اللهم اكفنيهم بما شئت
ـــــــــــــــــــ
ه
• دعوة جميلة وبلسم شفاء متى تيقن واستشعر بها الداعي, وقد كانت دعوة الغلام لـ ( ذو نواس ) الملك اليهودي الطاغية ..
بعضنا يعرف القصة, فدعوني أحكي قصته الجميلة للبعض الآخر الذي لا يعرفها.
• أبطال القصة كما جاء في صحيح مسلم: ( غلام, وراهب, وعابد, وملك كافر بالله ), وأبطال ثانويين: ( ساحر الملك, ودابة عظيمة كانت ترهب الناس بظهورها لهم بين وقت وآخر, مسرح الأحداث: مدينة نجران ).
• كان للملك ساحر يعينه في شؤون الشر .. كبر الساحر فطلب من الملك أن يختار له غلام حَدَث ليعلمه السحر, والسحر حقيقة مذكورة في القرآن .. ترى لم طلب الساحر (غلاما ) ولم يطلب (رجلا )؟ .. يجيب ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين: اختار الغلام لأنه أقبل للتعليم من الكبير (قاعدة تربوية صحيحة ), ولأن الغلام أسرع حفظا من الكبير, فهو فارغ البال, خالي من المشاكل التي توجب انشغاله, ثم إن ما يحفظه الصغير (يبقى ) وما يحفظه الكبير (يُنسى ), ولذلك كانت الحكمة الشائعة: العلم في الصغر كالنقش على الحجر, أيضا هناك مزية ثالثة وهي أن الصغير إذا تعلم منذ الصغر صار العلم كالطبيعة والعادة له, فمن شب على شيء شاب عليه.
• نعود إلى الملك الذي اختار غلاما وبعثه إلى الساحر ليتلقى العلم عنده .. في يوم من الأيام مر الغلام براهب عابد لله عز وجل, لا يتكلم إلا بالخير فأعجبه, فصار يتعلم العلم عنده وعند الساحر موزعا وقته بن الاثنين – دون علم الملك والأهل والساحر – فمر ذات يوم بدابة عظيمة اعترضت طريق الناس وحبستهم عن المشي, وقد كانت تظهر لهم بين حين وآخر, فأراد الغلام أن يختبر قلبه: هل الراهب خير له أم الساحر فتناول حجرا ودعا الله سبحانه وتعالى: ( اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يطمئن الناس ) فرماها فقتلها, ومضى الناس, فتيقن الغلام الحدث من حقيقة وهي: أن علم الساحر كله شر وظلم واعتداء, بعكس أمر الراهب العابد, علمه كله خير .. فذهب إلى الراهب فأخبره بما كان فقال له: ( أنت اليوم خير مني – لأن الغلام دعا الله فاستجاب له – وإن لك لشأن, وإنك ستُبتلى فإن ابتليت فلا تدلن علي ) .. ثم أصبح للغلام ( كرامات ) فهو يبرئ الأكمه والأبرص, أي يدعوا الله فيبرؤون بدعائه, وكان ممن شفاهم بإذن الله جليس للملك أعمى سمع بحكايات الغلام الذي يشفي الناس, فذهب إليه بهدايا كثيرة وقال له: (لك كل هذا إن أنت شفيتني ) لم يهز الفتى المؤمن طمع الدنيا فقال لجليس الملك بثبات: (إنما يشفيك الله إن أنت آمنت به, دعوت الله لك ), فآمن الرجل, فدعا الغلام ربه أن يشفيه, فشفاه الله وأصبح مبصرا, وفي هذا يقول ابن عثيمين غفر الله له مقال جميل: (إن أهل العلم والإيمان لا ينسبون نعمة الله إليهم, وإنما ينسبونها إلى موليها عز وجل ) عكس قارون الذي جحد ما أعطاه الله من كنوز, قيل: كانت تحمل مفاتيح كنوزه على ستين بغلا, كل مفتاح لباب كنز معلوم, وهو ما ذكر في القرآن الكريم: ((وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أولي القوة )) لكنه نسب كل هذا الرزق له في مقال قبيح: ((إنما أوتيته على علم عندي )) فكانت العاقبة: (( فخسفنا بهِ وبداره الأرض )) القصص 78
