قرأت لك .. أمانة العلماء .. العلماء سراج الإسلام .. وهم مصابيح الدجى في الملمات وحين تدلهم الخطوب
عن الفضل بن الربيع وكان وزيرًا لهارون الرشيد، قال: حجّ أمير المؤمنين الرشيد فأتاني فخرجت مسرعًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إليّ لأتيتك، فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء(أي طلبت نفسه من يذكره وينصحه) فانظر لي رجلًا أسأله: فأتينا سفيان بن عيينة و عبد الرزاق بن همام؛ فسألهما ثم سألهما عن حاجتهما و وفى ديونهما، و قال هارون للفضل: ما أغنى عني صاحباك شيئا، انظر لي رجلا أسأله، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض، قال: امض بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي، يتلو آية يردّدها، فقال: اقرع الباب، فقرعت، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين.
قال: مالي ولأمير المؤمنين؟ قلت: سبحان الله، أما عليك طاعة، فنزل، ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة، فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية، فدخلنا، فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كفّ هارون قبلي إليه، فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله، فقلت في نفسي: ليكلّمنّه الليلة بكلام نقيّ من قلب تقيّ، فقال له: خذْ لما جئناك له،أي طلب الموعظة، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليّ.
فعدّ الخلافة بلاء، وعددتَها أنتَ وأصحابك نعمة.
فقال له سالم: إن أردت النجاة، فصم عن الدنيا وليكن إفطارك منها الموت.
وقال له ابن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم أخًا، وأصغرهم ولدًا، فوقّر أباك، وأكرمْ أخاك، وتحنّنْ على ولدك.
وقال له رجاء: إن أردت النجاة من عذاب الله، فأحبّ للمسلمين ما تحبّ لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مُتْ إذا شئت، وإني أقول لك هذا، وإني أخاف عليك أشد الخوف يومًا تزل فيه الاقدام، فهل معك -رحمك الله- من يشير عليك، فبكى هارون الرشيد، فقال الوزير للفضيل بن عياض: ارفق بأمير المؤمنين فقال: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟ ثم أفاق هارون، فقال له: زدني رحمك الله.
قلت: بلغني أن عاملًا لعمر بن عبد العزيز شُكي إليه، فكتب إليه: يا أخي أذكّرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإيّاك أن ينصرف بك من عند الله، فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال: ما أقدمك؟ قال: خلعتَ قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله.
فبكى هارون بكاءً شديدًا فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه فقال: أمِّرْني، فقال له: «إنّ الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرًا فافعل".
فبكى هارون، وقال: زدْني.
قال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غشّ لأحد من رعيتك، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح لهم غاشًّا لم يرح رائحة الجنة".
فبكى هارون وقال عليك دين؟ قال نعم علي دين لربي لم يحاسبني عليه فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني والويل لي إن لم ألهم حجتي.. فقال إنما أعني دين العباد، فقال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال عز من قائل: «وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزّاق ذو القوة المتين". فقال له هذه ألف دينار فخذها وأنفقها على نفسك وتقوّ بها على عبادة ربك، فقال: سبحان الله! إنّا ندلّك على النّجاة وأنت تكافئني بمثل هذا.
قال الأوزاعي: بعث إليّ أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بساحل الشام، فأتيته فلما وصلت إليه استعجلني، ثم قال: ما الذي أبطأك عنّا يا أوزاعي؟ قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم، قلت: فانظر يا أمير المؤمنين أن تسمع شيئا ثم لا تعمل به!! فصاح بي الربيع (الوزير)، وأهوى بيده إلى السيف، فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة، فطابت نفسي، وانبسطْتُ في الكلام، فقلت: يا أمير المؤمنين، أيُّما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنما هي نعمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها بشكر،(أي رضا) وإلاّ كانت حجّة من الله عليه، يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّما والٍ بات غاشًّا لرعيّته فقد حرّم الله عليه الجنة.....
المفضلات