معركة النمارق..
ثورة الأسد

المكان: منطقة النمارق - الحيرة - العراق

الموضوع: المسلمون بقيادة أبي عبيد الثقفي يقضون على جيوش فارس الجرارة.

الأحداث والدروس المستنبطة:
عندما أصدر الخليفة أبو بكر أوامره لخالد بن الوليد القائد العام على الجبهة العراقية بالتحرك لإنقاذ المسلمين بالجبهة الشامية لوصول جحافل رومية تقدر بأكثر من مائتي ألف مقاتل, كان على الخليفة تعويض النقص الحادث في صفوف المسلمين بالجبهة العراقية وكان أبو بكر قد جعل عليها المثنى بن حارثة خليفة لخالد بن الوليد لمقدرة المثنى على القيادة بجانب خبرته العسكرية والواقعية بتلك البلاد؛ لأنه من قبيلة ربيعة, أجرأ الناس على الفرس..

وكان خروج خالد من العراق فرصة ذهبية للفرس الذين تنفسوا الصعداء بعد خروج خالد وفرحوا فرحًا عظيمًا وقويت عزائمهم ضد المسلمين, وخلال هذه الفترة حدثت فتنة دامية داخل البلاط الملكي الفارسي بعد مقتل كسرى شهر براز وتولي أخته "دخت" والتي كانت ضعيفة فخلعت ثم تولى سابور بن شهر براز وكان هو الآخر ضعيفًا فتآمرت عليه بنت عمه "آزر ميدخت" وقتلته هو وقائده "فرخراز بن مبذوان" وهو والد القائد الشهير "رستم" الذي سارع وكان حاكم خراسان وتحالف مع بوران بنت كسرى ودخلا المدائن وقتلوا "آزر ميدخت", وعيّن رستم "بوران" على ملك فارس.

لم يغتر المثنى بن حارثة القائد الجديد للجبهة العراقية بنزاعات البلاط الدامية في المدائن وشعر أن حجم جيوش المسلمين "تسعة آلاف فقط" في وضع حرج على الجبهة العراقية, خاصة أنهم متناثرون في نقاط متفرقة مما يسهل على عدوهم المتربص الوثوب عليهم والفتك بهم, فقرر المثنى التحرك سريعًا والتوجه للمدينة لشرح خطورة الموقف وطلب إمدادات سريعة وكبيرة للحفاظ على مكاسب المسلمين..

فوصل المثنى المدينة والخليفة أبو بكر في النزع الأخير ولكنه استطاع أن يجتمع مع أبي بكر وشرح له خطورة موقف المسلمين في العراق وضرورة إرسال إمدادات للمسلمين, وما لبث أبو بكر حتى مات من غد بعدما أوصى الخليفة بعده عمر بن الخطاب بندب الناس للجهاد ضد الفرس, وبالفعل من أول يوم لولاية الفاروق جمع الناس في المسجد وقام فيهم خطيبًا ومعه المثنى بن حارثة يندب الناس للجهاد ضد الفرس فتلكأ الناس لكرههم لحرب الفرس المشهورين بالبأس والشدة..

