الدراسة حاصلة على درع التميز من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية


المقدمة



كانت الحضارة الإسلامية عبر التاريخ في علاقة مستمرة مع الحضارات المجاورة،اليونان والرومان غربا،وفارس والهند شرقا،قبل الإسلام وبعده،بل إن إبداعات الحضارة الإسلامية هي نتيجة لهذا التفاعل بين الداخل والخارج،بين الموروث والوافد،بين النقل والعقل،بين علوم العرب وعلوم العجم،بين علوم الغايات وعلوم الوسائل،أو بلغة العصر بين الأنا والآخر.
واستمر اهتمام شعوب العالم بالعرب منذ دخولهم القوي،في القرن السابع للميلاد،إلى مسرح التاريخ وصنع الأحداث وتغيير خريطة العالم القديم اللغوية والثقافية والعرقية،وكان ذلك كله بعد بزوغ الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة،وتسجيلها الانتصارات من مدينة النبي المنورة داخل جزيرة العرب وعلى أطرافها،وتوحيدها العرب المشتتين لأول مرة في التاريخ،وانطلاقتها المعروفة بهم في آفاق المعمورة شمالا وشرقا وغربا،فيما عرف بـ (الفتوح الإسلامية)،لينتشر اللسان العربي،لسان الوحي الإلهي المبين،في أرجاء واسعة تمتد امتداد سيادة الإسلام نفسه من أواسط الهند وتخوم الصين وهضاب تركستان شرقا إلى شواطئ المحيط الأطلسي وتخوم فرنسا غربا.
كانت ضخامة هذا ((الحدث التاريخي)) ،أو لنقل هذه((الظاهرة الفريدة)) من الفتوح التي عرفها التاريخ موضع دهشة المؤرخين وإعجابهم،نظرا لرسوخ قواعد هذه الظاهرة وثبات آثارها في كل أرض حلت فيها سيادة الإسلام فيما يسميه الفقهاء(ديار الإسلام).
وكان من أبرز هذه الآثار ذلك المزج العرقي واسع النطاق بين العرب والشعوب التي أفْتُتِحَتْ بلدانها ودخلت في دين الله أفواجا،وكان((الاستعراب))نتيجة طبيعية لتلك السيادة وذلك المزج والاستعراب المقصود هنا كان استعرابا لسانيا ودينيا وثقافيا شاملا،وكان اندماجا كليا في بوتقة العروبة بمعناها الحضاري والثقافي والإنساني،لا بمعناها الاثنولوجي العرقي أو التعصبي البغيض الذي قد يذهب إليه بعض دعاة التعصب وأصحاب الأفق الضيق.
غير أن شعوب العالم التي لم تدخل يوما في ظل سيادة الإسلام،ولا في نطاق خلافته،وكانت في الوقت نفيه تجاور(ديار الإسلام) وتقع على تخومها مباشرة،شهدت حركة((استعراب)) ولكن بمفهوم آخر غير المفهوم الذي رأينا آنفا،ويمكننا ان نطلق عليه تسمية دقيقة لائقة به تفسره وتبين حقيقته هي ((استعراب الدراسة والاطلاع))وهو استعراب معرفي محض لم يكن يخالط عقيدة المستعرب ولا دمه،ولا يحل محصوله الثقافي منه محل ثقافته،ولا يزحزح اللسان العربي لسانه عن موضعه،لان المستعرب الدارس هنا لايهتم بالاندماج في الوسط العربي أو الدخول في الإسلام،وإنما يصب اهتمامه كافة،بشكل أو بآخر،على الإلمام باللسان العربي الماما متقنا،أو الماما سطحيا وضحلا،بحسب ما يتاح له من ظروف،تمهيدا للاطلاع على تاريخ العرب ودينهم وآدابهم وفنونهم وعلومهم في مختلف البيئات والعصور،أو باختصار:للاطلاع على (حضارة العرب)،ومن ثم تعريف أبناء وطنه وجلدته ودينه بها بمختلف الطرق:كالدراسة والترجمة والتصوير والتحليل والتعليق والاقتباس والنقد والتأثر والتقليد،وما قارب أو شابه من طرق التوصيل والنقل المتبعة بين الشعوب والحضارات.
والغاية المنشودة من الاستعراب المعرفي هذا متعددة الوجوه والألوان:إذ قد تكون لخدمة غاية علمية وأدبية وفنية نبيلة،وقد تكون لخدمة أغراض دفاعية محضة لحماية الذات من خطر متوهم من جيرانهم العرب،وقد تكون لخدمة مصالح تجارية واقتصادية ذات نفع مشترك وعام بين الطرفين،وقد تكون لخدمة أغراض سياسية أو عسكرية أو إعلامية أو تجسسية أو لخدمة حرب نفسية موجهة إلى العرب.
وقد نشأت عن ذلك حركة واسعة-خصوصا في الغرب الأوربي الناهض والطامح إلى التوسع والسيطرة،إثر سلسلة الحروب الصليبية Crusades وعصر النهضةRenaissance، متعديا حدود الدفاع عن النفس-أطلق عليها اسم (الاستشراق) Orientalisme الذي كان يعني:طريقة للوصول إلى تلاؤم مع الشرق مبنية على منزلة الشرق الخاصة في التجربة الأوربية الغربية،فالشرق ليس لصيقا بأوربا وحسب،بل كذلك موضع أعظم مستعمرات أوربا،وأغناها،وأقدمها ،ومصدر حضاراتها ولغاتها،ومنافسها الثقافي،وأحد صورها الأكثر عمقا وتكرار حدوث للآخر،وإضافة،فقد ساعد الشرق على تحديد أوربا أو (الغرب)بوصفه صورتها،وفكرتها،وشخصيتها،وتجربتها،المقابلة.
كان العديد من المستشرقين الانكليز الأوائل في الهند باحثين قانونيين،أو أطباء ذوي ميول تبشيرية قوية،وبقدر ما يستطيع المرء أن يدرك،كان معظمهم ملهما بغرض مزدوج هو اكتناه ((علوم آسيا وآدابها)) على أمل تسهيل التسامي فيها،وأمل تنمية المعرفة وتحسين الآداب في الوطن الأم،وقد كان للمستشرقين المحترفين الأوائل،دوران فقط ليؤدوهما في تعاملهم مع الشرقيين المحدثين،لقد كانوا إما قضاة أو أطباء،وحتى اولئك الذين كتبوا بطريقة ماورائية(ميتافيزيقية)أكثر منها واقعية،مدركين لهذه العلاقة الشفائية(الثيروبوتيكية)إدراكا غامضا،فقد استخدموا في خصائص الديانات عبارتي((آسيا والأنبياء))و((أوربا والأطباء))،وقد تنامت المعرفة الفعلية للشرق من الدراسة المتقنة للنصوص الكلاسيكية وبعد ذلك فقط انتقلت إلى تطبيق هذه النصوص على الشرق الحديث،واعتبر المستشرق الأوربي واجبه،حين واجه الخور والعجز السياسي الواضحين للشرق الحديث،إنقاذ جزء من جلال ماض كلاسيكي شرقي ضائع من أجل أن يسهل ارتقاء الشرق الحاضر ، وكان ما أخذه الأوربي من الماضي الكلاسيكي الشرقي رؤيا(وآلافا من الوقائع والمصنفات)كان وحده قادرا على استخدامها بأفضل السبل،وقد منح الأوربي للشرقي الحديث التسهيل والتسامي-والى جانبهما فوائد محاكمته وتقديره لما كان الأفضل للشرق الحديث.

كانت لجميع المشاريع الاستشراقية قبل نابليون خصيصة مميزة هي أنه لم يكن ثمة إلا القليل مما يمكن القيام به مسبقا من أجل نجاح المشروع،فلقد تعلم السابقين ما تعلموه حول الشرق بعد أن وصلوا إليه فقط،وكانوا يجابهون الشرق بأكمله،ولم يستطيعوا إلا بعد زمن،وبعد درجة عالية من الارتجال،أن يشذبوا الشرق إلى إقليم أصغر،لكن نابليون بالمقابل ،لم يكن يهدف إلى ما هو أقل من أخذ مصر بأكملها،وكانت تجهيزاته السابقة للحملة ضخمة ومحكمة بصورة لامثيل لها،،ورغم ذلك،فقد كانت التجهيزات خططية إلى درجة التعصب وكانت،نصية،ويبدو أن أشياء ثلاثة كانت،أكثر من أي شيء آخر،في بال نابليون وهو يعد العدة في ايطاليا عام 1797 لتحركه العسكري التالي.أولا،والى جانب قوة انكلترا التي كانت لاتزال تهدده،لم تترك له انتصاراته العسكرية ،التي توجتها معاهدة كامبوفورميو،مكانا آخر يتجه إليه لتحقيق مجد آخر عدا الشرق،وإضافة،فقد كان تاليران،قبل ذلك بوقت قصير قد أشار إلى المزايا التي تجتنى من المستعمرات الجديدة في الظروف الحاضرة.وقد قاده هذا المفهوم،جنبا إلى جنب مع الاحتمال الجذاب لإيقاع الأذى ببريطانيا،باتجاه الشرق،ثانيا،كان نابليون قد انجذب إلى الشرق منذ صباه،وتحتوي مخطوطات شبابه،مثلا،على تلخيص قام به لكتاب مارينيي (تاريخ العرب)؛وجلي من كتاباته وأحاديثه انه كان مفعما،بالذكريات والأمجاد التي كانت قد ارتبطت بالاسكندر المقدوني بشكل عام،وبمصر بشكل خاص.
ومن ثم فان فكرة فتح مصر من جديد،كأنه اسكندر جديد،قد طرحت نفسها عليه،مدعمة الآن بالفائدة الإضافية المتمثلة في اكتساب مستعمرة إسلامية جديدة على حساب انكلترا،ثالثا،اعتبر نابليون مصر مشروعا ممكنا بالضبط لأنه عرف مصر تكتيكيا،واستراتيجيا،وتاريخيا،وكذلك نصيا،وما يقصد به نصيا هنا هو كون مصر شيئا قرأ المرء عنه مخبره عبر كتابات ثقات أوربيين محدثين وكلاسيكيين،وموضع الدلالة في هذا كله هو أن مصر بالنسبة لنابليون كانت مشروعا اكتسب وجودا حقيقيا في ذهنه،ثم في تجهيزاته لفتحها،من خلال تجارب تنتمي إلى مملكة الأفكار والأساطير المستنبطة من النصوص ،لا من الواقع التجريبي ،ولذلك صارت الخطط التي وضعها لمصر الأولى في سلسلة طويلة من المواجهات الأوربية مع الشرق سخِّرت فيها معرفة المستشرق الخابرة لأغراض استعمارية بصورة مباشرة،ذلك أنه في اللحظة الحاسمة التي كان فيها على المستشرق أن يقر ما إذا كان ولاؤه وتعاطفه مع الشرق أو مع الغرب الفاتح،اختار المستشرق الغرب دائما،منذ زمن نابليون وحتى اللحظة الحاضرة،أما فيما يخص الإمبراطور نفسه فإنه رأى الشرق كما كان قد رُمِّز في البدء،أولا في النصوص الكلاسيكية ثم من قبل الخبراء الاستشراقيين الذين بدت رؤياهم،المبنية على النصوص الكلاسيكية ،بديلا مفيدا للمواجهة الفعلية مع الشرق الحقيقي.

وإدراج نابليون لعدد كبير من المختصين في حملته المصرية من الشهرة بحيث لايتطلب تفصيلا في السياق الحالي،وكانت فكرته أن يؤسس نوعا من سجل للمحفوظات حي لحملته،في صورة دراسات حول الموضوعات الممكنة،يقوم بها أعضاء معهد مصر الذي أنشأه،غير أن ما قد يكون أقل شهرة هو اعتماء نابليون السابق على الحملة على دراسات كونت دو فولني،وهو رحالة فرنسي نشر كتابه رحلة إلى مصر وسورية في مجلدين عام 1787 ،لقد رأى فولني عالما مهمته دائما هي أن يسجل الحالة الوجودية للأشياء التي يراها،وكانت آراء فولني في الإسلام بوصفه دينا ونظاما من المؤسسات السياسية عدائية،عداء شرائعيا،ومع ذلك فقد وجد نابليون هذا العمل،وكتاب فولني الآخر((نظرات في الحرب الراهنة للأتراك 1788))ذوي أهمية خاصة،فقد كان فولني،في الحساب الأخير،فرنسيا حكيما،قد عاين الشرق الأدنى بوصفه مكانا يحتمل أن تتحقق الطموحات الفرنسية الاستعمارية فيه،وكان ما أفاده نابليون من عمل فولني هو تعداد العقبات التي لابد أن تواجهها أي حملة فرنسية في الشرق،في سلم تصاعدي تبعا لدرجة الصعوبة.
أما بالجهة المعاكسة لكل ما سبق،وفيما يخص نظرة العرب للآخر-الغرب-،فان المسألة تأخذ أبعادا أخرى،فالشرق بوصفه حيزا فكريا وحضاريا،يتقاطع عمليا وفعليا مع الموروث الاستشراقي الغربي،باستثناء مسألة التنصيص التي قام بها الغرب الاستشراقي،وهي الدراسات التي لاتعد عن الموروث الحضاري العربي،وربما سنستطيع الوصول إلى طريقة لتصحيح نظرة الغرب عن الشرق،أو على الأقل ،معرفة كيف يفكر الآخر الغربي بالأنا العربي،إذا ما فهمنا أولا كيف ننظر نحن(الأنا العربي)إلى (الآخر الغربي)،إن الانوية المرتفعة عند العرب،كانت ومازالت عقبة في طريق التفاهم الحضاري بين الشرق والغرب،وهذا لايعني بالضرورة تواضع الأنا الغربي.
إن الميل العربي إلى موضوع الهوية أو الذاتية امتد،بشكل ما،في اختيار((قريب))أي في اختيار آخرية تداخلية،إن صح التعبير،على أن اقتران الذات بالآخر يشير إلى جدلية بينهما تناولتها الأدبيات المعروفة في العلوم الاجتماعية والنفسية،وبديهي أن صورة الآخر ليست هي الآخر ،صورة الآخر بناء في المخيال وفي الخطاب،الصورة ليست الواقع،حتى وان كان الصراع حولها من رهانات الواقع.ولأنها كذلك فهي اختراع،والانا الذي لايوجد الآخر بدونه هو اختراع تاريخي،متأخر نسبيا،لارتباطه باكتشاف الوعي بالذات،قبل ذلك كان هناك((آخر النحن))،وكان الإنسان يُنظر إليه من داخل القبيلة التي كانت تمثل محيط وعيه.
على أن اختراع الآخر يرتبط عند البعض بسياق الاكتشافات الغربية وربما وفرته من شروط الخطاب حول الاختلاف الثقافي،ولما كان الخطاب حول الآخر هو خطاب حول الاختلاف،فإن التساؤل فيه ضروري حول الأنا أيضا،ذلك أن هذا الخطاب لايقيم علاقة بين حدين متقابلين،وإنما علاقة بين آخر وأنا متكلمة عن هذا الآخر.
ويصبح المعطى هو انه لاتوجد علاقة بالآخر إلا على قاعدة غالب ومغلوب ،ومن دون هذه القاعدة،يضمحل الآخر ويصبح عدما،مندمجا تمام الاندماج،بحيث يصبح الأنا،كل الحملات التي تخاض ضد الآخر ترمي إلى التشبه والتماثل،ولا يوجد آخر من دون الوعي بوجوده،فالعرب لم يصدموا بالآخر الغربي إلا بعد الحملة الفرنسية،ومذ ذاك خرجوا من سباتهم العثماني،فأعجبوا بهذا الآخر ثم تقارنوا به وقارعوه وقاتلوه.
إن صورة الآخر تحيل على الواقع الذي بنيت فيه:عندما كان المجتمع في قوته وكانت ثقافته في ندها لم يكن الآخر مشكلة،ولا((جحيما))،وعندما فقد المجتمع قوته ومناعته واهتزت ثقافته ،فانكمشت،دفاعا عن الذات،أصبح الآخر المهدد لها عدوا لاترى غيره،وإذا كانت هذه النظرة لاتجد صعوبة في إيجاد ما يفسرها أو يبررها،فأن الصعوبة كبيرة في أن تجد لها أصولا ونماذج في التراث الفكري العربي المتقدم،ومن هذه الوجهة ،تحتاج المقولات اللاتاريخية حول بنية العقل العربي إلى إعادة نظر جدي،أن النموذجين المتباعدين زمنيا،وكذلك فكريا،وهذا أهم،ينتميان إلى هذا العقل في علاقته بالتاريخ،وهو مايعني-افتراضا-أن مجتمعا عربيا تكون له القوة والمناعة ويكون في التعدد،مع إمكانية التعبير الحر عنه،يمكن أن يفك حصار مخياله وأن يتسع،في ثقافته،مجال الآخرية لغير الغرب وبغير العدو.
وفي سياق الحديث فان اختيارنا لموضوع الدراسة الموسومة((الجبرتي والآخر))،جاء في صلب اهتماماتنا في المسائل انفة الذكر،فقد تمثل الجبرتي في مرحلة أصبحت فيها العلاقة بين الغرب والشرق في مفترق طرق،وبالأخص قطبي الاستعمار القديم(فرنسا وبريطانيا)،لقد حاولنا في هذه الدراسة،أن نفهم الفرنسيين من مخيلة الجبرتي،الذي امتاز بالغموض المصحوب بالبحث عن الذات عند الآخر،لقد حاول الجبرتي أن يتعرف على النظام الفرنسي من خلال رؤيته-الدينية،الاجتماعية،السياسية- الثاقبة وترقبه للأحداث،فقد وضع نفسه في إطار(الاستغراب)،محاولا ذلك من خلال التسامي على الذات والتغاضي عما يفعله المحتل الفرنسي لاكتشافه،والفرق بين الجبرتي والمستشرقين هو أن الآخر الغربي قد جاء إلى الأنا العربي،وهذه ميزة لم تكن لتتوفر للمستشرقين،وهذه بالنسبة لمؤرخ مثل الجبرتي من الصعوبة بمكان،انه استطاع أن يكتنه الفرنسيين خارج الإطار العسكري الذي تمثل به الفرنسيين.
لقد قسمنا الدراسة إلى فصلين،جاء الأول لدراسة الخلفيات التاريخية والاجتماعية للجبرتي وقسمناه إلى مبحثين، كان المبحث الأول للتعرف على التكوين الفكري والتاريخي للجبرتي ،من خلال دراستنا لتاريخ عائلته وبالأخص والده حسن الجبرتي،ومن ثم التعرف على التكوين الفكري والتاريخي والاجتماعي للجبرتي.
وجاء المبحث الثاني دراسة في تاريخ تأليف عجائب الآثار ومظهر التقديس ومدى تأثير ذلك في فهم الصيغة السياسية التي عاشها الجبرتي. ومن ثم تطرقنا إلى رفيقي الجبرتي الخشاب والعطار،لما لهما من أثر كبير على سياق التطور التاريخي لدى الجبرتي،ومن ثم أعطينا صورة عن فلسفة التاريخ لدى الجبرتي.
أما الفصل الثاني، الجبرتي والفرنسيين،دراسة في رؤية الجبرتي للفرنسيين فقد جاء للكشف عن ماهية نظر الأنا(الجبرتي)إلى الآخر(الفرنسي)،في محاولة منا للكشف عن رؤية العربي إلى الغربي،في فترة تميزت بظروف استثنائية.وقد قسمناه إلى مبحثين،كان الأول منها في وصف الجبرتي للوهلة الأولى من الحملة الفرنسية من خلال المقدمة التي افتتح فيها سنة1213هـ/1798.
وكان المبحث الثاني للتعرف على تفاصيل تلك الرؤية من خلال جانبين مهمين من حياة المجتمع المصري،وهي السياسة وعدالة التمثيل السياسي،ومن ثم العلم والحضارة بين الإستشراق الفرنسي واستغراب الجبرتي.وربما كانت هذه أهم القضايا التي ساهمت في عملية التمحور المصري حول الذات من خلال الطروحات التي قدمها نابليون والتي راهن على نجاحها.

