نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي




-*-*- عملية صنع قرارات الأمن القومي في إسرائيل وتأثير المؤسسة العسكرية فيها -*-*-


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

21/02/2011




تبحث هذه الدراسة عملية صنع القرارات الخاصة بالأمن القومي في إسرائيل، وتقوم بسبر غور تأثير المؤسسة العسكرية الإسرائيليية في هذه العملية وفي دورها. ولتحقيق هذا الغرض تطل الدراسة في البداية على عملية صنع القرارات في إسرائيل، وخاصة تلك المتعلقة بالأمن القومي، من الناحية الرسمية والقانونية، ثم تعالج دور المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في صوغ القرارات المتعلقة بالأمن القومي وطبيعة علاقاتها بالمستوى المدني.





المقدمة
لا يوجد إجماع على تعريف الأمن القومي، فتعريفاته كثيرة ومختلفة. إذ ان بعض التعريفات يقلص مفهوم الأمن القومي إلىالجوانب العسكرية أساساً، وبعضها الآخر يوسعه ليشمل، علاوة على جوانبه العسكرية، جميع مركبات القوة الأخرى للأمة وللدولة، مثل الاقتصاد والتعليم والتطور التكنولوجي والوحدة الوطنية وتماسك المجتمع والعلاقات الخارجية. وتعرف دائرة المعارف الدولية للعلوم الاجتماعية الأمن القومي انه "قدرة الأمة في الدفاع عن قيمها الداخلية من تهديد خارجي"(1). وهناك تعريف تبلور خلال الحرب العالمية الثانية، وبات تقليدياً، عرّف الأمن القومي عن طريق السلب كالتالي: "تشعر الأمة بالأمن عندما لا تكون مضطرة إلى التنازل عن مصالح شرعية كي تتجنب الحرب، وعندما تكون قادرة على الدفاع عن هذه المصالح بالحرب، إذا اقتضت الضرورة ذلك"(2).
هناك تعريفات عديدة ومختلفة في السياق الإسرائيلي للأمن القومي، بعضها يقلص مفهومه والاَخر يوسعه. فقد عرفه مثلاً الجنرال يسرائيل طال في كتابه: "الأمن القومي: قلة مقابل كثرة"، إنه "ضمان وجود الأمة والدفاع عن مصالحها"(3). أما الجنرال البروفيسور يهوشفاط هاركابي فصاغ في كتابه "حرب واستراتيجية" مفهوماً واسعاً للغاية للأمن القومي حيث شمل الدفاع عن وجود الدولة واستقلالها وكمالها الإقليمي، والدفاع عن حياة مواطنيها وعن طبيعة نظام الحكم فيها وعن أمنها الداخلي والأمن اليومي على حدودها وعن إيديولوجيتها وعن ميزانها الديمغرافي وعن مكانتها في العالم(4).


"لم تعتبر إسرائيل نفسها منذ إنشائها دولةً عادية كباقي الدول، لا من حيث المكانة ولا من حيث الدور، وأسست أمنها القومي على فرضية ضرورة تفوقها العسكري على جميع الدول العربية، وعلى ضرورة أن تبقى الدولة الإقليمية الأقوى من جميع جيرانها، فرادى ومجتمعين."

يستحوذ الأمن القومي على الذهنية الإسرائيلية ويحتل فيها المكانة الأكثر أهمية من أي قضية أخرى. ويحتل الجانب العسكري في الأمن القومي، وخاصة الصراع العربي - الإسرائيلي، المكانة المهيمنة في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي. وتنفرد إسرائيل بمجموعة من السمات التي ميزتها عن سياسة بقية الدول وسلوكها تجاه أمنها القومي، و يمكن إيجازها بالتالي:
أولاً: خاضت إسرائيل حروباً أكثر من أي دولة أخرى في العالم، منذ إنشائها في العام 1948 وحتى اليوم، وغيرت حدودها الجغرافية ووسعتها وبدلتها عبر العقود الماضية بشكل وبوتيرة لم تضاهِها أي دولة أخرى في العصر الحديث.
ثانياً: لم تعتبر إسرائيل نفسها منذ إنشائها دولةً عادية كباقي الدول، لا من حيث المكانة ولا من حيث الدور، وأسست أمنها القومي على فرضية ضرورة تفوقها العسكري على جميع الدول العربية، وعلى ضرورة أن تبقى الدولة الإقليمية الأقوى من جميع جيرانها، فرادى ومجتمعين.
ثالثاً: افترضت إسرائيل، ولا تزال تفترض، أن هناك خطرا على وجودها، على الرغم من ان مثل هذا الخطر لم يكن قائماً في أي مرحلة من مراحل الصراع العربي - الإسرائيلي، وعلى الرغم من تفوقها في الأسلحة التقليدية واحتكارها السلاح النووي منذ أكثر من أربعة عقود، وامتلاكها ترسانة نووية كبيرة تضعها في مصاف الدول الأولى التي تمتلك مثل هذه الترسانة النووية بعد الولايات المتحدة وروسيا.
رابعاً: ازداد إنفاق إسرائيل على الأمن وتعاظم من حرب إلى أخرى، وباتت حصة الفرد الإسرائيلي في ميزانية الأمن من أعلى النسب في العالم.
خامساً: إلى جانب الإنفاق المالي، يخصص أفراد المجتمع الإسرائيلي فترة زمنية ليست قصيرة من وقتهم للأمن، لا تضاهيها، أو تقترب منها، أي دولة أخرى في العالم. إذ يخدم كل يهودي إسرائيلي في الجيش خدمة إلزامية وفق القانون عامين ونصف العام، عندما يبلغ ثماني عشرة سنة. وبعد إنهائه الخدمة الإلزامية يخدم في الجيش شهراً واحدا في كل عام حتى يبلغ الخامسة والأربعين. أي أن الشخص الإسرائيلي العادي يخدم ما يقارب خمسة أعوام من حياته في الجيش، هذا من دون حساب تجنيده في فترات الحروب والطوارئ. وبصفة كونه جندياً أو ضابط احتياط، يخضع المواطن الإسرائيلي للقضاء العسكري في المواضيع المرتبطة بخدمته العسكرية، أكان ذلك في أثناء خدمته الفعلية في الجيش أو خلال باقي أيام السنة. ويحتاج رجل الاحتياط إلى تصريح خاص من وحدته العسكرية للسفر إلى خارج إسرائيل، وعليه أن يكون جاهزاً دوماً للالتحاق الفعلي بجيش الاحتياط في وقت قصير نسبياً. أما عند استدعائه للالتحاق بجيش الاحتياط في حالة الطوارئ أو في حالة الحرب، فعليه الالتحاق فوراً بوحدته العسكرية، حتى وإن شوش ذلك حياته المدنية فعلا.
سادساً: يحتلّ الأمن القومي الإسرائيلي، وخاصة الصراع العربي-الإسرائيلي، المكانة الأبرز والأهم في وسائل الإعلام، وهو المؤثر الأكبر في معنويات المجتمع الإسرائيلي وفي تقويم أفراد المجتمع لأداء الحكم في إسرائيل، ويشكل المعيار الأكثر تأثيراً في تحديد مواقفهم من هذا الحزب أو ذاك. ولا عجب والحال هذه في أن يحتل الجيش الإسرائيلي المكانة الأهم في المجتمع الإسرائيلي التي تفوق أهميتها بكثير أي مؤسسة أخرى في إسرائيل، وأن يحتل أهمية قصوى في نظر مجتمعه لا تضاهيها، بل لا تقترب منها، نظرة أي مجتمع آخر إلى جيشه.
لا تنشر الحكومة الإسرائيلية ولا الكنيست أوراقاً عن عملية صنع قرارات الأمن القومي. وجاء التقريران الرسميان الوحيدان اللذان تطرقا إلى عملية صنع قرارات الأمن القومي الإسرائيلي، بعد فشل إسرائيل في الحرب، وبعد نُشوب صراع داخلي بين النخب في شأن من يتحمل مسؤولية ذلك الفشل. وهذان التقريران هما تقرير "لجنة أغرانات" التي تألفت بعد "التقصير" في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وتقرير "لجنة فينوغراد" التي تألفت بعد فشل إسرائيل في حرب لبنان الثانية في العام 2006.
على الرغم من أهمية عملية صنع القرارات في إسرائيل وخاصة تلك التي تخص الأمن القومي، ظلت الأبحاث في هذا الموضوع في العقدين الأولين لقيام إسرائيل شبه معدومة. وعالجت الدراسات النادرة التي تطرقت إلى صنع القرارات في تلك الفترة، مثل دراسة يحزقئيل درور وبنيامين أكتسين، من منظور تخطيط السياسة الحكومية وأدائها وضرورة تحسينها، حيث لاحظا مبكراً أن منهجية مؤسسية منظمة في عملية صنع القرارات لم تكن موجودة(5).
وقد اعتبر تسفي لنير موضوع صنع القرارات في ميدان الأمن القومي في كتابه الذي نشره في العام 1984، أنه أحد المواضيع الأكثر إهمالاً في الأبحاث الإسرائيلية في العقود الثلاثة الأولى لقيامها(6). ويعزو يهودا بن مئير هذا الإهمال إلى ارتباط الأمن القومي في إسرائيل، أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ارتباطاً وثيقاً بالاعتبارات والقرارات العسكرية المحاطة بطبيعتها بالسرية الشديدة، والمغروسة عميقاً في قيم المجتمع الإسرائيلي وثقافته، والمحصنة بعقوبات قانونية ضد كل من يخالفها(7).
النظام السياسي الإسرائيلي وعملية صنع قرارات الأمن القومي
تأثر النظام السياسي الإسرائيلي بالنظام السياسي البريطاني، ولكنه لم يستند إلى تقاليد عريقة وأعراف راسخة ومنيعة كما هو الحال في بريطانيا، ولم يستند إلى دستور كما هو الأمر في الولايات المتحدة الأميركية، إذ لا يوجد دستور في إسرائيل حتى الآن. فقد استعاضت إسرائيل عن وضع دستور لها بسنّ مجموعة من القوانين الأساس التي تعالج وظائف الأذرع المختلفة للحكم والمؤسسات الرسمية في الدولة، وقام الكنيست الإسرائيلي بتشريعها بالتدريج.
يتميز النظام السياسي في إسرائيل بكثرة الأحزاب السياسية وبعدم تمكن أي حزب سياسي من الحصول على أغلبية في الكنيست منذ تأسيس إسرائيل وحتى اليوم، لأسباب تعود إلى طبيعة إقامة مجتمع المستوطنين والمهاجرين الصهيونيين في فلسطين، وكذلك إلى تبني إسرائيل نموذج نظام الانتخابات النسبي وتدني نسبة الحسم، الأمر الذي فتح الباب واسعا أمام الأحزاب الصغيرة والمتوسطة للحصول على تمثيل في الكنيست. وقاد هذا الأمر إلى أن تكون جميع الحكومات في إسرائيل منذ تأسيسها حتى اليوم حكومات ائتلافية يشكلها أكثر من حزبين.
ينص القانون الأساس للحكومة، الذي سنَّه الكنيست في العام 1968، أن الحكومة الإسرائيلية هي السلطة التنفيذية للدولة، وتقوم بمهامها بعد حصولها على ثقة الكنيست، وهي مسؤولة أمامه مسؤولية جماعية وتتألف من رئيس الحكومة ووزراء آخرين(8).
وكانت المكانة القانونية لرئيس الحكومة في العقود الثلاثة الأولى التي تلت قيام إسرائيل، في منزلة "الأول بين المتساوين"، إذ لم يميزه القانون الأساس من الوزراء الآخرين إلا بأن استقالته تُعتبر استقالة للحكومة بأسرها، ما يؤدي إلى تأليف حكومة جديدة أو إجراء انتخابات جديدة. وكان السلاح الذي استعمله رئيس الحكومة، حتى العام 1981، ضد بعض الوزراء الذين يرفضون سياسته هو التهديد بالاستقالة من رئاسة الحكومة وإعادة تأليف حكومة جديدة من دون هؤلاء الوزراء، أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
حدث في العام 1981 تغيير مهم للغاية في صلاحيات رئيس الحكومة ومكانته، عندما عدل الكنيست القانون الأساس للحكومة، فمنح هذا التعديل رئيس الحكومة صلاحية إقالة وزير من الحكومة، وأكد أن "الوزير مسؤول أمام رئيس الحكومة في المهمات المسؤول عنها الوزير"(9).
عزز هذا القانون قوة رئيس الحكومة بشكل كبير. صحيح أن القرارات تتخذها الحكومة، وأن لكل وزير صوتا متساويا في الحكومة، بما في ذلك رئيس الحكومة، وأن الحكومة كلها مسؤولة مسؤولية جماعية أمام الكنيست، لكن حقيقة أن القانون يربط المسؤولية الجماعية أمام الكنيست بمسؤولية أي وزير أمام رئيس الحكومة، ويمنح رئيس الحكومة صلاحية إقالة أي وزير في أي وقت يشاء، فان ذلك كله يعزز صلاحيات رئيس الحكومة ومكانته أمام الوزراء الآخرين.
لا توجد في القانون الأساس للحكومة إشارة واضحة إلى عملية صنع القرارات التي تخصّ الأمن القومي. وهناك بند يتطرّق بصورة غير مباشرة إلى هذه المسألة، حيث ينص هذا البند أنّ "من صلاحية الحكومة العمل بمساعدة لجان وزارية دائمة أو موقتة في مواضيع مختلفة"(10).للإلمام بعملية صنع القرارات من الناحية الرسمية والقانونية سنعرض، باقتضاب، المؤسسات التي تساهم، بنسب متفاوتة، في هذه العملية، وتساعد رئيس الحكومة والحكومة في القيام بمهامهم في هذه العملية.
لجنة الوزراء لشؤون الأمن
تألفت هذه اللجنة أول مرة في العام 1953، وكان اسمها لجنة الوزراء لشؤون الخارجية والأمن، وظلت سنوات طويلة هامشية وغير مهمة في عملية صنع القرارات. فقد أصر رئيس الحكومة ووزير الدفاع حينئذ دافيد بن غوريون على عدم طرح قضايا الأمن على بساط بحثها. وإمعانا منه في تهميشها لم يكن بن غوريون يحضر اجتماعاتها، باستثناء شهور عدة في سنة 1955. وقد تغير دور هذه اللجنة وأهميتها واسمها في العام 1961، عندما استجاب دافيد بن غوريون لضغوط حزب "احدوت هاعفوداه" وألّف "لجنة الوزراء لشؤون الأمن". و تضاعفت أهمية هذه اللجنة عندما أصبح ليفي اشكول رئيساً للحكومة ووزيراً للدفاع في حزيران/يونيو 1963(11).
لم تحظ لجنة الوزراء لشؤون الأمن بمكانة ثابتة في عملية صنع القرارات. فتركيبتها ووتيرة جلساتها والموضوعات التي عالجتها ودورها في عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي كانت تتغير من فترة إلى أخرى ومن رئيس حكومة إلى آخر. فمثلا لم يؤلف رئيس الحكومة مناحيم بيغن لجنة وزراء لشؤون الأمن بعد فوزه في انتخابات سنة 1981 إلا بعد مرور نصف عام على تأليف حكومته، ولم يعقد أي اجتماع لها طيلة حرب لبنان الأولى سنة 1982. كما لم يؤلف يتسحاق شامير إطلاقا لجنة لشؤون الأمن طيلة فترة حكومته الأولى التي ألّفها في العام 1983، واستمرت قرابة العام(12). وفي العام 1992 سن الكنيست قانونا استند فيه أساسا على الأعراف التي كانت متبعة في عمل هذه اللجنة، وحدد هذا القانون مهمات اللجنة ومجال عملها وعضويتها الدائمة. وقد نص القانون أن رئيس الحكومة يرأس هذه اللجنة، وأن عضويتها تتكون من وزراء الدفاع والخارجية والمالية والأمن الداخلي والقضاء ووزراء آخرين. ولم يحدد القانون عدد أعضاء هذه اللجنة، ويعين رئيس الحكومة الوزراء الآخرين الذين لم يحددهم القانون وفق اعتبارات ائتلافه الحكومي(13).
