المصاحة وإنهاء الإنقسام.. هما المطلوب فلسطينيا
د. لطفي زغلول
www.lutfi-zaghlul.com


لسنا بحاجة أن نذكر أن الشعب الفلسطيني واحد لا يتجزأ، سواء كان يقيم في الوطن بجناحيه الضفة والقطاع، أو ذلك المهجر عن وطنه التاريخي في الشتات والمنافي. إنه شعب واحد، إنها قضية واحدة تأبى أن تتجزأ أو أن تقسم إلى قضايا.
هكذا هو الشعب الفلسطيني. يفترض أنه شعب واحد، وهكذا هي قضيتة. يفترض أنها قضية واحدة، ونكبة واحدة. هكذا فهمناها وعشناها وضحى المضحون من شهداء وأسرى وجرحى من أجلها، وبذلوا الغالي والنفيس فداء لها وعلى شرفها.
الحقيقة التي لا تقبل الجدال فيها ولا التأويل، تتمثل في أن هناك شرخا في مرآة المشهد الفلسطيني العام الذي أفرز انقساما داخليا عابرا وطارئا على الساحة الفلسطينية التي كان الحفاظ على ثوابت القضية غاية الشعب الفلسطيني ووسيلته إلى تحقيق أهدافه المشروعة في التحرر، واستحقاقات القضية الأخرى.
الحقيقة الأخرى الأشمل والأعم، تتمثل في أن غالبية الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل، أو الشتات بريئة من هذا الإنقسام العبثي غير المبرر. إن الشعب الفلسطيني يرفضه رفضه للإحتلال الإسرائيلي، ويشجبه ويدينه ويستنكره. وهو بكل ما أوتي من قوة وعزيمة وإيمان بعدالة قضيته، يرفض أن يستمر بعد هذا اليوم يوما واحدا.
لسنا هنا بحاجة إلى تكرار سؤال: من هو المستفيد من هذه القطيعة جراء هذا الإنقسام بين اكبر فصيلين فلسطينيين يشكلان مساحة شاسعة من واجهة المجتمع الفلسطيني المعاصر؟. إننا في ذات السياق لا نأتي بجديد، فقد رددنا في كل مرة مشابهة إجابتنا، وبأعلى صوت إن القضية الفلسطينية وشعبها هما الخاسران الأوحدان، وإن كافة أعدائهما– وهم كثر- هم الرابحون دون أدنى شك في ذلك.
لدى استقراء تاريخ نضالات الشعوب ضد الإستعمار والإحتلال، يتبين لنا أن العناصر التي قادت هذه النضالات، كانت متآلفة متفقة فيما بينها على أسس مواجهة أعدائها، وكانت تتفيأ ظلال هدف واحد يتمثل في تحرير بلادها. ولا يعني هذا أنها كانت متجانسة في أفكارها، لكنها جمدتها على شرف التحرير والخلاص من العدو إلى ما بعد التحرير، لقد كانت هناك خلافات بينها في الرأي والمنظور، إلا أنها وحرصا منها على عدم شرذمة الصف المقاوم وإضعافه، جمدت خلافاتها واختلافاتها إلى ما بعد التحرر وإنهاء الإحتلال.
إن الشعب الفلسطيني يفترض أنه من الوعي بحيث أنه يدرك هذه الحقيقة ويعيـها تماما. وهو من الذكاء بحيث أنه على يقين أن المستفيد من خلافاته أيا كان شكلها وحجمها هم أعداؤه الذين يتربصون به، وهم له بالمرصاد، ويراهنون باستمرار على شق صفوفه وانقسامه.
حتى الآن لم تراوح القضية الفلسطينية مكانها. إن النكبة الأولى التي فرضت عليه ما زالت تجر نكبات كارثية. ما زال الوطن كله محتلا، تشهد على احتلاله هذه الإجتياحات التي أصبحت مسلسلا يوميا. يشهد على ذلك هذه الموجات المسعورة من الإستيطان، وهذا المد التهويدي الذي يجتاح الوطن بعامة والقدس بخاصة.