وقد اعتمدنا في هذه الدراسة على مصادر متنوعة ومتعددة،كان أهمها مصادر معاصرة عن فترة الحملة الفرنسية.وهي كالآتي:
أولا:المصادر المعاصرة
آ-(العربية):
كان اعتمادنا الأساسي وبشكل كبير على كتابي الجبرتي(عجائب الآثار في التراجم والأخبار)،و(مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس)،والذين لانستطيع فهم الجبرتي والواقع الذي عاشه إلا من خلالهما.
كما تعرفنا على مصادر معاصرة تمثلت بقلة حياديتها،ككتابي إسماعيل الخشاب،كاتب الديوان وصديق الجبرتي الحميم:(خلاصة مايراد في أخبار الأمير مراد)،و(أخبار أهل القرن الثاني عشر)،وربما كانت قلة الحيادية تلك نتيجة طبيعية لان الفرنسيين قد طلبوا من الخشاب تأليف كتاب لهم،ومن ثم استخدمنا مصدرين آخرين مثلا النظرتين الفرنسية والعثمانية عن الحملة،احدهما لنقولا الترك(ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية)،وكتاب عزت أفندي الدارندلي(مخطوطة ضيا نامة).

ب-الأجنبية(المترجمة):
كما استخدمنا مصدرين من الأهمية بمكان،كون الكاتبين فرنسيين،احدهما ضابط في الحملة الفرنسية،اسمه جوزيف ماري مواريه،الذي كتب مذكراته عن الحملة من بداية الإعداد لها حتى الخروج من مصر.وكتاب آخر للمستشرق الفرنسي بريس دافين،الذي سماه المصريون ادريس أفندي،والذي كتب مذكراته أيضا عن مصر من 1807-1879.

ثانيا-الكتب العربية والمترجمة:
استخدمنا العديد من المصادر العربية والمعربة،إن لم نبالغ،فان غالبيتها امتازت بالسطحية،والتي لم تتناول الجبرتي بعمق يستحقه كتاب مثل كتابه،ولكن من الكتب المهمة والتي شاركنا مؤلفه الكثير من الشكوك والأفكار في دراستنا هذه،هو المستشرق الفرنسي اندريه ريمون،في كتابه(المصريون والفرنسيون في القاهرة(1798-1801م).

ثالثا- الدوريات العربية:
كما استخدمنا عدد من الدوريات العربية،كان أهمها المجلة التاريخية المصرية.

رابعا-الرسائل و الاطاريح الجامعية:
بحثنا عن رسائل الماجستير واطاريح الدكتوراه،فلم نجد خلا واحد كتبت في جامعة الإسكندرية،كلية الآداب،بعنوان:الصراع بين البيوتات المملوكية في مصر العثمانية(923-1213هـ/1517-1798م).

خامسا-الكتب الأجنبية:
أما عن الكتب الأجنبية،فلن أجافي الحقيقة إن قلت أن ماكتبه المستشرقون عن الجبرتي يتجاوز الحد،واستخدمن عدد منها،من ضمنها:
E.W LANE,manners and customs of the modern Egyptians.
وهو كتاب يتحدث عن عادات وتقاليد المصريين،وكتاب:
p.m Holt,Studies in the history of the near east.
الذي تحدث فيه عن الجبرتي والتاريخ العثماني.فضلا عن كتب أخرى.


سادسا-البحوث والدراسات الأجنبية:
لقد اعتمدنا على مجموعة من الدوريات الأجنبية،والتي إفادتنا بشكل كبير جدا منها:
BULLETIN OF THE SCHOOL OF ORIENTAL AND AFRICAN STUDIES.
JOURNAL OF THE ECONOMIC AND SOCIAL HISTORY OF THE ORIENT.
INTERNATIONAL JOURNAL OF MIDDLE EAST STUDIES.
سابعا- الموسوعات:
اعتمدنا على أهم موسوعة تناولت التراث العربي،وهي دائرة المعارف الإسلامية:
THE ENCYCLOPEDIA OF ISLAM.

والله اسأل التوفيق....
الباحث



-الفصل الأول:دراسة الخلفيات التاريخية والاجتماعية للجبرتي.
- المبحث الأول: التكوين الفكري والتاريخي للجبرتي.
-أولا: حسن الجبرتي.والد عبد الرحمن الجبرتي.

إذا ما أردنا فهم الصيغة الاجتماعية التي عاشها عبد الرحمن الجبرتي،لابد أولا أن نفهم كيف عاش والده،الذي كان له الأثر الكبير في تكوين شخصية عبد الرحمن الجبرتي،فكل إسلاف الجبرتي،يظهر تأثيرهم ويختفي على شخصية والده،حسن،الذي هو بلا شك كان له اكبر الأثر في ابنه أكثر من أي شخص آخر،هذا الأب هو المفتاح الذي صنع من الجبرتي مؤرخا( )،وتعظيم الابن للأب مبالغ به إلى حد بعيد، لاسيما عندما وصفه بأنه "عمدة الأنام وفيلسوف الإسلام"( )،لكنه لم يكن ليخترع تلك الحقائق الكثيرة التي ذكرها عن أبيه.ومن خلاله سنفهم الكثير من التفاصيل المجهولة في حياة الجبرتي الابن،فحسن الجبرتي لم يكن مجرد عالم فلكي،بل هو فقيه له سلسلة من الشيوخ أخذ عنهم العلم، وسلسلة من التلاميذ،وله علاقات كثيرة جدا ومتشعبة،فقد وقفنا على شبكة من العلاقات الداخلية والإقليمية وتعدت إلى العلاقات الدولية( ).
من الجدير بالذكر أن حسن الجبرتي قد درس عنده طلاب فرنسيين جاءوا إليه سنة 1159هـ/1746-1747م،ودرسوا علم الهندسة على يديه،وأهدوا إليه بعض الآلات الهندسية، والحقيقة أن الفترة الممتدة من بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر إلى قيام الثورة الفرنسية 1789م،امتازت بالاهتمام الفرنسي بالحصول على المخطوطات العربية،فضلا عن النشاط المتزايد للاستشراق الفرنسي،فقد تأسست في فرنسا مدرسة فتيان اللغة(L'É cole des jeunes de langues) سنة 1669م ،والتي تخرج منها عدد من أكابر المترجمين الملمين باللغتين العربية والتركية،في الفترة(1721-1761)،وكانوا من الذين رافقوا حملة نابليون إلى مصر في 1798م،وفضلا عن اهتمامها بدراسة اللغة العربية والتركية والفارسية،كانت مهتمة بدراسة الهندسة والفلك والرياضيات والرسم ،ولا يستبعد أن يكون هؤلاء الفرنسيون الذين درسوا عند حسن الجبرتي،هم من المستشرقين الفرنسيين؛ويشار أن التواجد الفرنسي في مصر كان أقدم من ذلك،وقد شكلوا جالية هناك( ).وفضلا عن العلاقة المتينة بينه وبين المماليك خصوصا منهم علي بك الكبير(1168-1187هـ/1755-1774م)( )،إضافة إلى المكانة الاجتماعية التي كان يتمتع بها حسن الجبرتي،فهو ذا سلطة ونفوذ وثروة.( )
ينحدر حسن الجبرتي الذي ولد في سنة(1110هـ/1698م) من عائلة أصولها حبشية من إقليم الجبرت في الحبشة.وتقع جبرت بالقرب من ميناء زيلع الواقع قرب مدخل البحر الأحمر من الجنوب الشرقي له،وقد حكمت هذه المنطقة من قبل نجاشي الحبشة:والحقيقة أن عائلة الجبرتي كانت متزمتة دينيا إلى حد بعيد،وكانوا زهادا،رحل أكثرهم إلى مكة مشيا على الأقدام،وكانوا على المذهب الحنفي أو الشافعي،ويشير د.أيلون أن عبد الرحمن الجبرتي يخفي شخصيته بالكامل في كتابه،في حين أن بعض معاصريه تكلموا عنه قليلا،والحقيقة أننا لانعلم لماذا هذا الغموض من قبل الجبرتي،إلا أننا من خلال دراستنا لشخصية والده حسن،ربما نستطيع اكتشاف الجوانب الغامضة من شخصية عبد الرحمن الجبرتي( ).
رحل الجد السابع عبد الرحمن زائرا إلى مكة المكرمة ومجاورا لها،ثم انتقل بعد ذلك إلى القاهرة لينضم إلى الجامع الأزهر ويؤسس رواق للجبرتية في 1-محرم-901هـ/20-سبتمبر/أيلول-1495م، كما عمل قاضيا في القاهرة،وليس لدينا معلومات كافية عن ممارساته القضائية( )،تزوج بعد ذلك وأنجب ولدا اسمه محمد،وورثه شيخا على رواق الجبرتية،ثم أعقب ولده علي على مشيخة رواق الجبرتية،والذي تزوج من زينب بنت القاضي عبد الرحيم الجويني،فصار له شهرة وثروة،وخلف ولدين:حسن(ت1097هـ)،وعبد الرحمن الذي توفي في حياة أخيه سنة (1089هـ)،ثم تحولت الثروة التي خلفها علي من زوجته زينب الجوينية إلى ولده حسن،الذي تزوج من مريم بنت العمدة محمد بن عمر المنزلي الأنصاري،ثم توفي حسن فأعقب إبراهيم فتكفلت أمه مريم على أمواله،وتزوج من ستيتة بنت عبد الوهاب أفندي الدجلي سنة 1108هـ،ثم ولد له حسن الجبرتي سنة 1110هـ،فلما توفي والده كفلته أمه ستيتة بوصية من جدته أم أبيه مريم،وكان الشيخ محمد النشرتي( )،الذي قرره على مشيخة رواق الجبرتية، موكلا بتصريف أحوال العائلة بحكم وصايته على حسن الجبرتي. وقد ورث حسن الجبرتي الكثير من الأوقاف التي أوقفتها جدته مريم ،وتوفي حسن الجبرتي في عام 1188هـ/1774م،عن عمر ناهز 77 عاما ( ).عندما كان ابنه عبد الرحمن يبلغ من العمر(21 عاما).فتحولت جميع الأملاك والأوقاف التي خلفها أسلافه إليه دون منازع على تلك الأموال والثروات الطائلة( ).
يبدو جليا أن الجد السابع لعائلة الجبرتي والذي تنتهي معرفة عبد الرحمن الجبرتي لأجداده به،حتى أن-الجبرتي مؤرخنا- يشدد على أن معرفته بنسبه تنتهي بجده السابع عبد الرحمن ( )-،قد تزوج من مصرية لما نزل مصر وأسس رواق الجبرتية فيه،والذي يهمنا في الأمر أن عائلة الجبرتي كانت ذات ثروة وجاه كبيرين،ولعل ذلك جاء من المصاهرة التي قام بها الجبرتية من العائلات المصرية المشهورة والغنية،فقد تزوج علي بن محمد بن عبد الرحمن من زينب بنت الجويني،فصارت له شهرة وثروة،وورث عنها ولده حسن الثروة الكبيرة،وهكذا تجمعت الثروة والشهرة بيد الجبرتية،وربما كان تعاقبهم على مشيخة رواق الجبرتية نتيجة تلك المصاهرات التي زادت من ثروتهم.والتي تحولت نهاية المطاف إلى حسن الجبرتي( ).
وهذا يعني بمجمله أن الشيخ حسن الجبرتي قد عاش في بيئة اجتماعية مرفهة،اجتمعت بيدها السلطتين الدينية والمالية،مما انعكس بدوره إلى أن يكون حسن الجبرتي متعدد المواهب والصفات،وله قدرة على التمتع برغد العيش دون الحاجة إلى العمل الشاق الذي يمارسه معظم المصريين آنذاك( )،وان تكون له كلمة مسموعة بين العلماء وأرباب السلطة من كبار رجال الدولة.حتى أن حسن الجبرتي يقول انه لم يعرف احتياجات أهله وبيته إلا بعد موت جدته مريم( )،أي انه لم يكن ذا مسؤولية توجب عليه الاهتمام بالأمور المنزلية لما له من ثروة طائلة.فقد كان يتنقل بين البيوت والمساكن التي ورثها في كل بيت يقضي أياما حسب ما تقتضيه حالته النفسية.كذلك فقد اشتغل بالتجارة،كما انه عمل في السلطة،فبعد أن تزوج بنت الأمير المملوكي علي أغا باش اختيار متفرقة الذي كان يحكم قلاع الطور والسويس والمويلح بالطوري،وبعد موته تقلد حسن الجبرتي منصبه فترة من الزمن،ثم تزوج من بنت رمضان جلبي بن يوسف المعروف بالخشاب( )،وهم بيت مجد وثروة ببولاق،ولهم أملاك وعقارات وأوقاف،وقد كان حسن الجبرتي مولعاً بالنساء فقد تزوج كثيرا( )،كما كانت زوجته تقدم له الكثير من الجواري( ).
و ذكر احد المستشرقين الفرنسيين،وهو الرسام بريس دافين، أن حسن الجبرتي كان مولعا بالنساء،فكان يمتلك الكثير من السراري والجواري،حتى أن زوجته كانت تقدم له عدد من الجواري تعبيرا منها على احترامه. ويؤكد ذلك عبد الرحمن الجبرتي، أن والده كان له ثلاثة مساكن أحدها هذا المنزل بالقرب من الأزهر وآخر بالابزارية بشاطىء النيل ومنزل زوجته القديمة تجاه جامع مرزه وفي كل منزل زوجة وسرارِ وخدم فكان ينتقل فيها مع أصحابه وتلامذته وكان يقتني المماليك والعبيد والجوارى البيض والحبوش والسود ومات له من الأولاد نيف وأربعون ولدا ذكورا وإناثا كلهم دون البلوغ ولم يعش له من الأولاد سوى الحقير( ).
وهذا ما دفعنا إلى الاعتقاد بان عائلة الجبرتي كانت من العائلات الإقطاعية في مصر،لما لهم من ثروات وأملاك كبيرة،وكانوا حريصين جدا على الزواج من العائلات المشهورة بالمجد والثروة،ومما يثير الدهشة أن كنية"الجبرتي"ظلت ملازمة للعائلة لفترة طويلة حتى بعد وفاة عبد الرحمن الجبرتي(مؤرخنا)،مما يعني أنهم حرصوا كثيرا على الحصول على مكانة اجتماعية وعملوا على ذلك ونجحوا،فكما رأينا من المصاهرات التي بدأت من جدهم السابع عبد الرحمن وصولا إلى حسن الجبرتي والد المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي،حرصوا جميعهم على مثل تلك المصاهرات،حتى أن عقد الزواج لأحد أجداده قد ((حرر وسطر بالذهب وعليه لوحة مموهة بالذهب))،وقد كان حسن الجبرتي أكثرهم دقة في اختيار زوجاته،فتزوج من بيت ثروة وسلطة،ليدعم بذلك الثروات التي كان يملكها،لان الثروة لايمكن أن تبقى بيد أصحابها دون تدعيمها بالنفوذ السلطوي الذي يسهل عملية الحفاظ على الثروات من أي طارئ من شأنه أن يذهب تلك الثروات( ).
وقد كان لحسن الجبرتي علاقة وطيدة مع العثمانيين والمماليك،فضلا عن أقرانه من العلماء،و كان لحسن الجبرتي حظوة ومكانة كبيرة عند أقرانه من العلماء،وكانت له هيبة عظيمة،حتى أن بعضهم وصفه بأنه (صاحب أسرار)،وكان ذا شخصية قوية جدا،بحيث فرض على الآخرين احترامه،فقد كان مربوع القامة،ضخم البنية،ابيض اللون ،ذا لحية منورة الشيبة،وواسع العينين،غزير شعر الحاجبين،وجيه الطلعة،يهابه كل من يراه،ويود انه لايصرف نظره عنه( )،فربطته علاقة مع الوالي العثماني احمد باشا المعروف بكور الوزير(1162-1173هـ/ 1749- 1759م)،وبلغ الأمر انه-أي احمد باشا-لما طلب من حسن الجبرتي الحضور وأراد من احد جلسائه أن يبلغه قيل له أنه لابد أن يرسل إرسالية-أي يكتب له شخصيا-لحضوره،لان له مكانة عالية،وكان يلتقي به يومين في الأسبوع( )، فكان حسن الجبرتي هو الذي حفظ سمعة مصر كمركز للعلم في عين احمد باشا الكور،الذي كان لديه نظرة متشائمة عن علم الرياضيات في مصر( )،كذلك تراسل حسن الجبرتي مع السلطان العثماني العالم مصطفى الثالث بن احمد(1171-1187هـ/1757-1773م)الذي كان له اهتمام خاص في الرياضيات والتنجيم( )،كما أرسل له ثلاث كتب من خزانته الخاصة( )،فضلا عن علاقته مع كبار رجالات الحكومة في القسطنطينية(أكابر الدولة بالروم)،و أرسل له حكام(باشوات)تونس والجزائر كتب من مكتباتهم( ).
ولم تكن علاقته مع المماليك بأقل منها مع العثمانيين،فاعتبر شخصا ذا حضوه عند العثمانيين،عندما قرر علي بك الكبير تقديم شكوى ضد حاكم سوريا عثمان بك العظم،واستخدام الشكوى كذريعة للهجوم على سوريا،فطلب من حسن الجبرتي أن يحرر رسالة يرفعها للباب العالي لتأييده،لاعتقاده بأن حسن الجبرتي سيلقى القبول لدى العثمانيين،( )،كما ذهب علي بك إلى ابعد من ذلك حين طلب منه أن يرسل مبعوثين خاصين من قبله ليحملوا رسالته إلى القسطنطينية،فاختار حسن لذلك الغرض(عبد الرحمن العريشي و محمد أفندي البردلي). لعل اختيار حسن الجبرتي للعريشي كان في محله،لأنه شامي،وكان مفتي الحنفية والمتحدث عن رواق الشوام في الجامع الأزهر( )،وكانت له علاقة وطيدة مع عثمان بك ذوالفقار المملوكي(1138-1190هـ/1729-1776م) - الذي أحبه وأجله كثيرا- ورافقه إلى مكة للحج ثلاث مرات،وكتب له رسالة عن مناسك الحج،وقرأ عليه عدد من المصنفات،من ضمنها"مقامات الحريري"( ).
يبدو أن حسن كان عالم كبير،من خلال علاقاته مع كبار علماء عصره،ومن خلال قائمة طلابه،الذين أصبح قسم منهم علماء مشهورين،(لاعتباره فقيه وسط طبقة السلطة)،و ذكر عبد الرحمن الجبرتي(مؤرخنا) أن اثنين من أبناء خال والده كانوا جلساء لعثمان بك ذوالفقار، ( )،لكن حتى في حقل طلب العلم،لم يحصر نفسه في حدود الدراسات الشرعية،فقد عرف لغات غير العربية،إذ أتقن الفارسية والتركية بحيث اعتبره البعض تركيا أو فارسيا لشدة إتقانه للغتين،و أشار عبد الرحمن الجبرتي(مؤرخنا) أن شخص يدعى محمد أفندي بن إسماعيل السكندري المنشئ الكبير في عصره في مصر،ومؤلف كبير في العربية والفارسية والتركية،كان والده يهوديا،اعتاد على زيارة حسن الجبرتي( )،كما درس علم الرياضيات والهندسة والجبر وعلم الفلك( ) وعلوم أخرى،وكانت له خبرة ومقدرة كبيرة في التقويم،وفن الخط والنقش والنحت،وحسب ما ذكر ابنه عبد الرحمن،كانت له آثار معمارية عديدة نصبت في الجامع الأزهر،وجامع الاشرفية،وجامع قوصون،ومشهد الإمام الشافعي،وبلغ من كثرة اشتغاله بالنحت والنقش أن تعلم خدمه تلك الحرفة ( )،فضلا عن معرفته المتقنة لموازين القبان،وكان له العديد من الطلاب من البلدان الأخرى،في العلم والحرف.وان كل هذه الاهتمامات العلمية والعقلية لم تؤثر على حماسه الديني( )،قال عنه شيخ الشيوخ على العدوي(لم نرَ ونسمع من توغل في علم الحكمة والفلسفة وزاد إيمانه إلا هو) ( ).والحقيقة أن سلسلة شيوخ وطلاب حسن الجبرتي يطول ذكرها( ) .
ليس هناك أدنى شك من أن انتمائه للمذهب الحنفي كان من شأنه أن يعمق صلاته مع العثمانيين والمماليك،الذين كانوا على نفس المذهب،إذ أرسل له السلطان مصطفى الثالث كتاب في الفقه الحنفي،(الفقه الحنفي)،وقد تعامل معه كشخص عادي دون رسميات،واظهر له الاحترام،كذلك كانت له سمعة وتأثير في أوساط الحكم في الدولة العثمانية.على الرغم من الدراسات والاهتمامات الواسعة التي عمل فيها حسن،إلا أن التاريخ لايظهر من ضمنها،إذ لايظهر التاريخ بين العلوم الكثيرة التي تلقاها عن شيوخه،ولابين رسائله ومؤلفاته،ولابين وظائفه المتعددة والمختلفة،سوى مكتبته الضخمة،كعدد قليل من العلماء،أو المكتبات الخاصة،فقد امتلك حسن الجبرتي مكتبة ضخمة احتوت على كتب ومصنفات في سائر العلوم،وكانت من بينها كتب نادرة( ).
ومهما يكن من أمر فان حسن الجبرتي قد ترك في ابنه عبد الرحمن أكبر الأثر،في تكوين شخصيته التاريخية والاجتماعية،ولكن الابن يختلف قليلا عن أباه من حيث العلاقة مع السلطة الحاكمة،فقد كان عبد الرحمن الجبرتي بالمنظور الحالي ثوريا،لايرضى بالسلطة التي تظلم الرعية،وينتقدها في كثير من المواضع،على خلاف والده الذي ربطته علاقات وطيدة مع الطبقة الحاكمة،فلم نجد في عجائب الآثار أية إشارة على انتقاد،أو على الأقل،اعتراض على السلطة،ظالمة كانت أم عادلة.فحسن الجبرتي كان عالما ومتحضرا من الطراز الأول،والذي يمكن أن نعتبره من النخبة المثقفة في مصر في القرن الثامن عشر،والذين كانوا قلة( ).
فتربية عبد الرحمن الجبرتي في بيت مثل بيت أبيه لابد وان يؤثر على مجمل وجهة نظره التاريخية،وان تضعه في موقع ممتاز لكتابة التاريخ المعاصر والقريب منه عن بلاده،والمكانة البارزة التي حظيت بها عائلته بين العلماء لقرون عديدة،مكنته من أن يحيط علما بشريحة مهمة من السكان المحليين،والصلات العميقة لوالده مع زعماء المماليك والشخصيات العثمانية في عصره،وفرت له المادة التاريخية عن أرباب الحكم في مصر وعلاقتهم مع السلطة العثمانية،وان سعة أفق والده واشتغاله بمواضيع دنيوية بعيدة عن الدين تماما،لابد وان تكون قد وسعت مجال اهتمامه،لاسيما في أحوال العامة،وهذا ما أغنى ونوع سرده التاريخي،وعلى أية حال،بقي على تزمته الديني مثل البيه،ويتضح ذلك من أمور عديدة،مثل موقفه من الوهابيين والمتشددين المغاربة( ).