• نعود للقصة: جليس الملك الذي أبصر بعد طول عَمَى يذهب إلى الملك, فيسأله الملك: (من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال الملك: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربك الله ) .. ترى هل كل من تيقن بأن الله هو الكافي وهو نعم النصير يُصبح جريئا بهذا الشكل؟ سمية وياسر وعمار, وبلال ابن رباح رضوان الله عليهم أجمعين يؤكدون الجواب .. طبعا لم يسكت الملك عن الأمر, وكيف يسكت وهناك من ينافسه في قلوب الناس! أخذ يعذب الرجل عذابا شديدا حتى دله على الغلام, فأحضر الغلام وقال له: لقد بلغ من سحرك ما أرى. فنفى الغلام المؤمن مقولة الملك بطعنة في الصميم: (أنا لا أشفي أحد, إنما يشفي الله من يشاء ), فأخذ يعذبه عذابا شديدا حتى دله على الراهب الذي طلب منه الملك أن يرجع عن دينه فأبى, فوضع المنشار في منتصف رأسه بادئا منه إلى القدمين حتى شطره نصفين, ثم أحضر جليسه الذي آمن بالله وطلب منه أن يرجع عن دينه فأبى, ففعل منه مثلما فعل بالراهب, ثم جاء دور الغلام .. كان الثالث في العذاب وربما جاء تأخيره عن قصد إذ يتراجع أو يخاف, لكنه أبى الرجوع عن دينه, فدفعه الملك إلى جند من جنوده قائلا لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا فإذا بلغتم القمة اعرضوا عليه أن يرجع عن دينه, فإن أبى ارموه من عالي الجبل, وبالطبع رفض الفتى الذي عُقد الإيمان في قلبه أن يعود إلى ضلال الملك بعد أن هداه الله وأكرمه بالكرامات, فدعا الله وهو موقن بالإجابة: (اللهم اكفنيهم بما شئت ) فرجف بهم الجبل فهلكوا, وعاد الغلام إلى الملك الذي سأله عن الجند فقال: ( كفانيهم الله عز وجل ), فدفعه الملك إلى جند آخرين ليركبوا معه السفينة, فإذا توسطوا البحر ألقوه في لجته, ففعلوا ما أمرهم به الملك, فدعا الغلام بدعائه الأول: (اللهم اكفنيهم بما شئت ) فانقلبت بهم السفينة فغرقوا, وعاد هو إلى الملك سالما معافى, فسأله الملك عند الجند فأخبره بما كان, ثم قال للملك: (إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد, وتصلبني على جذع , ثم خذ سهما من كنانتي, ثم ضع السهم في كبد القوس, ثم قل: " بسم الله رب الغلام " ثم ارمني, فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ).
• هل تفكر الملك الأحمق في كلام الغلام؟ .. بسرعة البرق جمع الناس لكي ينتهي من هذا الهوان الذي يتهدد عرشه, صلب الغلام وأخذ سهما من كنانته فوضعها في القوس ثم رماه قائلا: بسم الله رب الغلام, فأصابه السهم في صدغه, فوضع يده عليه ومات .. وعندها صاح الناس: ( آمنا برب الغلام ) فآمنوا بالله وكفروا بالملك, وهذا ما كان يريده الغلام والذي غاب عن الملك في سورة غضبه على الغلام والرغبة العمياء لقتله حتى لا تعلوا للناس سلطة على سلطته, وبالطبع لم يعجب الملك ما آل إليه حال الناس من عبادة جديدة غير عبادة ذاته الغاشمة , فأمر بحفر الأخدود, وأشعل فيها النيران قائلا لجنده: (من لم يرجع عن دينه فارموه فيها ) فلم يرجع أحد, وخُلدت القصة في سورة "البروج" التي بدأها الله سبحانه وتعالى بأقسام عظيمة: ((والسماء ذات البروج* واليوم الموعود* وشاهد ومشهود* قتل أصحاب الأخدود* النار ذات الوقود* إذ هم عليها قعود* وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود* وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد* الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد )) صدق الله العظيم.
اليوم الموعود: يوم القيامة
شاهد ومشهود: يوم الجمعة ويوم عرفة
ــــــــــــــــــــــ
المفضلات