ديوان رئيس الحكومة
ينسق ديوان رئيس الحكومة عمل الحكومة، و يعمل فيه مجموعة من المسؤولين الذين يساهمون، بدرجة أو بأخرى، في عملية صنع القرارات. ويقف على رأس الديوان مديره العام وهو مسؤول عن الجوانب الإدارية وعن المؤسسات التابعة للديوان. ويكون للمدير العام لديوان رئيس الحكومة شأن في صنع القرارات بحكم رئاسته لجاناً وزارية مختلفة أو رئاسته مجموعات عمل عديدة. وتعتمد درجة مشاركته في عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي على شخصية المدير العام وعلى طبيعة علاقته برئيس الحكومة. فقد كان هناك مديرون عامون لديوان رئيس الحكومة لعبوا أدواراً مهمة في عملية صنع القرارات، وكانوا في منزلة مستشارين للأمن القومي مثل يعقوب هرتسوغ لدى ليفي اشكول وغولدا مئير، ومردخاي غازيت لدى غولدا مئير ويتسحاق رابين، والياهو بن اليسار لدى مناحيم بيغن(14).
السكرتير العسكري لرئيس الحكومة
السكرتير العسكري لرئيس الحكومة هو حلقة الوصل بين رئيس الحكومة والمؤسسة الأمنية، ويحضر السكرتير العسكري جميع اجتماعات رئيس الحكومة مع المسؤوليين العسكريين والأمنيين بما في ذلك اجتماعات رئيس الحكومة مع رئيسي "الموساد" و"الشاباك"، وفي أغلب الأحيان يكون هو الشخص الثالث الوحيد الذي يحضر هذه الاجتماعات. وتمر من تحت يدي السكرتير العسكري لرئيس الحكومة ومن خلاله جميع المواد السرية والسرية للغاية، الواردة من أي مصدر إلى رئيس الحكومة. ويشغل هذا المنصب ضابط في الجيش النظامي تتراوح رتبته بين رائد وعميد. ويعتمد مدى تأثيره ومشاركته في عملية صنع قرارات الأمن القومي على شخصيته ورتبته وعلى نوعية شبكة العلاقات القائمة بينه وبين رئيس الحكومة. وقد شغل هذا المنصب ضباط حظوا أحيانا بعلاقات متميزة مع رؤساء الحكومات، وكانوا رجال السر والثقة لرؤساء الحكومات مثل نحميه أرغوف عند دافيد بن غوريون، ويسرائيل ليؤور عند ليفي إشكول وغولدا مئير، في حين أن السكرتيرالعسكري لمناحيم بيغن مثلا لم يتمتع بأي تأثير عنده(15).
سكرتير الحكومة
تعين الحكومة باقتراح من رئيسها سكرتيراً لها وتحدّد مهماته. ويرأس سكرتير الحكومة سكرتاريا صغيرة مؤلفة أساسا من موظفين إداريين. وتتباين درجة مشاركة سكرتير الحكومة في صنع القرارات وتأثيره فيها من سكرتير حكومة إلى آخر، ومن رئيس حكومة إلى آخر، ويتوقف ذلك على طبيعة شبكة العلاقات بينهما(16).
توجد في ديوان رئيس الحكومة أيضاً عدة وظائف ومناصب أخرى مثل المستشار السياسي والمستشار الاعلامي لرئيس الحكومة، بيد أن هذه المناصب غير ثابتة. ومن اللافت أنه لا توجد لأصحاب هذه المناصب في ديوان رئيس الحكومة هيئة أو مؤسسة ذات طاقم مختص في امكانها تقديم المواد الأساسية من حيث المعلومات والتحليلات والمقترحات والبدائل الضرورية لعملية صنع القرارات بطريقة منهجية ومنظمة. وعوضا عن ذلك، تعد كل وزارة أو مؤسسة مقترحاتها وتقدمها مباشرة إلى طاولة رئيس الحكومة، من دون أن يكون في حوزة رئيس الحكومة هيئة تدرس وتحلل الموضوعات الـتي يجري بحثها بطريقة منظمة ومنهجية، وخاصة الموضوعات والقرارات التي تخص الأمن القومي. وفي محاولة لملء هذا الفراغ، وبعد مطالبة متواصلة من نخب متعددة جرى تأليف "مجلس الأمن القومي" في ديوان رئيس الحكومة في العام 1999.
مجلس الأمن القومي
أُسس مجلس الأمن القومي بقرار من حكومة بنيامين نتنياهو الأولى في العام 1999 باعتباره مؤسسة تابعة لديوان رئيس الحكومة. وكان الهدف من تأسيسه أن يصبح مجلس الأمن القومي الهيئة التي تعد الاستشارة والمعلومات والتحليلات وتقدمها إلى رئيس الحكومة والحكومة في القضايا التي تخص الأمن القومي. ويستمد مجلس الأمن القومي صلاحياته من الحكومة، ويعمل وفق التعليمات المباشرة لرئيس الحكومة، ويتبع رئيس مجلس الأمن القومي رئيس الحكومة مباشرة، كما يعمل مستشاراً لرئيس الحكومة في قضايا الأمن القومي(17).
مكانة رئيس الحكومة و دوره
الحكومة في إسرائيل هي مركز القوة في النظام السياسي، وفيها تتم عملية صنع القرارات الرسمية والقانونية. ويتمتع رئيس الحكومة بعوامل قوة مهمة، الأمر الذي جعل الحكومة الإسرائيلية هي حكومة رئيس الوزراء(18).
وتنبع قوة رئيس الحكومة من العوامل التالية:
1 ـ هو زعيم حزبه، ومكانته في حزبه تدعم عادة مكانته في الحكومة.
2 ـ هو الذي يقود الحكومة ويرأس جلساتها ويحدد جدول أعمالها.
3 ـ استقالته هي استقالة للحكومة بأسرها.
4 ـ يتمتع منذ عام 1981 بصلاحية إقالة أي وزير من الحكومة.
5 ـ يتم اتخاذ القرارات المهمة عادة في دائرة، أو في "مطبخ"، رئيس الحكومة.
6 ـ تقع ضمن مهماته وصلاحياته المسؤولية المباشرة عن جهازي أمن مهمين للغاية هما "جهاز الموساد" و"جهاز المخابرات العامة (الشاباك)".
7 ـ هو المسؤول مسؤولية مباشرة عن الملف النووي (وهو رئيس لجنة الطاقة النووية الإسرائيلية) وعن الملف الكيماوي والملف البيولوجي، بهيئاتهم ومؤسساتهم ومنتجاتهم المختلفة.
8 ـ صحيح أن وزير الدفاع هو المسؤول عن وزارة الدفاع، وهو الذي يمثل سلطة الحكومة على الجيش، ولكن من حق رئيس الحكومة دعوة رئيس الأركان ورئيس "جهاز المخابرات العسكرية (أمان)"، بعلم وزير الدفاع، للتشاور.
إلى جانب منصب رئيس الحكومة هناك في الدول العادية منصبان مهمان في عملية صنع قرارات الأمن القومي، هما وزير الدفاع ووزير الخارجية. ولكن لا تحتل وزارة الخارجية في إسرائيل أهمية في عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي. إذ ان علاقات إسرائيل الخارجية تخضع للأمن ومؤسسته. فإن "مفهوم العلاقات الخارجية السائد بين النخب والرأي العام في إسرائيل هو مفهوم استقوائي أساساً، ويعطي أفضلية للاعتبارات الاستراتيجية على الاعتبارات الدبلوماسية. ويعتبر العنف وسيلة شرعية في مجال العلاقات بين الدول" (19).
في العقدين الأولين لقيامها لم يكن هذا "الثالوث"، الذي يؤثر تقليديا في سياسة الدول العادية في قضايا الأمن القومي، موجوداً في إسرائيل. فمنذ قيامها وحتى عشية حرب حزيران/يونيو 1967 شغل رئيس الحكومة في إسرائيل إحدى الوزارتين: إما الدفاع أو الخارجية. فخلال كل فترة رئاسته للحكومة كان دافيد بن غوريون وزيراً للدفاع أيضاً. وفي العامين اللذين استقال خلالهما بن غوريون من رئاسة الحكومة، كان موشيه شاريت رئيساً للحكومة ووزيراً للخارجية في العامين 1954 و 1955. وعندما أصبح ليفي اشكول رئيساً للحكومة في العام 1963، خلفاً لدافيد بن غوريون، استمر في تقليد سلفه فشغل منصب وزير الدفاع أيضاً حتى عشية اندلاع حرب 1967، حين أُرغم على الاستقالة من منصب وزير الدفاع لمصلحة الجنرال المتقاعد ورئيس الأركان الأسبق موشيه ديان، تحت ضغط جنرالات الجيش أساساً(20).
اتفاق إشكول - دايان
أدى إرغام رئيس الحكومة ليفي إشكول على التخلي عن منصب وزير الدفاع لمصلحة موشيه ديان إلى نشوء حالة جديدة، تمثلت في عدم تولي رئيس الحكومة منصب وزير الدفاع. وهذه الحالة لم تعهدها إسرائيل حتى ذلك الحين إلا عندما شغل بنحاس لافون منصب وزير الدفاع فترة قصيرة في الحكومة التي ألّفها موشيه شاريت في العام 1954، في إثر استنكاف بن غوريون عن السلطة الرسمية. وكانت الفترة التي تبوأ فيها لافون وزارة الدفاع قد شهدت صراعا شديدا بين المؤسسة العسكرية والأمنية من ناحية وكل من بنحاس لافون وموشيه شاريت، ولم تكتف المؤسسة العسكرية الأمنية بعدم التعاون مع لافون، ومع رئيس الحكومة ايضاً، بل قامت بعمليات وبنشاطات من وراء ظهره ومن وراء ظهر شاريت. وكان أبرز ثمرات هذه العمليات التي جرت من دون معرفة وزير الدفاع، ورئيس الحكومة أيضاً، ما عُرف لاحقا بـ "العمل المشين" أو "فضيحة لافون"، وذلك عندما قامت المخابرات العسكرية الإسرائيلية، وبقرار من المؤسسة العسكرية والأمنية، بسلسلة من الأعمال التخريبية في مصر ضد المدنيين المصريين وضد مؤسسات غربية بهدف الإساءة لمصر ولعلاقاتها بالدول الغربية.
قادت هذه الحالة الجديدة التي نشأت عشية حرب حزيران/يونيو 1967 إلى ضرورة إيجاد صيغة عمل بين رئيس الحكومة ليفي إشكول الذي كانت المؤسسة العسكرية تعتبره رجلاً متردداً وضعيفاً، ووزير الدفاع موشيه ديان، الذي شغل منصب رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي في أثناء فترة "فضيحة لافون"، وذي الطموحات السياسية والتصميم على التأثير في القرارات التي تخص الأمن القومي في إسرائيل. وفعلا توصل إشكول وديان إلى اتفاق بينهما عشيّة حرب 1967، حددت فيه المجالات والخطوات والقرارات التي لا يقوم بها وزير الدفاع مِن دون الحصول على موافقة رئيس الحكومة. وشملت هذه المجالات التي حظر على وزير الدفاع القيام بها من دون موافقة رئيس الحكومة، القضايا التالية:
أولاً: بدء حرب شاملة أو شن حرب ضد أي دولة.
ثانياً: الشروع في عمليات عسكرية.
ثالثاً: بدء عملية عسكرية ضد أي دولة لم تشارك حتى تلك اللحظة في الحرب.
رابعاً: قصف مدن مركزية في أراضي العدو، إلا إذا سبق ذلك قصف مدن إسرائيلية من العدو نفسه.
خامساً: القيام بعمليات انتقامية رداً على أعمال معادية.
وجاء في هذا الاتفاق، علاوة على ذلك، أن في امكان رئيس الحكومة دعوة كل من رئيس الأركان ورئيس جهاز المخابرات العسكرية (أمان) والمدير العام لوزارة الدفاع ومساعد وزير الدفاع، للحصول منهم على معلومات وتقديرات للموقف(21). ولم تكد تمر أيام عدة على هذه الاتفاقية حتى اخترقها موشيه ديان، عندما أمر مباشرة قائد المنطقة الشمالية الجنرال دافيد أليعازر بالهجوم على هضبة الجولان السورية، من دون حصوله على تصريح من رئيس الحكومة ليفي إشكول(22).
بعد أن وضعت حرب 1967 أوزارها، صاغ الوزير يسرائيل غليلي وكل من السكرتير العسكري لرئيس الحكومة والسكرتير العسكري لوزير الدفاع، وثيقة لتنظيم الصلاحيات بين رئيس الحكومة ووزير الدفاع، أُطلق عليها "كونستيتوتسيا" أي "الدستور"، واعتمدها رسميا رئيس الحكومة ليفي إشكول. ومنذ تلك الفترة وحتى اليوم تصادق كل حكومة جديدة عند تأليفها على هذه الوثيقة. وقد حددت هذه الوثيقة ثلاثة مستويات لعمليّات الجيش الإسرائيلي العسكرية التي تختلف القيادة السياسية في المصادقة عليها، وهي:
المستوى الأول: يتعلق بالحالات التي يكون فيها وزير الدفاع مخولا البت فيها وإقرارها وحده، مثل الرد على إطلاق العدو النار أو ملاحقة طائرة تخترق المجال الجوي الإسرائيلي.
المستوى الثاني: يتعلق بعمليات عسكرية يأمر بها وزير الدفاع بعلم رئيس الحكومة، مثل ملاحقة طائرة اخترقت المجال الجوي وعادت إلى أراضي دولتها.
المستوى الثالث: يتعلق بعمليات عسكرية يصدر وزير الدفاع بها أمرا فقط بعد حصوله على موافقة رئيس الحكومة، مثل القيام بعمليات عسكرية هجومية في ما وراء خطوط العدو(23).


"لا يوجد في النظام الإسرائيلي منصب "القائد العام للقوات المسلحة". لذلك، وعلى الرغم من التوصل إلى وثيقة "الدستور" و"اتفاق إشكول- دايان"، ظلت الصلاحيات بين "ثالوث" رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي غير واضحة بما فيه الكفاية."

لا يوجد في النظام الإسرائيلي منصب "القائد العام للقوات المسلحة". لذلك، وعلى الرغم من التوصل إلى وثيقة "الدستور" و"اتفاق إشكول- ديان"، ظلت الصلاحيات بين "ثالوث" رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي غير واضحة بما فيه الكفاية. في أعقاب حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 أُلفت "لجنة اغرانات" للتحقيق في أسباب "التقصير" في تلك الحرب. وقد أكّد تقرير "لجنة اغرانات" وجود نقص في تحديد هذه الصلاحيات والمسؤوليات بين كل من رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس أركان الجيش، وأوصى بتحديد هذه الصلاحيات والمسؤوليات في القانون.
القانون الأساس للجيش
بعد توصية "لجنة أغرانات"، سَنّ الكنيست في العام 1976 القانون الأساس للجيش. بيد أن هذا القانون لم يحدّد بوضوح توزيع الصلاحيات بين رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس الأركان، وترك مجالا واسعاً لتفسيره بمفاهيم متعددة. فالقانون الأساس للجيش مقتضب وقصير للغاية، ويتألف من ستة بنود قصيرة، ويبلغ إجمالي عدد كلماته واحداً وثمانين كلمة فقط. وينص هذا القانون على أن الجيش الإسرائيلي هو جيش الدولة، وأنه يخضع لسلطة الحكومة، وأن وزير الدفاع هو الوزير الذي تعينه الحكومة وزيراً على الجيش، وأن رئيس هيئة الأركان العامة للجيش هو المسؤول القيادي الأعلى في داخل الجيش وأنه تحت سلطة الحكومة وخاضع لوزير الدفاع(24).