- ثانيا: التكوين الفكري والتاريخي والاجتماعي للجبرتي.

يقال إن امتزاج فكرتين مع بعضهما البعض يؤدي إلى ظهور فكرة أفضل من اللتين امتزجتا،وكذلك يقول علماء النبات إن النبات إذا طعم ولقح بنبات غيره أنتج ثمرا أحلى من النباتين؛وكان بالتالي في السوق أكثر طلبا واعلى ثمنا،ففيه طعم الفاكهتين ورائحتهما،ويقول علماء الوراثة والباحثون في الذكاء إن الأسرة أو القبيلة التي يتزوج أفرادها بعضهم البعض الآخر يكون مصير أجيالها الضعف والغباء،وعلى العكس إذا دخل الأسرة دائما دم جديد من أسرة أو أسر جديدة؛جاء النسل أكثر قوة وأذكى عقلا،وبالتالي أصلح للبقاء وأقوى على النضال في الحياة.
كذلك كان عبد الرحمن الجبرتي الذي امتازت شخصيته بالكثير من التناقضات والاستفهامات( )،فالفترة التي انبثق منها الجبرتي في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر،كانت بيئة مقفرة،وامتازت بتدني الكتابة التاريخية في مصر،من اجل إظهار هذا التباين في فترة سلطنة المماليك (1250-1517)،التي تمتاز بوفرة المصادر التاريخية الغنية والدقيقة والمفصلة إلى أقصى حد،والتي لايمكن مضاهاة مصادرها كما ونوعا،فان فترة الحكم العثماني في مصر)1517-1811تقريبا)تمتاز بندرة المصادر التاريخية التي دونها سكان البلاد المعاصرين آنذاك،هذه الحالة كفيلة بحد ذاتها لغموضه،يصبح غامضا في ضوء حقيقة إن أول 70 سنة أو أكثر من الحكم العثماني جد غامضة،فالمختصرات التاريخية لابن أبي السرور البكري والاسحاقي،التي لم تحتوي على أكثر من سرد مختصر للأحداث،يعطي نظرة موجزة عما حدث في مصر في الفترة المذكورة أعلاه،إذا فعملية انتقال مصر من المماليك إلى شكلها العثماني مجهولة،باستثناء السنوات الأولى القليلة(922-928/1517-1522) التي وصفها ابن إياس،والمرحلة المتقدمة حصلت بعد هذا الانتقال،إذ أصبحت الصورة واضحة نوعا ما عن التاريخ والمجتمع المصري،الذي صورته الأعمال التاريخية التي قام بها الكتاب المصريين المحليين ،ويجب أن نربط،على أية حال،أنواع أخرى مهمة من المصادر،مثل الأرشيفات العثمانية،وبأهمية اقل،الرحالة الأوربيين،والتي لاتغني عن المصادر المحلية للمؤرخين( ).
ولعل ابرز سبب في ذلك التدني، تكمن في حقيقة أن مصر كانت إلى وقت الغزو العثماني مركز لأكبر وأعظم إمبراطورية،ثم تحولت إلى مجرد ولاية صغيرة في إمبراطورية كبيرة،فقد احتلت مصر في تموضعها بين أفريقيا واسيا ،وفي سهولة اتصالها بأوربا،مركز القارة القديمة،فهي أرض الفنون ،وهي تحفظ مآثر لاتحصى،وما تزال قائمة معابدها الرئيسية والقصور التي سكنها ملوكها،وقد رحل إليها هومر ، وليكيرغس ،وسولون،وفيثاغورس،وأفلاطون إلى مصر لدراسة علومها وديانتها وقوانينها،وأسس الاسكندر مدينة عامرة بالرفاء والثراء فيها،مدينة تمتعت لزمن طويل بالسيادة التجارية،وشهدت بومبي ويوليوس قيصر ومارك أنتوني وأوغسطس يقررون فيما بينهم مصير روما ومصير العالم كله( ).
والسبب المهم الآخر،هو النقل الجماعي للأعمال التاريخية من القاهرة إلى القسطنطينية،ولا يزال عدد منها هناك،وفي الحقيقة أن مثل هذه الأعمال متوفرة بنسخ معدودة،ويظهر التأثير السلبي عليها من خلال النقل الجماعي،وليس لدينا معلومات حول انتقال مؤرخين من مصر إلى العاصمة العثمانية،فالكتابة التاريخية العثمانية من القرن السادس عشر إلى بدايات القرن التاسع عشر كانت أغنى جدا وعلى مستوى عالي عما هي عليه في الكتابة التاريخية المصرية في الفترة ذاتها( ).
فشخصيته متعددة الجوانب،منها ما هو ديني وعلمي يرزح دوما إلى الدين في تفسير الكثير من الظواهر التاريخية والآنية،وثمة جوانب أخرى تمثلت بالتفاخر والتطلع الحر ،فضلا عن الاستعلائية التي ربما جاءت من موقعه الاجتماعي،هذا فضلا عن الشكية التي امتاز بها خلال منهجه في كتابة عجائب الآثار،فقد سعى دوما إلى التأكد من صحة الأخبار ولا يسلم أبدا بما يحدث دون الاستبصار عن جذور القضية( ).
كما أن في شخصيته ما يظهر تميزه في عصره،فهو ليس مجرد مؤرخ هاوٍ أو سردي ينقل الأخبار دونما نقد وتحليل،فقد قال عنه لين : "الشيخ عبد الرحمن الجبرتي... يستحق بشكل خاص أن يذكر ككاتب ممتاز لتاريخ الأحداث التي جرت في مصر منذ بدء القرن الثاني عشر للهجرة،وقال عنه أيلون أن الجبرتي برز كعملاق بين الأقزام في تاريخ مصر العثمانية،فضلا عن ذلك،فيما يتعلق بتاريخه،أن المؤلفات التاريخية لمؤرخين آخرين،عن تلك الحقبة،كانت محدودة جدا،لأنها كمصادر مساعدة لكتابه،لأنهم اكسبوه أهمية كبيرة،لكن بمقارنة الجبرتي مع مؤرخي مصر العثماني فقط،فيه إجحاف كبير له،لان تاريخه تعدى حدود البلد وتلك الحقبة.وفي رأيي أن الجبرتي،من الأهمية بمكان انه مؤرخ كبير للعالم الإسلامي،لم يسبق له مثيل،وابعد من ذلك انه المؤرخ الأعظم للعالم العربي في العصر الحديث.وقال عنه توينبي: "الجبرتي":(المؤرخ المصري الجليل... باعتقادي انه بلاشك على قائمة المرشحين المصنفين برتبة امتياز كمؤرخين رائدين في المجتمع المدني الحديث.وقد نقل هيورث من الجبرتي بكثافة كبيرة في بحوثه عن الأدب والتعليم في مصر في القرن الثامن عشر.وبوفاته انتهى التاريخ العثماني وبدأ التدوين لتاريخ مصر بمعزل عن الدولة العثمانية،وبدأت القومية تأخذ اتجاهات جديدة.كما ذكره كب في كتابه المجتمع الإسلامي والغرب بوصفه عالما يستحق الثناء والتقدير( ).
ولطالما وجدنا بين طيات يومياته الأفكار التي يظن أنها التي يجب أن يعمل بها لصلاح ينشده،وفضائل يبتغيها،فنقطة انطلاق الإتقان النقدي المحكم هي وعي المرء لما هو حقا،فهو عرف نفسه جيدا،وعرف زمانه وأهله بإتقان،فالبعد الشخصي عنده كان نتاج للعملية التاريخية التي أودعت فيه آثارا لاحصر لها،ولعله أراد أن يودع تجربته الشخصية خلال العملية التاريخية التي نسعى لفهمها من خلال فهمنا للتكوين أو التركيبة الفسيولوجية التي شكلت شخصية عبد الرحمن الجبرتي.
فهناك عدة عوامل ساهمت في هذا التكوين،وستكون موضع بحثنا هنا،منها الأثر الكبير لوالده الشيخ حسن الجبرتي الذي وضعنا له مبحثا خاصا،كما أن الأثر السلالي، نقصد به الأصول التي انحدر منها عبد الرحمن الجبرتي،من بلاد الجبرت في الحبشة،والذي قد لايكون محل ترحيب كبير بين أوساط الباحثين،إلا انه لايمكن أن ينفصل هذا الأثر عن التكوين الطبيعي لشخصيته،وسنسعى إلى طرح بعض الآراء حول الجبرتية من قبل بعض المؤرخين المعاصرين له والذين سبقوه كثيرا،كذلك فان البيئة الاجتماعية التي عاشها الجبرتي آنئذ أثرت في تكوينه من جانبين،الأول بحكم موقع عائلته ومكانتها الرفيعة ماديا ومعنويا،الأمر الذي ترك أثرا كبيرا في شخصيته، ومن جانب آخر كان الأثر المعرفي والعلمي في هذه العائلة ووالده على الخصوص قد جعل منه طالب علم منذ صغره( )،وثمة نقطة ارتكاز في هذا الأثر هي مدى التقارب بين عبد الرحمن الجبرتي ووالده،الذي أدى بالتالي أن ينهل الجبرتي الابن الكثير من الجبرتي الأب في الكثير من التفاصيل الحياتية على مستوى العلائق الاجتماعية التي طبعت شخصيته بين الآخرين بطابع الاحترام والتفضيل على من سواه( )،فعلاقات والده المتشعبة والتي ذكرناها بالتفصيل في المبحث الخاص بوالده،وسنتحدث عن أثرها في هذا المبحث أيضا.
كذلك لدينا إشارات تكاد تكون ضعيفة لكن ربما يمكن اعتمادها،وهي علاقته مع النصارى،والقبط منهم على التحديد،والتي ربما كان لها أثرا ليس يسيرا في التكوين الفسيولوجي لشخصية الجبرتي في قضية التعامل مع الفرنسيين،كقوله عنهم:"القوم الذين يحكمون العقل ولا يتدينون بدين"،وهذه ربما تكون إشارة إلى أن الجبرتي نظر إلى العثمانيين والمماليك،بوصفهم مسلمين،ولكنهم مجردين من تلك الصفة،وان الإسلام على عهدهم لم يعد ذا أهمية،فهم مع كونهم مسلمين إلا أنهم لايتحرجون في التجاوز على الدين وأتباعه،وربما هي إشارة إلى علمانية الجبرتي،ولا نستطيع أن نؤكد هذا الأمر بدرجة كبيرة من اليقين ،لانقول باعتبارهم مخلصين أو مصلحين،وإنما على اقل تقدير،التعامل معهم-أي الفرنسيين- وفق التصورات المبتناة في شخصية الجبرتي من خلال تعامله مع النصارى المحليين-الأقباط بوجه الخصوص-.أي انه قد فقه النصارى جيدا،ولذلك تعامل معهم وفق تصوراته الخاصة( ).
بالرغم من أن الجبرتي مسلم،وهذا مما لاشك فيه،إلا انه تربطه علاقة حميمة مع النصارى،لاسيما القبط منهم،وهذا راجع إلى كونه من أصول حبشية،فهو من إقليم الجبرت جنوب شرقي البحر الأحمر،وكانت كنيسة الحبشة تابعة لكنيسة الإسكندرية حتى القرن العشرين،وعلى ذلك كانت العلائق متينة،وتعظيم الجبرتي للحبشة مبالغ به إلى حد بعيد،فقد أفرد صفحات طوال في كتابه عجائب الآثار في ذكر فضلهم،والكتب التي صنفت فيهم،ويشار إلى أن معرفة الجبرتي بالتاريخ الإسلامي محدودة،ولم تربطه مع مؤرخين مسلمين مشهورين علاقات متينة.ومن الأمور التي يشار إليها في علاقة الجبرتي مع نصارى القبط،انه قد ترجم لجرجس الجوهري أحد أعلام القبط في مصر،ووصفه بصفات كثيرة،ورأينا في كتابه عجائب الآثار،الكثير من التفاصيل عن الأقباط،لاسيما من الأصول الحبشية( ).
وثمة عنصر آخر لايقل أهمية عما سبق،فقد شهد ثلاثة أنظمة هي:المماليك والفرنسيين والعثمانيين،والتي تبلورت خلالها الصورية المدمجة التي كونت شخصيته فكريا.ولان مجال البحث هو الجبرتي والفرنسيين لذلك سنترك مبحثا خاصا عن اثر الفرنسيين في تكوينه الفكري،ومدى ترابط العلائق التي كونها الجبرتي في مخيلته عن الفرنسيين،ولعلنا سنفهم الفرنسيين من خلاله،وهذا ما سيقودنا إلى "رؤية خاصة" نستطيع من خلالها فهم العلاقة بين الشرق والغرب في فترة الاضطراب التي عاشها الجبرتي( ).


