نقدم لكم أيها الأخوة والأخوات ترجمة جديدة نتتبع بها فصول الثورة الشعبية السورية وسيرها نحو آفاق غير معهودة لنيل هذا الشعب لحريته وكرامته بعد عقود طويلة عاشها تحت حكم جمهورية الخوف والرعب والعسكر. وسنركز بهذا التقرير على المكان الذي انطلقت منه الثورة لتعم جميع أرجاء سورية.
لقد قامت أيها الأخوة والأخوات الثورة التونسية المباركة بدأ من مدينة سيدي بوزيد التي أصبحت أشهر من نار على علم الآن. وبدأت شرارة الثورة المصرية المجيدة بدأ من مدينة الصمود والتحدي السويس وكان شيخها الجليل
حافظ سلامة -أطال الله بعمره- رمزا لشباب الثورة التي عمت البلاد من أقصاها إلى أقصاها. وكذا اندلعت حمم الثورة الليبية من مدينة بنغازي التي قالت كلمة الشموخ "لا" بوجه النظام القائم.
أما في منطقة الشام الكبرى فحدث ما لا يختلف عليه إثنان. فقد أججت مدينة درعا الثورة بنفوس السوريين بوجه نظام قمعي شمولي "جملكي". لكن الثورة أيها الناس ليست كالمكياج الذي تتزين به النساء أوقات الحفلات والسهرات ثم تمسحه قبيل انقضاء الليل. الثورة ليست مجرد عملية فلسفة أو تأمل فكري أو روحاني بل هي أصعب مما قد يراه الإنسان على أرض الواقع. فهناك قوى تدفع للخلف رغبة ببقاء الأوضاع كما هي عليها، بينما قوى الثورة ترغب بدفع الأمور للأمام كي تحدث "التغيير" بكافة مناحيه. وبين هذا وذاك تحدث بالنهاية النتيجة التي لا مفر منها، وهي التجسيد الحتمي للإرادة الشعبية. ولا شك أن أهل درعا يدركون ذلك تماما، فهم لم يكونوا يبحثون عن التسلية ولا إحراج النظام وإيقاعه بالخطأ. بل حدث ما لم يكن يخطر على بال أحد، وكأن إرادة سماوية رغما عن إرادة الناس حركت كل هذه الخيوط لتتكشف الأقنعة ويسقط الزيف وتحدث المواجهة الحتمية ما بين المجتمع وذاته. ولكن ما أدى إلى هذا الوضع هو انسلاخ قشرة الموز التي كانت تستر عورات النظام، فظهر للناس الذين كانوا يعيشون تحت ظله طيلة مدة تزيد عن 50 عاما أن الحياة لا تستقيم مع وجود حكم نظام كهذا. مجموعة أطفال كتبوا على أحد الجدران ما فسره بعض أركان النظام أنه عصيان يستحق العقاب. فهل نظام مثل هذا يعاقب الأطفال ويأخذهم بجريرة الكبار يستحق حكم الناس؟ لو قيل لي أن هذه مجرد حبكة لفيلم صيني رخيص لما صدقت هذا! لكن أن يحدث هذا بدولة تزعم أنها رائدة الممانعة وبالقرن الواحد والعشرين فهذا أمر مخجل ويدعو للتقيؤ.
إلا إننا يجب أن نتحلى بالصدق مع أنفسنا أولا. لو لم يقم أطفال درعا بما قاموا به، ألن يتحرك الشعب السوري للثورة ضد هذا النظام "الجوبلزي" المفسد ليطالب بحريته وكرامته كما سبقه بذلك التونسيين والمصريين والليبيين واليمنيين؟ اعتقد جازما أنه سواء وقع حادث أطفال درعا أو لم يقع فإن هذه الثورة حتمية الاندلاع بطريقة أو بأخرى. فالسوريون يعرفون تماما حقيقة نظامهم وكذلك أي زائر لسورية سيعرف تلك الحقيقة المرة التي زرعها هذا النظام. لم أزر سورية بنفسي من قبل، ولكن زارها الكثير من الأقرباء والأصدقاء وقد لمسوا مدى فساد النظام لحظة وصولهم للمطار. فمن الغريب أن تجد ضابطا أو مسؤولا كبيرا حين يرى خليجيا يريد العبور من المطار بإجراءات سليمه يجبره على دفع رشوة أو "أتعاب" سمها ما شئت مقابل عبوره. من الممكن أن نتقبل منطقيا أن يعمل مسؤول كهذا بأي دولة من العالم هذه المسألة بشكل مستتر حتى لا ينفضح أمره. أما في سورية فإن هذه العملية تتم جهارا نهارا وبأعلى صوت وقد تصل مع هذا الموظف أن يعرقل دخول هذا المواطن الخليجي إذا لم "يقبض" منه بشكل مريح. والسبب في ذلك أن هناك رعاية مؤسساتية لهذا الإفساد من النظام لأن هذا هو أسلوب الحياة الذي يريده للسوريين، حياة الذل والمهانة. والحقيقة أن معظم السوريين يتألمون لهذه الصورة التي لا تعبر عن أخلاقهم العربية الكريمة وروح الشهامة التاريخية التي تغمرهم. وهذا الأمر السيء ليس إلا صورة هينة مما يعانيه المواطن السوري نفسه يوميا من جراء حكم هذا النظام الذي يستنزف مكانة ومقدرات البلاد.