وزير الدفاع ورئيس الأركان
يشكل وزير الدفاع في إسرائيل محورا أساسياً في خط التماس ما بين المستوى المدني والمستوى العسكري. فوزير الدفاع تعينه الحكومة وزيراً على الجيش، وبهذا المعنى فهو يمثل رسميا سلطة الحكومة على الجيش، ويخضع رئيس الأركان رسميا له. ومع ذلك فهناك عدم وضوح في عدد من القضايا المهمة المتعلقة بكيفية تنفيذه مهاته. فوزير الدفاع ليس قائداً عاما للقوات المسلحة؛ فلا يوجد في إسرائيل مثل هذا المنصب، وعوضاً عن ذلك يخضع رئيس أركان الجيش لسلطة الحكومة كـَ "كولكتيف". ومع أن وزير الدفاع هو الذي تعينه الحكومة على الجيش، فإن من غير الواضح في القانون ما هي المجالات والقرارات التي ينبغي على وزير الدفاع الحصول على موافقة الحكومة بشأنها، وما هي تلك المجالات والقرارات التي في إمكان وزير الدفاع البت بها من دون العودة إلى إلحكومة. ومن ناحية أخرى، من غير الواضح في القانون الأساس للجيش ما هو المدى والمجال المسموح بهما لوزير الدفاع التدخل في قرارات رئيس الأركان، أو الاعتراض عليها، وما هي القرارات العسكرية التي على رئيس الأركان أن ينال موافقة وزير الدفاع عليها، وما هي القرارات والمجالات التي في إمكان رئيس الأركان البت بها بنفسه من دون الذهاب إلى وزير الدفاع. فمصطلح "خضوع" رئيس الأركان لوزير الدفاع يعبر عن خضوع هرمي، ولا يوجد اتفاق على تفسير هذا المصطلح عند تطبيقه على أرض الواقع(25).
هناك ثلاثة مفاهيم في تفسير هذا المصطلح، تعطي بدورها ثلاثة مستويات مختلفة لمصطلح "الخضوع"، والتي من المفيد والضروري الاطلاع عليها لإدراك العلاقة المعقدة بين وزير الدفاع ورئيس الأركان، وهي 1 ـ الخضوع المطلق. 2 ـ الخضوع الاستراتيجي. 3ـ الخضوع النسبي.
الخضوع المطلق
يرى أصحاب هذا المفهوم أن صلاحيات وزير الدفاع تجاه رئيس الأركان، من حيث قوتها وشموليتها، هي مثل صلاحية الحكومة تماماً، إلا إذا قررت الحكومة أمراً آخر. وهذا يعني أن من صلاحية وزير الدفاع التدخل وإصدار الأوامر لرئيس الأركان للقيام بهذا الأمر أو ذاك، كلما أراد وزير الدفاع ذلك ؛ وفي حال وجود خلاف بين وزير الدفاع والحكومة، يتغلب موقف الحكومة على وزير الدفاع. ويعلل أصحاب هذا التوجه، وأغلبهم من أساتذة الجامعات المختصين بالقانون الدستوري، ذلك بتأكيدهم أن وزير الدفاع تعينه الحكومة وبالتالي له صلاحيات الحكومة، إلا إذا حدث خلاف بينه وبين الحكومة. وأن القانون الأساس للجيش ينص على أن رئيس الأركان "هو المستوى القيادي الأعلى في الجيش" وليس على الجيش، وأن وزير الدفاع يمثل سلطة المستوى المدني-السياسي على الجيش و يعكسها(26).
الخضوع الاستراتيجي
يقول المنادون بهذا المفهوم، وأغلبهم من كبار الضباط ومن المؤسسة الأمنية، إن خضوع رئيس الأركان لوزير الدفاع هو خضوع محدد في القضايا الاستراتيجية فقط، أما في القضايا التكتيكية فهو ليس خاضعاً لوزير الدفاع. فمثلا، في إمكان وزير الدفاع، وفق هذا المفهوم، إصدار أمر لرئيس الأركان ليقوم بعملية عسكرية ويطلق سراح مخطوفين، ولكن ليس من صلاحيته التدخل في الخطة العسكرية العملانية لإطلاق سراحهم. ويدعي المؤيدون لهذا التوجه أن هذا المفهوم هو الذي يعطي مضمونا للقانون الذي ينص على أن رئيس الأركان هو المستوى الأعلى في الجيش. ويضيف هؤلاء أن وزير الدفاع يكون، في كثير من الأحيان جنرالا متقاعداً أو رئيساً سابقاً للأركان، لذلك هناك خشية من أن يصبح وزير الدفاع رئيساً أعلى للأركان بشكل فعلي، ما يمس وظيفة رئيس الأركان ودوره(27).
الخضوع النسبي
يميز أنصار هذا المفهوم خضوع رئيس الأركان لوزير الدفاع في القضايا الاستراتيجية من خضوعه في القضايا التكتيكية. فخضوع رئيس الأركان لوزير الدفاع في القضايا الاستراتيجية هو خضوع مطلق، أما في القضايا التكتيكية والعمليات العسكرية فهناك دور محدد لوزير الدفاع باعتباره طرفا له حق الموافقة أو الاعتراض على خطط رئيس الأركان، ولكن ليس له حق المبادرة إلى وضع الخطط أو أن يملي رأيه على رئيس الأركان في هذا المجال. وهكذا، ثمة صلاحية لوزير الدفاع، وفق هذا المفهوم، ليس في إصدار الأمر للقيام بعملية عسكرية لإطلاق سراح المخطوفين فحسب، وإنما له الحق في الاطلاع على الخطة العسكرية العملانية، وحق الموافقة عليها أو رفضها. وإذا لم يوافق وزير الدفاع على الخطة العسكرية التي وضعها رئيس الأركان، يعد رئيس الأركان خطة بديلة ويعرضها ثانية على وزير الدفاع للموافقة عليها؛ ولا يتم تنفيذ الخطة إلا بعد موافقة وزير الدفاع عليها. ولا يحق لوزير الدفاع، في أي حال من الأحوال، فرض أي خطة على رئيس الأركان، أو فرض إجراء أي تغيير في خطة رئيس الأركان. وفي إمكان وزير الدفاع تقديم توصية لرئيس الأركان بإجراء تغييرات في خطة رئيس الأركان، ولكن هذه التوصية ليست ملزمة لرئيس الأركان. ويبدو أن معظم وزراء الدفاع الذين كانت لهم خلفية عسكرية، وكانوا جنرالات أو رؤساء أركان سابقين، تصرفوا وفق هذا المفهوم، ولم يكتفوا بالموافقة أو الاعتراض على خطة رئيس الأركان، أو إبداء الرأي والموقف من الخطط والعمليات العسكرية، بل دأبوا على تغليف ذلك بأسلوب ودي كالقول "لا أريد أن أقول لكم ماذا عليكم أن تفعلوا من الناحية العملانية، ولكن لو كنت مكانكم لفعلت كذا وكذا"(28).
أما في ما يخص تعيين كبار الضباط، فيعرض رئيس الأركان على وزير الدفاع الموافقة على تعيين أي ضابط برتبة عقيد (ألوف مشنيه) فما فوق، ولوزير الدفاع الحق في رفض التعيين ولكن ليس له الحق في اقتراح مرشح بديل. ومن ناحية أخرى إذا أراد وزير الدفاع إقالة ضابط رفيع من منصبه، فإن ذلك يتطلب موافقة رئيس الأركان، ولا يملك وزير الدفاع صلاحية إرغام رئيس الأركان على إقالة ضابط رفيع(29).
لا يتطرق القانون الأساس إلى صلاحيات رئيس الأركان و مسؤولياته أكانت تجاه المسؤولين عنه أو تجاه من هم تحت قيادته. وبما أن رئيس الأركان يخضع لسلطة الحكومة كـَ "كولكتيف"، فالقانون الأساس يتحدث عن الحكومة ولا يذكر إطلاقا رئيس الحكومة. وبما أن القانون الأساس لا يحدد الصلاحيات ولا يوزعها بين رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس الأركان، فإن ذلك كله يؤدي إلى عدم الوضوح في مسؤوليات رئيس الأركان و صلاحياته، الأمر الذي يعزز قوة رئيس الأركان ويفسح في المجال أمامه لتفسير معنى خضوعه لوزير الدفاع وللحكومة، خاصة في تلك المجالات والقضايا التي لا توجد تجاهها سياسة واضحة، وهي كثيرة، أو تلك القضايا التي لم يتلق رئيس الأركان فيها أوامر واضحة من وزير الدفاع.
وهناك عوامل أخرى تعزز مكانة رئيس الأركان ليس أمام المستوى المدني فحسب، وإنما أمام جنرالات جيشه وكبار ضباطه أيضاً. فترقيهم في الرتب والمناصب العليا يعتمد أساساً على قراراته. وعادة ما ينجح رئيس الأركان في تشكيل رؤية عامة ومشتركة لهيئة الأركان في القضايا الأمنية التي تُعرض أمام الحكومة. ولكن في حالة فشله في تشكيل رؤية مشتركة، ففي إمكانه، من الناحية النظرية، ومن صلاحياته أيضاً، إصدار الأوامر إلى جنرالات الجيش بعدم الاختلاف معه أمام الحكومة، في أثناء حضورهم اجتماع الحكومة وإدلائهم بآرائهم وتحليلاتهم في شأن قضية أمنية معينة. وقد يؤدي هذا الأمر إلى أن تتخذ الحكومة قراراً أمنيا نوعياً وفق توصية رئيس الأركان فحسب، من دون أن تستمع الحكومة إلى وجهات نظر أخرى مغايرة من جنرالات آخرين في هيئة الأركان، حتى وإن كان هؤلاء الجنرالات يشكلون أغلبية في هيئة الأركان، وكان رئيس الأركان في الأقلية. وهذا الأمر نادر الحدوث ولكنه يحدث(30).
قرارات الحرب والعمليات العسكرية
الحكومة الإسرائيلية هي الجسم الوحيد المخول اتخاذ قرار الحرب. فقانون الحكومة الأساس ينص بشكل واضح وصريح ما يلي: "لا تشن الدولة حربا إلا بقرار من الحكومة". وعلى الحكومة أن تخبر، في أقرب وقت ممكن، لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست بقرارها شن الحرب. وكذلك يعلم رئيس الحكومة، في أقرب وقت ممكن، الكنيست بالحرب، بخطاب له من على منصة الكنيست(31).
علاقة الجيش بالقيادة السياسية
عرّف دافيد بن غوريون رئيس الحكومة ووزير الدفاع، والذي كانت له اليد الطولى والدور الأهم في بناء الجيش الإسرائيلي وبلورته، مكانة الجيش الإسرائيلي ودوره وعلاقته بالقيادة السياسية كالتالي: "الجيش لا يقرر السياسة ولا النظام ولا القوانين ولا نظام الحكومة في الدولة. وطبعاً، الجيش لا يقرر بنفسه حتى بنيته وأنظمته وخطوط عمله. والجيش ليس هو الذي يقرر شأن الحرب والسلام. الجيش هو الذراع التنفيذية لحكومة إسرائيل، إنه ذراع الدفاع والأمن. النظام في الدولة، والخطوط السياسية تجاه الداخل والخارج، وإعلان الحرب وصنع السلام، وتنظيم الجيش وتصميم صورته، ذلك كله من صلاحيات السلطات المدنية وحدها: الحكومة والكنيست والناخبين. الحكومة مسؤولة عن الجيش أمام منتخبي الشعب في الكنيست؛ والجيش خاضع في كل شيء للحكومة، وما هو إلا منفذ للخط السياسي وللأوامر التي يتلقاها من المؤسستين التشريعية والتنفيذية: الكنيست والحكومة(32).
ما ذكره دافيد بن غوريون أعلاه، في 27 تشرين الأول/أكتوبر 1949، في رسالته إلى رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يغآل يدين ما انفك، يتردد، ويتم التشديد عليه دوما في داخل الجيش وفي دورات الضباط وفي مدرسة القيادة والأركان وفي كلية الأمن القومي، وفي كل مرة يتم التطرق فيها إلى علاقة الجيش بالقيادة السياسية(33).
تبنت الرؤية التي عبر عنها بن غوريون عن علاقة الجيش بالقيادة السياسية، "النموذج الوظيفي". أي أن الجيش أداة لتنفيذ سياسة الحكومة، وأنه يخضع للقيادة السياسية وللرقابة السياسية الفعالة، وأنه منعزل تماماً عن المؤسسة السياسية الحزبية. ووفق هذا النموذج، فإن القيادة السياسية هي التي تحدد الأهداف، في حين يتولى الجيش تحقيق هذه الأهداف. وافترض هذا النموذج أن القيادة السياسية هي التي تحدد أين يمر الخط الفاصل بين الأهداف من ناحية والوسائل لتحقيق هذه الأهداف من ناحية أخرى.
كان عاموس بيرلموتر من أوائل وأبرز من عَرض "نموذج الأداة" ودافع عنه، في ستينيات القرن الماضي، حين رسم صورة وردية لعلاقة الجيش الإسرائيلي بالقيادة السياسية. افترض عاموس بيرلموتر وجود ثقافة مدنية في إسرائيل، وأن هذه الثقافة المدنية ونضوج البنى السياسية، وخاصة الأحزاب السياسية والهستدروت، والتغيير السريع في قيادة الجيش، واعتماد الجيش نظام الاحتياط الذي يشكل فيه الاحتياطيون الغالبية العظمى من مجمل عديد الجيش الإسرائيلي، وازدياد مهنية الجيش النظامي واحترافه، وتبني الجيش والمجتمع إيديولوجية واحدة، وتماهي أهداف الجيش مع الأهداف القومية السياسية للمجتمع؛ تمنع الجيش من التدخل في السياسة وتقلل إلى درجة الصفر إمكانية حدوث انقلاب عسكري في إسرائيل(34).
نموذج "الشعب المسلح"
منذ أن طرح هارولد لاسويل مصطلح "دولة القلعة" في العام 1941(35)،اهتم كثير من الباحثين بموضوع علاقة الجيش بالمستوى المدني والقيادة السياسية في الدول التي يحتل فيها الأمن القومي أولوية عليا والتي هي في حالة حرب. تمثلت الفكرة الأساسية التي طورها هارولد لاسويل في أن وجود الدولة في حالة حرب وتوتر دائم، واحتلال الأمن القومي فيها الأولوية العليا، قد يؤديان إلى تغلغل القيم العسكرية وانتشارها في المجتمع، وإلى استيلاء خبراء العنف،أي الجيش، على السلطة. ونفى أستاذا العلوم السياسية دان هوروفيتس وموشيه ليساك أن تكون إسرائيل مثل "دولة القلعة". وعرضا نموذجاً من نوع آخر، يميز العلاقات بين الجيش والمجتمع في الدولة التي تكون فيها مشاركة المواطنين في الجهد العسكري عند أعلى حد ممكن، وهو نموذج "الشعب المسلح" (عام حموش) أو "شعب بالزي العسكري" (عام بمديم). واستند مبدأ "الشعب المسلح" على فرضية أن إسرائيل في حالة حرب دائمة، وما ان تنتهي حرب واحدة حتى تنتقل إسرائيل إلى حالة حرب كامنة تحمل بين ثناياها إمكانية التفجر والتحول إلى حرب فعلية في أي لحظة. لذلك ينبغي الاستعداد للحرب دائماً، وإيجاد أفضل الطرق لتجنيد أفراد الشعب كلهم. وقد عبر قانون الخدمة في الجيش الذي سنه الكنيست في آب/أغسطس 1949 عن ذلك عندما ذكر أن الهدف من القانون هو إعداد الشعب كله ليكون في وقت الضرورة شعباً مقاتلاً. وأشار هوروفيتس وليساك إلى أن نموذج "الشعب المسلح" يفترض أن حدود التماس بين الجيش والقطاع المدني مفتوحة أكثر، ومتنوعة أكثر من نموذج "دولة القلعة". ففي نموذج "الشعب المسلح" تتوسع مهمات الجيش وتتقاطع مع مهمات مدنية، ما يؤدي إلى إحداث توازن بين ظاهرة "تمدين الجيش" من ناحية وعسكرة المجتمع من ناحية أخرى (36).
وسمح هذا النموذج، كما يذكر هوروفيتس وليساك، بأن يتدخل الجيش تدخلاً واسعاً في رسم سياسة الأمن القومي الإسرائيلية. وتمثل هذا التدخل في القضايا التالية:
1ـ الاستشارة المهنية التي يقدمها رئيس الأركان وقادة الجيش في اجتماعات الحكومة ولجنة الوزراء لشؤون الأمن.