وحاول المثنى أن يبين لهم ضعف أمر الفرس وخطأ الصورة الكاذبة المرسومة في أذهان الناس عن الفرس وظل عدة أيام يدعو الناس للجهاد ولكن الاستجابة كانت معدومة حتى بادر رجل من عامة الصحابة بالتطوع وهو "أبو عبيد الثقفي" ثم قام آخر وهو سعيد بن عبيد الأنصاري ثم آخر وآخر حتى بلغ عددهم في النهاية ألف رجل لا غير, وأثر هذا الموقف في نفسية الفاروق وحزن لضعف استجابة الصحابة للجهاد في سبيل الله, لذلك عندما اجتمع عنده المتطوعون للقتال بقي أن يؤمر عليهم أميرًا للجهاد فاختار لتلك المهمة الخطيرة والحساسة أول الناس انتدابًا للجهاد وهو أبا عبيد الثقفي ولما قيل له: هلا اخترت أحدًا من كبار الصحابة أو السابقين رفض بشدة وقال وهو متأثر: "لا والله لا أفعل يا أصحاب النبي لا أندبكم وينتدب غيركم فأؤمركم عليهم والله لا أؤمر عليكم إلا أولهم انتدابًا" ثم أمر أبا عبيد الثقفي ووصاه بوصايا نافعة, ولا شك أن أبا عبيد كان من الأبطال الشجعان المشهورين بذلك, ولكن القيادة تحتاج بجانب الشجاعة إلى الخبرة الحربية والدهاء والصبر والمناورة وهذه أمور لم تكن متوفرة في أبي عبيد البطل الشجاع, لذلك عد ذلك من هفوات الفاروق وما أقلها وإن كانت هذه الهفوة ثمنها باهظًا جدًّا كما سنعلم من أحداث معركة الجسر في 23 شعبان إن شاء الله.

انطلق المثنى إلى العراق ليلحق بجنوده لرفع معنوياتهم أمام عدوهم ولم ينتظر حتى يتم المتطوعون استعدادهم للسير فوصل المثنى إلى الحيرة في 5 رجب 13هـ, وفي هذه الأثناء كان أهل فارس قد اصطلحوا فيما بينهم على تولية يزدجرد من ولد كسرى وهو ابن خمسة عشر سنة على أن يكون مشيره وأستاذه القائد الكبير "رستم" الذي فوض إليه أهل فارس الأمر لمدة عشر سنوات يكون فيها الحاكم الفعلي لفارس, فأعد رستم خطة شريرة للقضاء على الوجود الإسلامي في العراق تقوم على إشعال الثورات وتأليب رعايا الدولة الفارسية الذين دخلوا في ذمة المسلمين وعهدهم لخلع هذه الأمة ونقض عهد المسلمين في كل مكان, وحتى يشعل رستم حماس الثائرين قال لهم: "إن الأمير عليكم في العراق هو أول من يعلن الثورة على المسلمين في السواد"..

ولكن هذه الخطط الشريرة لم تكن لتغيب عن ذهن القائد العسكري الفذ المثنى بن الحارثة الذي أدرك خطورة الموقف وقرر الانسحاب من كل المناطق الخاضعة للمسلمين وعن العراق كله والانحياز إلى حدود الجزيرة العربية وكان المثنى لا تهمه الأرض بقدر ما تهمه أرواح جنوده فنفذ الانسحاب بسرعة ولم يخسر رجلاً واحدًا وتألم رستم جدًّا لفشل خطته التي رسمها لإبادة المسلمين بفضل الله ثم ذكاء المثنى رحمه الله[1].

قدم المسلمون المتطوعون للجهاد ضد الفرس بقيادة أبي عبيد الثقفي الذي اطلع على خطة الانسحاب التي قام بها المثنى بن حارثة فأعجبته وأقرها, وأما على الجبهة الفارسية فقد طاش سهمها إذ تمكن المسلمون من الانسحاب دون أن ينال أحد منهم أي أذى, وكان "جابان" كبير القادة المكلفين بتصفية المعسكر الإسلامي وكان يمني نفسه بأن يكون أمير العراق؛ لأنه أول من ثار على المسلمين عملاً بوعد رستم, ولما لم يقدر على تنفيذ خططه الشريرة بالفتك بالمسلمين شجعه حزنه وطمعه في الرياسة على الإقدام على مطاردة المسلمين حتى الصحراء لتدمير جيشهم الصغير الذي لا يزيد على عشرة آلاف بعد انضمام المدد إليهم ومما شجعه على ذلك أيضًا موافقة الأمير "نرسي" المغرور على فكرة المطاردة تلك, فأرسلا إلى رستم يخبرانه بعزمهم وفي نفس الوقت يطلبان إمدادات جديدة لتكون سندًا لهم في تصفية القوات المسلمة بصحراء خفان.