-الفصل الأول:
- المبحث الثاني:دراسة في تاريخ تأليف عجائب الآثار ومظهر التقديس:
- أولا:متى كتب عجائب الآثار:
لايمكن فهم العملية التاريخية التي انبثق منها تفكير الجبرتي السياسي والاجتماعي؛إلا من خلال معرفة متى وكيف كتب الجبرتي كتابه"عجائب الآثار"،فمن خلاله سنعرف الكثير من الحقائق التي ربما تقودنا إلى الكثير من التفاصيل التي تكاد تكون مهملة في كتابه العجائب،فهو قد خرج بتأريخ لفترة مهمة من تاريخ العرب عموما والمصريين بالأخص،ولعل هذه الفترة المضطربة التي تعددت عنها الآراء والأقاويل التي امتازت بالسطحية و التي لم تتعدى توظيف الأدلة في غير محلها.
إن محاولتنا هنا هي –ليس فقط-الكشف عن المكنونات الفكرية للجبرتي فحسب،بل أيضا معرفة سمات الغرب الذي تغلغل في رحم العرب ليلد لنا الاستعمار بجميع أشكاله،ولنكشف أيضا عن مدى مسؤولية العرب أنفسهم في إعطاء المبررات لهم،وهل أن رؤية العرب للغرب،أو العكس، آنئذ لم تتغير عنه الان؟وان تغيرت؛ فما هي الصورة التي آلت إليها هذه الرؤية؟وهل بإمكاننا أن نتعرف على مواطن الخلل التي أدت إلى ذلك التغلغل الذي تعددت أشكاله.
وسنورد بعض الآراء حول الفترة التي كتب فيها الجبرتي كتابه"العجائب"، ومن ثم نناقشها لنثبت الخطأ منها أو الصواب:
الرأي الأول:أن الجبرتي كتب المجلدات الثلاثة الأولى من عجائب الآثار بشكل نهائي خلال عام(1220هـ،وبدايات 1221هـ/1805-1806م)،أما المجلد الرابع فانه قد كتب في الفترة التي غطاها هذا المجلد،أي فترة محمد علي،وان الجبرتي كانت لديه نية في مواصلة الكتابة حتى بعد المجلد الرابع،وهذا-أي مواصلة الكتابة-يستشف من ملاحظته في آخر المجلد الرابع"وأما حادثة الاروام التي هي باقية إلى الآن وما وقع منهم من الإفساد وقطع الطريق على المسافرين واستيلائهم على كل ما صادفوه من مراكب المسلمين وخروجهم عن الذمة وعصيانهم وما وقع معهم من الوقائع وما سينتهي حالهم إليه فسيتلى عليك إن شاء الله تعالى بكماله في الجزء الآتي بعد ذلك والله الموفق للصواب واليه المرجع والمآب"( )،وان كتابه الآخر وهو"مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس"قد كتبه في نهاية (1216هـ/نهاية 1801/أو بداية 1802م)( ).
أما الرأي الثاني فقد ذهب فيه د.محمد أنيس إلى ابعد من ذلك،فيقول إن تفكير الجبرتي في كتابة التاريخ لم يكن من دافع شخصي،وإنما نتيجة لتكليف الشيخ محمد خليل المرادي الحسيني مفتي دمشق(ت 1206هـ)( )،للشيخ محمد مرتضى الزبيدي( )،لمساعدته سنة 1200هـ بجمع تراجم أعلام المائة الثانية عشر* ،والذي كلف بدوره تلميذه الجبرتي ليساعده في كتابة في هذا العمل،ومن ثم بدأ الجبرتي كتابته للتاريخ بجمعه لتراجم أعيان القرن الثاني عشر،ولما مات الزبيدي في سنة 1205هـ ،أرسل الشيخ المرادي مكتوبا للجبرتي لتكليفه مباشرة بتولي جمع التراجم،وكان الجبرتي قبل ذلك قد توقف عن الكتابة لوفاة أستاذه الزبيدي،لكن خطاب المرادي قد أعطاه الدافع لمواصلة الكتابة،ومن ثم فترت همته مرة أخرى لوفاة المرادي،فانقطع عن الكتابة بعد سنة 1206هـ ، إلى أن عاد إليها بشكل جديد،وهو المذكرات اليومية( )،وهنا مرت العملية التاريخية للكتابة عند الجبرتي حسب رأي د. محمد أنيس في أربع مراحل:الأولى انه بدا بكتابة مشاهداته اليومية ومذكراته منذ دخول الفرنسيين مصر أي منذ 1213هـ ،وانه كتب تاريخ مصر تحت الاحتلال الفرنسي من( 1213هـ - 1216هـ )،وهو كتاب (مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس)،وأما المرحلة الثانية:جمعه للتراجم التي كان قد كلف بها من قبل أستاذه الزبيدي ومن بعده المرادي،واخرج منها الجزئين الأول والثاني من كتابه عجائب الآثار،ثم عدل في مظهر التقديس واخرج منه الجزء الثالث من عجائب الآثار مع إضافة حوادث سنة 1216هـ و 1220هـ( )،ففي مخطوطة (كتاب مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس)الموجودة في المجمع العلمي العراقي،كتب على صفحة الغلاف فيها:وكان الشيخ الجبرتي أحد علماء الديوان الذي نصبوه الفرنسيس في مصر ،فهو رجل ماهر في علوم الأدب وعلم الفلك والميقات،فحيثما كان يعاشر علماء الفرنسيس وقت قيامهم خاف على نفسه من بعد ذهابهم وألف هذا الكتاب ليبرى ذمته وليظهر محبته إلى الدولة العالية)( )،وهذا ما يؤكد القول بان الجبرتي قد جعل كتابته للعجائب بشكل سري، و كتب مظهر التقديس قبل وصول العثمانيين إلى مصر،أي في بدايات المباحثات العثمانية الفرنسية في شأن خروج الفرنسيين من مصر وتسليمها للعثمانيين،أي بدايات (1216هـ/1801)،ولان الجبرتي قد أدرك ما يمكن أن يفعله العثمانيون به لو أنهم ظفروا به،أي أنه جعل من مظهر التقديس غطاء على كتابه العجائب،تنظر صفحة غلاف مخطوطة مظهر التقديس التي كتب عليها التعليق.،ثم أخذ يدون مذكراته للجزء الرابع الذي يشمل تاريخ مصر من سنة 1221هـ حتى سنة 1236هـ( ).ويؤيده في ذلك المستشرق الانكليزي هولت الذي ذهب مذهب د.محمد أنيس في ذلك.( )
ونستخلص من الرأيين انفي الذكر أن الجبرتي من جهة لم يكن لديه تفكير تاريخي،وإنما كانت عملية مساعدة انتدبه لها شيخه ومن ثم تحول الانتداب من شيخ شيخه إليه مباشرة،وان هذه العملية حسب رأيهم هي الدافع الحقيقي لدخول الجبرتي إلى مضمار التاريخ،ومن جهة أخرى أن عملية التأريخ للحملة الفرنسية هي بمثابة مذكرات يومية لاتخرج عن الخواطر التي كان يسجلها الجبرتي،والتي خرج حسب رأيهم منها بكتابه "مظهر التقديس"،وأما كتاب العجائب،فهو تحصيل حاصل إلى نهاية مجلده الثالث،فقد عدل بمظهر التقديس وخرج بالمجلد الثالث من العجائب،ومن ثم بدأ بكتابة أحداث الفترة 1221-1236هـ.بمعنى آخر أن كتاب العجائب وما تضمنه من أحداث وكتاب مظهر التقديس،لايتعديان الإخبار الصحفي.
و الحقيقة أن ما ورد آنفا لانستطيع أن نسلم به بعد القراءة المتأنية التي قمنا بها لكتابي الجبرتي(العجائب ومظهر التقديس)،فالكثير من الحوادث التي أرخ لها الجبرتي في العجائب بعد الدخول الثاني للعثمانيين تشير بما لايدع مجالا للشك ما سنثبته الآن،فلو قلنا أن الجبرتي قد كتب مظهر التقديس قبل العجائب،ومن ثم قام بتعديل مظهر التقديس وأخرج منه الجزء الثالث من العجائب،فإذا صح القول بان الكل يؤخذ من الجزء فقد يصح ذلك.
إذا قلنا أن مظهر التقديس يبدأ من (1213-1216هـ/1798-1801م)،أي من دخول الفرنسيين مصر حتى خروجهم منها ودخول العثمانيين بقيادة الوزير يوسف باشا.فإذا قارناه بالكتاب الثاني وهو عجائب الآثار،نجد أن الكثير من اليوميات التي كتبها الجبرتي في مظهر التقديس مقتضبة أي حذف منها بعض العبارات ،وأخرى مفصلة تفضيلا دقيقا في العجائب،ومن خلال المقارنة الإحصائية التي أجراها محقق كتاب مظهر التقديس نجد الآتي:
1. يتكون مظهر التقديس من 683 يومية تؤرخ للفترة من بداية الاحتلال في المحرم 1213هـ/،وحتى نهاية شعبان 1216هـ/ وفي نفس هذه الفترة الزمنية دون الجبرتي 778 يومية في عجائب الآثار بفارق 95 يومية بين الكتابين.إذ يتكون الجزء الرابع من عجائب الآثار من تاريخ 1213-1221هـ،أي أن الأصل هو عجائب الآثار،واليوميات المعدلة أخذت من العجائب وأخرجها بمظهر التقديس.بينما استمر بكتابة عجائب الآثار.
2. توجد 101 يومية وردت في عجائب الآثار ولم ترد في مظهر التقديس،منها 55 يومية خاصة بمشاغبات الجنود الأتراك ونهبهم الأسواق والمحلات ،وكذلك تتناول الغرامات والضرائب التي فرضت بعد عودة العثمانيين ومنها 4 يوميات خاصة بإنشاءات الفرنسيين وأعمالهم العلمية،ومنها 6 يوميات ذات صلة بموقف الجبرتي من الفرنسيين أو العثمانيين،ويومية واحدة خاصة بتجنيد الأقباط في الجيش الفرنسي ،وباقي اليوميات وعددها 16 يومية متنوعة في موضوعات لا علاقة بالفرنسيين أو العثمانيين بها،ومنها 19 يومية تراجم لأشخاص مختلفين،ويبدو أن الجبرتي لم يرد ذكرهم في مظهر التقديس لان الكتاب ليس لتراجم الأشخاص،وإنما هو كتاب موجه للعثمانيين( ).
فقد حرص الجبرتي في مظهر التقديس على إيصال فكرة إلى العثمانيين بأنه لم يتعاون مع الفرنسيين ولم يرض بوجودهم،وإنما رفضهم،ويظهر ذلك من الشتائم الكثيرة التي وجهها للفرنسيين،وفي الحقيقة أن الجبرتي مع كونه شتم الفرنسيين إلا أن النفس الذي امتاز به في عجائب الاثار ظل موجودا ولكن بصورة مبطنة،لانه لم يستطع تحمل عودة العثمانيين بنظامهم الذي اعتبره غير عادل كنظام الفرنسيين،ويلاحظ بالمقارنة بين مظهر التقديس وعجائب الاثار أن الجبرتي لايشير الى العثمانيين في مظهر التقديس الا بقوله((المسلمين))،بينما يطلق عليهم في عجائب الاثار ((العسكر))أو العثمانية،وفي مظهر التقديس لايذكر اسم قائد من القادة الفرنسيين الا مصحوبا بوصف معين كقوله:برطلمين الكافر،اللعين الكافر،اللعين كفرلي،والتعيس بونابرته،والملعون ديبوي،والملاعين الكفار،ولكنه يحذف كل هذه الأوصاف في عجائب الاثار( )
3. يوجد بمظهر التقديس 7 يوميات ومعظمها خاص بمدح الجبرتي للوزير العثماني يوسف باشا وبعض كتابات الشيخ حسن العطار.ويبدو هنا أن الجبرتي عندما استل من العجائب تلك اليوميات التي عدلها،قد أضاف ما من شأنه أن يمتدح العثمانيين،فضلا عن اعتماده على أشعار الشيخ حسن العطار الذي نظن بان اختياره ليكون الرفيق الشعري في مظهر التقديس ربما له قضية حاولنا البحث عنها ولاجدوى.وربما يكون استخدام الجبرتي لحسن العطار في كتابه مظهر التقديس عائد إلى أمرين،الأول أن العطار كان لديه قبول عند العثمانيين،وبالتالي ستكون كتابات الجبرتي أكثر قبولا لأنه متضمن أشعار وروايات نقلها العطار،والثاني أن العطار،كانت لديه حضوه عند محمد علي،فهو الذي رشح رفاعة الطهطاوي ليرسل إلى فرنسا، فضلا عن رحلاته الطويلة في بلاد الشام،وذكر المستشرق الانكليزي لين(LANE) الذي التقي به في سنة 1825م ، انه كتب تقريظا للعطار،وقال انه كتبه إجابة لرغبته لأنه علم أن لين سيكتب كتابا عن مصر وأهلها،ولذلك طلب منه أن يشير إلى معرفته به،وان يذكر رأيه به( ).
4. يوجد في مظهر التقديس 59 يومية وردت في عجائب الآثار مختصرة أو محذوف منها فقرات،وهي الفقرات الخاصة بمدح الوزير ورجال دولته،أو المبالغة في الهجوم على الفرنسيين دون مبرر.والحقيقة أن هذه الفقرات ليست مختصرة أو محذوفة وإنما هي الصورة الأولى لما كتبه الجبرتي،ثم عاد وعدلها في مظهر التقديس.
5. يوجد بمظهر التقديس 67 يومية وردت في عجائب الآثار مفصلة ومضاف إليها فقرات،وهي الفقرات الخاصة بإنشاءات الفرنسيين وعلومهم وقوانينهم ومسرحهم ومكتبتهم-المعهد العلمي-وبعضها خاص بأفاعيل الجند العثماني وقبيح خصالهم وأخلاقهم.وفي حقيقة الأمر أن هذه اليوميات كما ذكرنا في النقطة السابقة تدعم رأينا في أن الجبرتي كتب العجائب قبل مظهر التقديس،لأنه في احد يومياته وهي زيارته للمعهد العلمي الذي أنشأه الفرنسيين والذي وصفه وصفا دقيقا( )،فهل يعني أن الجبرتي كتب مارآه مختصرا في مظهر التقديس ثم كتبه مفصلا في عجائب الآثار.
6. يوجد في مظهر التقديس 92 يومية تم تعديلها عما كانت عليه في عجائب الآثار،لكي تبدو أكثر حيدة وموضوعية،فحذفت منها الشتائم الموجهة للعثمانيين،ومنها تبديل"الوزير"بكلمة"الصدر الأعظم"،و"العثمنلية"بـ "الدولة العلية"،كما استبدل عبارات وصف الفرنسيين "مثل الكافر واللعين والخبيث"وغير ذلك.ولعل هذا ما يؤكد الرأي الذي ذهب إليه د.أيلون حين يقول أن الجبرتي عندما كتب مظهر التقديس أراد بذلك التملق للعثمانيين( ).
7. يوجد بمظهر التقديس 184 يومية متطابقة تماما مع عجائب الآثار،حيث نقلت بالنص،كما توجد 276 يومية متشابهة بين الكتابين مع اختلاف بسيط في كتابة بعض الكلمات التي لاتؤثر على المعنى العام لليومية،ولعل ذلك حرصا من الجبرتي على أن يظهر مظهر التقديس بشكل يجعل منه كتابا حقيقا.
8. والخلاصة،فإن الجبرتي كتب 785 يومية للتأريخ للفترة المشار إليها وبيانها كالآتي:101 يومية موجودة في عجائب الآثار وغير موجودة في مظهر التقديس و6 يومية موجودة في مظهر التقديس وغير موجودة في عجائب الآثار ومجموعها 107 يوميات بنسبة 13.63%،و218 يومية تناولها الجبرتي بالاختصار والإضافة وتعديل الصياغة بنسبة 27.77%،ومجموع المعدل والمحذوف تماما 325 يومية بنسبة 41.40%،وهناك 184 يومية متطابقة في الكتابين،و276 يومية متشابهة بمجموع 460 يومية وبنسبة 58.60%،وعلى ذلك فان المتشابه في الكتابين يزيد عن النصف قليلا والمختلف والمعدل والمحذوف يقل عن النصف قليلا.
ونتيجة طبيعية لما سبق نقول أن الجبرتي لما كلف من قبل أستاذه الزبيدي لمساعدته في جمع تراجم أعيان القرن الثاني عشر،لم يكن ذلك في حقيقة الأمر هو الباعث الحقيقي لدخول الجبرتي العملية التاريخية،لأنه لم يكن يعلم الغرض الحقيقي لكتابة هذه التراجم،وإنما علم ذلك بعد وفاة أستاذه الزبيدي ومن ثم تكليفه مباشرة من قبل المرادي،فالجبرتي هنا قام بدراسة لهذه التراجم فقال عنها أن المرادي أهمل من يستحق أن يترجم من كبار العلماء والأعاظم ونحوهم( )،وهذا يعني أن الجبرتي لديه حس تاريخي،وان لم يكن الجبرتي لديه الخبرة في العملية التاريخية لما كلف بمثل هذا الأمر( ).
إن مسألة تحديد الباعث الحقيقي لكتابة التاريخ عند الجبرتي من الصعوبة بمكان إذا ما اعتبرنا أن الفترة التي انبثق منها الجبرتي في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر،كانت بيئة مقفرة،وامتازت بتدني الكتابة التاريخية في مصر،ولعل ابرز سبب في ذلك التدني، تكمن في حقيقة أن مصر كانت إلى وقت الغزو العثماني مركز لأكبر وأعظم إمبراطورية،ثم تحولت إلى مجرد ولاية صغيرة في إمبراطورية كبيرة،والسبب المهم الآخر،هو النقل الجماعي للأعمال التاريخية من القاهرة إلى القسطنطينية،ولا يزال عدد منها هناك،وفي الحقيقة أن مثل هذه الأعمال متوفرة بنسخ معدودة،ويظهر التأثير السلبي عليها من خلال النقل الجماعي،وليس لدينا معلومات حول انتقال مؤرخين من مصر إلى العاصمة العثمانية،فالكتابة التاريخية العثمانية من القرن السادس عشر إلى بدايات القرن التاسع عشر كانت أغنى جدا وعلى مستوى عالي عما هي عليه في الكتابة التاريخية المصرية في الفترة ذاتها( ).
وثمة مسألة أخرى هي أن الجبرتي بعد أن توقف عن الكتابة لان الأصحاب الحقيقيين الذين كلفوه قد ماتوا،وتوقف في سنة 1206هـ،ثم عاد إلى الكتابة في 1213هـ أي عند دخول الفرنسيين مصر،وهذا هو الباعث الحقيقي لدخول الجبرتي العملية التاريخية، وهي كما يقول الجبرتي(باعث من نفسي)،أي أن هذا الباعث هو دخول الفرنسيين مصر،وليس كما يقول د.محمد أنيس من أن الباعث النفسي ظهر في سنة 1220هـ/1805م،لأنه أراد تغيير موقفه من الأحداث التي مرت بها مصر منذ احتلال الفرنسيين لها( )، فموقفه من الفرنسيين قد ثبته منذ أول يوم دخلوا فيه،أما عن مسألة أن الجبرتي كان يكتب من خلال مواقف شخصية تتغير بحسب الحالة النفسية للجبرتي( )،،لأنه هنا تعامل مع نظام غير الأنظمة التي كان يألفها من مماليك وعثمانيين.
وبالتالي عندما أنهى الجبرتي تأريخه للفرنسيين منذ 1213-1216هـ/1798-1801م،وكذلك فترة العثمانيين 1216هـ/1236هـ/1801-1821م.أراد أن يضمن كتابه عجائب الآثار بما كان قد جمعه من تراجم،ليخرج كتابه على الصورة التي أراد،لأنه يقول انه لما عزم على جمع ما كان سوده من معلومات أراد أن يوصله بشيء قبله( ) ولم يكن ذلك الشيء سوى التراجم التي كان قد جمعها.كما يقول في مقدمة عجائب الآثار انه قد دون الحوادث التي جرت فيما بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر،الذي كان يعيش أيامه وحوادثه( )،أي أنه هنا يؤكد انه بدا بكتابة عجائب الآثار قبل مظهر التقديس.
أما فيما يخص مظهر التقديس فان الجبرتي لما عمل لدى الفرنسيين،فضلا عن الصفات التي ذكرها عنهم،وخشيته من جانب آخر مما يمكن أن يلحقه من العثمانيين الذين وصفهم بأوباش العساكر الذين يدعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون( )،ثم أنهم العثمانيين قد قتلوا ابنة الشيخ البكري( )،كان لابد للجبرتي أن يخشى على نفسه مما يمكن أن يطاله من العثمانيين،ولذلك خرج بكتابه"مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس"الذي أهداه للوزير يوسف باشا،وقد لخصه على وفق ما من شأنه أن يذهب بالخطر عنه.ولعل ما يؤكد ذلك هي مخطوطة "ضيا نامة" للدارندلي باللغة التركية،التي كتبها فيما بين 1801-1805م،بتكليف من الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا،والتي اقتبس فيها بشكل كبير من كتاب مظهر التقديس للجبرتي( ).
ولعل ذلك يؤكد أن الجبرتي أراد من مظهر التقديس أن يكون بمثابة حائل بينه وبين العثمانيين،ليستطيع إتمام عجائب الآثار،فيوهم العثمانيين انه لم يكتب سوى مظهر التقديس،بينما العمل مستمر في عجائب الآثار.وهذا يعكس أيضا الصورة التي كان عليها واقع الجبرتي،إذ لم يكن من دافع لمثل هذا العمل سوى الخوف والحذر الشديدين ، وان الجبرتي كان مدرك لما يمكن أن يطاله لو أن كتابه عجائب الآثار وقع بيد العثمانيين لأنه أدرك أن العثمانيين سيضربون بيد من حديد كل من تعامل مع الفرنسيين.فكيف سيتعاملون مع شخص كتب مآثر الفرنسيين وذم العثمانيين.
ثم أن الجبرتي فيما بعد أي بعد 1236هـ/1821م،بدأ بإخراج كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار في صورته النهائية،فحسب ما يورد جرجي زيدان في تاريخ الآداب العربية انه وقع على نسخة من عجائب الآثار في مكتبة محمد بك آصف بمصر جاء في آخرها انه تم تبييضها سنة 1237 وعلى هامشها ما نصه بخط واضح: " بلغ مقابلة وقراءة على مؤلفه من أوله إلى آخره في يوم السبت المبارك 14 ربيع الأول سنة 1240هـ/1824م بمرأى ومسمع من مؤلفه متع الله الوجود بطول حياته ولا أحرمنا والمسلمين من صالح دعواته وعدد بركاته انه سميع قريب مجيب. رقمه بيده الفائية احمد بن حسن الرشيدي الشافعي الشهير بصوبع" ( ).وهذا يعني أن الجبرتي لم يعد صياغة عجائب الآثار وإنما أراد أن يتأكد قبل موته بتمام ما كتبه،ولتأكيد رأيه فيما كتب.