2ـ التقويم القومي الذي يقدمه جهاز المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلي عن الحرب واحتمالات نشوبها.
3 ـ مشاركة كبار ضباط الجيش في الاتصالات والمفاوضات مع الدول العربية.
4 ـ الحكم العسكري في المناطق الفلسطينية المحتلة سنة 1967 يُفسح في المجال واسعاً أمام الجيش للتدخل في مختلف المجالات المدنية في المناطق الفلسطينية.
5ـ تؤثر العقيدة العسكرية الإسرائيلية الهجومية في القرارات السياسية.
6 ـ إن عدم وضوح القانون في توزيع الصلاحيات بين المستوى السياسي والمستوى العسكري، وبشكل محدد بين رئيس الأركان ووزير الدفاع ورئيس الحكومة، يخلق ظروفاً جيدة لزيادة قوة رئيس الأركان في التأثير في قرارات الحكومة.
7 ـ إن شبكة العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين قيادة الجيش والقيادة السياسية تمكنت من أن تكون لها منزلة "جماعة ضغط" في ما يخص الأمن القومي، كما فعلت قيادة الجيش الإسرائيلي عشية حرب 1967، إذ لم تكتف بتقديم الاستشارة، بل استعملت علاقاتها هذه "لإقناع السياسيين بضرورة شن الحرب"(37).
بداية التغيير
ظل "النموذج الوظيفي" سائداً ومهيمناً في أوساط الباحثين حتى النّصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي. وساهمت مجموعة من العوامل في تحدي "النموذج الوظيفي" وإحداث تآكل فيه، حتى من بعض الذين كانوا يتبنونه. ويمكن إيجاز العوامل التي قادت إلى ذلك بالنقاط التالية:
1 ـ فجّر فشل الجيش الإسرائيلي في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 و"التقصير" فيها، نقاشاً وصراعا بين أطراف في المستوى المدني وأطراف أخرى في المستوى العسكري، في شأن المسؤولية عن هذا الفشل. وغذى هذا "التقصير"، في الوقت نفسه، صراعاً موازياً بين الجنرالات في الجيش الإسرائيلي في شأن من منهم يتحمل مسؤولية الفشل و"التقصير". والفشل نفسه والصراع الذي دار بين النخب السياسية والعسكرية على مسؤولية هذا الفشل، خدشا هالة الجيش وأضعفا مقولة إن جنرالات الجيش لا يتدخلون في السياسة.
2 ـ كشف تقرير "لجنة أغرانات" عن مشكلة في الصلاحيات ما بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية، خاصة في العلاقة بين وزير الدفاع ورئيس الأركان. فقد ذكر تقرير "لجنة أغرانات" أنّ "النقص في تحديد الصلاحيات، السائد في الوضع القائم في مجال الأمن، وهو المجال الذي لا يوجد ما يضاهيه في الأهمية، يثقل على نجاعة العمليات، وينتقص من تركيز المسؤولية القانونية، ويسبب عدم وضوح وبلبلة في صفوف الجمهور أيضاً"(38).
وأشارت "لجنة أغرانات" في تقريرها إلى ضرورة أن تقوم الحكومة والكنيست بإصلاح هذا الخلل. وانتقدت اعتماد الحكومة على جهاز المخابرات العسكرية وحده في تقويم الموقف الأمني -السياسي وفي تقدير إمكانية نشوب حرب، وأوصت بضرورة إصلاح هذا الوضع.
3 ـ قاد سقوط حزب العمل في انتخابات الكنيست في العام 1977، ووصول حزب الليكود للسلطة، لأول مرة في تاريخ إسرائيل، إلى انتهاء احتكار حكومة حزب العمل منصبي وزير الدفاع ورئيس الحكومة، الأمر الذي أدى إلى وضع حد لاحتكار تعيين رئيس الأركان وكبار ضباط الجيش من بين المحسوبين على حزب العمل؛ وكذلك إلى وصول قيادات عسكرية محسوبة على الليكود واليمين الإسرائيلي إلى أعلى المراتب في الجيش. وقد أحدث ذلك هزة في العلاقات الوطيدة التي كانت سائدة بين التيار العمالي وقيادة الجيش، وأصبح قادة التيار العمالي أكثر اهتماما بالعلاقة بين المستويين العسكري والمدني.
4ـ أحدثت حرب لبنان الأولى التي بادر إليها شارون وبيغن، ولأول مرة في تاريخ إسرائيل انقساما في الرأي العام الإسرائيلي في شأن الحرب وأهدافها، وطرحت أسئلة خلال الحرب وبعدها، عن طبيعة العلاقة بين المستوى السياسي والمستوى العسكري ومدى سيطرة القيادة السياسية على الجيش. وأدت هذه العوامل المذكورة أعلاه إلى قيام قادة وباحثين من صلب المؤسستين الأمنية والسياسية بطرح موضوع عملية صنع قرارات الأمن القومي وبمعالجة دور المؤسسة العسكرية وتأثيرها في تلك العملية، وخاصة في ظل عدم وجود هيئة أو مؤسسة مدنية مستقلة عن الجيش تتولى تقويم الأمن القومي. وفي هذا السياق أكد الجنرال يسرائيل طال، في مقالة له في العام 1983، "أن مسؤولية الأمن القومي تقع على كاهل الحكومات"، وأوضح "أن تقويم الوضع القومي هو شأن سياسي وليس عسكرياً". وأردف: "من أجل تمكين الحكومات من ممارسة مسؤوليتها عن الأمن القومي بشكل سليم، ينبغي على الحكومات الاعتماد على أجسام تتابع تطور الأحداث ومساراتها بصورة منظمة، وتقوم بتحليلها وتقويمها بمنهجية، وبعد ذلك يتم عرض التقويم الشامل للوضع على صانعي القرارات". وأكّد الجنرال طال "ممنوع أن تكون هذه الأجسام خاضعة للجيش أو لأي مؤسسة أخرى. وينبغي أن تكون مستقلة وأن تدرس جميع مواقف الأطراف الرسمية و تقويماتها ووجهات نظرها عندما تعرض تقويم الوضع القومي أمام الحكومة (39).
وأشار الباحث عاموس بيرلموتر، الذي عاد وعالج هذا الموضوع في العام 1985، إلى أن الجيش الإسرائيلي يكاد أن يكون الجيش الوحيد في العالم الذي يسيطر من دون منازع على القضايا الاستراتيجية والتكتيكية المتعلقة بالأمن القومي. وأكد بيرلموتر أن المخابرات العسكرية (أمان) وأقسام التخطيط المتعددة في الجيش ورئيس هيئة الأركان العامة، هي التي تبلور نظرية الأمن الإسرائيلي، وهي التي لها التأثير الأكبر في عملية صنع القرارات في الأمن القومي، وفي حالات نادرة فقط يؤثر القادة المدنيون تأثيرا حقيقيا في القرارات التي تخص الأمن القومي(40).
أما أهرون يريف، الذي شغل منصب رئيس جهاز المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلي بين 1964و 1971، فأشار في مقالة له في العام 1985 إلى أن الجيش الإسرائيلي وحده لديه المؤسسة التي تمكنه من تطوير استراتيجية في الأمن القومي، وأكد أن جميع الوزراء في الحكومة الإسرائيلية، بمن فيهم وزير الدفاع، يعتمدون على الجيش في هذا الأمر. واستخلص يريف أن موقف الجيش يؤثر، بسبب ذلك، تأثيرا كبيرا في القضايا التي تخص الأمن القومي(41).
استخلصت دراسة أُجريت في العام 1984 في كلية الأمن القومي التابعة للجيش الإسرائيلي، أن عملية صنع القرارات في الأمن القومي تعتريها نواقص مهمة أبرزها: عدم وجود تخطيط قومي شامل، والتعامل مع كل قضية بشكل منفصل، وعدم تعريف أهداف الأمن القومي وسياسته، وعدم فحص فرضيات أساسية مجددا بين مرحلة وأخرى في ضوء التطورات التي تطرأ. وأشارت هذه الدراسة التي سعت إلى معرفة هل يتوفر لرئيس الحكومة الإسرائيلية الأدوات اللازمة لضمان عملية صنع قرارات الأمن القومي بالشكل الأفضل، إلى مسألتين أساسيتين مهمتين: الأولى عدم وجود هيئة مستقلة عن الجيش تقدم لصانعي القرارات ما يحتاجون إليه من معطيات ومعلومات وتحليلات ومقترحات. والثانية هي الدور المهيمن للمؤسسة العسكرية في عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي(42).
وتبين من دراسة أجراها يهودا بن مئير، استند فيها أساسا إلى مقابلات أجراها مع ثلاثة عشر مسؤولاً رفيعا، شغل معظمهم مناصب عليا في المؤسستين السياسية والأمنية، أن هناك إجماعا بين هؤلاء المسؤولين على عدم وجود تخطيط منظم لدى الحكومة الإسرائيلية في الأمن القومي ناجم عن عدم وجود هيئة مستقلة، وعلى الدور المهيمن للجيش في عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي(43).
نموذج الشراكة بين المؤسسة العسكرية والمستوى السياسي
ظهر في منتصف ثمانينيات القرن الماضي عدد من علماء السياسة وعلماء الاجتماع الإسرائيليين الذين لم يقتنعوا بالنموذج الوظيفي للجيش الإسرائيلي، أي أن الجيش هو أداة لتنفيذ سياسة الحكومة، وأنه خاضع للقيادة المدنية - السياسية، وأنه منفصل تماماً عن السياسة. وكان أبرز هؤلاء يورام بيري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب، الذي طور نموذج الشراكة بين المؤسسة العسكرية والمستوى المدني-السياسي في عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي، واستخلص أن للمؤسسة العسكرية التأثير الأكبر في هذه الشراكة (44). وذكر يورام بيري أن هناك مهمة للجيش علاوة على الوظيفة التقليدية المتمثلة في تنفيذ سياسة الحكومة، وهي تقديم الاستشارة للحكومة في قضايا الأمن. ولكن إذا لم يكتف الجيش بذلك وقام بوظائف أخرى كالدفاع عن سياسة الحكومة أمام المواطنين، وكالتدخل تدخلاً مباشراً في موضوعات سياسية، فإن الجيش يخرج عن كونه جيشاً محترفاً. وأضاف يورام بيري أن نظرة ثاقبة إلى عمل الجيش الإسرائيلي وأدائه تقود إلى الإقرار أنه يدافع عن سياسة الحكومة ويتدخل في السياسة. وعلاوة على ذلك، أكد بيري أن الجيش الإسرائيلي يتدخل ليس في رسم سياسة الأمن القومي فحسب، ولا يؤثر في الجانب الأمني فحسب، وإنما في السياسة الخارجية أيضا. فالربط الذي لا ينفصم بين سياسة الأمن الإسرائيلية وبين سياسة إسرائيل الخارجية منح الجيش الإسرائيلي تأثيراً في السياسة الخارجية، فباتت السياسة الخارجية الإسرائيلية مساعدة ومبررة لسياسة الأمن الإسرائيلية وليست شريكاً لها، كما عبر عن ذلك شمعون بيرس عندما قال: "الدول الصغيرة ليست لها سياسة خارجية وإنما سياسة أمن"(45).
أشار يورام بيري إلى أن تدخل الجيش الإسرائيلي في رسم السياسة الخارجية والأمن، لم ينجم عن وجود إسرائيل في حالة صراع فحسب، وإنما كان أساساً ثمرة سياسة محسوبة خطط لها دافيد بن غوريون. فقد عمل بن غوريون بعناد على فصل مجال الأمن عن النظام الحزبي الإسرائيلي وعن قيمه وعن قوانين اللعبة السائدة فيه، وصمم على ألا تكون عملية صنع القرارات في مجال الأمن شبيهة بتلك القائمة في النظام السياسي الحزبي الذي تجري فيه مساومات وحلول وسط وحسم الأغلبية. فلم يقرر بن غوريون اتباع الاعتبارات المهنية في مجال الأمن فحسب، وإنما قرر أيضاً إخراج قضايا الأمن كلية من أيدي السياسيين، ومنح الصلاحية في مجال الأمن له ولقيادة الجيش التي كانت، بطبيعة الحال، مقربة منه ومحسوبة على حزبه الحاكم مباي. وبقيامه بذلك أبعد بن غوريون الأمن عن أيدي السياسيين، ولكنه في الوقت نفسه، كما يؤكد بيري، فتح الباب واسعا أمام قادة الجيش للتدخل في السياسة،لأن من غير الممكن عزل موضوعات الأمن عن سياقها السياسي(46).
ومع أن بن غوريون تحدث، عند قيام إسرائيل، عن إلغاء تأثير الأحزاب السياسية في الجيش، إلا أنه حافظ على تأثيره هو وتأثير حزبه، الحزب الحاكم، في قيادة الجيش، وأوجد الآليات التي يمارس عبرها هذا التأثير. وخلافاً للدول الديمقراطية الغربية التي لا يوجد فيها للحزب الحاكم أي مكانة وأي ترتيبات مؤسسية للإشراف على الجيش أو مراقبته، أقام بن غوريون قسماً خاصاً في قيادة حزب مباي اسمه "قسم المجندين" (همحلكاه لمجويسيم) عمل فيه طاقم ثابت من أعضاء حزب مباي، وشكل هذا القسم خلية حزبية، غير علنية، لكبار الضباط في الجيش. وكان من مهمات "قسم المجندين" العمل على تنظيم ضباط من الجيش لحزب مباي، وكذلك تقديم توصيات بترقية ضباط في الجيش وبتعيين ضباط في مناصبَ معينة. وخلق "قسم المجندين" جواً في صفوف ضباط الجيش يوحي بأن "الضابط الذي يريد أن يترقى في الجيش عليه أن يكون تابعاً للحزب الصحيح"(47).
أما الآلية الثانية التي أوجدها بن غوريون في إشرافه ورقابته الحزبية على قيادة الجيش، والتي لا تزال مستمرة، فتمثلت في الترتيب الرسمي القانوني الذي أجراه، وبمقتضاه تستوجب ترقية أو تعيين ضابط برتبة عقيد (ألوف مشنيه) فما فوق، موافقة وزير الدفاع. وبفضل هذا القانون تدخل بن غوريون كثيراً في خمسينات القرن الماضي ومنع ترقية الضباط الذين لم يكونوا مؤيدين لحزب مباي أو أعضاء فيه. وقد حرص بن غوريون، وقادة حزب مباي من بعده، على تعيين الضباط الذين يتميزون، علاوة على مهارتهم المهنية، بانتمائهم إلى حزب مباي، في المناصب المهمة والحساسة في قيادة الجيش وفي هيئة الأركان، وخاصة رئيس الأركان. ويشير يورام بيري إلى أن النشاط الحزبي لمباي في الجيش تناقض مع الشعار الذي رفعه حزب مباي والقائل إن الجيش الإسرائيلي هو جيش رسمي للدولة وخال من التدخل الحزبي. ولذلك قام حزب مباي بنشاطه هذا بسرية ومن دون إثارة ضجة. واستخلص يورام بيري أن الفصل الذي ادعاه بن غوريون لم يكن كاملاً، وأن الحدود التي رسمها بين الجيش والأحزاب السياسية لم تكن مغلقة أمام جميع الأحزاب. فهي محكمة الإغلاق أمام أحزاب، ومفتوحة أمام حزب مباي الحاكم؛ مغلقة أمام المؤسسات الرسمية التي يوجد بها تأثير لقوى لا تنتمي إلى حزب مباي، ومفتوحة أمام نخبة الحزب الحاكم(48).
ظهر إلى جانب "نموذج الشراكة" ما بين المستوى العسكري والمستوى السياسي في عملية صنع القرارات، وخاصة تلك التي تخص الأمن القومي، اتجاه ثالث بين الباحثين الإسرائيليين ركز على الجانب الثقافي العسكري للمجتمع الإسرائيلي وعلى استفحال الثقافة العسكرية فيه إلى درجة طمس وجود مجتمع مدني منفصل عن الجيش في إسرائيل. وأكد هذا الاتجاه أن التفكير العسكري للمجتمع الإسرائيلي وتبنيه قيم الجيش ورموزه كجزء أساسي من ثقافته وهويته يقود إلى هيمنة الجيش على صنع القرارات. وكان أبرز من مثل هذا الاتجاه عالم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس باروخ كيمرلينغ(49)، والباحث أوري بن اليعيزر (50).
