تقاسيم: فضاءات شعرية بلا حدود
للشاعر د. لطفي زغلول

بقلم: أ. د. يمنى أ. الجابري
محاضرة جامعية متقاعدة

أهداني الصديق الشاعر والكاتب الفلسطيني د. لطفي زغلول بعضا من دواوينه الشعرية، يوم تعرفت عليه في الدار البيضاء في المغرب، وكنا آنذاك نشارك في أحد المهرجانات الأدبية هناك، وقد تلقيت منه مؤخرا خبر إصداره الجديد عبر البريد الإلكتروني، والذي يشير فيه إلى أنه أصدر مجموعة شعرية جديدة أطلق عليها عنوان "تقاسيم.. قصائد بلا حدود"، وقد تفضل وأرسله لي عبر البريد الإلكتروني، راجيا أن يحظى بقراءة تحليلية أقوم بها. أود أن أشير إلى أنني لست أول مرة أسجل قراءاتي الإنطباعية حول إصداراته. يسعدني هنا أن أسجلها مرة أخرى.

تقاسيم: قصائد.. بلا حدود هو الإصدار الثالث والعشرون للشاعر والكاتب الفلسطيني د. لطفي زغلول، بالتعاون مع دار ناشري للنشر الإلكتروني الكويتية. وقد صدر بطبعة أنيقة ذات ورق فاخر، كعادة الشاعر د. زغلول في إيلاء إصداراته الشعرية اهتماما كبيرا من حيث شكلها، إلى جانب مضمونها. صمم غلافه المميز الرسام نزار زغلول شقيق الشاعر.

جاء هذا الإصدار في ستة فضاءات، قدم لها الشاعر د. زغلول بنفسه، مصرحا أنه لم يكن في يوم من الأيام شاعر مناسبات، وظل طوال مسيرته الشعرية ملتزما وحدة الموضوع في كل إصداراته الشعرية. ولا يخفى على أحد أنه ظل يحلق في فضاءات ثلاثيته المعروفة "الله– الوطن– المرأة والحب"، وانطلاقا من هذا التحليق، لقبه الكثيرون "شاعر الحب والوطن".

يستهل شاعرنا تقاسيمه بقصيدة أهداها إلى روح والده الشاعر الأول في مسيرته الشعرية الراحل عبد اللطيف زغلول وفاء وإجلالا لذكراه، أفرد لها مكان الصدارة، حملت عنوان "صلوات.. في محراب أبي"، أقتطف منها:

الليلُ حَزينٌ بعدَ رحيلِكَ.. ليلَ نَهارْ
ما زالَ أَسيراً في منفاهُ..
منَ الآصالِ إلى الأَسحارْ
والموعِدُ دقَّت ساعتُهُ
رَقصت أنجمُها ساحتُهُ
لكنَّ الفارسَ ما وطئِت.. قَدماهُ الساحةََ..
أو خفَقت في أوجِ عُلاها رَايتُهُ
وسؤالٌ يعصِفُ كالإعصارْ
هل حقّاً غِبتََ.. وغابَ شِراعُ سناكَ عنِ الأَنظارْ

الليلُ يَحنُّ إلى السمَّارِ..
فبعدَكَ أَقفرَ حضنُ الليلِ.. مِنَ السمَّارْ
لم تَلمسْ يُمناهُ أكوابَ الشعرِ..
ولا طافَ الساقي بِشرابٍ..
يُطفىءُ في شَفتيهِ عَطشَ النارْ

يقول الشاعر د. زغلول في مقدمة إصداره هذا :تقاسيم: قصائد بلا حدود، مجموعة من القصائد الشعرية نظمتها على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن، إلا أنها لم تحظ بانتمائها لأي من دواويني. هي بالنسبة لإصداراتي تشكل الإصدار الشعري الثالث والعشرين، وكان لا بد لي أن أجمعها في أحد دواويني، أطلقت عليه عنوان: تقاسيم.. قصائد بلا حدود.

يضيف الشاعر د. زغلول، فيما يخص أسلوبها الشعري، يغلب على كثير من قصائد هذه المجموعة الشعرية أنها تقليدية، عمودية، منبرية، ومنها ما هو مباشر، أو أنها روحانية، بمعنى أنها مناجيات منظومة. لقد قمت بتبويبها في مجموعة فضاءات حسب موضوعاتها.

في أول فضاء من هذا الإصدار الذي حمل عنوان "أزاهير وأشواك" قصائد للمرأة استهله شاعرنا بموضوع محبب إلى نفسه يخص المرأة، كيف لا وهو الملقب بشاعر الحب. إن المرأة في شعر د. لطفي زغلول تتجلى في صور شتى، فهو تارة يعترف أنها امرأة واحدة، إختصرت كل نساء العالم في تضاريسها، إلا أنها تتغير كشمس الفصول الأربعة، تدور في فلكه كما تدور الأرض حول هذه الشمس. إنها إمرأة واحدة رغم أنها تختزن أشكالا متعددة من الحالات النسائية.