ثانيا- أصدقاء الجبرتي وأثرهم في شخصية وكتابات الجبرتي.
نجح نابليون في كسب رأي النخبة في مصر وهم العلماء، وأصبح الرأي العام المصري آنئذ ينظر إلى نابليون بأنه المخلص الذي جاء لإنقاذ المسلمين من الظلم والاضطهاد الذي مورس بحقهم،ولم يكن الجبرتي هو العالم المصري الوحيد الذي اتصل بالفرنسيين،بل اتصل بهم شخصيتين لهما وزن الجبرتي،وهما(إسماعيل الخشاب،وحسن العطار)،ولعلهما يحملان الخصائص ذاتها في قضية الاستغراب،ورؤية الآخر الفرنسي،ولكن ربما يكونان اقل من الجبرتي فهما للآخر،وهما في الوقت ذاته من الأصدقاء المقربين للجبرتي،وجاء إدراجنا لهما بحكم تلك الصلة الوثيقة بالجبرتي.
-أولا:إسماعيل الخشاب:
إسماعيل بن سعد بن إسماعيل الوهبي الخشاب الشافعي،الذي توفي في 2ذي الحجة 1230هـ/5 تشرين الثاني 1815م( )،كان أبوه نجارا،الذي تحول فيما بعد إلى مالك مخزن للخشب،كان إسماعيل يكسب قوته اليومي كشاهد في المحكمة العليا في القاهرة،وانتظم بقراءة كتب الأدب والتصوف والتاريخ،وكتب الشعر راقيا( )،بسبب معرفته الواسعة وشخصيته المحبوبة والمقبولة بين شخصيات بارزة من الأمراء والكتاب والتجار الذين كانوا يراهنون على رفقته،مثل مصطفى بك المحمدي أمير الحج،وحسن أفندي العربية،والشيخ السادات،فضلا عن شخصيات بارزة أخرى( ).
عندما أسس الفرنسيون الديوان للإشراف على شؤون المسلمين،عين الخشاب لكتابة يوميات ومحاضر الديوان،كما يقول الجبرتي:((تعين المترجم في كتابة التاريخ لحوادث الديوان وما يقع فيه من ذلك اليوم)( )،لان الفرنسيين،كالجبرتي،أولوا عناية كبيرة بتسجيل الحوادث اليومية في الديوان والمؤسسات الحكومية،كذلك كانوا يطبعون الأنباء ويوزعونها بنسخ عديدة،وإرسالها إلى جميع أفراد الجيش،حتى في المناطق النائية( ).
وعلى المستوى الشخصي كان للخشاب صلات مع أفراد في الجيش الفرنسي،فذكر له الجبرتي شعرا قاله في رجلين منهم،أحدهما اسمه:ريج أحد علماء الحملة،والثاني من رؤساء كتابهم من العارفين ببعض العلوم العربية؛يقول الجبرتي"ولما وردت الفرنساوية لمصر اتفق أن علق شابا من رؤساء كتابهم ،كان جميل الصورة لطيف الطبع عالما ببعض العلوم العربية،مائلا إلى اكتساب النكات الأدبية،فصيح اللسان بالعربي،يحفظ كثيرا من الشعر،فلتلك المجانسة مال كل منهما للآخر،ووقع بينهما توادد وتصاف حتى كان لايقدر أحدهما على مفارقة الآخر،فكان تارة يذهب لداره وتارة يزوره هو"( ).وذكر الجبرتي أن الخشاب كان يزوره ومعه أحد علماء الحملة الفرنسية وهو جيرار،"توكل بحضور الديوان كمثارى يقال له جيرار( ) وحضر يوم الجمعة سادس عشرينه بصحبة كاتب سلسلة التاريخ محبنا الفاضل العمدة السيد اسمعيل المعروف بالخشاب"( ).
يبدو جليا من هذا النص أن صديق الخشاب هو أحد المستشرقين الفرنسيين،فقد كانت له معرفة بالعربية،وآدابها،وهذا ما دفعه إلى التقرب من الخشاب،الذي كان على قدر من المعرفة بالعربية وآدابها،ولكن الذي جذب الخشاب إليه،هو معرفة هذا الفرنسي باللغة العربية،التي بلغت معرفته بها أن كان فصيح اللسان ويحفظ الكثير من الشعر العربي،وهذا يعني الاستغراب المبكر عند الخشاب،من القصيدة الحارة نوعا ما والتي قالها في هذا العالم الفرنسي( )،إلا أن الذي لفت انتباه الخشاب هو تلك المعرفة الدقيقة بالأدب العربي،فضلا عن فصاحة اللسان.
وفيما يتعلق بالديوان،فقد كلف الخشاب بأن يكون أمينا لمحفوظات الديوان،وما يصدر من أوامر وأنباء يومية،والتي دعاها الجبرتي"كاتب سلسلة التاريخ"( )،واستمر بهذه الوظيفة طيلة فترة حكم عبد الله جاك مينو،فلما رحل الفرنسيين عن مصر،"فجمع من ذلك عدة كراريس،ولا أدري مافعل بها"( )،وربما يكون الجبرتي قد استفاد من هذه الكراريس-أو على الأقل أن الجبرتي قد اعتمد على الخشاب في نقل الأخبار إليه،لان الخشاب بحكم وظيفته تلك كان على اطلاع مباشر على كل مايجري في الجيش الفرنسي"فهو المتقيد بكل ما يصدر من المجلس من أمر ونهي أوخطاب أو جواب أو خطأ أو صواب"( )،والذي دفعنا لهذه الاعتقاد أن الجبرتي يقول،لما رجع حسن العطار من رحلته كانا هو والخشاب يلتقيان ويبيتان كثيرا عنده( ).
وجدير بالذكر هنا أن عمل الخشاب لدى الفرنسيين ككاتب للديوان،لم تؤثر سلبيا عليه بعد خروج الفرنسيين،وإنما ذكر ككاتب للرسائل المهمة والمراسيم المتعلقة بالباشوات العثمانيين،خلال الفترة المبكرة من حكم محمد علي،التي تعرض فيها الجبرتي إلى اضطهاد حكم محمد علي( ).وربما نستطيع الربط بين وظيفة الخشاب وبين الكتابين الذين ألفهما،الأول"خلاصة مايراد من أخبار الأمير مراد"،والثاني"أخبار أهل القرن الثاني عشر".
يذكر محققي كتاب"خلاصة مايراد من أخبار الأمير مراد"( )،أن الفرنسيين طلبوا من الخشاب كتابة هذا الكتاب،ويتضح ذلك حسب رأيهم أنهم استخدموه في وصف مصر.أما الكتاب الثاني"أخبار أهل القرن الثاني عشر"فيشير المحققان له( )،أن هذا الكتاب اخذ شكل السؤال والجواب،لان الخشاب قد ذكر في مقدمة كتابه مانصه : "فقد سألتني أرشدك الله من العمل إلى صوابه،وفتح لك باب الخير ،وسلك بك ما يوصلك إلى بابه أن اجمع لك جزءا يشتمل على بعض أخبار أهل القرن الثاني عشر مما شاهدته عيني أو نقلته عن من غير ذا جبت"( ).
ولما كان هذا الكتاب يبدأ من 1120-1213هـ/1708-1798م،فهذا يعني الشخص الذي يجيب الخشاب عن أسئلته هو صديق عبد الرحمن الجبرتي،فالجبرتي قد بدأ التدوين لعجائب الآثار منذ سنة 1100هـ/1688م،وهذا يعني أن الجبرتي قد كلف الخشاب بجمع أخبار أهل القرن الثاني عشر،وقد كان الخشاب قد ذكر لأول مرة في عجائب الآثار في سنة 1198هـ/1783م.وهذا يعني أن الجبرتي قد بدأ بكتابة التاريخ قبل الشيخ الزبيدي له سنة 1200هـ/1785م( ).
- ثانيا:حسن العطار.
حسن العطار،الصديق المقرب الثاني للجبرتي،كانت أسرة العطار مغربية الأصل،كما كان أبوه عطارا،ولكن حسن مال لدراسة العلم منذ الصغر،فشجعه أبوه على ذلك وأعانه،فشب شغفا بالعلم والبحث في كل غريب،وكان شخصية فذة،وامتاز على اقرأنه بعقلية حرة ناضجة،فأحس بان العلوم التي كانت تدرس في الأزهر حينذاك علوم فجة لاطائل تحتها،فدرس بنفسه علوم الهيئة والطب والفلك والرياضة،ومرن على استعمال الإسطرلاب وألف رسالة في كيفية العمل به وبالربعين المقنطر والمجيب،وكان يحسن عمل المزاول الليلية والنهارية( ).
عندما وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر كان العطار في الثانية والثلاثين من عمره،فسافر إلى أسيوط،فلما استقرت الأحوال عاد إلى القاهرة،ويقول عل مبارك باشا:"واتصل بناس من الفرنساوية،فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة في بلادهم ويفيدهم اللغة العربية،ويقول أن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها،ويتعجب بما وصلت إليه تلك الأمة من المعارف والعلوم،وكثرة كتبهم وتحريرها وتقريبها لطريق الاستفادة"( ).
وفيما يخص علاقته مع الجبرتي وأثره في كتاباته، فقد ظهرت مساهمته البارزة في كتابات الجبرتي،هي أشعاره،التي اقتبسها الجبرتي كثيرا في عجائب الآثار ومظهر التقديس،بعضها كانت قصائد مدح ومرثيات في شخصيات مشهورة،والبعض الآخر منها استخدمه الجبرتي لتصوير بعض الأحداث أو الظواهر التي كتب عنها الجبرتي( ).
ويرد ذكره باعتباره قد مد الجبرتي بالمعلومات التاريخية مرة واحدة في كتاب عجائب الآثار،عندما اقتبس الجبرتي نص الرسالة الكاملة المؤرخة في 28 ذي الحجة 1215هـ/12 مايس 1801م،التي أرسلها العطار من أسيوط للجبرتي،والتي أعطى فيها الصورة الواضحة عن الطاعون،والمصاب الذي حل بأهل مصر العليا في الصعيد( ).
واشترك العطار في إتمام مظهر التقديس،كتاب الجبرتي عن الاحتلال الفرنسي،فقد ذكره الجبرتي على انه ساهم في جمع كتاب مظهر التقديس من خلال بعض الأخبار والشعر والنثر:"وكان ممن اعتنى أيضا بجمع بعض الأخبار،صاحبنا العلامة حسن بن محمد الشهير بالعطار،فضممت ما نمقه مع بعض من منظومه و منثوره إلى هذا السفر لينتظم في سلك حسن الذكر"( ).
بلغت شهرته وأثره الذروة في عهد محمد علي،الذي جعله شيخا للأزهر،وعينه فيما بعد محررا في الجريدة الرسمية المصرية، يقول لين الذي التقى بالعطار أثناء إقامته في القاهرة،أن العطار لم يكن متمكنا من علم الكلام وعلم التشريع كما كان معاصروه،وإنما كان متفوقا في علم الأدب،والإنشاء( )،كذلك ذكر في مناقشة المواضيع التاريخية بحضور الجبرتي( )،إذ ذكر الجبرتي عن العطار والخشاب:"وكثيرا ما كانا يتنادمان بداري لما بيني وبينهما من الصحبة الأكيدة والمودة العتيدة( )"وذكر عنهما أيضا:"وهما حينئذ فريدا وقتهما ووحيدا مصرهما لم يعززا في ذلك الوقت بثالث إذ ليس ثم من يدانيهما...واستمرت صحبتهما وتزايدت على طول الأيام مدتهما حتى توفي المترجم-أي الخشاب-وبقي بعده الشيخ حسن فريدا إماما يشاكله ويناشده ويتجارى معه ويحاوره"( ).والحقيقة أن صداقة الخشاب والعطار للجبرتي،من الأهمية بمكان أنها أعطت أهمية لعمل الجبرتي التاريخي خلال فترة حكم محمد علي،ومكنته من أن يبقى على اتصال مع ما كان يجري في الدوائر الحاكمة،والتي لم تتوفر للجبرتي الوصول إليها كما كان في السابق( ).

-ثالثا:الجبرتي وفلسفة التاريخ:
في إطار المناخ الفكري الذي كان يسود عصره-وانطلاقا منه-نظر الجبرتي للتاريخ ولظواهره؛فهو لم يستطع أن يرتفع عن مستوى عصره إلا بدرجة محدودة؛وظل مرهقا بهذا العصر لايستخلص العبرة ولا الحقيقة الاجتماعية( ).
والخط العام الذي يحكم فهم الجبرتي للتاريخ هو النظر إليه باعتباره محكوما بحتمية جبرية تحقق الإرادة العليا أو الخالدة،ولا شك انه انطلق إلى هذا الفهم من ثقافته الدينية وتعصبه السني وانتمائه الصوفي؛ولا شك أن إطارا من الفهم الأسطوري قد أحاط بهذا كله نتيجة للتدهور العقلي الذي كان سائدا في عصره( )؛فهو في مقدمة مظهر التقديس مثلا يشير إلى إمكانية التنبؤ بالوقائع التاريخية من حركة النجوم فعنده أن ((وقائع الأيام وخطوبها وحوادث الحادثات وكروبها؛لم تزل من حين خلق الله العالم متتالية ومن ضمن الليالي والأيام متوارية))( )،وهو يرى أن الله أودع في الكواكب خصائص عند اقتران بعضها ببعض،يربط بينها وبين ما يحدث على الأرض ،وان هناك من البشر من أودع الله في نفوسهم خاصية التنبؤ بالحدث التاريخي((إما بالهام أو باكتساب ونظر في علم الأحكام))،وتطبيقا لهذا يقول ((وان أعظم الدلائل على ما رميت به مصر،وحل به لأهلها تنوع البؤس والاصر بحلول كفرة الفرنيسس))؛ووقوع هذا العذاب البئيس حصول الكسوف الكلي في شهر ذي الحجة بطالع مشرق الجوزاء المنسوب إليه إقليم مصر( ).
لكن هذا الفكر المبالغ التدهور يتوارى إلى درجة ما في المقدمة النظرية المحدودة التي كتبها لعجائب الآثار،والتي تكشف-بدرجة أدق-مفهومه للتاريخ،وهو ينطلق من اليقين بان الإنسان حيوان اجتماعي إذ خلق الله الإنسان ضعيفا لايستقل وحده بأمر معاشه لاحتياجه إلى غداء ومسكن ولباس وسلاح،فجعلهم الله يتعاضدون ويتعاونون في تحصيلها وترتيبها بان يزرع هذا لذاك ويخبز ذاك لهذا،وعلى هذا القياس تتم سائر أمورهم ومصالحهم( ).وعنده أن موضوع التاريخ هو أحوال هذا المجتمع،فهو علم يبحث فيه عن معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائعهم وأنسابهم،لكنه يحتفظ للشخصيات البارزة مكانها في هذا الموضوع مثل الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء والسلاطين وغيرهم( ).
وهدف قراءة التاريخ عنده هو العظة والاعتبار أو قياس الحاضر على الماضي،فهو علم نفعي له قيمة في حياة الإنسان الراهنة،فقارئه يستفيد مايرومه من المنفعة ويعتبر المطلع على الخطوب الماضية فيتأسى إذا لحقه مصاب ويتذكر بحوادث الدهر،وهو مايمكن العاقل من أن يقيس نفسه على من مضى من أمثاله في هذه الدار الدنيا،وجوهر نفعية التاريخ يتمثل في حصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن ليحترز العاقل عن مثل أحوال الهالكين من الأمم المذكورة السالفين،ويستجلب خيار أفعالهم ويتجنب سوء أقوالهم ويزهد في الفاني ويجتهد في طلب الباقي( ).
إذاً فعلم التاريخ عند الجبرتي فيه عبر وله مسار من عرفه امن شر الوقوع في اسر الفناء،وهذا المسار ليس عشوائيا وليس مجرد عبرة ترتبط بكل حادث على حدة،كما قد يبدو للنظرة المتعجلة في نصوص الجبرتي،ولكنه مسار يخضع لقوانين كلية ولحتمية مسبقة ترتبط فيها الأسباب بالنتائج والعلة بالمعلول،لكن هذه الأسباب ليست دنيوية إلا بمقدار خضوعها للناموس الإلهي الذي حدد كل شيء سلفا( ).
وحركة التاريخ لدى الجبرتي تتجه إلى تحقيق العدل،والله هو العادل الحقيقي الذي جعل لكل شيء قدرا،والإنسان لذلك لايستطيع أن يعدل إذا تجاوز أوامره ونواهيه بل إن نظام حياته الاجتماعية يختل ،فلو فرض فارض زائدا عليه أو ناقصا عنه لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال( )،وصحيح أن الظلم والعدل خاصيتين وضعهما الله في الإنسان،أو ركزهما في نفسه،إلا أن الله قد وضع أيضا ميزانا للعدالة وقانونا للسياسة توزن به حركاتهم وسكناتهم،وترجع إليه طاعاتهم ومعاملاتهم،والقانون السياسي هو كتاب الله والميزان الذي يحكم به على الناس هو العدل،ولان مباشرة هذا الأمر بواسطة الله،هو خلاف ترتيب المملكة وقانون الحكمة،فانه قد استخلف فيهم خلائف في قلوبهم-أي القران- و العدل –أي الميزان- ليحكموا بها بين الناس،والنظام الاجتماعي كله يفسد في رأي الجبرتي إذا تنازع هؤلاء الخلفاء في وضع الشريعة( ).
ويخضع العالم التاريخي في منظور الجبرتي لجبرية مسيطرة،والخلافة خاضعة لها،ومعناها عنده((أن ينوب احد مناب آخر في التصرف واقفا على حدود أوامره ونواهيه))( )،فالخلافة ليست اجتهادا ولكنها قيام بالواجب المحدد،وحتى العدل ليس إرادة إنسانية،فالإنسان يسمى عادلا،لما وهبه الله قسطا من عدله وجعله سببا وواسطة لإيصال فيض فضله واستخلفه في أرضه بهذه الصفة حتى يحكم بين الناس( ).
وخلائف الله في أرضه الذين يقومون بتطبيق العدل هم خمس فئات تتوزع في نظام طبقي هرمي حديدي،تبعا للرقعة التي يمارسون عليها خلافتهم،هل هي ضيقة أم متسعة،وهل هم مسئولون عن غيرهم أم عن أنفسهم فقط،وهذه الفئات الخمسة هي:((الأنبياء والعلماء والملوك،وولاة الأمور،وأوساط الناس،والقائمون بسياسة نفوسهم))( )،وفي هذا النظام فان الأنبياء أولاء الأمة وعمد الدين ومعادن حكم الكتاب وأمناء الله في خلقه( )،وبما أن النبوات قد ختمت برسالة محمد،فان العلماء-وهم الطبقة الثانية-يقومون بدور الأنبياء فهم ورثة الأنبياء،وهم أحباب الله وصفوته من خلقه ومشرق نور حكمته،وأمناء لله في العالم وخلاصة بني آدم،بل خلاصة خاصة الله من خلقه( ).
والملوك والأمراء هم خلائف العلماء،أي أن درجتهم في الخلافة درجة اقل من درجة العلماء،إذ الواجب على الملك أن لايقطع في باب العدل،إلا بالكتاب والسنة،لأنه يتصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله( ) ،وهو يعطي هؤلاء الملوك حق تطبيق الناموس،إذ لولا قهرهم وسلطتهم لتسلط القوي على الضعيف،والدنيء على الشريف،ولولاه أيضا لا يقدر مصل على صلاته ولا عالم على نشر علمه ولاتاجر على سفره( )،على أن العدل والإنصاف عنده يتسع ليكون أساسا لكل مملكة سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية،لكن المفهوم أن الدولة الإسلامية لاتكون عادلة إلا إذا طبقت الإسلام،وهو يرى العدل أساس استقرار الممالك وان فيه مصلحة للحاكم نفسه،فهو إذا عدل نصره الحق وصفت له النعمى وأقبلت عليه الدنيا،فتهنأ بالعيش واستغنى عن الجيش وملك القلوب وأمن الحروب وصارت طاعته فرضا وظلت رعيته جندا( ).
ويلي الملوك في الخلافة أوساط الناس،الذين يتحكمون فيمن هم أدنى منهم،وهؤلاء مسؤولون على أن يراعوا العدل في معاملتهم،ويؤدوا جناياتهم بالإنصاف فهم يكافئون الحسنة بالحسنة والسيئة بمثلها( )،وفي الطبقة الأخيرة يقبع القائمون بسياسة أنفسهم، هؤلاء الذين لايترأسون على أحد،ولا يتحكمون في إتباع، وهم مطالبون بالعدل مع أنفسهم،برعاية جوارحهم وضبط غرائزهم،لان كل فرد من أفراد الإنسان مسئول عن رعاية رعيته التي هي جوارحه و قواه( ).
ولا نستطيع أن نقول أن الجبرتي قد نظر إلى التاريخ من خلال الإطارات الضيقة والمحدودة لهذه الرؤية،وهي خليط من الأفكار السنية التي تعلي شأن النص وتتعصب له،ومن التصوف المعتدل المقبول لدى أهل السنة،بيد أن الإطار الواسع لها هو الذي يفسر كل الظواهر التاريخية عنده،ولا جدال في أن الجبرتي عندما أعاد النظر فيما عاصره من مراحل وصاغ تاريخه ما لبث أن ظن انه يعيش مرحلة تدهور،عله قد فزع من الانقلاب الحاد الذي نتج من التحولات الخطيرة على عهدي الحملة الفرنسية وما تلاها وما أحدثه محمد علي من تغيير حاد في نمط الحياة المصرية وفي نظام المجتمع المصري الاقتصادي والاجتماعي( )،واختفاء جماعات سياسية قديمة وظهور غيرها،ولأنه محافظ فقد هاله هذا وأدرك انه أمام تحولات وانعطافات خطيرة،ومن هنا فسر هذا التدهور والانحلال طبقا لنظريته تلك بتدهور العدل وبالعدول عن سنن الله وهو ما تمثل برأيه في انهيار أهم الخلفاء عن الله-بعد انتهاء النبوات-وهم العلماء( ).
وربما لهذا شغف الجبرتي شغفا شديدا بإبراز انحراف العلماء عن الناموس،وإذا صرفنا النظر عن الاحتمال الوارد بتأثره في ذلك بمنافسات وأحقاد شخصية،فان هذا الحرص هو جزء من تفسيره للظاهرة المرتبطة باختلال النظام في عصره كتعبير عن اختلال العدل لعدم قيام خلائف الله بدورهم،وهو يرصد حتى في قمة حديثه عن العلماء كخلفاء انه ظهر في هذا الزمان اختلال في حال البعض من العلماء من حب الجاه والمال والرياسة والمنصب والحسد والحقد( ).
وربما يرى الذوق العصري أن الجبرتي مبالغ في تزمته،وان علماء الأزهر كانوا عمليين وواقعيين تجاه عصرهم،لكن تزمت الجبرتي ليس صفة أخلاقية يحكم بمقتضاها على حفنة من الأشخاص،ولكن يحكم بها على المسار التاريخي،فالتاريخ عنده تحقيق لحتمية فرضتها الإرادة العليا بالكتاب والميزان وأنابت عنها خلائف ليطبقوا الكتاب ويعملوا بالميزان،وأهم هؤلاء الخلائف أو طليعتهم العليا هم العلماء،ولهذا انهار التاريخ بانهيارهم،وذهبت مصر عندما ضاعوا،فمن المعتمد لديه أن صلاح الأمة بالعلماء والملوك وصلاح الملوك تابع لصلاح العلماء وفساد اللازم بفساد الملزوم فما بالك بفقده،إن فساد العلماء اختلال لنظام العالم،إذ معنى هذا أن الخلفاء لم يكونوا أمناء على الرسالة وإذا لم يكن في الناس من يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقيم الهدى فسد نظام العالم وتنافرت القلوب( )،وبالتالي لما رفض الأمراء المماليك تنفيذ أوامر العلماء نزل البلاء ولم يزل يتضاعف حتى عم الدنيا وأقطار الأرض.