نموذج "الشبكة الأمنية"
عالج الباحثان أورن براك وغابي شيفر موضوع العلاقة بين المستوى العسكري والمستوى المدني -السياسي في إسرائيل، وطورا اتجاها نظرياً تحليلياً جديداً. وذكر الباحثان أن محاولة تطبيق نماذج غربية على العلاقات بين المستويين العسكري والسياسي، لا تلائم الواقع الإسرائيلي، لأن فصل مجال الأمن في إسرائيل عن مجالات السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة غير واضح. ونفى الباحثان وجود مؤسستين، عسكرية ومدنية - سياسية، منفصل بعضهما عن البعض، وأكدا وجود "شبكة أمنية" غير رسمية ذات قوة كبيرة وتأثير حاسم في السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، وفي القرارات المهمة في إسرائيل. ويرتبط أعضاء هذه "الشبكة الأمنية" الواحد بالآخر بصلات غير رسمية، ويتبنون قيماً ومبادىء مشتركة في شؤون الأمن القومي وفي الطرق الأجدى لخدمته، ولهم مصالح شخصية متماثلة أو متشابهة، ويتعاون بعضهم مع بعض للتأثير في السياسة في مستوياتها المختلفة(51).
ينتمي نوعان من الأعضاء غير الرسميين إلى "الشبكة الأمنية". يضم النوع الأول أشخاصاً بارزين من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وهذا يشمل الجيش الإسرائيلي وأجهزة المخابرات المختلفة وفي مقدمتها جهاز الموساد، وجهاز المخابرات العامة (الشاباك)، وجهاز المخابرات (نتيف)، وشرطة إسرائيل، وحرس الحدود، والصناعة العسكرية، والصناعة الجوية، وسلطة تطوير وسائل القتال، ووكالة الطاقة النووية، ومعهد البحث البيولوجي، والمسؤول عن الأمن في وزارة الدفاع. أما النوع الثاني في "الشبكة الأمنية" فهم أشخاص لهم تأثير في المجالات المدنية المتعددة وخاصة في المجال السياسي. ومنذ أن أصاب الضعف الأحزاب السياسية ونقابة العمال العامة (الهستدروت) وحركة الكيبوتسات والموشفات، في أواخر السبعينات من القرن المنصرم، أخذت هذه الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية تولي أهمية لتحقيق أهداف محدودة مثل تخصيص ميزانيات لقطاعات اجتماعية معينة، وتوزيع وظائف على أعضائها وأنصارها. في حين اهتمت الشبكة الأمنية بصنع القرارات السياسية في القضايا المهمة والمركزية، خاصة في موضوع الأمن القومي في إسرائيل(52).
ويؤكد الباحثان أن "الشبكة الأمنية" تؤثر تأثيراً كبيراً في المجالات الأساسية التالية:
أولاً-المجال السياسي: احتكر رجال الأمن منذ العام 1967، وفي إثر انتصار إسرائيل في حرب تلك السنة، السيطرة على موضوع الأمن القومي - في تعريفه وتحديد الأولويات المرتبطة به، وفي توفير موارده وفي جميع القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة بالأمن القومي، بشكل مباشر وغير مباشر. فقد دخل رجال الأمن إلى المجال السياسي والبيروقراطي، وأقاموا علاقات متينة بلاعبين أساسيين على مستوى الحكومة والحكم المحلي.
ثانيا- المجال الاقتصادي: تمتلك المؤسسة الأمنية الإسرائيلية صناعات كبيرة ومتطورة، تحتل جزءاً مهماً من الاقتصاد الإسرائيلي. ويشغل كثير من رجال الأمن السابقين مناصب المديرين والمناصب الأخرى العليا في كثير من الشركات الاقتصادية مثل تلك التابعة للمؤسسة الأمنية أو شركات القطاع العام أو الشركات الخاصة. وعلاوة على ذلك، لم يرتبط تطور الصناعات الدقيقة (الهاي تك) في إسرائيل بتطور الصناعات العسكرية فحسب، بل أنشأ رجال أمن سابقون جزءاً مهماً من الصناعات الدقيقة. فقد أقام، مثلاً، رجال أمن عملوا في السابق في جهاز المخابرات العسكرية، وخاصة في المجالات التي تتطلب خبرة تقنية عالية، ورجال أمن عملوا في سلاح الجو في عقد التسعينيات الماضي، أكثر من 50 شركة في مجال "الهاي تك". وبلغت قيمة 15 شركة منها عشرة مليارات دولار(53).


"تهيمن الشبكة الأمنية على الثقافة والإعلام. فعلاوة على الرقابة العسكرية المفروضة على المعلومات المتعلقة بالأمن القومي منذ قيام إسرائيل وحتى اليوم، تمارس وسائل الإعلام رقابة ذاتية بسبب هيمنة الشبكة الأمنية عليها، ولاعتماد وسائل الإعلام على المؤسسة الأمنية في حصولها على المعلومات."


ثالثا- مجال الثقافة والإعلام: تهيمن الشبكة الأمنية على الثقافة والإعلام. فعلاوة على الرقابة العسكرية المفروضة على المعلومات المتعلقة بالأمن القومي منذ قيام إسرائيل وحتى اليوم، تمارس وسائل الإعلام رقابة ذاتية بسبب هيمنة الشبكة الأمنية عليها، ولاعتماد وسائل الإعلام على المؤسسة الأمنية في حصولها على المعلومات. فمراسلو وسائل الإعلام المختلفة يحصلون على معلوماتهم من المؤسسة الأمنية، ويعكسون في معظم الأحيان وجهة نظرها ويتصرفون كأنهم ناطقون باسمها.
رابعا- التربية والتعليم والأبحاث: يرأس العديد من مؤسسات التربية والتعليم رجال أمن سابقون، ويجري الربط بين مستوى التعليم والأمن القومي. وازدادت المؤسسات والمعاهد في الجامعات الإسرائيلية التي يرأسها ويعمل فيها رجال أمن سابقون مثل "معهد الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، و"المعهد الدولي ضد الإرهاب" في "المركز المتعدد المجالات" في مدينة هرتسليا، و"مركز بيغن-سادات" في جامعة بار إيلان. وتعقد هذه المراكز والمعاهد التي يديرها ويعمل فيها رجال أمن سابقون، ندوات وأياما دراسية وتصدر أبحاثاً لا تتقيد بالمعايير الأكاديمية المتبعة. علاوة على ذلك، تبادر المؤسسة الأمنية إلى تمويل أبحاث كثيرة في المجالات الاستراتيجية وعلم النفس والتربية ومواضيع أخرى (54).
عوامل تأثير المؤسسة العسكرية في قرارات الأمن القومي
ينبع التأثير الحاسم للمؤسسة العسكرية في عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي من مجموعة عوامل مهمة هي:
أولاً: المشاركة في الاجتماعات
تشارك المؤسسة العسكرية مشاركة فاعلة في نوعين من اجتماعات عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي. النوع الأول هو الاجتماعات المؤسسية الرسمية مثل اجتماعات الحكومة ولجنة الوزراء لشؤون الأمن. أما النوع الثاني فهو الاجتماعات غير الرسمية التي تعتبر في معظم الأحيان الأهم في عملية صنع القرارات، ويطلق عليها "مطبخ" صنع القرارات. وسنتطرق في البداية إلى مشاركة المؤسسة العسكرية في الاجتماعات الرسمية ثم في الاجتماعات غير الرسمية.
1 - المشاركة في اجتماعات الحكومة
يحضر رئيس الأركان منذ العام 1967 اجتماعات الحكومة بانتظام، أكانت تعالج قضايا أمنية أو غير أمنية. وإلى جانب رئيس الأركان، يشارك في اجتماعات الحكومة التي تتطرق إلى الأمن، وفي اجتماعات لجنة الوزراء لشؤون الأمن، عدد من جنرالات الجيش الإسرائيلي مثل قادة المناطق وقائد سلاح الجو ورئيس جهاز المخابرات العسكرية (أمان) ورئيسي الموساد والشاباك. ولا يقدم رئيس الأركان وجنرالات الجيش موقفهم المهني ويخرجون من الاجتماع ليمكنوا المؤسسة المدنية، أي الحكومة، من اتخاذ قراراتها، بل يبقون ويشاركون في النقاش إلى نهاية جلسة الحكومة التي تتخذ القرارات وتجري تصويتا عليها بحضورهم. وهناك شبه إجماع بين جميع من تطرق إلى هذا الموضوع على التأثير الحاسم لموقف رئيس الأركان وجنرالاته في القرارات التي تتخذها الحكومة. ويصف الوزير دان مريدور هذا التأثير في عملية صنع القرارات كالتالي: "عندما تشارك جماعة مؤلفة من نصف دستة من الجنرالات في اجتماعات الحكومة، فإنهم يأتون ومعهم مواد أعدتها لهم هيئاتهم سلفاً، ويطرحون رأياً موحداً ويعللونه بنبرة سلطوية لا ينتابها الشك. ويصغي الوزراء لهم من دون أن تكون للوزراء الأدوات لتحليل مواقف الجنرالات، أو اقتراح سياسات بديلة. ولا يشارك ممثلو مؤسسات مدنية إطلاقا في اجتماعات مجلس الوزراء. وهكذا، لا توجد للوزراء أي مقدرة لفحص ما عرض عليهم بصورة نقدية(55).
ويصف عوفر شيلح مدى تأثير موقف رئيس الأركان وجنرالات الجيش في الوزراء في اجتماع الحكومة كالتالي: "يصل رئيس الأركان وقائد المنطقة ذو الصلة، أو قائدا منطقتين ورئيس المخابرات العسكرية ورئيس قسم الأبحاث في المخابرات العسكرية وقائد سلاح الجو. يتحدث كل واحد منهم ربع ساعة...لا توجد للوزراء معلومات بديلة ولا هيئة تجمع المعطيات وتدرسها". ثم يتساءل عوفر شيلح: "ماذا يكون في وسع الوزراء فعله باستثناء رفع اليد؟ الوزير السابق سويسه قال: الأفضل ألانعرف"(56).
يستعرض يهودا بن مئير نمط تصرف الحكومة الإسرائيلية ولجنة الوزراء لشؤون الأمن في القرارات التي تخص الأمن القومي في ردة فعلها على عملية عسكرية ضد إسرائيل، سواء جرت في داخلها أو في خارجها أو على الحدود، فيشير إلى أن هيئة الأركان العامة للجيش أو رئيس الأركان يقرران، قبل اجتماع الحكومة، الرد الذي يعتزم الجيش القيام به. وبعد أن يحصل رئيس الأركان على موافقة وزير الدفاع ورئيس الحكومة، يعرض رئيس الأركان خطة العملية على مجلس الوزراء. ويضيف بن مئير: في حقيقة الأمر لا يوجد بديل عملي أمام الحكومة من قرار الجيش وخطته. ويستطرد بسخرية متألمة: "لكون الجيش الإسرائيلي جيشاً عصرياً ومنظماً، فإنه لا يعرض أبداً على الحكومة خياراً واحداً فقط، فهذا أمر غير مقبول. بل إن رئيس الأركان أو ممثله، يعرض على مجلس الوزراء ثلاثة بدائل بشكل منظم ومقنع. الأول، عدم القيام بأي عمل، أي عدم الرد. الثاني، العملية التي يريدها الجيش. الثالث، القيام بعملية عسكرية كبيرة وواسعة غير معقولة إطلاقا في الأوضاع القائمة، والتي لم تفكر فيها هيئة الأركان بجدية. في بعض الأحيان يكون عرض رئيس الأركان قد أعدته إحدى الهيئات، فيأتي مؤثراً، إذ يظهر جميع العيوب في البديلين الأولى والثالث (وفي بعض الأحيان بعض الإيجابيات)، وجميع إيجابيات البديل الثاني. ويخيل للوزراء،ربما، أنهم اختاروا اقتراحاً من بين بدائل حقيقية. ولكن كما ذكر، كان أمامهم بديل واحد ووحيد فقط". ويضيف يهودا بن مئير: في الواقع توجد دوما بدائل حقيقية مفيدة ومؤثرة، بما في ذلك ردة فعل غير عسكرية، ولكن لا يوجد أي طرف يعرض هذه البدائل الحقيقية على الحكومة(57).
2 - المشاركة غير الرسمية في عملية صنع القرارات
هناك مرحلتان أساسيتان عادة في عملية صنع القرارات. في المرحلة الأولى يتم رسم الخطوط الأساسية وبلورتها وصنع القرارات. أما في المرحلة الثانية فتجري فيها الموافقة الرسمية على هذه القرارات. وعادة في المرحلة الأولى تضع أجسام (هيئات) غير رسمية (مطبخ سياسي) السياسة والقرارات المراد اتخاذها وترسمها، ثم تبدأ المرحلة الثانية عندما توضع هذه القرارات على جدول أعمال الحكومة للموافقة عليها. ونادرا ما يحدث أن يكون الجسم الذي يضع السياسة ويرسم القرارات في ما يخص الأمن القومي هو الجسم نفسه الذي يوافق عليها. فهناك ميل شديد لدى رئيس الحكومة في النظام البرلماني ورئيس الدولة في النظام الرئاسي إلى إشراك عدد قليل جداً من الأشخاص في رسم قرارات الأمن القومي وبلورتها وصنعها. وما يميز عملية صنع القرارات في الأمن القومي، من عملية صنع قرارات في مجالات أخرى، هو السرية. ويمكن القول إنه كلما ازدادت أهمية الموضوع الذي يتخذ القرار بشأنه، يقل عدد المشاركين في صنعه. وعادة ما يعمل رئيس الحكومة على تأليف مجموعة قليلة الأشخاص، معظمهم غير أعضاء في الحكومة، للمشاركة معاً في وضع السياسة ورسمها و"طبخ" القرارات في "مطبخ" رئيس الحكومة ثم يضعها على مائدة الحكومة كي "تأكلها" وتجيزها. وفي كثير من الأحيان يعالج الباحثون عملية صنع القرارات من الناحية المؤسسية الرسمية، ولا يغوصون أو يتطرقون إلى الاجتماعات والنشاطات التي تجري قبل إجازة الحكومة تلك القرارات، فلا يبحثون عن "الصندوق الأسود" في عملية صنع القرارات، وعما يدور فيه من فاعليات، فتكون نقطة انطلاقهم عملياً نقطة النهاية في عملية صنع القرارات وليس بدايتها. لقد رأينا سابقا أن تأثير المؤسسة العسكرية في الحكومة الإسرائيلية في عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي، كبير للغاية. وعند التدقيق في عملية صنع القرارات في "مطبخ" رئيس الحكومة الإسرائيلية يظهر أن تأثير المؤسسة العسكرية فيه يفوق عادة تأثيرها في الحكومة. ولتوضيح الصورة سنعطي عدة أمثلة لمطابخ رؤساء الحكومة في إسرائيل.
أ - "مطبخ" بن غوريون
يعتبر لويس برونستاين من أوائل الذين أشاروا إلى الدور المهم للنشاطات والاجتماعات التي تجري خارج المؤسسة الرسمية في عملية صنع القرارات في إسرائيل حيث أطلق عليها "كابنت المطبخ". وأشار برونستاين إلى أن "كابنت المطبخ" يعود إلى مرحلة أول رئيس حكومة في إسرائيل دافيد بن غوريون، الذي درج على رسم الخطوط الأساسية لسياسته في الأمن القومي و بلورتها(58).