إضافة إلى هذا الطرح وتأكيدا له، ما زالت الحواجز قائمة، والأطواق الأمنية والإغلاقات والحصارات، ومصادرة الأراضي ، والاعتقالات والاغتيالات وغيرها الكثير الكثير أصبحت سيناريو الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، وهي الخبز المر الذي يقتات عليه شعب النكبة.
إلى جانب هذا وذاك،ما زال اللاجئون منفيين في الشتات والمخيمات. وما زالت الدولة الموعود بها الفلسطينيون خدعة الأطراف الدولية"أميركا والإتحاد الأوروبي"، وكذبتهم الكبرى. والحقيقة المرة التي لا ينبغي أن تغيب عن أذهان المخلصين والثابتين على مواقفهم أن القضية قد رجعت إلى مربعها الأول.
إن الجماهير الفلسطينية في الوطن الذي ما زال محتلا، وفي الشتات، ليحزنها ويؤلمها ويحبطها ويخرجها عن جادة صوابها هذا الإنقسام الذي هو انحراف خطير عن مسار القضية الطبيعي.
إن هذه الجماهير على يقين أن ليس هناك من مبرر على الإطلاق لهذا الإنقسام مهما كانت الظروف والدوافع. فلطالما ردد المخلصون للقضية والأمناء عليها إن الإنقسام الفلسطيني خط أحمر، لا ينبغي لأي فلسطيني كائنا من كان الإقتراب منه، أو اعتباره قدرا مكتوبا.
لقد وصلت الأمور إلى مفترق طرق خطير. إن القضية الفلسطينية بكل مستحقاتها أصبحت في مهب رياح الأطماع والأهواء المعادية وتحديدا في هذه الآونة. إن الخلافات الفلسطينية الفلسطينية، وفي مقدمتها هذا الإنقسام، هي بمثابة هدية لأعداء الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، والذين يريدون أن يتخلصوا من تبعات القضية ويتملصوا منها بفرض حل نهائي من منظورهم. وهنا تكمن الخطورة المتمثلة في تصفية القضية من جذورها. والأجواء– اذا ما استمر الإنقسام لا سمح الله– مهيأة ومواتية.
إن القضية الفلسطينية أرضا وإنسانا وحقوقا تاريخية مشروعة، تمر هذه الأيام بأصعب ظروفها وأخطرها، كون الصراع لم يعد من أجلها أو باتجاهها، وإنما بعكس هذا الإتجاه، ولا يمت إليه بصلة، إنه للأسف قد أصبح نزاعا بين أبناء القضية الواحدة التي أصبحت هي الأخرى في مرمى نار أصحابها، إضافة إلى نار الإحتلال.
كلمة أخيرة. إن كل ساعة تأخير في إنهاء الإنقسام، هي بمثابة طعنة مباشرة في صدر القضية، تدمي شعبها وتفتح جرحا نازفا، يغرق الوطن بالإحباط والقنوط، ويشوه تاريخ نضالاته.
لقد آن الأوان للشعب الفلسطيني أن يبرهن مصداقية مقولته التي رددها على الدوام، والمتمثلة بحرمة هذا الإنشقاق والإنقسام، حفاظا على قضيته العادلة، وأرضه ومكانته بين الشعوب، وإنهاء الإحتلال الإسرائيلي الجاثم على أرضه، وقبل هذا وذاك احترامه لذاته.
إن إنهاء الإنقسام هو الحل لهذا التمزق الذي يعيشه الشعب الفلسطيني صاحب أعدل قضية وأكثرها مشروعية، ولا يعقل أن يكون إلا صفحة سوداء في تاريخه المجيد في، ولا يعقل إلا أن تطوى هذه الصفحة إلى الأبد.
والآن تحت ظلال هذه المصالحة الفلسطينية الفلسطينية يمكننا القول: إنها صفحة سوداء قد طويت. إن أيدي الشعب الفلسطيني مرفوعة إلى السماء، تدعو الله العلي القدير أن يديم عليه نعمة وحدة الصف والموقف، وأن تكون المساعي جادة لرأب الصدع الخطير الذي أحدثه الإنقسام البغيض، وأن تتبعه خطوات ملموسة تؤسس لهذه المصالحة الوطنية.