الصورة الشعرية في قصيدة "سجل أنا عربي"(1)!!
فراس حج محمد/فلسطين



تنتمي قصيدة "بطاقة هوية" إلى ديوان درويش الثاني"أوراق الزيتون" الذي صــدر عـــام 1964م، وتتكون القــصــيدة من خمسة مقاطع، يبدأ كل مقطع بــ" سجل... أنا عربي" ، ويعتمد درويش اعتمادا مباشرا على اللغة الشعرية في مستواها الأول دون أن يكون هناك حضور للإبهام والرمزية المغرقة في غموضها، أو العلاقات الغامضة في التصوير، فهي تعبر عن هوية الفلسطيني المتجذر في أرضه، "و... تطرح القضية في عبارات بسيطة، بساطة تبلغ حد العجب في فتح أضيق الأبواب على أرحب الآفاق"(2).
وتشير القصيدة إلى موقف صمودي في الأرض العربية تحت الاحتلال، حيث يعبر الشاعر بقوة متحدية تلك السلطات ليثبت عمق الوجود العربي، فـ"أنا العربي" تأخذ مداها الأوسع لتشمل كل العرب الذين يعانون مما يعاني الشاعر، وهي بذلك تعد قصيدة مقاومة للطمس ومحو الشخصية العربية على الأرض المحتلة.
وتظهر في قصيدة درويش الصورة البلاغية القديمة المعتمدة على التشبيه والاستعارة والمجاز إلا في بعض الصور القليلة، مستعيضا عن تلك الصورة بالصورة الكلية التي تعتمد على رسم المشهد كله من خلال التعبير الحقيقي الذي يأخذ أبعادا في الخيال أكثر من الصور الجزئية،" ويعود ذلك إلى أن التصوير في الحقيقة يعتمد على رسم المشهد المتحرك في شكل قصصي أو حوار درامي تتجه أحداثه، وتسير خطوطه، وتتقدم نحو اكتمال رسم الشريط القادر على تجسيد إحساسات الشاعر"(3).
فالشاعر ينقل المتلقي من أول سطر في القصيدة إلى مشهد حواري مفترض، يظهر فيه الشاعر مخاطبا الآخر، مثبتا وجوده، وأنه غير طارئ على هذه الأرض، بل هو واحد من كثيرين يتعدى عددهم الخمسين ألفا، ولا يخلو الرقم هنا من دلالة الكثرة، وأن الفلسطينيين يشكلون جزءا لا يستهان به في الوجود والثقافة، مصرين على التجذر والتوالد على هذه الأرض.
ويرسم درويش في المقطع الثاني ملامح شخصية العربي، إذ العمل والكدح والانتماء للطبقة العاملة هو ما يميزه، ويجعله فخورا بهذا الانتماء، وتأخذ بعض الألفاظ أبعادا رمزية؛ فـ"الخبز" في المقطع "رمز المحافظة على الشرف والأنفة والإصرار على الحق"(4)، حتى إذا ما ختم المقطع تظهر المفارقة الساخرة، فإذا كان الشاعر ومن معه من الجماهير العربية من الطبقة الكادحة الفقيرة، فإنها مع ذلك لا تنحني ولا تضعف أمام قرارات الحكومة الإسرائيلية التعسفية الناضحة بالعنصرية المقيتة، التي تتعارض مع كل القيم الإنسانية العالمية، معبرا عن هذا الموقف بالتعبير الساخر "أمام بلاط أعتابك"، موحيا بهذا التعبير عن رفضه للذل والاستضعاف والاستكانة.
وقد تصل هذه الشخصية إلى حد الأسطورة، فقد سبقت في وجودها على هذه الأرض الزمان نفسه، وكل عناصر الأرض الحية وغير الحية، وتطهر في المقطع بعض الصور الجزئية التي يعتمد عليها درويش في إظهار الصورة الكلية، وهي:
جذوري من قبل الزمان رست
وقبل تفتح الحقب(5)
فصور الحقب بالزهرة المتفتحة، وبداية الزمان بميلاد الكائن الحي، وجذوره التي وصلت إلى أعماق رحم الأرض بالسفينة الراسية، وذلك ليقدم أجزاء متصلة بصورة بلاغية واحدة، موضحا في نهاية المقطع تطلعه ومعه الجماهير العربية إلى الحرية، وذلك في تعبيره "شموخ الشمس" الذي لا يتعارض مع كون بيته كوخا مصنوعا من الأعواد والقصب!!
وتتجه القصيدة نحو بعد آخر يؤكد عروبة الشاعر وأصله، فكل من ملامحه ينتمي إلى هذه الأرض، ويؤكد نسبته إليها، فالشَّعْر أسود فاحم، والعين بنية اللون، ويزين رأسَه عقال وكوفية، معبرا عن بأسه في التصوير التشبيهي في قوله:
وكفي صلبة كالصخر
تخدش من يلامسها(6).
فقد شبه هنا كفه الصلبة بالصخر التي ترد الاعتداء على كل من اعتدى عليها.
وترتفع نغمة الشاعر في مخاطبة الآخر في المقطع الأخير، حيث يحتج على مصادرة الدولة للأراضي العربية الخصبة الزراعية، ولم تترك لهم تلك الحكومات العنصرية سوى الأرض القاحلة، وهو بذلك يرسم معاناة الشعب العربي تحت الاحتلال المتمثلة في مصادرة الأراضي، ومحاربة الناس في أقواتهم، ليصل في نهاية القصيدة إلى الوعيد: بأنه إذا ما حورب في قوته، فسيتحول إلى كائن آخر، يأكل لحم المغتصب، فيحذرهم من جوعه ومن غضبه.
وعليه، تبدو الصورة الشعرية في القصيدة بما يأتي:
1. التعبير الحقيقي لرسم المشهد العام الذي تحدث عنه الشاعر مستخدما أسلوب السرد القصصي والحوار.
2. الرمزية مثل رمزية الخبز في القصيدة، ورمزية العربي.
3. الاستعارة، من مثل: جذوري رست، ميلاد الزمان، تفتح الحقب.
4. التصوير التشبيهي، من مثل: كفي صلبة كالصخر، وهو ما يطلق عليه البلغاء الأقدمون التشبيه المفرد، حذف منه وجه الشبه، فهو عندهم مرسل مفصل.
5. الكناية، وذلك في قوله: "وأعمل مع رفاق القدح في محجر"؛ إذ يشير إلى انتمائه للطبقة العاملة التي كانت معتمد الشيوعية وقتئذٍ. وكذلك قوله: "ولون الشعر فحمي..." كناية عن عروبته وأصله المتجذر في هذه الأرض.
لقد مر على كتابة القصيدة ما يقارب الخمسة عقود، وما زلت تشكل ألقا شعريا حاضرا في نفوس الجماهير، تلك الجماهير التي تاقت للتحرر والانعتاق من كل أنواع السيطرة والديكتاتورية، وما زال درويش يقودها فكريا وشعوريا، وهذا هو الشاعر الكبير.

-------------------

(1) محمود درويش، الديوان ، الجزء الأول ، دار العودة، بيروت ، ط14، 1994، ص(71-74). واسم القصيدة في الديوان " بطاقة هوية " ، واشتهرت بـ" سجل أنا عربي".
(2) عبد الرحمن ياغي، شعر الأرض المحتلة في الستينات ( دراسة في المضامين) ، الكويت ، ط2، 1982، ص102.
(3) عدنان حسين قاسم ، التصوير الشعري ( رؤية نقدية لبلاغتنا العربية) ، الكويت ، ط1 ، 1988، ص 241.
(4) ) مجنون التراب ، مرجع سابق ، ص 674.
(5) الديوان ، مرجع سابق ، ص72.
(6 ) السابق ، ص73.