كان دافيد بن غوريون يعتقد أن الحكومة ليست المكان الملائم لوضع السياسة و رسمها في ما يتعلق بالأمن القومي، لذلك استعمل الحكومة مؤسسة للموافقة على سياسته في شأن الأمن القومي التي كان يرسمها في مطبخه. لم يكن مطبخ بن غوريون ثابتا طيلة فترة رئاسته للحكومة، ولكن يمكن الإشارة إلى النسبة الكبيرة من القيادات العسكرية التي كانت تشارك في مطبخه، كان من بينهم موشيه ديان رئيس الأركان، ورؤساء أركان آخرون، ورؤساء المخابرات العسكرية (أمان)، وإيسر هرئيل رئيس جهازي الموساد والمخابرات العامة (الشاباك)، ونحميه أرغوف سكرتيره العسكري والجنرال موشيه كرمل، علاوة على شاؤول أفيغور خبير الأمن في حزب مباي الحاكم، وشمعون بيرس الذي شغل فترة طويلة منصب المدير العام لوزارة الدفاع، ويتسحاق نافون سكرتيره السياسي(59).
استمع بن غوريون إلى آراء جنرالات الجيش وبلور سياسته في مطبخه واتخذ القرارات المهمة التي تخص الأمن القومي، ثم عرضها على الحكومة للموافقة عليها. ومن الأمثلة المعروفة على أسلوب عمله هذا، إعداده العدوان على مصر في سنة 1956. فقد اتخذ بن غوريون قرار الحرب في مطبخه، وظل هذا القرار سرياً لا تعلم به الحكومة الإسرائيلية، إلى أن استدعى الحكومة للموافقة على شن الحرب قبل بدء التعبئة العامة للجيش الإسرائيلي بساعات قليلة(60).
ب - "مطبخ" غولدا مئير
يُعتبر "مطبخ" غولدا مئير الأكثر شهرةً من بين "مطابخ" رؤساء الحكومات الإسرائيلية، وكان يجري فيه بحث مواضيع مهمة تتعلق بالأمن القومي ورسم السياسة وبلورتها تجاه هذه المواضيع قبل عرضها على "لجنة الوزراء لشؤون الأمن" والحكومة. ودرج السكرتير العسكري لغولدا مئير على تنسيق عقد هذه الاجتماعات التي كانت تجري في بيت غولدا مئير (أسبوعياً عادة وفي يوم السبت مساء). ولم توزع على المشاركين في هذه الاجتماعات مواد مكتوبة أكان ذلك قبل ذلك الاجتماع أو في أثنائه. بيد أن كبار ضباط الجيش المشاركين في هذه الاجتماعات استعانوا بالخرائط لعرض العمليات العسكرية المقترح القيام بها وشرحها. وجرت الاجتماعات في مطبخ غولدا مئير بشكل غير رسمي وبسرية تامة ومن دون خشية حدوث تسريبات، ما أدى إلى عرض القضايا المطروحة ونقاشها بانفتاح وحرية تامة من المشاركين حتى وإن كانت هناك خلافات جدية في وجهات النظر بين صفوف المؤسسة العسكرية. فمثلاً، كان رئيس جهاز المخابرات العسكرية (أمان) يطرح في المطبخ أحياناً رأيا مخالفاً لموقف رئيس الأركان، الأمر الذي لا يمكن حدوثه في اجتماع الحكومة. ولم تكن تركيبة "المطبخ" ثابتة، ولكن شاركت فيها مجموعة ثابتة من الأشخاص. فعلاوة على رئيسة الحكومة غولدا مئير شملت المجموعة الثابتة وزير الدفاع موشيه دايان ونائب رئيس الحكومة يغآل ألون والوزير يسرائيل غليلي ورئيس جهاز المخابرات العسكرية وعددا من جنرالات الجيش من بينهم قائد سلاح الجو وقادة الجبهات ورئيس جهاز المخابرات العامة (الشاباك) ووزير القضاء والمستشار السياسي لرئيس الحكومة والمدير العام لديوان رئيس الحكومة. وشارك بشكل غير منتظم في اجتماعات "المطبخ" وزير الخارجية آبا ايبن ووزير المالية بنحاس سابير.
تمتعت المؤسسة العسكرية بنفوذ واسع في رسم السياسة التي تخص الأمن القومي في "مطبخ" غولدا مئير. فقد اقترب عدد العسكريين عادة من نصف عدد المشاركين في الاجتماع وشاركوا، باعتبارهم خبراء في الأمن، أكثر من غيرهم في الحديث في الاجتماعات. أضف إلى ذلك أن الوزراء المهمين المشاركين في المطبخ (دايان وألون وغليلي) كانوا سابقا جنرالات في الجيش، وكانت ثقافتهم عسكرية ومنهج تفكيرهم عسكرياً في الأساس. ولعل الأهم من ذلك أن المؤسسة العسكرية ـ الممثلة في جنرالاتها المشاركين في هذه الاجتماعات - كانت الجسم الوحيد الذي يمتلك الهيئة التي لديها المعلومات والمعطيات والتحليلات والمقترحات التي تمكنها من معالجة القضايا المطروحة، ومنحها القدرة على التأثير في القرارات، في حين لم يكن لدى رئيسة الحكومة أو الوزراء مثل هذه الهيئة. وفي نهاية الاجتماع كانت رئيسة الحكومة غولدا مئير تلخص الاجتماع وفق روح ما اتفق عليه، وتطرح هذا التلخيص لاحقا على لجنة الوزراء لشؤون الأمن وعلى الحكومة للموافقة عليها(61).
ج - "مطبخ" يتسحاق رابين
شاركت في اجتماعات "مطبخ" يتسحاق رابين مجموعة ثابتة من الأشخاص وأخرى غير ثابتة. شملت المجموعة الثابتة إلى جانب يتسحاق رابين كلاً من وزير الخارجية يغآل ألون ووزير الدفاع شمعون بيرس ورئيس الأركان وعددا من جنرالات الجيش من بينهم رئيس المخابرات العسكرية (أمان) والسكرتير العسكري لرئيس الحكومة والمدير العام لديوان رئيس الحكومة. وكانت تعقد اجتماعات "المطبخ" أسبوعياً في مكتب رئيس الحكومة ويجري فيها بحث الموضوعات المتعلقة بالأمن القومي ورسم السياسة و بلورتها تجاه القضايا المطروحة وتشكيل إجماع حولها، ليقوم بعد ذلك رئيس الحكومة بعرض ما اتفق عليه على لجنة الوزراء لشؤون الأمن والحكومة. وفي بعض الأحيان كانت بعض القضايا المهمة والحساسة تناقش ويتم رسم سياسة معينة تجاهها واتخاذ قرارات في شأنها في "المطبخ" فقط، من غير طرحها البتة على لجنة الوزراء لشؤون الأمن أو على الحكومة. فالعلاقات المتينة التي تطورت بين إسرائيل والقيادات والميليشيات المارونية اللبنانية في تلك الفترة، وكانت تحت مسؤولية الموساد، اقتصر طرحها على المطبخ وحده، وكذلك الأمر في شأن صفقات السلاح التي كانت إسرائيل تجريها مع أطراف كثيرة في مناطق حساسة في العالم(62).
ثانياً: احتكار هيئات الجيش المعلومات وقراءة الواقع
هناك سؤال مركزي له دلالاته المهمة للغاية، ويؤثر بقوة في سياسة الأمن القومي وهو: من الذي يقرأ الواقع ويفسره؟ وما هي المؤسسة، أو المؤسسات، التي تكلفها الدولة قراءة الواقع وتفسيره؟ فهناك علاقة قوية ومترابطة بين قراءة الواقع وتفسيره وسياسة الأمن القومي. فقراءة الواقع وتفسيره بشكل معين ينتج سياسة معينة في الأمن القومي، وقراءة أخرى وتفسير آخر للواقع يؤديان إلى سياسة أخرى في الأمن القومي.
طورت المؤسسة العسكرية منذ إنشائها، هيئات في داخل الجيش تساعدها في قراءة الواقع وصنع القرارات. وقد طورت هذه الهيئات كفاءات في مجال القدرة على الإعداد والتحليل وتقديم مقترحات ومشاريع قرارات وبدائل متعددة منها. فعندما يشارك ممثلو المؤسسة العسكرية في الاجتماعات التي يتم فيها صنع القرارات، يكون في حوزتهم معطيات وتحليلات ومعلومات ومشاريع مقترحات وبدائل منها ناجمة عن عمل هيئات اعتمدت على إعداد جيد وبمنهجية منظمة، الأمر الذي يؤدي إلى تفوق اقتراحاتهم ومواقفهم ومشاريع قراراتهم على آراء الآخرين و مواقفهم إن وجدت أصلاً.
لقد احتكرت المؤسسة العسكرية في إسرائيل، منذ إنشائها وحتى اليوم، قراءة الواقع وتفسيره، ما منحها قوة كبيرة في التأثير في عملية صنع قرارات الأمن القومي. صحيح أن المؤسسة العسكرية لا تقرأ الجانب العسكري للواقع وحده، وإنما الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية أيضاً، ولكنها تقرأه وتفسره وفق منطلقاتها ومنظورها وأولوياتها ووفق فهمها هي للأمن القومي والمصلحة الوطنية؛ هذا الفهم الذي يولي أهمية للجوانب العسكرية والتفكير العسكري. و"قسم الأبحاث" في جهاز المخابرات العسكرية (أمان) ليس أهم مؤسسة في الجيش الإسرائيلي فحسب، وفي إسرائيل قاطبة، التي تقرأ الواقع وتفسره؛ إنما هو المؤسسة التي لا تزال تحتكر قراءة الواقع وتفسيره في إسرائيل، تماماً مثلما يحتكر جهاز المخابرات العسكرية (أمان) المعلومات المتعلقة بالأمن القومي. ومن الصعب أن تنافس مؤسسة أخرى في إسرائيل جهاز المخابرات العسكرية و"قسم الأبحاث" التابع له؛ فهو يتفوق عليها جميعاً بنسبة مرتفعة للغاية من حيث الميزانية وعدد الباحثين فيه ونوعيتهم والمعلومات الاستخبارية التي في حوزته وشمولية المواضيع التي يعالجها والمناطق التي يتابعها. وقد كان يعمل في " قسم الأبحاث" التابع لجهاز المخابرات العسكرية 600 شخص في العام 2003، منهم 200 باحث متفرغ، بينهم 120 باحثا متخصصا في مجالات البحث العسكري والمخابرات العسكرية، و 80 باحثا منهم تفرغوا للبحث في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، أما الباقون فيعملون في جمع المعلومات وتوثيقها وفي مجالات أخرى ترتبط بالبحث(63).
علاوة على ذلك، فإن "قسم الأبحاث" في (أمان) هو القسم الوحيد الذي يجري أبحاثا عن جميع دول الشرق الأوسط في المجالات العسكرية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، وكذلك عن علاقات هذه الدول البينية وعلاقاتها بالدول الكبرى. وينشر "قسم الأبحاث" في (أمان) مجموعة مختلفة من النشرات الداخلية لعدد محدد من متخذي القرارات في القيادتين العسكرية والسياسية، أهمها:
1- تقرير فوري عن معلومات استخبارية وصلت لتوها ولها أهمية عملانية، وتوزع المعلومات الاستخبارية كـ "مادة خام" كما وردت، مع بعض التعليقات عليها من كبار الباحثين.
2- تقرير يومي عن المستجدات مع تحليل لها.
3- تقارير خاصة في موضوعات مختلفة بين الفينة والأخرى خلال السنة.
4- التقرير السنوي، وهو الأكثر أهمية في إسرائيل ويصدر تحت عنوان "تقويم المخابرات القومي السنوي". ويعرض هذا التقرير عند صدوره على هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي والحكومة ولجنة الخارجية والأمن في الكنيست(64).
يقدم رئيس المخابرات العسكرية (أمان) تقريراً استخبارياً عسكرياً في الاجتماع الأسبوعي لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، وكذلك إلى رئيس الحكومة وإلى وزير الدفاع، وإلى لجنة الوزراء لشؤون الأمن أيضاً، وإلى الحكومة وإلى لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست. وفي بعض الأحيان يصحب رئيس جهاز المخابرات العسكرية (أمان) معه إلى الاجتماعات التي يتم فيها صنع القرارات رئيس "قسم الأبحاث" في (أمان)- ورتبته عميد- إلى اجتماعات لجنة الوزراء لشؤون الأمن وإلى اجتماعات الحكومة. ولقد مكن ذلك كله رئيس المخابرات العسكرية (أمان) من ان يكون له شأن مهم في التأثير في عملية صنع قرارات الشأن القومي.
توجد في جهازي المخابرات (الموساد والشاباك) وكذلك في وزارة الخارجية الإسرائيلية "أقسام أبحاث". وعلى الرغم من التطور الذي حصل في بعضها ظلت إمكانية منافستها لقسم الأبحاث في (أمان) ضعيفة للغاية. فقد أقيم في جهاز الموساد وحدة بحث صغيرة تختص بالأبحاث العسكرية والاستراتيجية، يعمل بها ما يربو على عشرة باحثين، كانت غالبيتهم قد عملت في السابق في "قسم الأبحاث" في المخابرات العسكرية (أمان). بيد أن وحدة البحث هذه، التي لم يزدد عدد الباحثين فيها، لا تحصل على "مواد خام" استخبارية كالتي يحصل عليها "قسم الأبحاث" في المخابرات العسكرية، الأمر الذي يضعف من إمكانية منافستها لقسم الأبحاث في المخابرات العسكرية (أمان) (65).
غداة اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في العام 1987، وفشل أجهزة المخابرات الإسرائيلية في توقع حدوثها، أقام جهاز المخابرات العامة (الشاباك) في العام 1988، قسما للأبحاث ضم ثلاثة فروع: الأول يختص بالوضع الفلسطيني السياسي، والثاني يختص بالعمل العسكري الفلسطيني، والثالث يختص بالعرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. واستقطب "قسم الأبحاث" في الشاباك الباحثين من "خريجي" قسم الأبحاث في المخابرات العسكرية (أمان) ومن الأكاديميين. ويتمحور المجال الأساسي لعمل "مركز الأبحاث" التابع لجهاز المخابرات العامة (الشاباك) في تقديم تقويم استخباري استراتيجي عن الأوضاع في الساحات الفلسطينية الثلاث المذكورة، وفي متابعة تطوراتها وتوجهاتها الأساسية وبحثها. وفي حين تقع المسؤولية في إجراء التقويم الاستخباري على المخابرات العامة (الشاباك) في الموضوع الفلسطيني، فإنه في الوقت نفسه يجري "قسم الأبحاث" التابع لجهاز المخابرات العسكرية (أمان) مثل هذا التقويم(66).
بعد إنشاء وزارة الخارجية الإسرائيلية أقيم فيها "مركز الأبحاث السياسية". بيد أن هذا المركز لم يحتل أهمية مقارنة بمراكز الأبحاث في أجهزة المخابرات، لا من حيث إنتاجه ولا من حيث تأثيره في عملية صنع القرارات في إسرائيل، وذلك لدونية وزارة الخارجية في عملية صنع القرارات مقارنة بالمؤسسة العسكرية والأمنية(67).
خلاصة القول، في حين طورت المؤسسة العسكرية هيئات تساعدها في عملية صنع القرارات في الأمن القومي، من حيث تزويدها بالمعلومات وبالتحليل وبتقديم المقترحات ومشاريع القرارات، لا توجد للحكومة حتى الآن هيئة لصيقة بها تُعد بشكل دائم المواد الأساسية لعملية صنع القرارات، وترافق عن كثب احتياجات رئيس الحكومة والحكومة للمعطيات والمعلومات والتحليلات والمقترحات ومشاريع القرارات. ويشكل "مجلس الأمن القومي" الذي أُنشئ في العام 1999،هيئة تابعة لرئيس الحكومة في قضايا محددة، ولا يقوم هذا المجلس بعمل منهجي ومنظم، ولا بإعداد المواد والموضوعات المتعلقة بالأمن القومي ودراستها وتحليلها، والتي تبحث في الحكومة ولجنة الوزراء لشؤون الأمن(68).