إنها إمرأة واحدة يحبها، يريدها، أحيانا يكرهها، يشمخ عملاقا أمامها، وأحيانا يتدثر طفلا بدفء أحضانها، إلا أنه عنيد لا تسمح كبرياؤه بالإنكسار في حضرتها، أو توسل الحب منها. إنها إمرأة يقرأ في عينيها وطنه الذي ألقى إخوته به إلى غياهب الجب، ولم تمر سيارة قوم تنتشله منه حتى الآن. أيا كانت حالاتها، وأيا كانت حالاته، تظل قصائده تنهمر على مغانيها رغم اتساع حالات تغيرها.

هذه الحالات تدفعه إلى التجوال في عوالم نساء أخريات لمجرد المرور لا التوقف، كأنه ذلك البحّار يمخر عباب البحار، يرسو في مرافىء عدة، ثم ييمم عائدا شطر مرفأه الأول الذي انطلق منه زورقه. في هذه العوالم النسائية يصادف أشكالا متعددة من النساء. هذه امرأة تطل على محرابه الشعري صدفة. هذه امرأة مغرورة، وتلك التي تتسلل إليه، فارضة نفسها على فضائه، وأخرى التي لا تساوي أجمل قصائده عندها زجاجة عطر، أو بعض الأساور في معصميها، وخامسة تتخيل واهمة أنها أوقعته في حبائل شباكها.

هناك حقيقة أكيدة تجسد واقع شاعرنا، إنه يحترم المرأة، لكنه لا ينكسر أمامها، لا يتذلل، لا يبكي، ويظل فارسا لا يشق له غبار. إن شاعرنا يحب ويعشق، تسحره العيون التي طالما حلق في فضاءاتها، وهو في هذا وذاك لا يؤمن بالأسرار، ولا يختبىء خلف حجاب، وهكذا ينبغي أن يكون الشعراء في دستوره. إن العشق إحدى مركبات الشعر الأساسية، والعشق إذا ما خلا منه الشعر، كان طائرا بلا جناحين. يقول في إحدى قصائده:

أعلنتُ هواكِ على الدنيا
فأنا لا أومنُ بالأسرار
غنيتُكِ.. حتى صارَ أريجُ هواكِ..
تفوحُ بهِ الأزهار
وفي قصيدة أخرى:
هيأتُ قلبي زورقا.. فأبحري وسافري
صولي وجولي في بحاري.. جدِّفي وغامري
إكتشفي.. ماذا يدورُ عنكِ في خواطري
تسللي إلى حروفي.. إقرأي دفاتري
عودي لماضي صبوتي.. لا تكتفي بحاضري
في قصيدته "هذا أنا" يحدد طبيعة علاقته بالمرأة، وهي علاقة لحمتها الإحترام، وسداها عدم فرض رأيه عليها:
هذا أنا تَنسابُ في..أُفقي الرُّؤى شَفّافَةً
فَأقولُ في مِحرابِ شِعري.. ما يَجولُ بِخاطِري
هذا أنا بِبساطةٍ لا أدَّعي
ولتقنَعي.. أنا لا أريدُكِ خاتماً
أَزهو بِهِ في إصبَعي
أو دُميَةً أَلهو بِها في مَخدَعي

في فضائه الثاني "ولي وطن "قصائد للوطن، نسمعه يتغنى بحبه الأول والأخير فلسطين التي تبقى ماثلة تضيء ذاكرته. يصدح لمدينته نابلس التاريخ والأصالة، ويتغنى بأمجادها، يحزن على ما جرى للقدس، وكيف فرط بها العرب والمسلمون. تهز مشاعره مأساة غزة المحاصرة، وما آل إليه مآلها. يذهب بعيدا إلى تطوان يتغنى بها في إحدى زياراته إلى المملكة المغربية. إلا أنه هنا لا ينسى شهداء وطنه الجريح، فكان لهم حضور في تقاسيمه. وهنا أجدني أردد مقاطع من قصيدته لأطفال غزة:

لأطفالِ غزةَ.. أذرفُ شعرا
أسطّرُ بالدمِ أسطورةَ المجدِ.. سطراً فسطرا
لأطفالِ غزةَ.. تُغتالُ فيها الطفولةُ جهرا
إلى كلِّ طفلٍ.. سما في فضاءِ الشهادةِ نسرا
أيممُ كفيَّ شطرَ السماءِ.. أرتلُ ملحمةَ الكبرياءِ
لهُ عاشَ حراً.. لهُ ماتَ حرّا
وأقرئهُ الحبَّ نثراً وشعرا
وأرفعُ من ذكرِهِ في جحيمِ النوائبِ.. ذكرا
وأتلو على سمعِهِ كلَّ حينٍ
فإنَّ معَ العُسرِ يُسرا.. فإنَّ معَ العُسر يُسرا
في قصيدة أخرى ينشد للقدس:

أُجلُّكِ يا قِبلةَ العاشقينَ– مُضياً إليكِ أيممُ رَكبي
وها أنا حينَ تنادينَ فرسانَ.. مجدِكِ في النائباتِ ألبّي
عصيٌّ ترابُكِ.. صعبُ المنالِ– على كلِّ مغتصبٍ.. جدُّ صعبِ
لنا أنتِ يا قدسُ.. لا هوَ أضغاثُ.. وهمٍ.. ولا هوَ رجمٌ بغيبِ