الفصل الثاني:الجبرتي والفرنسيين:دراسة في رؤية الجبرتي للفرنسيين:
- المبحث الأول: الجبرتي والوهلة الأولى للحملة الفرنسية.
إن أول ما يمكن الحديث عنه في ما يمكن أن نسميه-التلامس النظري والعملي- بين الجبرتي والفرنسيين،هو ذلك النص الذي وضعه الجبرتي في تأريخه للحملة الفرنسية سنة 1213هـ/1798م،والذي يستشرف فيه ما ستؤول-أو آلت-إليه الأحداث القادمة،ويعطي تفسيراً مجملا،يترك من خلاله الفهم لطبيعة الظروف التي أدت إلى مثل هذه الحوادث الجسيمة،والوقائع النازلة.
فيقول:(( وهي-أي سنة 1213هـ/1798م- أول سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقائع النازلة والنوازل الهائلة وتضاعف الشرور وترادف الأمور وتوالي المحن واختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وتتابع الأهوال واختلاف الأحوال وفساد التدبير وحصول التدمير وعموم الخراب وتواتر الأسباب((وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ))( ).
فإذا ما قمنا بتفكيك النص ،وزرعنا الشك في قصدية الجبرتي؛لوجدنا ما يأتي:
أولاً:(( وهي أول سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقائع النازلة والنوازل الهائلة)).
فهو بهذا الوصف يعطينا صورة واضحة وجلية،من خلال استشرافه ومشاهداته،فضلا عن وعيه التام بمجريات الأحداث السابقة،ونحن لانريد أن نحمل النص فوق طاقته،سوى أن في هذه الزاوية من النص تعبير-بكثير من العمق والغموض-أن ما قصده الجبرتي-ليس فقط-ما تحمله من معنى سيء أو ساذج،وإنما هي أساس استند عليه فكره ووعيه التاريخي والاجتماعي،الذي رأى من خلاله الحوادث،على حد سواء.
فوضع المسألة-أي هذا النص-في نطاق واحد يخالف الواقع التاريخي بقدر ما يخالف جدل العلاقة بين الظاهرات الفكرية والظاهرات الاجتماعية ،وهو منطق له صفته الموضوعية ،التي لايمكن أن يلغيها إغفال الباحثين لها أو عدم رؤيتهم إياها،على أن العجيب في الأمر هنا أن بعض هؤلاء الباحثين أنفسهم( )قد وضعوا أمامنا في بحوثهم فيما يتعلق برؤية الجبرتي للفرنسيين أو تأريخه للحملة ذاتها،مادة جيدة لرؤية تلك العلاقة،ولكنهم وضعوها بصفتها مادة تاريخية وحسب،دون أن يستخدموها في شيء من التحليل العلمي،الذي يرجع المسألة إلى جذورها الحقيقية في واقع المجتمع الذي ظهرت فيه بأشكالها الخاصة.
ثانياً:(( وتضاعف الشرور وترادف الأمور وتوالي المحن واختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وتتابع الأهوال واختلاف الأحوال)).
في هذه الزاوية من النص ، يستخدم الجبرتي مدلولات لغوية،تنبعث منها المأساة التي عاشها المصريون مع حكامهم(المماليك-الفرنسيين-العثمانيين)،إذ اختار ثلاثة ألفاض تدل على الاستمرارية في الحدوث والزيادة عليها في قوله في ثلاثة مواضع(تضاعف،ترادف،توالي)،أي إن الشر أو المحن لم تكن وليدة فترة دخول الفرنسيين ،وإنما هي عملية تراكمية مبتناة(ENSAMBLE)،ولكنها لم تتحول إلى هجوم وجهي(HEAD-ON-ATTACK) إلا حين رأى الجبرتي أن هؤلاء-أي الأمراء المماليك-بكل ما كانوا يحملونه من تغطرس يتساقطون كالرسوم الورقية،حين لم يقدروا أن يحركوا ساكنا عندما وصل الفرنسيين،واكتفوا بالجلوس وانتظار القدر،فيقول:((وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك-أي الاستعداد للمعركة-ولم يكترثوا به اعتماداً على قوتهم وزعمهم أنه إذا جاءت الإفرنج لايقفون في مقابلتهم،وأنهم يدوسونهم بخيولهم))( ).
وان كان الجبرتي يلوم المماليك هنا،فانه بطبيعة الحال يتعقلن الفرنسيين-على أن هذا لايعني بحال من الأحوال أن الجبرتي يحابي الفرنسيين-الذين((اشتاقت أنفسهم لاستخلاص مصر مما هي فيه،وإراحة أهلها من تغلب هذه الدولة-المماليك-المفعمة جهلاً وغباوة ،فقدموا و حصل لهم النصرة ،ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد من الناس ،ولم يعاملوا الناس بقسوة،وان غرضهم تنظيم أمور مصر))( )، قلت-أي الجبرتي-:((ولم يعجبني في هذا التركيب إلا قوله المفعمة جهلا وغباوة بعد قوله اشتاقت أنفسهم،ومنها قوله بعد ذلك:ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد إلى آخر العبارة))( ).
ثم أن الجبرتي بعد ما رأى من المماليك الذين يدعون الاسلام ،والعثمانيين((اوباش العساكر الذين يدعون الاسلام،ويزعمون انهم مجاهدون،وقتلهم الانفس وتجاريهم على هدم البنية الانسانية،بمجرد شهواتهم الحيوانية))( )،وما رآه من الفرنسيين((هؤلاء الطائفة الذين يحكمون العقل ،ولا يتدينون بدين)).( ) عقد مقارنة تاريخانية لم يكن الدين أساسها إطلاقا،إنما أقامها على أساس-العدل-(( فرأس المملكة وأركانها، وثبات أحوال الامة وبنيانها العدل والإنصاف، سواء كانت الدولة إسلامية اوغير إسلامية، فهما أس كل مملكة وبنيان كل سعادة ومكرمة فان الله تعالى أمر بالعدل ولم تكتف به حتى أضاف إليه الإحسان فقال تعالى((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)) لان بالعدل ثبات الأشياء ودوامها وبالجور والظلم خرابها وزوالها فان الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم وعدم الإنصاف لهم والظلم والجور كامن في النفوس لا يظهر الا بالقدرة كما قيل:
والظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عفة فلعله لا يظلم
فلولا قانون السياسة وميزان العدالة لم يقدر مصل على صلاته ،ولا عالم على نشر علمه، ولا تاجر على سفره))( ).
ولايسهل قبول الرأي الذي يذهب إلى أن الجبرتي حين خرج إلى الحاضر الراهن له ،لم يحاول أن يصيغ التاريخ في لحظة الوعي بسياق حضاري مغاير ( ) أو أن الدعاية الفرنسية في مصر استطاعت خداع عالم كبير مثل الجبرتي ( )،لان الجبرتي كان يعاين الوقائع على أساس من المقارنة التاريخية- المشبعة بالتجارب القائمة على الوعي والإدراك التام بمجريات الأحداث.
على أية حال فان الإجابة على الأسئلة التي طرحها الدكتور مصطفى عبد الغني( )وهي(كيف أخطأ عالم الدين=المثقف،في فهم التحولات التاريخية،وكيف أخطأ في فهم سبب مجيء هؤلاء الغربيين-الفرنسيين)،وكذلك الأسئلة التي طرحها عيسى عبد الرزاق( ) والتي لم تخرج عن أسئلة مصطفى عبد الغني.تحتاج إلى الدراسة المتعمقة التي ربما تسبر غور مخيلة الجبرتي وتحديد الرؤية الحقيقية للأحداث آنذاك.
ثالثا:(( الأحوال وفساد التدبير وحصول التدمير وعموم الخراب وتواتر الأسباب(( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)).
إن هذا النص يكاد يختزل الكثير من التفاصيل التي أرخ لها الجبرتي،ولم يخرج عن نطاق المقارنة التاريخية التي يعقدها بين المماليك والفرنسيين والعثمانيين،فعندما يتكلم عن سوء تدبير المماليك،يتكلم عن حسن خطط الفرنسيين العسكرية وتجهيزهم الحربي،فعن فساد تدبير الأمراء المماليك حين وصلت الأخبار بان الفرنسيين قرب وصولهم:(( ثم في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر وتختلف الناس في الجهة التي يقصدون المجيء منها فمنهم من يقول أنهم واصلون من البر الغربي ومنهم من يقول بل يأتون من الشرقي ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين هذا وليس لأحد من أمراء العساكر همة أن يبعث جاسوسا أو طليعة تناوشهم بالقتال قبل دخولهم وقربهم ووصولهم إلى فناء المصر بل كل من إبراهيم بك ومراد بك جمع عسكره ومكث مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم وليس ثم قلعة ولا حصن ولا معقل، وهذا من سوء التدبير و إهمال أمر العدو))( ).
وبينما كان الأمراء والجند المماليك حريصون على حياتهم،وتنعمهم ورفاهيتهم،مختالون في ريشهم،مغترون بجمعهم،محتقرون شأن عدوهم ،كان الفرنسيين قد فاجؤهم بخطتهم الحربية المحكمة فلم يأتوا إلا من البر الغربي ،ببنادقهم المتتابعة الرمي.( )وليس العثمانيين بأحسن من أقرانهم المماليك،فالجبرتي يورد نصاً ملؤه البشاعة التي يرتكبها إنسان،فكيف بالمسلم ( ).
ولا تنتهي المقارنات أبدا عند الجبرتي فسوء التدبير كان من نتيجته أن يعم الخراب والتدمير في البلاد((وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة،جرى فيها مالم يتفق مثله في مصر،ولاسمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين،فما راء كمن سمعَ)).( )
ثم أن الاختيار الدقيق للاية((وماكان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون))،تعطينا الصورة الجلية التي رسمها الجبرتي في مخيلته عن المجتمع المصري وأرباب الحكم(المماليك،العثمانيين)،والفرنسيين على حد سواء،لما تحمله هذه الآية من دلالات صريحة لاتحتاج لتبيانها.فالرؤية الكامنة في مخيلة الجبرتي لم تخرج عن –العملية التاريخية-التي مرت بمراحلها الثلاث(مماليك-فرنسيين-عثمانيين).
وكنتيجة طبيعية لكل ما مضى فان النص الذي افتتح به الجبرتي سنة(سقوط حكم المماليك)يكاد يختزل في أعماقه -إن لم نبالغ- "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" الذي يحمل الكثير من الأحداث والشواهد التي كان الجبرتي نفسه ينظر إليها من خلال (عينين)الأولى تنظر إلى الفرنسيين وما قاموا به،والثانية تعود إلى الوراء لتستذكر ماكان قائم قبلهم،ثم يقوم بمزج الحاضر بالماضي،ليخرج بخليط حضاري،يمتزج مع أمور طارئة حينا،ومتراكمة في مخيلته حينا آخر،لتعبر بالتالي عن أمله بحصول العدل والإحسان الذي اعتبره أساس الملك.وبالضرورة فان "العدل" عنده كان يساوي الان "الحرية" بأبهى صورها.



- الفصل الثاني:
- المبحث الثاني:الفرنسيون من خلال الجبرتي.
- أولا:السياسة وعدالة التمثيل السياسي.