أيها الأخوة والأخوات، لا أحبذ التكلم بضمير المتحدث بمعظم المواضيع التي أطرحها عليكم. لكن المرء أحيانا يضطر للحديث عن تجربته الشخصية وعن ما يعتقده من أفكار ذاتية لإزالة الإبهام حول قضية ما. بالفترات السابقة للثورات العربية لم أكن أفضل الخوض بمسألة أوضاع الأنظمة العربية بإمعان حتى لا نقع بحبائل الاتهام بالشخصانية ودعوى "من بيته من زجاج لا يرمي الآخرين بحجر". وهذا صحيح، لأن أي عربي يتهم آخرا بما فيهما معا فهو ذو ميزان معوج وله مآرب أو تصفيات ذاتية. أما وقد قالت الشعوب العربية كلمتها مجتمعة (بما فيها الشعوب التي لم تثر) فإن ارتكاب الأنظمة الحالية لجرائم جديدة يجبرنا على فتح ملفاتها القديمة، وهذه حسبة بسيطة: كلما أمعنت بالإجرام سأفتح ملفاتك القديمة بالإضافة لمحاسبتك على الحالية. وأحد أبشع من لديه ملفات سوداء تجاه شعبه هو النظام السوري. فقد ارتكب مجزرة كبرى لم ترتكبها اليابان التي اشتهرت بمجازرها وتصفياتها البشرية خلال احتلالها للصين ولا لكوريا خلال شهر واحد. ما يقرب من 40 ألف قتيل بأحداث مدينة حماة عام 1982. ويظهر هذا التقرير الذي أعدته اللجنة السورية لحقوق الإنسان عام 1999 (أي أنه غير متأثر بأحداث الثورة الحالية) أن هذه المجزرة الكبرى ارتكبت خلال 27 يوما فقط. طالع التقرير
من هنا. فهذا هو إرث النظام الذي خلفه، وهذا هو النموذج الوحيد للحوار الذي يؤمن به، حوار تقطيع الأشلاء وبتر الأصابع وقطع الرؤوس. ويأتي أزلام هذا النظام متباكين: "أن امنحوه فرصة لتطبيق الاصلاحات التي أقر قوانينها". وهذه بلا شك دموع التماسيح من لاعقي أحذية السلطان، فأشباح من قتلهم وسفك دماءهم واستحل محارمهم وقطع أوصالهم ستطارده هو ونظامه إلى الأبد. وليخادع نفسه بالقوانين الورقية التي أقرها وليزين بها جدران حائطه الملطخ بالدماء البريئة.
إن المحزن أيها الناس ليس بطش النظام ولا قهره للشعب ولا قمعه للحريات، فهذه كوارث مفروغ منها وليست بالجديدة. بل إن ما يثير الجراح -كما ذكرنا بصدر الموضوع- أن الحالة الاجتماعية الكبرى في البلاد لم تتخذ قرارا موحدا حيال الكيفية التي سيتم التخلص بها من هذا النظام وأركانه. فرغم أن كل شرائح المجتمع متفقة على أنه نظام عفى عليه الدهر وغير قادر على تلبية أي عملية إصلاحية حقيقية يعد بها، إلا إن الجميع بحاجة لعملية دفع جماعي شامل للأمام حتى يسقط هذا النظام بالهوة التي حفرها لنفسه بجماجم الأبرياء. وهذا يتطلب غضا للنظر عن الخلافات وتضحية كبرى بالمصالح الوهمية التي خلقها هذا النظام. فعلى الشعب أن يقدم لبلاده كل التضحيات دون أن ينتظر مقابلا، وهذه الحقيقة يعيها تماما أحفاد
سلطان الأطرش و
صالح العلي و
إبراهيم هنانو و
حسن الخراط وغيرهم من الأبطال. ولكنه سيف الوقت ما يجعلنا أمام حقيقة أن كل تأخير أو مماطلة بتحقيق هذا الدفع الشامل سيؤدي إلى وقوع مزيد الضحايا وسقوط كثير من الشهداء.
لقد أزالت درعا غطاء سبات الضمير عن كل إنسان سوري ووضعت الجميع بمواجهة حقيقية مع النفس. فدرعا الثائرة اليوم ليست كحماة الثائرة بالأمس، فقد كان النظام يعتبرها حصنه المنيع ومن مدن الموالاة التي لا تقول "لا" لقيصر. لكن ها هو يسقط من بين يديه هذا الحسبان، وليعلم بعد فوات أوانٍ وجهل أن الضمير الإنساني لا يتجزأ لا بدرعا ولا بحماة ولا بأي بقعة من بقاع العالم.
يوم أن دفعت درعا الضمير السوري إلى الأمام - ترجمة Syria Inside the Secret Revolution
رد مع اقتباس
المفضلات