في فضائه الثالث "رؤى مضيئة" قصائد ذات طابع خاص. هنا يؤكد شاعرنا أنه لم يكن خلال مسيرته الشعرية الطويلة شاعر مناسبات، إلا أنه في أحيان قلة يجد نفسه مضطرا لإضاءة أحداث بحد ذاتها، حفرت آثارها العميقة في مشاعره. راثيا صديقه الوفي سامي الذي اغتالته يد آثمة، ويمجد الشاعر الكبير إبراهيم طوقان شاعر القضية الفلسطينية، ويشن حربا شعواء على التدخين، وهو في غمرة هذا وذاك لا ينسى شهداء وطنه المحتل.

في فضائه الرابع "تسابيح" قصائد روحانية، وهي تأتي استكمالا لقصائده الروحانية في ديوانيه "مناجاة" و "همس الروح" . في حقيقتها هي مناجيات منظومة للذات الإلهية، تأتي في إطار تقليدي، حافظ على الوزن والبحر والقافية، ليس فيه جديد من حيث أسلوبها الشعري. إلا أنني خشعت لدى قراءتها، وسبحت في ملكوت الله جلت قدرته. وقد لفت انتباهي قصيدة عصماء حملت عنوان "خواطر.. في ذكرى ميلاد الرسول الأعظم"، كان لها وقع على أحاسيسي، فحلقت في أجوائها الروحانية.

في فضائه الخامس "أول الغيث" من بواكير تجربته الشعرية، اختار شاعرنا مجموعة مختارة من قصائد كان قد نظمها في الستينيات من القرن العشرين المنصرم. يغلب على هذه القصائد أنها موجهة إلى المرأة، وعلى ما يبدو فإن الدوران في أفلاك الذاتية، كان متاحا آنذاك، على الأقل هذا ما عثرت عليه في هذه القصائد المختارة. إنني على يقين أن موضوعات أخرى قد خاض شاعرنا غمارها في بدايات عطائه الشعري، إلا أنها لم تحظ بالنشر هذه المرة.

أعجبتني من هذا الفضاء مقدمة قصيدة لها من العمر أربعة وأربعون عاما ، تحت عنوان "أخيرا":
أخيراً عثرتُ على امرأةٍ.. غيرِ كلِّ النساءِ
عثرتُ عليكِ.. التقيتكِ.. من بعدِ طولِ عنائي
ترى أينَ كنتِ مخبأةً..
أيُّ بحرٍ تواريتِ في موجِه.. أيُّ ماءِ
وأيًّ عباءةِ سحرٍ تدثرتِ فيها.. وأيُّ رداءِ

في فضائه السادس والأخير "زهرتان" بطاقات حب إلى دانا وشادن. دانا هي حفيدته الرابعة، وشادن هي إبنته الوسطى. لقد اخترت بطاقته الأولى إلى حفيدته دانا. لا أخفي أنني أعجبت بها، فقررت أن أدرجها هنا في هذه القراءة الأولية.

هذا المهدُ.. مملكةٌ.. ليسَ لها حدُّ
لا يسكنُها إلاّ الوردُ
لا يمطرُ فيها مِدراراً.. إلاّ الشهدُ
الحبُّ يزورُ شواطئَها
فهنا مدٌّ.. وهنا مدُّ
والشوقُ إليكِ رُؤىً تختالُ بهودجِها تعدو.. تعدو
ومدىً يمتدُّ ويمتدُّ
في موجةِ عطرٍ ترقصُ نشوى
تكبُرُ.. في مهدِ الأحلامِ وتشتدُّ
والطيرُ على أفنانِكِ.. ولهاناً.. من نشوتِهِ يشدو
والقمرُ بأحضانِكِ يُمسي
والشمسُ على شدوِكِ تغدو
شكراً للهِ على إبداعِكِ.. يا دانا.. ولهُ الحمدُ

إنه ديوان تقاسيم.. قصائد.. بلا حدود. إنه الشاعر والكاتب الفلسطيني الملهم د. لطفي زغلول الباذخ بكلماته التي تتضوع شذا وعذوبة. الحق يقال إنه ذو قدرة عجيبة في التحكم بالكلمات، يطوعها لتأتينا ببوح مفعم بالصور التي تتألق تحت ضوء الحب والقصيدة. إن الدخول إلى محرابه الشعري يرهق التخيل والخيال، فهو بحر زاخر، ماؤه رائق في سكونه، هادر في صخبه وثورانه. هكذا يكون الشعر، وهكذا يكون الشعراء، يرتحلون بعيدا بعيدا في فضاءات الرؤى، ويعودون متخمة سلالهم بعناقيد الإبداع. إلى هنا أقف عند حدود هذه القراءة الإنطباعية، عساها تحمل للصديق الشاعر د. لطفي زغلول بعض ما أكنه له من تقدير ومودة.