كان المجتمع في مصر قبل الحملة الفرنسية،منظما وفقا للمبدأ التقليدي المتمثل في الفصل بين نخبة حاكمة،أجنبية الأصول،ومحكومين أهليين،وقد احتكرت المؤسسة المسيطرة الوظائف السياسية والعسكرية،أما الرعية فكان شأنها الانكباب على النشاطات الاقتصادية،الزراعية والحرفية والتجارية،وكان رجال الدين والمعرفة(العلماء) يشكلون نوعا من الجسر بين العنصرين الأساسيين للمجتمع( ).
وكان بالإمكان تقريبا إهمال ذكر الباشا العثماني الذي لم يلعب غير دور تمثيلي وكان،اعتبارا من عام 1791،شبه غائب عن المسرح السياسي،لو لم يكن هذا الشخص ممثلا لحكومة الباب العالي وللسلطان اللذين ظلت مراعاة السكان واحترامهم لهما عميقة،حتى بعد تجربة عام 1786 المخيبة للآمال،عندما أرسل الباب العالي حملة عسكرية لإعادة مصر إلى الطاعة ،بعدما سأمت الحكومة من خروج مراد وإبراهيم على طاعتها( )،ولا جدال في أنه كان هناك ولاء عثماني وثقة في قوة وفي عدل الباب العالي لم تؤدِ النكسات العسكرية التي كان قد تكبدها منذ قرن إلى زعزعتها بشكل أساسي،وبالرغم من أن الروابط بين مصر والباب العالي كانت منذ ذلك الحين رخوة وبالرغم من أن الباشا كان بلا حول ولا قوة ،إلا انه كان رمز انتماء مصر إلى الدولة العثمانية( ).على أن السلطة قد مورست في القاهرة من جانب الارستقراطية المملوكية التي هيمن عليها،منذ علي بك الكبير ،وفي هذه الارستقراطية،استمر المماليك ذوي الأصول القوقازية في لعب الدور المسيطر( ).
لم يصل الفرنسيين إلى مصر في عام 1798 كفاتحين عاديين،فقد اعتبروا أنفسهم حاملين لرسالة تحريرية للمصريين،الذين سوف ترد إليهم حقوقهم التي صادرها المماليك لزمن طويل جدا،ولرسالة عالمية تمزج مُثل الجمهورية الفرنسية بمُثل الإسلام،ولكي ينجح مشروع بونابرت،لم يكن يكفي إخضاع مصر،إذ كان يجب إغراؤها،والحال انه قد انكب على ذلك،من بين أمور أخرى،منذ نزوله إلى الإسكندرية ووصوله القاهرة( ).
ويشير نابليون إلى ذلك صراحة ،حين رأى أن ثمة ثلاثة حواجز في وجه السيطرة الفرنسية في الشرق،وأن أية قوة فرنسية لابد أن تحارب ،لذلك،ثلاثة حروب: الأولى ضد انكلترا،والثانية ضد الباب العالي العثماني،والثالثة،وهي أكثرها صعوبة،ضد المسلمين،وحين أصبح لنابليون واضحا لنابليون أن القوة التي يقودها لم تكن كبيرة بحيث تستطيع أن تفرض نفسها على المصريين،حاول أن يجعل الأئمة ،والقضاة ،ورجال الإفتاء ، والعلماء،يؤولون القرآن بما يخدم مصلحة الجيش العظيم،وتحقيقا لهذا الغرض،دعي أساتذة الأزهر العلماء الستون إلى مجلسه،واستقبلوا استقبالا عسكريا رسميا،ثم منحوا فرصة أن يتمتعوا بإطراء نابليون وإعجابه بالإسلام وبمحمد،وبإجلاله الواضح للقرآن،الذي بدا على إلفة تامة به،وقد نجحت خطة نابليون،وسرعان ما بدا سكان القاهرة وكأنهم فقدوا ريبتهم بالمحتلين.
ومن ثم بعد دخول الفرنسيين القاهرة،لم تعد في القاهرة سلطة:لاباشا ولا مماليك،والمشايخ الأكثر تمثيلا كانوا هم أنفسهم قد رحلوا،ويعبر الجبرتي عن هذه الحالة بقوله:" وفي يوم الاثنين وردت الأخبار بان الفرنسيس وصلوا إلى دمنهور ورشيد وخرج معظم أهل تلك البلاد على وجوههم فذهبوا إلى فوة نواحيها والبعض طلب الأمان وأقام ببلده وهم العقلاء"( )،ولما كان خطاب نابليون قد تضمن إعطاء المشايخ واعيان البلد تولي المسؤولية،"بعونه تعالى من اليوم فصاعدا لايستثنى احد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية فالعقلا والفضلا والعلما بينهم سيدبروا الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها"( )،فقد اجتمعت مجموعة من أهل العلم في الأزهر لمناقشة الوضع ولتدارس المستقبل،والحال ان العلماء وحدهم هم الذين كان بوسعهم لعب دور الوساطة بين الغازي والسكان المصريين،سعيا إلى تجنيب العاصمة ما هو أسوأ( ).
وفي 8 صفر 1213هـ/22 يوليو 1798م ،أرسل العلماء رسالة إلى نابليون ليستفهموا منه ما ينوي فعله،فكان جواب نابليون" وأين عظماؤكم ومشايخكم لم تأخروا عن الحضور الينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة وطمنهم وبش في وجوههم فقالوا نريد أمانا منكم... أنتم المشايخ الكبار فاعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا فقال لأي شيء يهربون اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديوانا لأجل راحتكم وراحة الرعية"( ).
نجح نابليون في كسب رأي النخبة في مصر وهم العلماء،الذين أصدروا فتوى لجيشه بجواز عدم الختان لجنده،والسماح لهم بشرب الخمر،بعد أن طلبوا منه أن يكون قائد الجيش الذي سيدافع عن بيضة الإسلام،وأصبح الرأي العام المصري آنئذ ينظر إلى نابليون بأنه المخلص الذي جاء لإنقاذ المسلمين من الظلم والاضطهاد الذي مورس بحقهم،وأشار نابليون إلى أن الشائعات بدأت تنتشر بان نابليون رأى النبي محمد في منامه،الذي أوصاه بان يدافع عن المسلمين إذا دخل هو جيشه الإسلام،وبدأت النخبة بمراسلة شريف مكة آنئذ،فكتبوا في (18 ربيع الثاني 1213هـ/29 سبتمبر 1798م)،ذكروا فيها أن نابليون وجيشه قصدهم إخراج البلاد مما هي فيه من الفساد والخراب،وان شريف مكة لايجب أن يقلق على مصر من جيش نابليون،لأنه جيش مسلم.والحقيقة أن هذا الأمر من الخطورة بمكان،إذ كيف استطاع نابليون أن يكسب ود-أو على الأقل تفهم-نخبة العلماء،ووضعهم في صفه،وبالتالي قد أنهى بذلك العقبة الأكثر خطورة،وهي "الرأي العام المصري"،فهو في نظرهم قد أصبح مسلما،وهذا يقودنا إلى أن الغرب استطاع أن يفهم الشرق وان يعرف المكنونان التي يمكن أن يدخل من خلالها إلى العقل العربي الإسلامي،ويقودنا إلى أن العرب المسلمين،لم يفهموا الغرب كفهمه لهم،وإنما اعتمدوا على حسن الطوية في التعامل،جراء الظروف التي مروا بها،ويقودنا إلى التساؤل في هل كان لنخبة العلماء دور في "تجذير الإستشراق"،وإذا كانت الإجابة نعم،فربما يجب أن نعيد حساباتنا في قضية مهمة هي"مدى مسؤولية العلماء المسلمين في التأصيل الغربي في الشرق"،ومهما يكن من أمر،فقد كان موقف عبد الرحمن الجبرتي،وهو الوحيد في تلك الفترة الذي استطاع فهم الغرب ممثلا بالفرنسيين،بصورة مختلفة تماما( ).
لقد قدر نابليون حق قدره الأثر الذي سيتركه هذا الحدث على العلاقات بين أوربا،والشرق ،وأفريقيا،وعلى الملاحة في البحر المتوسط،وعلى مصير آسيا،وأراد نابليون أن يقدم مثلا أوربيا نافعا للشرق،وأن يجعل حياة السكان،في نهاية المطاف،أكثر سعادة،وأن يستحضر إليهم أيضا جميع المزايا الكامنة في حضارة وصلت إلى درجة الكمال،ولم يكن ممكنا تحقيق شيء من هذا كله دون التطبيق المستمر على المشروع للآداب والعلوم( )،أن ينقذ إقليما من بربريته الحاضرة،ويعيده إلى عظمته الكلاسيكية السابقة،أن يلقن الشرق لمصلحته هو طرائق الغرب الحديث،أن يحل القوة العسكرية محلا أدنى،أو يقلل من أهمية دورها تعظيما لمشروع المعرفة الممجدة التي اكتُسِبَت أثناء عملية السيطرة السياسية على الشرق،أن يصوغ الشرق،يعطيه شكلا،وهوية،وتحديدا يصحبه اعتراف كامل بمكانه في الذاكرة،وبأهميته بالنسبة للإستراتيجية الإمبراطورية،وبدوره الطبيعي من حيث هو ملحق لأوربا،أن يجل المعرفة المجمعة خلال الاحتلال الاستعماري ويشرفها بتسميتها ((إسهاما في نمو المعرفة الحديثة))،في حين لم يكن السكان الأصليون قد استشيروا أو عوملوا إلا بوصفهم ذريعة لخلق نص لاتعود الفائدة منه على السكان الأصليين،أن يشعر المرء بنفسه أوربيا في مركز القيادة،كيف شاء تقريبا،للتاريخ الشرقي،والزمن الشرقي،والجغرافية الشرقية،أن يؤسس مجالات جديدة للتخصص،وان ينشئ فروعا جديدة للمعرفة،أن يقسم،ويوزع ويجدول،ويصنف مؤشرات،ويسجل كل ما تتناوله الرؤيا وما لاتتناوله،أن يشكل كل جزئية تلاحظ تعميما،ومن كل تعميم قانونا لايتغير للطبيعة الشرقية،والمزاج الشرقي والعقلية الشرقية،والنمط الشرقي( ).
إن شكل الحكم الذي ينتظره الجبرتي،كان الديوان الذي أنشأه نابليون يعطي الجبرتي،الصورة الأكمل،للحرية التي ينتظرها،فالديوان هو الساحة التي يتداول فيها أهل الحل والعقد أحوال الرعية والبلد،ويحق فيه إبداء الرأي دون الخوف من الإقصاء أو القتل،ولايتحكم احد فيه ولا يستولي على السلطة بمفرده،وإنما تتم فيه المشاورات،ولا يفرض عليهم شخص وإنما ينتخب باستفتاء يجريه أعضاء الديوان( ).
لقد مر الجبرتي في صراع داخلي كانت أطرافه ،المماليك والعثمانيين،وما قاموا به،وخصائصهم وشؤونهم من جهة،والفرنسيين المتمثلين بالعقل والحكمة والعدل،من جهة أخرى،ولم يكن ليخفى على الجبرتي أن الفرنسيين غير مسلمين،وحتى الجنرال مينو الذي أعلن إسلامه وبدل اسمه إلى عبد الله جاك مينو،لم يخفى على الجبرتي انه إجراء يهدف إلى إخفاء الهدف الحقيقي( )،وحتى قضية سليمان الحلبي ومحاكمته،لم يكن الجبرتي ليعلن فيها انه قد رضي كل الرضا عما جرى،ولكن أدرك في مخيلته ومن خلال تتبعه لطبيعة النظام القائم في فرنسا والذي طبق في مصر( )،انه ربما يصلح هذا النظام على المصريين،ويكون بديلا للنظام الذي اتبعه المماليك والعثمانيين،ذلك النظام الذي لم يرضَ عنه الجبرتي قط،مع كون الحاكمين مسلمين،ولكن قد يكون الصراع الفكري الذي عانى منه الجبرتي هو هل أن الإسلام هو الشكل الأمثل للحكم العادل،فالفرنسيين قد احتكموا للعقل ولادين لهم( ).
لقد راهن نابليون على هذه الحاسّة فخاطب الشعب المصريّ بظلم المماليك، وانتبه الجبرتي إلى انقلاب محاور التاريخ؛ فكتب الجبرتي في تاريخه مأخوذاً بالإجراءات القانونية لمحاكمة (سليمان الحلبي) كما أتى في وصف المؤرخ البريطاني (توينبي) الجبرتي كان يتمتع بحس حضاري ـ فلم يخلب لب الجبرتي فرقعات النيران والألعاب بل المرافعات القانونية،إذاً الذي خلب لبّ الجبرتي هو دولة الحقّ والقانون التي حاول نابليون تعميمها، والتي تستند على المعرفة والعلم والتمدن وليس نيران مدافع نابليون وبسالة جنوده( ).
وقد أشار الجبرتي إلى ذلك بصراحة، فانه بطبيعة الحال يتعقلن الفرنسيين-على أن هذا لايعني بحال من الأحوال أن الجبرتي يحابي الفرنسيين-الذين((اشتاقت أنفسهم لاستخلاص مصر مما هي فيه،وإراحة أهلها من تغلب هذه الدولة-المماليك-المفعمة جهلاً وغباوة ،فقدموا و حصل لهم النصرة ،ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد من الناس ،ولم يعاملوا الناس بقسوة،وان غرضهم تنظيم أمور مصر))( )، قلت-أي الجبرتي-:((ولم يعجبني في هذا التركيب إلا قوله المفعمة جهلا وغباوة بعد قوله اشتاقت أنفسهم،ومنها قوله بعد ذلك:ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد إلى آخر العبارة))( ).
مع ذلك كان الجبرتي مقتنعا بالدور البارز الذي يتعين على العلماء لعبه كناصحين لذوي النفوذ والسلطة،لكن مفهومه الارستقراطي للمجتمع قد جعله يحتقر العامة ويزدري الجماهير وحركاتها،وقوة ذهنه النقدي،والذي ألهمه تصورا قليل التأييد من جانب زملائه عن الفئة الحاكمة المغلقة على نفسها،لامراء في أنهما قد أبعداه عن الانخراط في الحياة السياسية قبل عام 1798،مع انه كان آنذاك قد وصل إلى النضج والرشاد،وبما أنه قد بدأ في كتابة تاريخه لمصر،فلابد أنه قد أغراه أن يروي الأحداث الاستثنائية التي كان بلده مسرحا لها،وع اقتناعه بتفوق الإسلام وعداوته بالطبع لأيدلوجية ولعادات الغزاة،إلا انه كان يتميز بذهنية منفتحة وحرة بما يكفي لتقدير بعض التجديدات التي جاء بها الفرنسيون،ولهذا الغزو روايتين متعاقبتين حيث تظهر بينهما اختلافات مهمة في تقديم الإحداث،إلا انه في كلا العملين،كانت النظرة العامة واحدة:ليس بالإمكان عمل شيء في الساحة ضد محتل متفوق من الناحية العسكرية،ومن ثم فان التمردات محكوم عليها بالفشل وليس من شأنها سوى مفاقمة شقاء البلد،وفي نظام الفرنسيين السياسي والإداري ،وفي تقنياتهم،توجد عناصر يمكن أن تكون محل تفكير مفيد( ).
ومع أن فضوله كمؤرخ وضرورة حصوله على المعلومات المفيدة لابد أنهما قد قاداه إلى رصد الفرنسيين عن قرب،إلا انه لم يكن هناك ما يلزم الجبرتي بالتعاون معهم،وهو لم يكن عضوا في الديوانين الأولين،ولا حتى في ديوان الستين،ودخوله ديوان مينو يدعو إلى الحيرة،لان الجبرتي لم يكرر،بعد عام 1801 ،هذه التجربة الخاصة بالمشاركة في الحياة السياسية الايجابية،وسوف يظل معارضا حازما لمحمد علي،ويبدو أن حضوره كان متصلا،ولكن مشاركته كانت قليلة النشاط،ففي السجل المحفوظ للجلسات الأخيرة،والتي نقلها الجبرتي في كتابه عجائب الآثار،لم يتكلم سوى مرة واحدة( )،إلا انه قام بالطبع بالاستماع وبالتسجيل وبجمع الوثائق بفضل صديقه الخشاب دون شك،وربما توجب الاكتفاء بتصور أن الجبرتي قد قرر اغتنام الفرصة التي أتيحت له،في ظروف نجهلها،لكي يرى عن قرب سير عمل مؤسسة أقامها الفرنسيون،دون أن تدخل هذه المشاركة تعديلا على حرية النظر النقدية التي ألقاها المؤرخ عن تلك الفترة المضطربة وعلى لاعبي الأدوار في الدراما الجارية( ).
وكانت فلسفة الجبرتي للتاريخ أنّ الرجال العظام من أمثال نابليون أو سواه هم الذين "يحقّقون العقل في التاريخ وينجزون التقدم البشري ويقفزون بالمجتمع خطوات إلى الأمام. إنهم عملاء للتاريخ أو وكلاء له. بمعنى أنهم مكلّفون بأداء مهمة تتجاوزهم وتتخطّى أشخاصهم. إنهم مجرّد أداة للتاريخ يحقّق من خلالهم مآربه".فقد حاول نابليون أن يدغدغ مشاعر المسلمين في خطابه،فكانت فاتحة عهده مع المصريين "بسم الله الرحمن الرحيم لا اله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه"( ).
وحتى مع النظام العلماني الذي أراده نابليون لمصر،لم يكن الجبرتي أكثر من مراقب للحدث،ولكنه يستبطن التصورات التي كونها عن الفرنسيين،فيتأنى في وصف ذكرى الثورة الفرنسية التي أجراها جنود الحملة في القاهرة،في (11 سبتمبر 1798م)( )،فالفرنسيين قد تباحثوا في من سيمثل الشعب في الديوان،ولم يفرض عليهم أحد وإنما ترك لهم الوقت الكافي لاختيار ممثليهم( ).
لقد راهن الجبرتي على أن الشعب يجب أن يتطلع إلى التغيير،ويجب أن يفهموا التغيير الحاصل،فقد جاء الفرنسيون وأثروا فيها بخيرهم وشرهم،وكان من نتيجة ذلك أن تغيرت نظرة المصريين إلى الحياة،وأخذوا يفهمون بعض المعاني الجديدة،كمعنى الحرية الشخصية ومعنى المساواة،ومعنى الشعب وحقوق الشعب،ونظام الحكم،،يورد الجبرتي نصا يقارن فيه بين العثمانيين والفرنسيين في مسألة جباية الضرائب،فيقول:" مع أن الفرنساوية لما استقر أمرهم بمصر ونظروا في الأموال الميرية والخراج فوجدوا ولاة الأمور يقبضون سنة معجلة ونظروا في الدفاتر القديمة واطلعوا على العوائد السالفة ورأوا ذلك كان يقبض أثلاثا مع المراعاة في ري الأراضي وعدمه فاختاروا والأصلح في أسباب العمار وقالوا ليس من الإنصاف المطالبة بالخراج قبل الزراعة بسنة وأهملوا وتركوا سنة خمس عشرة فلم يطالبوا الملتزمين بالأموال الميرية ولا الفلاحين بالخراج فتنفست الفلاحون وراج حالهم وتراجعت أرواحهم مع عدم تكليفهم كثرة المغارم والكلف وحق طرق المعينين ونحو ذلك"( ).
ولم يعد المصريون حسب رأي الجبرتي يتحملون النظام الذي يمارسه العثمانيين الذي يقوم على الفوضى والفساد،:" انظر إلى عقول هؤلاء المغفلين يظنون أنهم استقروا بمصر ويتزوجوا ويتأهلوا مع أن جميع ما تقدم من حوادث الفرنسيس وغيرها أهون من الورطة التي نحن فيها الآن"( ).
وحتى النساء كان لهن نصيب من حرية الفرنسيين،فقد انتبه الجبرتي إلى الفرنسيين،لما دخلوا القاهرة ومعهم نسائهم:" لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات الصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقا عنيفا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة"( ).وليس معنى ذلك أن الجبرتي يحض على التبرج والسفور،وإنما ذلك يعني أن المجتمع المصري قد دخل مرحلة تحولات لايمكن أن يعود عنها،أو أن يرضى بغيرها حلا لمشكلاته.تلك القضية التي راهن عليها الغرب،وهي"الفراغ الاجتماعي والسياسي"في المجتمعات العربية الإسلامية.


ثانيا:الحضارة والعلم .بين الإستشراق الفرنسي واستغراب الجبرتي.
لان مصر كانت مفعمة بالدلالات والمعنى بالنسبة للفنون،والعلوم،والسياسة والحكم،فقد كان دورها أن تكون المسرح الذي تدور عليه الأحداث ذات الأهمية التاريخية العالمية، وبالاستيلاء على مصر،فان القوة الحديثة كانت تجلو شدة بأسها وتُسَوِّغ التاريخ؛وكان قدر مصر ذاتها أن تلحق بأمة أخرى،يفضل أن تكون أوربا،وفضلا عن ذلك،فان القوة الحديثة ستدخل أيضا تاريخا حددت العنصر المشترك فيه شخصيات في عظمة هوميروس،والاسكندر، وقيصر، وأفلاطون ، وفيثاغورس الذين باركوا الشرق بوجودهم،ماضيا،فيه،وبإيجاز،فقد وُجد الشرق من حيث هو طقم من القيم مرتبط لا بحقائقه الحديثة،بل بسلسلة من التماسات المثبتة التي كانت قد تمت بينه وبين ماض أوربي قصي( ).
لقد فهم الجبرتي احتواء نابليون الاستشراقي الصرف لمصر،باستخدام أدوات المعرفة التي امتلكها وورثها عن أبيه،فيبدي الانفتاح حين يتحدث عن الأدوات التي جاء بها الفرنسيون،ففي حديثه عن أعمال التحصين التي جرى الاضطلاع بها بعد تمرد القاهرة الأول،يذكر،بإعجاب واضح،ظهور النقالة واستخدام أدوات جيدة النوعية:((يستعينون في الأشغال وسرعة العمل بالآلات القريبة المأخذ،السهلة التناول،المساعدة في العمل وقلة الكلفة،كانوا يجعلون بدل الغلقان والقصاع عربات صغيرة ويداها ممتدتان من خلف يملؤها الفاعل ترابا أو طينا أو أحجارا من مقدمها بسهولة بحيث تسع مقدار خمسة غلقان ثم يقبض بيديه على خشبتيها المذكورتين ويدفعها أمامه فتجرى على عجلتها بأدنى مساعدة إلى محل العمل فيمليها بإحدى يديه ويفرغ ما فيها من غير تعب ولا مشق وكذلك لهم فؤوس وقزم محكمة الصنعة متقنة الوضع))كما اعتبر الجبرتي أن النظام الذي يسمح لمدفع بأن يضرب فيحدد،كل يوم،وقت الزوال،"شيئا مبتكرا"( ).
لقد حاول الجبرتي أن يفهم تلك العلمية التي حيرت عقله ،وأراد أن يتعقل أصول تلك العلوم ومن أين جاءت،فقد كان يقف مراقبا للأحداث والأعمال التي يقوم بها الفرنسيين،وقد حاول الجبرتي أن يسمو بتفكيره ويتغاضى عن المحتل لاكتشافه،وحاول فهم الثورة الفرنسية بطريقته،وحاول تعلم لغتهم،أن الجبرتي لم يستطع أن يقف في فترة الحملة المبكرة إلا موقف المراقب،الذي ينظر ليكتشف،فالأفكار التي جاء بها الفرنسيون جديدة في مفهومها وتطبيقها،لم يألفها من قبل،وحتى في محاولته لتفسير دوافع ثورة القاهرة الأولى،لم يستطع إلا أن يلوم العلماء ويحملهم المسؤولية في الثورة ضد الآخر الفرنسي الذي إن ثبتت رؤية الجبرتي ربما سيكون المخلص،فقد وصل إلى مرحلة التمييز بعد الأشهر الأولى من الحملة،وفهم فيها الفرنسيين على أكمل وجه( ).
وغالبا ما دار كلام كثير حول الأثر الذي أحدثته على المشايخ عجائب العلم والمؤسسات العلمية التي نظم الفرنسيون زيارات إليها وتوضيحات لها،بحيث لايكاد يكون من الضروري التوقف عند هذا الموضوع،وقد حضر عدد من سكان القاهرة جلسات (المعهد العلمي)،واهتموا بالمناقشات التي دارت فيها،والحال أن الجبرتي قد زار((مرارا))المكتبة ومن الواضح أنه قد تأثر بما شاهده،ويمكننا أن نحكم على ذلك من خلال الوصف الطويل والدقيق الذي قدمه لقاعة الاطلاع وللمؤلفات المحفوظة في خزانات الكتب،وهو يقول عن الكتب التي شاهدها أنها((مما يحير الأفكار))،ويتحدث بالطبع عن كتاب كبير حول سيرة النبي مزين بصورة له رسمت((على قدر مبلغ علمهم واجتهادهم...،وهو قائم على قدميه ناظر إلى السماء كالمرهب للخليقة وبيده اليمنى السيف وفي اليسرى الكتاب حوله الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم السيوف)).كما يتحدث عن الترجمات الموجودة لكتب إسلامية،وعن المعاجم اللغوية لأكثر من لغة:((وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفها واشتقاقاتها بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت)) ( ).
لقد مثل المعهد العلمي الذي أنشأه نابليون قمة الإستشراق الفرنسي ،وتمثلت فيه الصورة الحقيقية للفهم الفرنسي عن الإسلام المتمثل بالشرق،فالشرق كان يعني بالضرورة(الإسلام)،وسنتكلم عن هذا المعهد وعن رؤية الجبرتي عنه،والتي تمثلت بالرؤية التي مثلت رؤية عالم (شرقي)،لعلوم الغرب وتقنياتهم وأسرارهم العلمية،في زمن انقلبت فيه المقادير في مجال العلوم العربية.
يقول الجبرتي:" فيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة فيراجعون فيها مرادهم فتجتمع الطلبة منهم كل يوم قبل الظهر بساعتين ويجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب على كراسي منصوبة موازية لتختاة عريضة مستطيلة فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء منها فيحضرها له الخازن فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر"( ).
يبدو هنا أن الفرنسيين أرادوا أن يؤسسوا مدرسة بجميع محتوياتها،فقد خصصوا مكانا للمطالعة،وجهزوا الكتب الكثيرة التي يقد يحتاجها الباحثون،وفي الحقيقة أن هذا النص يدل على المكتبة الخاصة بالمعهد العلمي،وبمعنى آخر أراد الفرنسيون أن يوفروا كل المراجع والمصادر حول دراساتهم عن الشرق.
ويضيف الجبرتي أن الجيش الفرنسي كله كان يقرأ ولم يتخلف عنه حتى من الجنود الأقل رتبة:"حتى أسافلهم من العساكر"،وهذا ما لفت انتباه الجبرتي،في مقابل الحالة العلمية المدنية التي كان يعانيها المصريون من تخلف واشتغال بالأمور غير العلمية مثل الدجل والشعوذة وغيرها من الأمور"الخسيسة" حسب وصف الجبرتي( )،بينما كان الفرنسيون لديهم الفكرة في أن مصر قد أعيدت إلى عهد من الرفاه والثراء،وجددت حيويتها ونضارتها على يد إدارة متنورة،ستغمر بأشعتها الناشرة للحضارة جميع جيرانها الشرقيين( ).
ثم يتحول المعهد إلى مؤسسة ناشرة للعلم والتنوير بين الشرقيين ،وهذا مما يريح الجبرتي،فالفرنسيين في نظره أصحاب علم ومعرفة:" وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم وخصوصا أذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعا للنظر في المعارف بذلوا له مودته ومحبتهم ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث أممهم مما يحير الأفكار"( ).وهذه هي خصائص الإستشراق المندمج بالتبشير المفعم بالنضوج الذي امتلكه الفرنسيون،فلم يمنعوا شخصا من الدخول،لابل أنهم إذا رأوا فيه إمكانيات ومؤهلات سعوا إلى إعطائه العلم-فيما يبدو-دون مقابل سوى حب المعرفة والعلم،وان ما انتبه إليه الجبرتي هنا،هو الطريقة التي يتعامل بها العلماء مع من يرغب بالعلم،فهم في نظره يمثلون العلم وأخلاقه.وهذه هي الرسالة التي يريد الغرب إيصالها إلى الشرقيين،بأنهم دعاة حب وسلام ومعرفة.
ولكن الذي لم يتنبه إليه الجبرتي أن من ابرز مظاهر التمحور لدى المستشرقين،هو تشويه صورة الشرق أو التقليل من فعالية جهده الحضاري،وهي عملية تمهيد لأفكار من شأنها أن تحرف مجرى ذلك الفعل التاريخي ذهنيا للوصول أخيرا إلى أن هذا التحول والتغير إنما يؤول في نهاية المطاف إلى المحور أو القطب الحقيقي والفاعل في حركة التاريخ،إلا وهو الفكر الغربي أو الحضارة الغربية،والى هنا يكون الأمر من باب التعصب والتزمت والتشدد الذي هو آفة العلم( ).
ولعل أخطر ما شاهده الجبرتي هو ذلك الكتاب الذي رسمت فيه صور للرسول وأصحابه والأئمة،والحقيقة أن الجبرتي لم يدرك خطورة مثل تلك الصور فيقول:" من جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومصورون به صورته الشريفة على قدر مبلغ علمهم واجتهادهم وهو قائم على قدميه ناظرا إلى السماء كالمرهب للخليقة وبيده اليمنى السيف وفي اليسرى الكتاب وحوله الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم السيوف وفي صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين وفي الأخرى صورة المعراج والبراق وهو صلى الله عليه وسلم راكب عليه من صخوره بيت المقدس وصورة بيت المقدس والحرم المكي والمدني وكذلك صورة الائمة المهتدين وبقي الخلفاء والسلاطين"( ).
إن هذا النص من الخطورة بمكان انه يصف الإستشراق الفرنسي الذي صور الرسول عليه الصلاة والسلام،بصورة الحامل للسيف،وهذه العبارة لها دلالاتها الخطيرة،منها أن الفرنسيين قد وصفوا الرسول بان صاحب السيف ومعنى ذلك أن القتل من أولويات الإسلام ونبيه،والعجيب في الأمر أن الجبرتي قد وصفه حسب مارآه بأنه" كالمرهب للخليقة وبيده اليمنى السيف"وهو يجتمع معه الصحابة،تلك الصورة الدموية التي مثلت الإسلام في المفهوم الغربي،الذي بنيت عليه اعتبارات خطيرة ومريرة،كان أبرزها الاستعمار الحديث،ولعل الجبرتي لم يدرك خطورة الموقف،ولكنه على اقل تقدير،ساوره الشعور بأنهم يعرفون عن الإسلام الكثير،ولا نعلم لماذا لم يناقشهم الجبرتي في تلك الصورة،أو على الأقل أن يبين لهم عالمية الإسلام الذي لايعتدي على أحد.
وطاف الجبرتي بحجرات المعهد وأروقته،ووقف عند كل مشهد جديد،ولدى كل كتاب طريف،مشدوها مفتوح الفم من الدهشة والعجب،ولم يسعه وهو المؤرخ الثقة إلا أن يثبت وصف ما رأى في تاريخه معلنا دهشته وإعجابه وعجزه،عن فهم هذه الآلات والعدد،فهو قد نشأ بالأزهر وتلقى فيه العلم،والنمط الذي كان يتبعه طلاب العم في مصر وقتذاك ساذج بسيط وان كان متعبا في نفس الوقت،فالطالب يجلس في المسجد،أو في داره،وينحني على كتاب مخطوط كلما أراد أن يقرأ( ).
ثم طاف الجبرتي بالقسم الخاص بعلماء الفلك من المعهد،وشاهد مافيه من الآلات عجيبة وصفها بقوله:" وقت وعند توت الفلكي وتلامذته في مكانهم المختص منها الآلات الفلكية الغريبة المتقنة الصنعة وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب الغالية الثمن المصنوعة من الصفر المموه وهي تركب براريم مصنوعة محكمة كل آلة عدة قطع تركب مع بعضها البعض برباطات وبراريم لطيفة بحيث إذا ركبت صارت آلة كبير أخذت قدرا من الفراغ وفيها نظارات وثقوب ينفذ النظر منها إلى المرئي وإذا انحل تركيبها وضعت في ظرف صغير وكذلك نظارات للنظر في الكواكب وأرصادها ومعرفة مقاديرها واجرامها وارتفاعاتها واتصالاتها ومناظرتها وأنواع المنكابات والساعات التي تسير بثواني الدقائق الغريبة الشكل الغالية الثمن"( )
ترك هذا القسم إلى قسم التصوير فشاهد هناك المصورين يصورون الاشخاص والاشياء جميعا،ووصفه بقوله:" ذلك وأفردوا لجماعة منهم بيت ابراهيم كتخدا السنارى وهم المصورون لكل شيء ومنهم اريجو المصور وهو يصور صور الآدميين تصويرا يظن من يراه انه بارز في الفراغ بجسم يكاد ينطق حتى انه صور صورة المشايخ كل واحد على حدته في دائرة وكذلك غيرهم من الأعيان وعلقوا ذلك في بعض مجالس صارى عسكر وآخر في مكان آخر يصور الحيوانات والحشرات وآخر يصور الأسماك والحيتان بأنواعها وأسمائها"( ).
ثم عرج بعد ذلك على قسم الكيمياء والطب فوصفه بقوله:" وسكن الحكيم رويا ببيت ذي الفقار كتخدا بجوار ذلك ووضع آلاته ومساحقه وأهوانه في ناحية وركب له تنانير وكوانين لتقطير المياه والادهان واستخراج الأملاح وقدورا عظيمة وبرامات وجعل له مكانا أسفل وأعلى وأمامها رفوف عليها القدور المملوءة بالتراكيب والمعاجين والزجاجات المتنوعة وفيها كذلك عدة من الأطباء والجرايحية وأفردوا مكانا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي وبنوا فيه تنانير مهندمة وآلات تقاطير عجيبة الوضع والات تصاعيد الأرواح وتقاطير المياه وخلاصات المفردات وأملاح الارمدة المستخرجة من الأعشاب والنباتات واستخراج المياه الجلاءة والحلالة وحول المكان الداخل قوارير وأوان من الزجاج البلوري المختلف الأشكال والهيئات على الرفوف والسدلات وبداخلها أنواع المستخرجات"( )
وقد تعمدنا نقل هذه النصوص الطويلة عن وصف الجبرتي لأقسام المعهد العلمي،لنبين العملية التاريخية التي بلورت تفكير الجبرتي الإستغرابي بعد زيارته لهذا المعهد،والذي ترك أثرا كبيرا في نفس الجبرتي وفي كتاباته،فبدأ يتفحص دائما ما يقوم به الفرنسيون من علوم واختراعات وابتكارات يفتقر لها المجتمع الذي عاشه،وقد برر الفارق بين عقلية الشرق وعقلية الغرب في قوله:" فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا"( ).
إن نصرا كالذي حققه نابليون لم يكن يمكن أن يعد إلا قبل حملة عسكرية وربما لم يكن قادرا على إعداده سوى إنسان لم تكن له خبرة سابقة بالشرق سوى ما أنبأته به الكتب والباحثون،وإن فكرة اصطحاب مجمع علمي(أكاديمية)كامل هي إلى حد بعيد جانب من جوانب الموقف من الشرق،وقد غذى هذا الموقف بدوره عن طريق مراسيم ثورية معينة(خصوصا مرسوم العاشر من شهر جرمنال السنة الثالثة-الثلاثين من آذار عام 1793-القاضي بتأسيس المدرسة الأهلية في المكتبة الوطنية،لتدريس العربية،والتركية،والفارسية( ).
كان غرضها غرضا عقلانيا هو تعرية حتى أكثر أنماط المعرفة إبهاما من سريتها وتحويلها إلى معرفة رسمية مؤسَّسة،وهكذا كان عدد كبير من مترجمي نابليون تلاميذ سلفستر دوساسي الذي كان بدءا من حزيران 1796،المدرس الأول والأوحد للعربية في المدرسة الأهلية للغات الشرقية،وأصبح ساسي،فيما بعد،تقريبا معلم كل مستشرق بارز في أوربا حيث سيطر تلاميذه على هذا الحقل ما يقارب ثلاثة أرباع القرن،وكان كثيرون منهم نافعين سياسيا،بالطرق التي كان بها عدد آخر نافعا لنابليون في مصر( ).


