مـحـاسـبـة الـحـكـام ... الـحـلـقـة الـمـفـقـودة
دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُولانِيُّ عَلَىْ مُعاوِيَةَ بْنِ أَبِيْ سُفْيانَ فَقالَ : السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّها الأَجِيرُ
فَقالَ لَهُ مَنْ حَوْلَهُ : قُلْ أَيُّها الأَمِيرُ . فَأَعادَها : السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّها الأَجِيرُ
فَقالَ مُعاوِيَةُ لِصَحْبِهِ : دَعُوهُ فَإِنَّ أَباْ مُسْلِمٍ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ
ثُمَّ قالَ أَبُو مُسْلِمٍ لِمُعاوِيَةَ : إِنَّما مَثَلُكَ مَثَلُ أَجِيرٍ اؤْتُمِنَ عَلَىْ ماشِيَةٍ لِيُحْسِنَ رَعْيَها ، وَيُوَفِّرَ أَلْبانَها ،وَيُنَمِّيَ الصَّغِيرَةَ ، وَيُسَمِّنَ الْعَجْفاءَ ، فَإِنْ هُوَ فَعَلَ اسْتَحَقَّ أَجْرَهُ وَزِيادَةً ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَفْعَلْ نَزَلَ بِهِ عِقابُ مُسْتَخْلِفِهِ ، وَلَمْ يَنَلْ أَجْراً.
يا مُعاوِيَةُ ، إِنَّكَ إِنْ عَدَلْتَ مَعَ أَهْلِ الأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ جُرْتَ عَلَىْ رَجُلٍ واحِدٍ ، مَالَ جُورُكُ بِعَدْلِكَ . يا مُعاوِيَةُ ، لا تَحْسَبَنَّ الْخِلافَةَ جَمْعَ الْمالِ وَإِغْداقَهُ ؛ إِنَّما الْخِلافَة الْعَمَلُ بِالْحَقِّ ، وَالْقَوْلُ بِالْمَعْدَلَةِ ، وَأَخْذُ النّاسِ فِيْ ذاتِ اللهِ .
يا مُعاوِيَةُ إِنَّ النّاسَ لا يُبالُونَ بِكَدَرِ الأَنْهارِ مَا صَفا النَّبْعُ وَطابَ ، وَإِنَّ مَكانَ الْخَلِيفَةِ مِنَ النّاسِ، مَكانُ النَّبْعِ الَّذِيْ يَرْجُونَ صَفاءَهُ
خسرت الأمة الإسلامية الكثير والكثيرعندما تقاعست وقصرت وفرطت في محاسبة حكامها.
عدم قيام الأمة ( من علماء ومفكرين ونخب وشعوب ) بما فرضه الله عليها من محاسبة للحكام وعدم شعورها بأنها هي مصدر السلطان وأن الحاكم هو مجرد أجير وموظف عندها ، جعلها منذ مجيء دولة الإستقلال المزعوم إلى يوم الناس هذا فريسة للطواغيت والظلمة يسومونها سوء العذاب ، يذبحون أبناءها ويستحيون نساءها ، يكبتون حرياتها ، يفسدون دينها وأخلاقها ، ينهبون خيراتها ويستقوون عليها بالأجنبي ) وجعلها كيانات مفككة ضعيفة متخلفة يغتصب العم سام كرامتها وشرفها في كل زمان ومكان دون أن تجرأ على تحريك ساكن أو الهمس ببنت شفة.
ولو قامت الأمة بواجب محاسبة الحكام والعمل بقوة وجد للإنكار عليهم أو تغييرهم إن لزم الأمر لما تجرأ بعضهم على التورط جهارا نهارا في حصار وخنق وتجويع مليون ونصف مسلم ( تواطئ في الحرب ثم بناء جدار العار ) ولما فتحوا أراضيهم لإنشاء قواعد عسكرية ينطلق منها المحتل الغاصب لضرب واحتلال بلدان إسلامية ، ولما شاركوا في سجن وتعذيب وقتل أبناء جلدتهم نيابة عن أسيادهم باسم الحرب على الإرهاب التي تعني من غير لف ولا دوران الحرب على الإسلام وأهله.
إن مقاومة ظلم الحكام الذي نراه اليوم ومحاسبتهم على فسادهم وخياناتهم وتآمرهم على الأمة وقول الحق في وجوههم هو أفضل أنواع الجهاد وضرورة شرعية أكيدة ومقدمة على كل الضرورات يجب أن نقوم بها نحن معشر المسلمين كل من موقعه لا تأخذنا في الله لومة لائم.