ثالثاً: جنرالات الجيش والمناصب السياسية العليا
تنفرد إسرائيل عن غيرها من دول العالم بالانتقال السهل الذي يجري بوتيرة مرتفعة من المستوى العسكري إلى المستوى السياسي. فقد باتت المؤسسة العسكرية الحاضنة الأساسية لتنشئة القيادات السياسية التي تتبوّأ المناصب السياسية العليا والأهم في إسرائيل، بما في ذلك رئاسة الحكومة والوزراء وقيادات الأحزاب السياسية وعضوية الكنيست. فقد تولى في العقدين الأخيرين ثلاثة جنرالات سابقين رئاسة الحكومة هم يتسحاق رابين وإيهود براك وأريئيل شارون، مقابل ثلاثة "مدنيين" آخرين شغلوا رئاسة الحكومة في هذه الفترة، هم شمعون بيرس وإيهود اولمرت وبنيامين نتنياهو. وتولى بيرس رئاسة الحكومة بـ "الوراثة" نصف عام فقط بعد مصرع رابين في تشرين الثاني/نوفمبر 1995. وفي العقود الخمسة الأخيرة شغل أكثر من 60 جنرال (ألوف) منصب وزير ونائب وزير في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وأكثر من 100 جنرال عضوية الكنيست، وجنرالان رئاسة الدولة. وهذه المعطيات تقتصر على رتبة "جنرال" ولا تشمل رتب "عميد"(تات ألوف) فما دون (69).
عند بحث تأثير المؤسسة العسكرية في عملية صنع القرارات، يطرح السؤال التالي: أين يمر الخط الفاصل بين المستوى العسكري والمستوى السياسي؟ وهل يمكن فعلاً تحديد من هو العسكري ومن هو السياسي؟ على السطح، ومن الناحية الرسمية، الإجابة بسيطة للغاية. فمن يجلس في الحكومة وفي الكنيست يعتبر من المستوى السياسي، ومن يجلس في هيئة الأركان ومن يتبوأ رتبة رفيعة في الجيش يعتبر في المستوى العسكري. وفعلاً، يتعامل معظم الباحثين الإسرائيليين مع هذا الموضوع وفق هذا المعيار. ولكن في العمق الأمر مختلف تماماً. فنظرة عميقة تظهر أن هناك تداخلا كبيرا جداً بين المستويين. والتداخل هذا ليس متبادلاً وبالتالي ليس متوازناً. فالتداخل يأتي من اتجاه واحد فقط، من المستوى العسكري إلى المستوى السياسي. أي أن كثيراً من أفراد القيادة السياسية ومن المستوى السياسي هم جنرالات وكبار ضباط سابقون. وكثير من الجنرالات وكبار الضباط في الجيش اليوم هم سياسيو المستقبل وقادته. لذلك، كما يقول يوسي سريد، "عندنا، ما ان يخلع هذا بزته العسكرية حتى يبدأ في ارتداء بدلته المدنية، فحتى الأمس كان ضابطا رفيعاً، رئيس أركان أو جنرالا، وأصبح اليوم وزيرا رفيعاً أو رئيساً للوزراء. لذلك ليس واضحاً أحياناً، من هو هذا ومن هو ذاك؛ فمن حيث العقلية والتأهيل والرؤية والنظرة إلى المشاكل القومية، فإنهم يأتون جميعاً من المدرسة نفسها ومن التجارب نفسها المكونة والمؤسسة لشخصيتهم. ونتيجة لذلك تشبه الحكومة هيئة الأركان وهيئة الأركان تشبه الحكومة"(70). ففي إمكان الضابط أو الجنرال أن يترك الجيش بعد عشرات السنين من الخدمة فيه، ولكن الجيش والتفكير العسكري والعقلية العسكرية والرؤيا العسكرية وعلاقاته العسكرية تبقى في داخله لا تتركه، وتظل المؤثر الأساسي الحاسم في قراراته في ما يخص الأمن القومي. فمنهج تفكيره العسكري تأسس ومفاهيمه تبلورت وشخصيته صقلت في أثناء عقود خدمته في الجيش.
رابعاً: دبلوماسية البزة العسكرية
احتلت المؤسسة العسكرية مكانة مهمة للغاية في جميع المفاوضات التي جرت بين إسرائيل والدول العربية منذ العام 1948 وحتى اليوم. فقد شارك كبار ضباط الجيش الإسرائيلي في المفاوضات والاتصالات التي جرت بين إسرائيل والدول العربية في العامين 1948و 1949. وشارك كبار ضباط الجيش الإسرائيلي بصورة فاعلة، في مفاوضات اتفاقات الهدنة بين إسرائيل وكل من مصر ولبنان والأردن وسورية في العام 1949، وكان أبرزهم موشيه ديان ويغآل ألون ويتسحاق رابين ويهوشفاط هاركابي ومردخاي ماكلف وآخرون، وأثروا تأثيراً كبيراً في الاتفاقات وفي تحديد حدود إسرائيل وفق اتفاقات الهدنة. وكذلك شارك كبار ضباط الجيش الإسرائيلي في لجان الهدنة- وكانوا الطرف المهيمن في الجانب الإسرائيلي - مع الدول العربية التي استمرت في عملها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وشارك أيضاً كبار ضباط الجيش الإسرائيلي في محادثات "الكيلو 101" بين إسرائيل ومصر بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 وفي مفاوضات "كامب ديفيد" بين البلدين، وفي المفاوضات المتشعبة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في العقدين الماضيين، وفي المفاوضات الإسرائيلية - السورية، والإسرائيلية - الأردنية. وفي كثير من الأحيان اقتصر تمثيل إسرائيل في هذه المفاوضات على جنرالات الجيش الإسرائيلي. وكان لموقف الجيش الإسرائيلي في هذه المفاوضات تأثير كبير في نتائجها، إذ ان المؤسسة العسكرية هي التي كانت تحدد بصورة عامة ما هي المصالح الأمنية الإسرائيلية بناء على قراءتها هي للواقع (71).
خامساً: تأثير العقيدة العسكرية في القرار السياسي


" تؤثر عقيدة الجيش الإسرائيلي الهجومية في القرار السياسي الإسرائيلي؛ فالعقيدة العسكرية تفترض أن على إسرائيل القيام بالضربة الاستباقية ونقل المعركة إلى "أرض العدو"، ما يؤثر بشكل واضح في القرارات السياسية، أكان ذلك في بدء الحرب أو في أثناء سير الحرب و تطورها."

تؤثر عقيدة الجيش الإسرائيلي الهجومية في القرار السياسي الإسرائيلي؛ فالعقيدة العسكرية تفترض أن على إسرائيل القيام بالضربة الاستباقية ونقل المعركة إلى "أرض العدو"، ما يؤثر بشكل واضح في القرارات السياسية، أكان ذلك في بدء الحرب أو في أثناء سير الحرب و تطورها.
سادساً: أهداف الحرب و احتلال مناطق أكثر مما
لا يقرر الجيش الإسرائيلي المجرَياتِ العسكرية للحرب فحسب وإنما يتدخل، في معظم الأحيان، في تحديد أهداف الحرب ونتائجها أيضاً. فحكومات إسرائيل لا تحدد عادة أهداف الحرب بشكل واضح، إذ تقوم في أغلب الأحيان بصوغ أهداف الحرب بالصورة السلبية، أي بتحديد أن هدف الحرب هو "إحباط مخططات العدو". وهذا يُفسح في المجال للجيش كي يحدد بنفسه أهداف الحرب ونتائجها المتعلقة بالمساحة الجغرافية التي يحتلها(72). وعلاوة على ذلك، يتمسك الجيش الإسرائيلي في عملياته العسكرية في أثناء الحرب بالهدف، بدلاً من التمسك بالخطط الموضوعة التي أقرتها القيادة السياسية وفق التطورات على الأرض. وكثيرا ما تنتهي الحروب والعمليات العسكرية الإسرائيلية باحتلال أراضٍ أكثر مما أقرت الحكومة الإسرائيلية ومن دون موافقتها أو علمها. فمثلا احتل الجيش الإسرائيلي بقيادة يغآل ألون في حرب 1948 أم الرشراش (إيلات) من دون بحث ذلك في الحكومة ومن دون موافقتها(73). وفي حرب حزيران/ يونيو 1967 وصل الجيش الإسرائيلي إلى قناة السويس خلافا لقرار واضح من الحكومة الإسرائيلية بالتوقف عند خط مضيقي المتلا والجدي على بعد 30 -40 كم من قناة السويس، وعدم الوصول إطلاقاً إلى قناة السويس(74). وفي العام 1978 قام الجيش الإسرائيلي بعملية عسكرية ضد منظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان، عرفت بعملية الليطاني. أما العملية التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية فكانت عملية محدودة هدفها ضرب الفلسطينيين واحتلال عدد قليل من القرى اللبنانية المحاذية للحدود الإسرائيلية، ولكن هذه العملية العسكرية "تدحرجت" واحتل الجيش الإسرائيلي معظم جنوب لبنان ووصل إلى نهر الليطاني، من دون أن تبحث الحكومة الإسرائيلية أو لجنة الوزراء لشؤون الأمن ذلك(75). ثم أن رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحم بيغن وعلى الرغم من تصريحه في بداية الحرب الإسرائيلية على لبنان ضد منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1982، بأن هدف الحرب هو إبعاد مقاتلي م. ت. ف، أربعين كيلو مترا عن حدود إسرائيل، وأن حكومته ستتابع عن كثب مجريات الحرب ولن تسمح بتدحرجها كما حدث في حروب سابقة، إلا أن قيادة الجيش "دحرجت" هذه الحرب مرة ثانية واحتلت أكثر من نصف لبنان وقطعت الطريق بين بيروت ودمشق وحاصرت بيروت من دون أن يبحث ذلك في الحكومة(76).
سابعاً: الحكم العسكري في المناطق المحتلة
فرضت إسرائيل حكما عسكرياً مباشراً على مناطق العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر منذ قيامها وحتى العام 1966، وبعد حرب 1967 فرضته على المناطق الفلسطينية والعربية المحتلة. وفي كلتا الحالتين كان الجيش الإسرائيلي السلطة الحاكمة الوحيدة وفق القوانين والأوامر العسكرية للجيش الإسرائيلي. وعلاوة على دوره العسكري، أدار الجيش الإسرائيلي جميع نواحي حياة الفلسطينيين وتدخل فيها، وما انفكّ الجيش الإسرائيلي يرسم السياسة وينفذها تجاه الفلسطينيين في المناطق المحتلة في العام 1967، ويساهم مساهمة أساسية في رسم السياسة الإسرائيلية تجاه مستقبلهم.
ثامناً: التأثير في قرارات المحكمة العليا في قضايا الأمن القومي
يؤثر الجيش الإسرائيلي تأثيراً كبيرا للغاية في قرارات محكمة العدل العليا الإسرائيلية في القضايا المتعلقة بالأمن القومي. فمحكمة العدل العليا تستمع إلى شهادة الجيش وموقفه من القضايا المتعلقة بالأمن القومي الإسرائيلي. وتؤثر "الاعتبارات الأمنية" التي يقدمها جنرالات الجيش الإسرائيلي وقادته إلى المحكمة تأثيراً حاسماً في قرارات محكمة العدل العليا، التي يترتب عليها نتائج سياسية واضحة مثل قرارات محكمة العدل العليا في شأن جدار الفصل وسياسة قتل المطلوبين الفلسطينيين وسياسة الحواجز...إلخ(77).
تاسعاً: التأثير في الرأي العام ووسائل الإعلام
يتمتع الجيش الإسرائيلي بتأثير كبير للغاية في الرأي العام وفي وسائل الإعلام في إسرائيل في القضايا التي تخص الأمن القومي، من خلال علاقات جنرالات الجيش وقادته بمحرري الصحف وبالمسؤولين عن وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وعبر المقابلات والحوارات التي يجريها عشرات كبار ضباط الجيش بشكل عام عن أي حدث أمني أو سياسي بشكل خاص.
عدم الانصياع لقرارات الحكومة
عندما كان بن غوريون رئيساً للحكومة انصاع قادة الجيش له ولأوامره ولسياسته في الأمن القومي. ولكن عندما استقال بن غوريون من منصبه في نهاية سنة 1953 وذهب إلى مستعمرة "سديه بوكير" في النقب وأمضى فيها أكثر من عام ونيف، وأصبح موشيه شاريت رئيساً للحكومة وبنحاس لافون وزيراً للدفاع، اختلفت مواقف قادة الجيش وممارساتهم تماماً. فقادة الجيش لم يقبلوا سياسة رئيس الحكومة شاريت ووزير الدفاع بنحاس لافون في قضايا الأمن القومي، ولم ينصاعوا لتعليماتهما وأوامرهما.وعلاوة على ذلك، قام الجيش الإسرائيلي في تلك الفترة بكثير من العمليات العسكرية، في سياق "العمليات الانتقامية" ضد مصر والأردن، من وراء ظهر وزير الدفاع ورئيس الحكومة. وفي أحيان أخرى قام الجيش بعمليات عسكرية أوسع بكثير مما أقرته الحكومة أو رئيس الحكومة. وفي تلك الفترة أيضاً قامت المخابرات العسكرية الإسرائيلية بعمليات تخريبية في مصر في تموز/يوليو ضد أهداف مدنية مصرية ومؤسسات أجنبية، عُرفت باسم "العمل المشين"، أو "مشكلة لافون"، من دون علم وزير الدفاع ورئيس الحكومة(78). وسواء كانت هذه "العمليات الانتقامية" والعمليات التخريبية في مصر بوحي من بن غوريون في أثناء فترة استقالته، أو بمبادرة المؤسسة العسكرية فحسب، فإنها أوضحت أن المؤسسة العسكرية عندما فشلت في إقناع الحكومة الإسرائيلية بتبني سياسة الجيش ومقترحاته وقراراته، تمسكت هذه المؤسسة بسياستها وبموقفها ونفذت عملياتها من خلف ظهر الحكومة وعلى النقيض من سياستها من دون أن تتجرأ الحكومة على مجرد التفكير في اتخاذ أي إجراء ضد المسؤولين عن تلك العمليات. وعندما عاد بن غوريون إلى منصب وزير الدفاع في شباط/ فبراير 1955 وإلى رئاسة الحكومة في نهاية العام نفسه، عاد الانسجام بين الجيش والحكومة، وانصاع لأوامر وزير الدفاع ورئيس الحكومة وتعليماتهما. ولكن سرعان ما انتهت هذه الحال مع استقالة بن غوريون الثانية والنهائية في العام 1963. ويؤكد الدكتور عمانوئيل فالد الذي شغل منصب رئيس قسم التخطيط العسكري بعيد المدى للجيش الإسرائيلي في هيئة الأركان العامة أن بن غوريون كان "رئيس الحكومة ووزير الدفاع الوحيد الذي تمكن من السيطرة على الجيش"، في حين أن الضعف السياسي للذين خلفوه في قيادة إسرائيل سمح بتعاظم قوة الجيش "ما أدى إلى انقلاب السحر على الساحر، وإلى خلق هرم مقلوب- المستوى العسكري يسيطر على المستوى المدني"(79).
ففي عشية حرب حزيران/يونيو 1967، أرغمت قيادة الجيش رئيس الحكومة ليفي إشكول "المدني" على التخلي عن منصب وزير الدفاع لمصلحة أحد أبرز جنرالاتها موشيه ديان الذي أصدر الأمر بعد عدة أيام فقط من تبوئه منصبه باحتلال هضبة الجولان السورية من دون علم رئيس الحكومة.
ومنذ عام 1967 تضاعف نفوذ الجيش الإسرائيلي من خلال رئيس أركانه أساساً. ففي عملية الليطاني سنة 1978 وحرب لبنان الأولى في سنة 1982 والانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية أملى الجيش الإسرائيلي، ليس تكتيكاته العسكرية وحدها، على الحكومة، وإنما بادر إلى تصعيد المواجهة وجر الحكومة خلفه للالتحاق به وتبني سياسته أيضاً(80).
الخلاصة
إن عملية صنع القرارات في إسرائيل التي تخص الأمن القومي وتأثير المؤسسة العسكرية فيها، عملية مركبة يتفاعل ويتداخل فيها كثير من العوامل، بعضها رسمي، علني أو غير علني، وبعضها الآخر غير رسمي وغير علني. والغالبية العظمى من الباحثين والمختصين الإسرائيليين ما عادوا يقبلون "النموذج الوظيفي" لفهم العلاقة بين المستويين العسكري والمدني في إسرائيل. والعلاقة بين المستويين العسكري والمدني وتأثير المستوى العسكري في عملية صنع القرار، أكثر تركيباً وتعقيداً من أن يقوم نموذج واحد من النماذج التي عرضها علماء السياسة وعلماء الاجتماع الإسرائيليون بالوقوف على كنهها وشرحها. ولكن لعل نموذج "الشبكة الأمنية" أكثر قدرة من غيره على فهمها وشرحها.