نقل سلاح الاستخبارات الإسلامية الخبر للقائد "أبي عبيد" وذكروا ضخامة الجيش الفارسي وذلك قبل أن يشرع هذا الجيش بالتحرك إلى المسلمين وعندها قرر أبو عبيد ومعه المثنى مبادأة الفرس قبل أن يقبلوا عليهم, وكان جابان واثقًا من النصر فجيشه يجاوز المائة ألف وسلاحهم جيد مما جعله يسير بسرعة ولكن في نفس الوقت بلا حذر, وتحرك أبو عبيد بجيشه الصغير وعبأه جيدًا وسارع للصدام مع الفرس ليأخذ زمام الهجوم من يد القائد الفارسي جابان الذي وصل إلى منطقة النمارق وعسكر بها وعبأ جنده فلم يمهله أبو عبيد ومن معه, فوقع المسلمون كالصاعقة على جيش الفرس الذين أخذتهم الدهشة والذهول من هجوم المسلمين السريع والخاطف عليهم فحاولوا في بادئ الأمر مقاومة الصعقة ولكن ولات حين مناص, فقد كان المسلمون في هجومهم يتهافتون على الموت طمعًا في الشهادة, فلم يطق الفرس ذلك وأخذت صفوفهم في التصدع..

وحاول القائد "جابان" الانسحاب بشكل منظم ولكن الفوضى عمت جيشه بصورة كبيرة أدت في النهاية لوقوع جابان نفسه في الأسر عندما تخلى عنه حراسه وفروا عنه, فأسره رجلان من المسلمين, وكان جابان شيخًا متقدمًا في السن فزهدا المسلمان في قتله, واتفقا معه وهم لا يعرفانه على أخذ الفدية, وكان جابان يخاف القتل جدًّا فاشترط عليهما أن يعطيهما الجزية في خيمة القائد؛ لأنه يعرف أن العرب مشهورون بالوفاء بالعهد فوافقاه على شرطه, فلما دخلوا على أبي عبيد وأخبروه بالقصة قال: "أوفيا للرجل بعهده بعد دفع ما عليه". وكان أبو عبيد لا يعرف جابان وقبل أن يخرج جابان من خيمة أبي عبيد, جاء قوم من ربيعة فعرفوا جابان وقالوا لأبي عبيد: "هذا الملك جابان الذي لقينا بهذا الجمع", وأشاروا بقتله فقام أحد المسلمين اللذان أسر جابان وقال: "أسرته أنا وصاحبي من غير أمان", وهم بقتله فمنعه أبو عبيد من ذلك وقال لهم: "لا تفعل ما ترونني فاعلاً معاشر ربيعة أيؤمنه صاحبكم-وكان المسلم الآخر من قبيلة ربيعة- وأقتله أنا؟ معاذ الله من ذلك إني أخاف أن أقتله وقد أمنه رجل من المسلمين, المسلمون في التواد والتناصر كالجسد ما لزم بعضهم فقد لزمهم كلهم", فقالوا: "إنه الملك ", فقال أبو عبيد: " لا أغدر".

هكذا تكون أخلاق الإسلام وفرسان الإسلام التي جعلت الأعداء يشهدون والفضل ما شهد به الأعداء، ويقولون بأعلى صوت: "إن دولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة".

[1] في ذلك درس وعبرة لنا في عدم التهور والحكم على الأمور بعاطفية تفسد أكثر مما تصلح فالمثنى لم يتسرع ويدخل حرباً يعلم تمام العلم أنها خاسرة فكيف لتسعة آلاف أن يواجهوا نصف مليون مقاتل فالمسلم أسد عندما تكون المواجهة في صالحه وثعلب لا يترك عدوه ينال منه عندما يضطر إلى الثعلبة والحرب كما قال الحبيب خدعة وإنما نقول هذا للذين استعجلوا الصدام مع الباطل المنتفش قبل الأخذ بالأسباب وخاضوا حروباً خاسرة لا لشيء إلا لئلا يقال إنهم هربوا.

المصدر: موقع مفكرة الإسلام.