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على مكافحة الحكام الظلمة مهما حصل في سبيل ذلك من أذى حتى لو أدى إلى القتل. فقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله »
فالمهمة الأساسية للحاكم ( كما يقول الدكتورالمسعري في كتابه محاسبة الحكام ) هي رعاية شؤون الأمة ، فإذا قصر في هذه الرعاية أوجب الشرع محاسبته ، فالأمة قوامة عليه يلزمها الانكار على ما يقصر به في مسؤولياته أو يسيء في تصرفاته.
* قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً ) البقرة 143
* كما قال ( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط ) المائدة،:8 وقال أيضا : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) النساء:135
فكيف تكون الأمة شهيدة على الناس إذا لم تكن قوامة لله شاهدة بالقسط على نفسها ؟ وذلك يقتضي، ضرورة ليس فحسب الشهادة على كل فرد من أفرادها بل كذلك الشهادة على الجماعة بوصفها جماعة وعلى الحكام ومحاسبتهم والقوامة عليهم بالقسط.
* ثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف برىء ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم ؟ قال: لا ما صلوا ». هذا حديث صحيح رواه مسلم وفي لفظ له: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة».
وفي رواية لأبي داود أيضاً عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ستكون عليكم أئمة تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر بلسانه فقد برئ ، ومن كره بقلبه فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع ». فقيل: يارسول الله أفلا نقاتلهم ؟ قال: «لا ما صلوا»، رواه أبو داود بإسناد صحيح. أي من عرف المنكر فليغيره ، ومن لم يقدر على تغييره فأنكر ذلك بقلبه فقد سلم. فالمسلمون جميعاً، يجب عليهم أن يحاسبوا الحاكم للتغيير عليه، ويكونون آثمين إذا رضوا بأعماله التي تنكر وتابعوه عليها.
وكون الأمة تحاسب الحاكم لا يناقض وجوب طاعته ، لأن طاعة الحاكم إنما هي في المعروف ، فإذا خرج الحاكم عن حدود الشرع بظلم أو أكل للحقوق أو اعتداء على الحرمات أو عمالة للأعداء فلا طاعة له ، بل إن الأمة تعصي الله تعالى إن فعلت ذلك لأنه: « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ».
وقد بلغ الإسلام الذروة في محاسبة الحاكم والإنكار عليه لدرجة أنه عدَّ من يموت بسبب محاسبة الحاكم شهيدا بل من أفضل الشهداء ، ودعا إلى مقاومتهم بالوسائل الممكنة إذا أظهروا الكفر البواح:
* فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: « أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا، ويسرنا، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان »، وفي رواية: « وأن نقول الحق حيثما كنا لانخاف في الله لومة لائم » وهذا حديث صحيح، من أصح أحاديث الدنيا، متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، وأحمد.
كما أن مقاومة الطغيان هي حق لكل الشعوب لا يجوز منعها منه ، ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»، حديث غاية في الصحة، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وهو أمر بالأخذ على يد كل ظالم وردعه ومنعه من ظلمه، ولا شك أن أفظع المظالم وأكبرها وأضرها على الأمة بمجموعها، وعلى كل فرد من أفرادها: مظالم الحكام ، لأنها تفسد الحياة العامة، وتزلزل استقرار المجتمع ، وتؤدي إلى الفتنة والشر، وفساد ذات البين ، ثم إلى الفوضى والاضطراب وسفك الدماء ، وهذا هو خراب الدنيا وضياع الدين.
هذا هو الواقع المحسوس في الماضي والحاضر فالأمة تستقيم للحكام ما استقاموا لها، فإذا لم يفعلوا أي إن لم يستقم الحكام ، فالشرع يطالب المسلمين بمعصيتهم وعدم طاعتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فإذا أمر بمعصية: فلا سمع ولا طاعة».( انتهى كلام الدكتور المسعري ) .