منذ تأسيس إسرائيل أخرج دافيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل الذي رسم نظرية الأمن الإسرائيلية وبلورها، مجال الأمن عن النظام الحزبي الإسرائيلي وعن قيمه وعن قوانين اللعبة فيه، التي تتم فيها المساومات والحلول الوسط، وحسم اتخاذ القرارات بالأغلبية. فقد أبعد بن غوريون قضايا الأمن القومي عن أيدي السياسيين ومنح الصلاحية له ولقيادة الجيش التي كانت، بطبيعة الحال، وأيضاً بفضل الإجراءات القانونية والإدارية التي اتّخذها بصفته وزيراً للدفاع، مقربة منه ومحسوبة عليه وعلى حزبه بشكل عام. وبقيامه بذلك أبعد بن غوريون مجال الأمن القومي عن السياسيين، لكنه في الوقت نفسه فتح الباب لقادة الجيش ليس للمساهمة مساهمة أساسية ومهمة في رسم سياسة الأمن القومي فحسب، وإنما للتدخل في السياسة أيضاً، لأنه لا يمكن فصل الأمن القومي وقضاياه عن سياقها السياسي.
حرص بن غوريون طيلة رئاسته للحكومة على عدم بحث قضايا الأمن المهمة في الحكومة وفي لجنة الوزراء لشؤون الأمن. وعوضاً عن ذلك رسم بن غوريون سياسة الأمن القومي مع قادة الجيش الإسرائيلي في الاجتماعات غير الرسمية التي كان يعقدها في "مطبخه" مع العديد من جنرالات جيشه. وبعد بلورة القرارات المتعلقة في الأمن القومي في "مطبخه"، كان يعرضها على الحكومة للموافقة عليها. ومنذ العام 1967 تعاظم دور الجيش الإسرائيلي في عملية صنع القرارات التي تخص الأمن القومي عاماً بعد آخر. فالمجتمع الإسرائيلي الذي يحتل فيه الأمن الأهمية القصوى والذي يقدس القوة العسكرية ويسجد لها ويعتبر الجيش الإسرائيلي المعبر عنها وحامي الوجود الإسرائيلي، منح الشرعية لـ "خبراء الأمن "، أو إلى "خبراء العنف" بلغة هارولد لاسويل، لرسم سياسة الأمن القومي ووضعها واتّخاذ القرارات في شأنها. وفي هذا السياق، بات من الطبيعي أن تتقبل النخب السياسية المدنية التي لا تنتمي إلى "خبراء الأمن"، بمحض إرادتها، أمر تحييدها عن صنع القرارات في القضايا التي تخص الأمن القومي.
في مقابل تضاؤل دور الأحزاب السياسية وانخفاض قوة الأحزاب الكبيرة وتحولها إلى أحزاب متوسّطة أو صغيرة، وكثرة الانقسامات والانشطارات فيها وانخفاض قيمتها ومكانتها، وتوجهها نحو تحقيق مكاسب لقطاعاتها في العقدين الأخيرين؛ عزز الجيش الإسرائيلي مكانته في المجتمع ودوره الحاسم في صنع القرارات التي تخص الأمن القومي. وساهمت مجموعة من العوامل في ذلك، أبرزها: مشاركة قادة الجيش الفاعلة في الاجتماعات التي تصنع فيها القرارات، واحتكار الجيش المعلومات والهيئات التي تقرأ الواقع وتفسره والتقويم القومي أيضاً، وشغل جنرالات الجيش وكبار ضباطه المناصب العليا في الحكومة والكنيست والحكم المحلي والقطاع العام والشركات الاقتصادية، كذلك فرض الحكم العسكري المباشر على المناطق الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 ومشاركة كبار ضباط الجيش في المفاوضات مع الأطراف العربية المختلفة ودوره المهم في صوغ الرأي العام وتأثيره في شؤون الأمن القومي.
------------------------------

  • (1) "National Security", in : International Encyclopedia of the Social Sciences, Vol,11,Macmillan,1968.
  • (2) Walter Lippmann, U.S. Foreign Policy: Shield of the Republic,( Boston: Little, 1943 ), P. 5
  • (3) يسرائيل طال، الأمن القومي: قلة مقابل كثرة، (بيطحون ليئومي:معطيم مول ربيم)، (تل ابيب: دفير، 1996)، ص. 15.
  • (4) يهوشفاط هاركابي، حرب واستراتيجية، (ملحماه فاستراتيجيه)، (تل أبيب: وزارة الدفاع، 1990)، ص. 529 - 536.
  • (5) بنيامين أكتسن ويحزقيئل درور، التخطيط القومي في إسرائيل، (تخنون ليئومي بيسرائيل)،( تل أبيب: المدرسة للإدارة، 1966).
  • (6) Zvi Lanir, Israeli Security Planning in the 1980,s ( New York: Praeger, 1984 ), p. v.
  • (7) ـ يهودا بن مئير، "صنع القرارات في قضايا الأمن" (كبلات هحلطوت بسوجيوت هبيحطون هليئومي), تل أبيب: مركزيافا للدراسات الإستراتيجية، 1987، ص 12.
  • (8) كتاب القوانين 540، (سيفر هحوقيم 540)، 1968، ص. 226.
  • (9) كتاب القوانين 1026، (سيفر هحوقيم 1026 )، 1981، ص.280.
  • (10) المصدر نفسه.
  • (11) Michael Breacher, the Foreign Policy System of Israel,) London: Oxford University Press, 1972(, p. 213.
  • (12) يهودا بن مئير، صنع القرارات...، مصدر سبق ذكره، ص. 121.
  • (13) أفيعيزر يعري، "الرقابة المدنية على الجيش في إسرائيل" (هبيقواح هائزرحي عال هتسفا بيسرائيل)، (تل أبيب: مركز يافا للدراسات الإستراتيجية، 2004)، ص 23.
  • (14) يهودا بن مئير، "صنع القرارات..."، مصدر سبق ذكره، ص 123.
  • (15) المصدر نفسه.
  • (16) المصدر نفسه، ص. 121.
  • (17) أفيعيزر يعري، إلى من يقدم المجلس الإستشارة، (لمي ميعيتست هموعتساه)،( تل أبيب: مركز يافه للدراسات،2006) ص. 22.
  • (18) آشر أريان، السياسة والنظام في إسرائيل، (بوليطيقا فيمشطار بيسرائيل)، (تل أبيب: زموراه، بيتان ،1985)، ص. 265.
  • (19) دان هوروفيتس وموشيه ليساك، ضيق في الأوتوبيا، (متسوقوت بأوتوبيا)، (تل أبيب: عام عوفيد، 1990)، ص. 256.
  • (20) Yoram Peri, Between Battles and Ballots,) Cambridge: Cambridge University Press, 1983(, PP. 249 - 251.
  • (21) موشيه ديان، معالم في الطريق: سيرة ذاتية، (أفني ديرخ: اوتوبيوغرافيه)، (القدس: عيدنيم، 1976)، ص.422 - 423. أنظر كذلك الى أفيعيزر يعري، الرقابة المدنية على الجيش... مصدر سبق ذكره، ص. 16.
  • (22) يورام بيري، "أنماط العلاقة بين جيش الدفاع الإسرائيلي والنظام السياسي في إسرائيل"، في: أهرون يريف، (محرر) ، حرب إختيارية، (ملحيمت بريراه)، (تل أبيب: مركز يافه للدراسات الإستراتيجية، 1985)، ص. 43.
  • (23) أفيعيزر يعري، الرقابة المدنية على الجيش في إسرائيل... مصدر سبق ذكره، ص.17
  • (24) كتاب القوانين 806، 1976، ص. 126.
  • (25) شموئيل ايفن وتسفيه غروس، إقتراح لقانون جيش الدفاع الإسرائيلي، (هتسعاه لحوق تساهل)، (تل أبيب: المعهد لأبحاث الأمن القومي، 2008)، ص. 13.
  • (26) المصدر نفسه، ص. 13 - 14.
  • (27) المصدر نفسه ص. 14.
  • (28) المصدر نفسه ص. 14 - 15.
  • (29) المصدر نفسه، ص. 15.
  • (30) المصدر نفسه، ص. 16.
  • (31) المصدر نفسه.
  • (32) دافيد بن غوريون، تميز وتخصيص، أشياء على أمن إسرائيل، (يحود فيعود: دفريم عال بيطحون يسرائيل)، (تل أبيب: معرخوت، 1971)، ص. 82.
  • (33) يورام بيري، "جيش الدفاع الإسرائيلي في السياسة الإسرائيلية"، ص.76، في : بنحاس يحزقيئلي، (محرر)، العلاقات المتبادلة بين المستوى المدني - السياسي وبين المستوى العسكري (يحسي هجوملين بين هديرج هائزرحي - مديني وبين هديرج هتسفائي)، (تل أبيب: وزارة الدفاع،2005).
  • (34) Amos Perlmutter, The Israeli Army in Politics: the Persistence of the Civilian Over The Military", World Politics, Vol. xx, No.4, July 1968.
  • (35) Harold, D., Lasswell, "The Garrison State", American Journal of Sociology, 46 (1941), PP. 455 - 468.
  • (36) دان هوروفيتس وموشيه ليساك، ضيق في الأوتوبيا... مصدر سبق ذكره ، ص. 252.
  • (37) المصدر نفسه، 252 - 256.
  • (38) عمير بار أور، "مراحل في تطور علاقات الحكومة - الجيش في إسرائيل"، ص. 105، في: بنحاس يحزقيئلي، (محرر) العلاقات المتبادلة بين... مصدر سبق ذكره.
  • (39) Israel Tal, "National Security", The Jerusalem Quarterly, 27, (Spring),1983, pp. 13 - 14.
  • (40) Amos Perlmutter, "The Dynamics of Israeli National Security Decisionmaking", In: Robert J. Art, et al., Reorganzing America's Defense: Leadership in War and Peace, Pergamon, 1985, p.131.
  • (41) AharoAharon Yariv, "Military Organizaion and Policymaking in Israel", in: Robert J, Art, et al, ibid, p. 128.
  • (42) يهودا بن مئير، صنع القرارات... مصدر سبق ذكره، ص. 89 - 90.
  • (43) المصدر نفسه، ص. 103.
  • (44) يورام بيري، "أنماط العلاقة بين جيش الدفاع الإسرائيلي والنظام السياسي في إسرائيل"، مصدر سبق ذكره... ص. 37.
  • (45) المصدر نفسه.
  • (46) المصدر نفسه، ص.40.
  • (47) المصدر نفسه، ص. 46 - 47.
  • (48) المصدر نفسه، ص. 48.
  • (49) باروخ كيمرلينغ، "العسكرة في المجتمع الإسرائيلي"، مجلة نظرية ونقد، (تئوريه فبيقورت)، العدد الرابع، 1993، ص. 123 - 140.
  • (50) اوري بن اليعيزر، طريق فوهة البندقية: تشكل العسكرتاريا الإسرائيلية 1936 - 1956،(ديرخ هكفينت: هيفتسروتو شل هميليطريزم هيسرائيلي 1936 - 1956 )، (تل أبيب: دفير، 1995). لمزيد من التعمق حول العسكرتاريا في إسرائيل أنظر: عزمي بشارة، من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية، (رام الله: مواطن، 2005 )- الباب الثاني، نشوء النزعة الأمنية "بيطحونيزم"، ص. 75 - 119.
  • (51) اورن براك وجبريئل شيفر، "الشبكة الأمنية في إسرائيل وتأثيرها: توجه نظري وتحليلي جديد"، في: جبريئل شيفر وأورن براك وعميرام أورن،(محررون)، جيش له دولة، (تسفا شيش لو مديناه)، (القدس: كرمل، 2008)، ص.16.
  • (52) المصدر نفسه.
  • (53) المصدر نفسه، ص. 25.
  • (54) المصدر نفسه، ص. 23 - 24.
  • (55) Yoram Peri, Generals in the Cabinet Room: How The Military Shapes Israeli Policy, )Washington D.C.: United States Institute of Peace Press, 2006(, p, 69.
  • (56) عوفر شيلح، "علاقات المستويين في إنتفاضة الأقصى"، في: رام ايرز، (محرر)، علاقات المستوى المدني والمستوى العسكري في إسرائيل على خلفية مواجهات عسكرية، (تل أبيب: مركز يافه للأبحاث الإستراتيجية، 2006)، ص. 72.
  • (57) يهودا بن مئير، صنع القرارات... مصدر سبق ذكره، ص. 23 - 24.
  • (58) Lewis Brownstein, "Decision Making in Israeli Foreign Policy: An Unplanned Process", Political Science Quarterly, 92, 1977.
  • (59) يهودا بن مئير ،صنع القرارات... مصدر سبق ذكره، ص. 126.
  • (60) يونتان شبيرا، الديمقراطية في إسرائيل، (هديمقراطيه بيسرائيل) ،(رمات غان: مساده، 1977)، ص. 187.
  • (61) يهودا بن مئير، صنع القرارات... مصدر سبق ذكره، ص. 131 - 132.
  • (62) المصدر نفسه، ص. 136.
  • (63) شلومو غزيت، بين الإنذار والمفاجأة: حول المسؤولية في بلورة تقويم المخابرات القومي في إسرائيل،(بين هترعاه فهفتعاه: عال هأحريوت لجيبوشاه شل هعرخات همودعين هليئوميت بيسرائيل)، (تل أبيب: مركز يافه للأبحاث الإستراتيجية، 2003)، ص. 28.
  • (64) المصدر نفسه، ص 29.
  • (65) المصدر نفسه، ص. 31 - 32.
  • (66) المصدر نفسه ص.37 - 38.
  • (67) المصدر نفسه، ص. 33.
  • (68) أفيعيزر يعري، إلى من يقدم المجلس الإستشارة... مصدر سبق ذكره، ص. 13.
  • (69) دان ياهف، جنرالات جيش الدفاع الإسرائيلي ورجال الفكر في السياسة الإسرائيلية،(ألوفي تساهل فأنشي رواح ببوليطيقه هيسرائيليت)، (يازور: تشريكوفر، 2008)، ص. 47.
  • (70) يوسي سريد، "علاقات المستوى العسكري والمستوى السياسي"، في: بنحاس يحزقيئلي، (محرر)، العلاقات المتبادلة بين المستوى المدني - السياسي والمستوى العسكري... مصدر سبق ذكره، ص. 133.
  • (71) أورن براك وجبريئل شيفر، الشبكة الأمنية...مصدر سبق ذكره، ص.32.
  • (72) يورام بيري، أنماط العلاقة بين جيش الدفاع الإسرائيلي والنظام السياسي في إسرائيل... مصدر سبق ذكره، ص. 38.
  • (73) المصدر نفسه، ص. 53.
  • (74) اورن براك وجبريئل شيفر، الشبكة الأمنية.... مصدر سبق ذكره، ص.31.
  • (75) يهودا بن مئير، صنع القرارات... مصدر سبق ذكره، ص.98.
  • (76) زئيف شيف وإيهود يعري، حرب تضليلية، (ملحيمت شولال)، (القدس: شوكن، 1984 ).
  • (77) دان ياهف، جنرالات جيش الدفاع الإسرائيلي... مصدر سبق ذكره، ص. 45.
  • (78) Avi Shlaim, The Iron Wall: Israel and the Arab World, London:A Lane, 1999, Chapter Three.
  • (79) عمونائيل فالد، لعنة الأدوات المكسورة، (كللات هكليم هشبوريم)، (تل أبيب: شوكن، 1987)، ص. 224
  • (80) اورن براك وجبريئل شيفر، الشبكة الأمنية... مصدر سبق ذكره، ص. 23 - 33. وكذلك عمونائيل فالد، لعنة الأدوات المكسورة.... مصدر سبق ذكره، ص. 224 - 236.