خاتــــمة

وددت لو أني لم اكتب للبحث خاتمة ،ولكن،لامناص من ذلك،لان هذا الموضوع لايمكن أن يؤطر،مهما سعينا،على أية حال،فإننا من خلال فترة القراءة في موضوع الجبرتي والفرنسيين،والتي كلفت بها من قبل الدكتور ناصر عبد الرزاق الملا جاسم،وجدت مواضيع ومسائل شائكة فيما يتعلق بالأنا والآخر،فلايمكن وصف الصورة الحقيقية للآخر،إذا لم نتمثله تمثيلا لايؤدي بنا إلى الانقياد والتقليد الأعمى،وحقيقة أن العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر قائمة على جملة أمور اكتشفناها-أو على الأقل حاولنا اكتشافها- من خلال دراستنا وقراءتنا عن محور الدراسة:وهي كالأتي:
1. أن العربي،الذي يمثل الأنا،لم يستطع في فترات متعاقبة من الزمن أن ينظر إلى الآخر-غير المسلم أو غير العربي- بمنظار يقوده لاكتناه ذلك الآخر،وإنما مع الأنا المرتفعة لديه،لاينجح في جدلية العلاقة إلا أن يكون في نهاية المطاف تابعا أو مقلدا للآخر الغربي.
2. أن نظرة الآخر-الغربي-إلى الأنا-العربي-تميزت بكونها اعتمدت على موروث نصي،ومعرفي تراكمي،سخره الآخر-الغربي-في فهم الأنا-العربي-وهذا ما لم نجده عند الأنا-العربي-.
3. إن الاندماج الحضاري،أو الصدام الحضاري بين الأنا والآخر،كان دوما يأخذ مجالات متباينة في الفهم والتطبيق،فالعربي نظر إلى الآخر الغربي دوما بنظرة العدو المرفوض،والذي لايمكن الاندماج به،وان العلاقة التي كونتها العملية التاريخية،من خلال الموروث الديني،قائمة على رفض الآخر حسب الفهم الغربي لها،وبالتالي كان الآخر الغربي ينظر إلى العربي دوما نظرة استهجان،وان كانت العقبة الأكبر بين الأنا والآخر هي اللغة،فان الجهل بالآخر يصبح العدو الأول للاندماج الحضاري.
4. وبالرغم من النظرات المتباينة فيما بين الأنا والآخر،إلا أن هذه النظرة قائمة على الجهل بالآخر،فالأنا هو امتداد للآخر،والعكس صحيح،ولايمكن أن تقوم علاقة حضارية بين الطرفين إلا بسبر أغوار الأنا للآخر.
5. إن نظرة الأنا-العربي-للآخر،كانت دوما تنبعث من الواقع والظروف التي يعشها الأنا،وهنا تصبح العلاقة قائمة على انعكاس الذات بـِ (آنوية مفرطة) تقود إلى اندماج كلي حتى تذوب الأنا في الأخر.





- قائمة المصادر والمراجع:
أولا- المصادر المعاصرة:العربية والمترجمة.
آ-العربية:
1. الجبرتي،عبد الرحمن بن حسن.
 عجائب الآثار في التراجم والأخبار، تحقيق:عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم ،مطبعة دار الكتب والوثائق القومية،(القاهرة:2009).
2. ---------.
 مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس،تحقيق:عبد الرزاق عيسى،ط1،دار العربي للنشر والتوزيع،(القاهرة:1998).
3. الخشاب،إسماعيل بن سعد.
 أخبار أهل القرن الثاني عشر،تحقيق:عبد العزيز جمال الدين،عماد أبو غازي،ط1،العربي للنشر والتوزيع،(القاهرة،1990).
4. --------.
 خلاصة مايراد من أخبار الأمير مراد،تحقيق:حمزة عبدالعزيز بدر،دانيال كريسيليوس،العربي،(القاهرة:1992).
5. الترك،نقولا.
 ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية،تحقيق:ياسين سويد،الفارابي،(بيروت:1990)
6. الدارندلي،عزت حسن أفندي.
 ضيا نامة،دراسة وترجمة:جمال سعيد عبد الغني،الهيئة المصرية العامة للكتاب،(القاهرة:1999).
ب- المترجمة.
7. مواريه،جوزيف ماري .
 مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر،ترجمة:كاميليا صبحي،المجلس الأعلى للثقافة،(بيروت:1984).
8. دافين،بريس.
 مذكرات بريس دافين (1807-1879)،ترجمة:أنور لوقا،(مصر:د/ت).

ثانيا-الكتب العربية والمترجمة:
9. حسن،إبراهيم محمد.
 المسلمون في الحبشة(القرن 10هـ/16م)،ط1،عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية،(الجيزة:2009).
10. حمزة،عبد اللطيف.
 قصة الصحافة العربية في مصر،مطبعة المعارف،(بغداد:1967).
11. درويش ،أحمد .
 الاستشراق الفرنسي والأدب العربي،الهيئة المصرية العامة للكتاب،(القاهرة:1997).
12. ذهني،الهام محمود علي.
 مصر في كتابات الرحالة الفرنسيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر،(مصر:1991).
13. ريمون، أندريه.
 المصريون والفرنسيون في القاهرة(1798-1801م)،ترجمة:بشير السباعي،ط1،عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية،(الجيزة:2001).
14. -----------.
 القاهرة،،بحث في كتاب الشرق الأوسط الحديث،ألبرت حوراني،ط1،دار طلاس،(دمشق:1996)، ج2.
15. زيدان،جرجي.
 تاريخ آداب اللغة العربية،(القاهرة:1914).
16. سركيس،يوسف اليان.
 معجم المطبوعات العربية والمعربة،(مصر:1928م).
17. سعيد ،ادوارد .
 الاستشراق(المعرفة،السلطة،الإنشاء) ،ترجمة:كمال ابوديب،ط1،المؤسسة العربية للأبحاث،(بيروت:1981).
18. شاكر،محمود محمد.
 رسالة في الطريق إلى ثقافتنا،الهيئة المصرية العامة للكتاب،(القاهرة:1997).
19. الشناوي،عبد العزيز محمد .
 صور من دور الأزهر في مقاومة الاحتلال الفرنسي لمصر في أواخر القرن الثامن عشر،مطبعة دار الكتب،(القاهرة:1971).
20. الشيال،جمال الدين .
 تاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية، ط1،مكتبة الثقافة الوطنية،(القاهرة:2000).
21. شيخو، لويس.
 الآداب العربية في القرن التاسع عشر،ط2،(بيروت:1924).
22. عبد الغني ،مصطفى.
 الجبرتي والغرب(رؤية حضارية مقارنة)،الهيئة المصرية العامة للكتاب،(القاهرة:1995).
23. العشماوي، محمد سعيد.
 مصر والحملة الفرنسية،الهيئة المصرية العامة للكتاب،(القاهر:1999) .
24. علي،صلاح أحمد هريدي.
 الجالية الأوربية في الإسكندرية في العصر العثماني،دراسة وثائقية من سجلات المحكمة الشرقية(923-1213هـ/1517-1798م)،(الإسكندرية:1988).
25. فورييه.
 المصريون المحدثون،وصف مصر،ترجمة:زهير الشايب،مكتبة مدبولي،المجلد الأول،).
26. لورنس،هنري.
 الحملة الفرنسية في مصر،بونابرت والإسلام،ط1،دار سينا للنشر،(القاهرة:1995).
27. مبارك،علي باشا.
 الخطط التوفيقية. الهيئة المصرية العامة للكتاب،(القاهر:1989) .
28. المقداد،محمود.
 تاريخ الدراسات العربية في فرنسا،(الكويت:1992) .
29. الوصيف،فرج محمد.
 مصر بين حملتي لويس وبونابرت،ط1،دار الكلمة للنشر والتوزيع،(القاهرة:1998).
30. يفوت،سالم.
 حفريات الإستشراق،ط1،المركز الثقافي العربي،(بيروت:1989).
ثالثا- الدوريات العربية:
31. أنيس،محمد.
 (الجبرتي بين مظهر التقديس وعجائب الآثار)، مجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة، المجلد:الثامن عشر،الجزء الأول،(مايو:1956م).
32. حسن،محمد عبد الغني .
 (ملاحظات الجبرتي المؤرخ على حوادث عصره)،مجلة الثقافة،دمشق،العدد 713،السنة الرابعة عشرة –أغسطس 1952).
33. سجل مبايعات الباب سنة 1162-سلسلة 239-المادة 473 ص 443.(المجلة التاريخية المصرية)،المجلدان التاسع والعاشر، (1960-1962).
34. عيسى،صلاح.
 (منهج عبد الرحمن الجبرتي في رؤية الظواهر التاريخية)،مجلة قضايا عربية،بيروت-لبنان،العدد الرابع،تموز-آب 1974).
رابعا-الرسائل و الاطاريح الجامعية:
35. عيسى، احمد عبد العزيز علي
 الصراع بين البيوتات المملوكية في مصر العثمانية(923-1213هـ/1517-1798م)،رسالة ماجستير غير منشورة ،جامعة الإسكندرية،(كلية الآداب:2001م).
خامسا- الكتب الأجنبية:
36. Abo-lughod ,Ibrahim.
 Arab rediscovery of Europe , Princeton university press, (Princeton:1963
37. Cherfils, Christian.
 Bonaparte et l'Islam d'après les documents François arabes,(paris:A.pedone:1914.
38. GIBB , H .Harold bowen .
 Islamic society and the west ,first edition,(oxford:1967
39. Herold, J.christopher.
 Bonaparte in Egypt, first edition,(new york:1962
40. Holt ,p.m.
 Studies in the history of the near east, pub.1, frank Cass, (London-1973).
41. LANE, E.W.
 manners and customs of the modern Egyptians, (first published in 1836), Everyman's Library.
42. Toynbee, A.J.
 Civilization on trial, New York, Oxford University Press, 1948
43. Trimingham, Spencer.
 Islam in Ethiopia,(London:1958).

سادسا- الدراسات والبحوث الأجنبية:
44. Ayalon, David.
 )The Historian al-Jabartī and His Background),BSOAS, University of London, Vol. 23, No. 2 (1960).
45. --------------.
 Studies in al-Jabartī I.( Notes on the Transformation of Mamluk Society in Egypt under the Ottomans), JESHO, Vol. 3, No. 2 (Aug., 1960).
46. -----------------.

 Studies in al-Jabartī I. (Notes on the Transformation of Mamluk Society in Egypt under the Ottomans), JESHO, Vol. 3, No3, Vol. 36, No. 3,(Oct., 1960)
47. Bosworth, C. E.
 (Al-Jabarti and the Frankish Archaeologists),IJMES, Vol. 8, No. 2 (Apr., 1977
48. Colla, Elliott.
 “Non, non! Si, si!”: Commemorating the French Occupation of Egypt (1798–1801),JBE,1999, Vol. 9
49. Cuno, Kenneth M
 "The Napoleonic Moment in Egyptian History: Not Such a Watershed", JAH, Vol. 45, No. 3 (2004)
50. Di-Capua, YOAV.
 "Jabarti of the 20th Century": The National Epic of 'Abd Al-Rahman Al-Rafi'i and Other Egyptian Histories, IJMES, ), Vol. 36, No. 3 (Aug., 2004)
51. Dunne's,Heyworth.
 (Arabic literature in Egypt in the eighteenth century),BSOAS, University of London ,vol. ix, 3, 1938
52. --------------------.
 Rifâ'ah Badawi râfi' at-Tahtâwi: the Egyptian revivalist ,BSOAS, ,vol. ix, 3, 1938.
53. Fay, Mary Ann.
 From Concubines to Capitalists: Women, Property, and Power in Eighteenth-Century Cairo, JWH,1998, Vol. 10 No. 3 (Autumn).
54. Lewis, Bernard.
 "Some reflections on the decline of the Ottoman Empire",(SI), ix, (1958).
55. Livingston, John W.
 The Rise of Shaykh al-Balad 'Alī Bey al-Kabīr: A Study in the Accuracy of the Chronicle of al –Jabartī , BSOAS, Vol. 33, No. 2 (1970).
56. ------------------.
 'Alī Bey Al-Kabīr and the Jews,JMES,Vol. 7, No. 2 (May, 1971)
57. ------------------.
 Shaykh Bakrī and Bonaparte,(SI),No80. (1994).
58. Marsot, Afaf Lutfi Al-Sayyid.
 The Political and Economic Functions of the 'Ulamā' in the 18th Century, JESHO, Vol. 16, No. 2/3 (Dec., 1973
59. -----------------------.
 Islamic Roots of Capitalism: Egypt, 1760-1840, IJMES, Vol. 14, No. 3 (Aug., 1982
60. Morehm Samuel.
 Reputed Autographs of 'Abd al-Rahmān al-Jabartī and Related Problems ,BSOAS ,Vol. 28, No. 3 (1965).
61. -------------------.
 ('Aja'ib al-Athar fi 'l- Tarajim wa 'l-Akhbar). WI,New Series, Vol. 37, Issue 2 (Jul., 1997).
62. Mukhtar, Mohamed Haji.
 Arabic Sources on Somalia, History in Africa(ASA), Vol. 14 (1987
63. Poonawala, Ismail K.
 (The Evolution of al-'Gabartī's Historical Thinking as Reflected in the Muzhir and the 'Agā'ib), Arabica(BRILL), T. 15, Fasc. 3 (Oct., 1968).
64. Reichmuth, Stefan.
 Murtadā az-Zabīdī (D. 1791) in Biographical and Autobiographical Accounts. Glimpses of Islamic Scholarship in the 18th Century, WI,Vol. 39, Issue 1 (Mar., 1999).
65. Al-shetawi, Mahmoud.
 The Arab-West Conflict as Represented in Arabic Drama, WLD(University of Oklahoma), Vol. 61, No. 1 (Winter, 1987).
سابعا-الموسوعات:
66. Ayalon, David.
 AL-DJABRTI, THE ENCYCLOPEDIA OF ISLAM, NEW EDITION, (LEIDEN E. J. BRILL-1986),VOL.VII
67. GIBB, H. A. R.
 AL-'ATTAR, THE ENCYCLOPEDIA OF ISLAM , NEW EDITION,(LEIDEN E. J. BRILL-1986), VOL . I.
68. Ulendorff, E.
 DJABART, THE ENCYCLOPEDIA OF ISLAM, NEW EDITION, (LEIDEN E. J. BRILL-1986),VOL.VII.