والأمثلة على محاسبة الحكام في تاريخنا الإسلامي المشرق عندما كانت الأمة خير أمة أخرجت للناس عديدة منها :
أن المسلمين اعترضوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد الخلق بوصفه بشرا ورئيسا للدولة لا بوصفه رسولا من عند الله في مواطن كثيرة : ففي الخندق لم يوافق سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الرسول عليه السلام على إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة ، وقال له سعد بن معاذ, "والله لا نعطيهم إلا السيف " فقال عليه السلام " أنت وذاك " وعمل برأيهما.، وفي الحديبية اعترض عمر رضى الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب موافقته على الصلح, وقال "علام نعطي الدنية في ديننا"
كما حاسب المسلمون الخلفاء الراشدين فهذا عمر يمنع أبا بكر من بيع الثياب حتى يتفرغ لرعاية شؤون الناس ، وهذا بلال يحاسب عمر على أرض السواد حتى يقول عمر " اللهم اكفني بلالا وصحبه ".
وهذا أحد المسلمين ( مواطن عادي بسيط ) يقول لعمر: " لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا " فيرد عليه عمر قائلا: " الحمد لله الذي أوجد من يُقوم اعوجاج عمر بحد سيفه ". وهذه امرأة تحاسب عمر في تحديد المهور قائلة : " يا عمر لم تحدد مالم يحدده الله ورسوله ؟ ألم تسمع قوله تعالى ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا ) (النساء20 ) فرد عمر قائلا:" أخطأ عمر وأصابت امرأة
وقام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما على المنبر فخطبَ الناسَ وقال : "أيها الناس اسمعوا وأطيعوا! فقال له سلمان الفارسي رضي الله عنه لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة يا عمر! فقال عمر رضي الله عنه: ولمه ؟! قال سلمان: حتى تبين لنا منْ أين لك هذا الثوب الذي ائتزرت به، وأنت رجل طوال لا يكفيك برد واحد كما نال بقية المسلمين! فلما بين له عمر رضي الله عنه أن البرد الذي ائتزر به هو برد ابنه عبد الله، قال سلمان : " الآن مُر نسمع
سلمان الفارسي وليس العربي وليس القرشي يحاسب من ؟ إنه يحاسب جبار الجاهلية وعملاق الأسلام الفاروق الذي إذا ذكر العدل ذكرهو ؟ إنه يحاسب عمر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ( لو كان نبي بعدي لكان عمر) رواه أحمد والترمذي
يحاسبه في قطعة ثوب لا غير لأنها من حق المسلمين ولا يجوز للحاكم أن يأخذها بغير حق .
أين أنت يا سلمان لو تقوم من قبرك اليوم وترى ماينهبه حكامنا وعائلاتهم ، لقد ضاعت أحوال الأمة وتشتتت عندما فقدت أمثالك .
لم يعتبر سيدنا عمر تصرف سلمان تطاولا على مقام رئيس الدولة وخليفة المسلمين وأمير المؤمنين والقائد الأعلى للقوات المسلحة ولم يتهمه بتكوين عصابة مفسدين للإعتداء على الأشخاص والأملاك ومحاولة زعزعة الإستقرار والإنقلاب على الشرعية ، ولم يسلط عليه الكلاب البوليسية تنهش لحمه وعرضه وتغيبه في السجون لسنوات طويلة وتنكل به وأهله ، إنما اعتبر ذلك قمة الرقي والتحضر وروعة التواصي بالحق بين الراعي والرعية وبرأ نفسه بكل تواضع وأدب رفيع من التهمة ودفع عنها الشبهة أمام كل الناس في المسجد.
وتأتي الوفود من الأمصار لمحاسبة عثمان رضى الله عنه ، ويحاسب العبادلة الأربعة معاوية حساب شديدا على أخذه البيعة ليزيد. ، ويحاسب سفيان الثورى المنصور بقوله " اتق الله فقد ملات الأرض ظلما وجورا " فيطأطىء " المنصور رأسه ، ويحاسب احمد بن حنبل المأمون على قوله بخلق القران.
إذا كان الناس قد اعترضوا على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وحاسبوا الخلفاء الراشدين والأئمة العادلين فما بالنا نحن لا نحاسب حكامنا الظلمة الفاسدين الطاغين المجرمين الغاصبين لحقوقنا الناهبين لثرواتنا وممتلكاتنا الخاصة والعامة المضيعين لكل الأمانات وعلى رأسها أمانة الدين.
ان محاسبة الحكام أيها المسلمون فيها صلاح الرعية وخيرها وتركها فيه ضياع الرعية وظلمها وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا قال " والذى نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم " .

المنجي الفطناسي / ألمانيا