الكبير صلي الله عليه وسلم فرحُه الشديد حينما يؤمن به إنسان كان علي الشرك ويموت علي الإيمان، كالغلام اليهودي الذي مرض فذهب النبي صلي الله عليه وسلم يعوده وأسلم علي يديه ثم مات بعد ذلك ، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ غُلَامًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ» فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ».

كما كان النبي صلي الله عليه وسلم يحزن حزنا شديداً حينما يموت إنسان علي الشرك، مع أن الله جل وعلا قال له {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99] وكان يحرص ألا تفلت نفس منه إلي النار.

وكان يدعو للمخالفين له أن يهديهم الله لهذا الحق، وأن يكونوا من حملة هذا النور، وهذا ما حصل منه مع كفار مكة، مع أنهم آذوه وطاردوه، لكنه كان يدعو الله لهم بالهداية ، فكان يدعو الله أن يعز الإسلام بأحد العمرين عمرو بن هشام أو عمر بن الخطاب، فقد أخرج أحمد والترمذي بسند صحيح من حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ، بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ» قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ.

ولما رجع من الطائف وقد لقي من أهلها إيذاءً شديداً وجاءه ملك الجبال بإذن الله ليأمره فيهم بما شاء لم يكن في نفسه لهم إلا رجاء هدايتهم إلى الحق، فقد أخرج الشيخان من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»

وقد سجل الله هذا الحرص الكبير، فقال تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]

هكذا كان حرصه صلي الله عليه وسلم ليس علي أمته فحسب بل علي الناس كافة{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، حتى كانت نفسه تتقطع حسرات على إعراضهم عن الحق وإصرارهم على الكفر {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، أي: لعلك قاتل نفسك، ومتلف جسدك، ومضيع وقتك وأنت تتبع القوم، وتمضي في إثرهم، وهم يعرضون عنك، أنت تريد لهم الخير وهم يبتعدون عنك، وقال له ربه تبارك وتعالى {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]. وقال له ربه مسليا ومسريا {واصبر وما صبرك وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] .

وحين يطلب منه بعض المسلمين أن يدعو على المعرضين عن الحق يدعو لهم بالهداية والرشاد، كما فعل مع قبيلة دوس، فقد أخرج الشيخان وأحمد -واللفظ له- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ. فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ النَّاسُ: هَلَكُوا. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ، اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ».

ويبلغ حرصه على الناس حد احتمال الأذى من المنافقين الذين يسيئون إليه، فيأتيهم ويواصلهم وهو يعلم مانطوت عليه من الكفر والحقد قلوبهم، فقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم وَرَكِبَ حِمَارًا، فَانْطَلَقَ المُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي، وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]

إن الداعية المهموم بدعوته الحريص على رسالته لا تكاد الرغبة في هداية الخلق إلى طريق الحق تفارق خياله، فدلالة الناس على الحق شاغله في كل أحواله، وليست الدعوة بالنسبة له هواية عارضة، أو قضية ثانوية، أو عملاً يشغل به فضول أوقاته، بل شعاره {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] . يشتد فرحه حين تنفتح القلوب لدعوته، وتقر عينه حين يؤمن أحد برسالته، ويأتي الناس في مسجدهم وناديهم ومحال أعمالهم، ولا يألو جهدا في البحث عن سبل الوصول إلى قلوبهم، ويحرص على احترام الخلق وتقديرهم ، ممتثلا توجيه النبي صلي الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن أبي شيبة وأبو يعلى والبزار عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، فَلْيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ وَجْهٍ، وَحُسْنُ خُلُقٍ» ، ولا يتردد في مخاطبتهم بالتي هي أحسن؛ رجاء استمالتهم إلى الحق، ويلين لهم حتى يجتمعوا من حوله ويسمعوا له {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، ويشغل نفسه بالدعاء للعصاة والضالين بالهداية لا بالانتقام، ويحتال للأخذ بأيديهم إلى طريق رب العالمين.

هل أتاك أيها الأخ الكريم نبأ قصة مالك بن دينار التي ذكرها الذهبي في (سير أعلام النبلاء) حين دخل عليه لص، فما وجد ما يأخذ، فناداه مالك: لم تجد شيئا من الدنيا، فترغب في شئ من الآخرة ؟ قال: نعم. قال: توضأ، وصل ركعتين، ففعل ثم جلس وخرج إلى المسجد، فسئل من ذا ؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه!.

هذه هي الروح التي بها ينطلق الداعية المخلص، الذي يرى نفسه صيادا يصيد الخلق بشباك الحرص والشفقة والرغبة الصادقة في هداية الخلق إلى طريق الحق.

3- قيامه صلي الله عليه وسلم بالإنذار وانقطاع عذر الكفّار والمنافقين وإقامة الحجّة عليهم:

أرسل الله نبيه صلي الله عليه وسلم {شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، أي: شاهدا على الأمّة، ومبشّرا للمطيعين بالجنّة ومنذرا للعصاة بالنّار، وقد قام صلي الله عليه وسلم بالنذارة بما أنزل الله عليه من الآيات {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] يعني ينذر الناس عقاب ربهم، ويخوّفهم عذابه إن لم يوحّدوه ولم يخلصوا له العبادة ويخلعوا كلّ ما دونه من الآلهة والأوثان، ومن تمام عدله سبحانه ألا يعذب الناس إلا بعد أن يقيم الحجة عليهم {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فإذا أنذرهم الرسول وأقام الحجة عليهم لم يكن لهم عذر بين يدي الله حين يسألهم ويحاسبهم {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الْمُلْكِ: 8، 9]، وقال تعالى{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزُّمَرِ: 71]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]، وقال تعالي {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208]، وقال جل شأنه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُدْخِلُ أَحَدًا النَّارَ إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ.

وقام النبي صلي الله عليه وسلم بنذارة الأمة وفي مقدمتها عشيرته الأقربون؛ حتي لا يتكل أحد علي أنه قريب لرسول الله صلي الله عليه وسلم، وأنه سيشفع له يوم القيامة فيكون سببا في تقاعسه عن العمل، وقد أخرج الشيخان من حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»

وعند مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَامَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا، فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ».

وأخرج البخاري في (الأدب المفرد) وابن أبي عاصم في (السنة) بسند حسن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَوْلِيَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُتَّقُونَ، وَإِنْ كَانَ نَسَبٌ أَقْرَبَ مِنْ نَسَبٍ، لا يَأْتِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ وَتَأْتُونِي بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ، فَتَقُولُونَ يَا محمد! فأقول هكذا» أو أعرض في عطفيه.

وهكذا يقيم النبي صلي الله عليه وسلم الحجة على الخلق أجمعين، بدءا بآل بيته وعشيرته الأقربين، وحين يحس بدنو الأجل بستشهد بالأمة على تمام البلاغ المبين فيقول فيما أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه بعد أن خطب فيهم يوم النحر: «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟» . قَالُوا: نَعَمْ . قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ...» الحديث، وفي حديث البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «أَلاَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟» . قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثَلاَثًا، وَيْلَكُمْ، أَوْ وَيْحَكُمُ، انْظُرُوا لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».

وما فارق صلي الله عليه وسلم الدنيا حتى كان قد أتم البلاغ وقطع الأعذار وأبان سبيل النجاة وحذر من سبل الهلاك، أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبغوي في (شرح السنة) وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ، إِلا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، وَإِنَّ الرُّوحَ الأَمِينَ نَفَثَ فِي رُوعِي: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ، فَإِنَّهُ لا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلا بِطَاعَتِهِ». وأخرج مسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهم قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلي الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ (يعني في وسط دوابه)، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلي الله عليه وسلم: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلي الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ... » الحديث.

وأخرج أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَرضي الله عنه قال: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ».

وأخرج ابن أبي عاصم في (السنة) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَلَيْنَا فَقَالَ: «ايْمُ اللَّهِ لَأَتْرُكَنَّكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا سَوَاءٌ» . فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَدْ تَرَكَنَا عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ.

وإذ كان الأمر كذلك فلا عذر لهذه الأمة في التخلي عن سبيل النجاة، أو البحث عن أسباب السعادة بعيدا عن هذا المنهج الرباني الكريم، الذي أنزله الله على نبيه صلي الله عليه وسلم بشقيه القرآن والسنة، الذين تضمنا أصول الحياة السعيدة وأصول النهضة الرشيدة وأسباب العز والتمكين. وإن الأمة لمطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن تعيد صياغة حياتها ومناهج تعليمها وتربيتها وفق هذه المرجعية، حتى لا تتفرق بها السبل أو يلتبس عليها الحق، فتضل كما ضل غيرها من الأمم {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد/16]، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران/105]. آن للأمة أن تسمع نداء ربها تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُون} [الأنفال/20- 21]، وأن تنتبه إلى تحذيره عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر/18، 19].

--------------------
([1]) مرقاة المفاتيح 1/231.