الفضاءات التربوية عند المسلمين قبل عصر التدوين
(د. محمد مريني)

إذا كنا قد أكدنا من خلال مقال سابق وجود بعض الفضاءات التربوية عند العرب في العصر الجاهلي، فمن المؤكد أيضا أن المسلمين سيدشنون مع مجيء الإسلام طورا جديدا. ذلك أن الإسلام قد جعل من التربية والتعليم الوسيط الأساس في نقل التعاليم التي كانت غريبة عن الوسط الجاهلي يومذاك. لذلك لم يكن غريبا أن يبدأ البيان القرآني برسالة "اقرأ"، ويجعل الرسول (ص) من طلب العلم فريضة.
ليس الغرض هنا تتبع الجوانب التربوية والتعليمية في الإسلام بشكل عام، وهو موضوع واسع، بل نريد الوقوف عند جانب خاص، يتمثل في الفضاء الذي كانت تقدم فيه هذه الرسائل التربوية والتعليمية منذ ظهور الإسلام إلى بداية عصر التدوين(1).
1-فضاء البيوت والنوادي:
النادي هو المجلس يندو إليه من حواليه، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله، وإذا تفرقوا لم يكن ناديا، والجمع أندية. الندوة الجماعة، ودار الندوة منه، أي دار الجماعة، سميت من النادي، وكانوا إذا حزبهم أمر ندوا إليه فاجتمعوا للتشاور. قال تعالى: "فليدع ناديه"، يريد عشيرته، وإنما هم أهل النادي، والنادي مكانه وجلسه فسماه به، كما يقال تقوض المجلس'(2).
وغالبا ما يكون المكان الذي يندو إليه القوم هو "البيت" الذي يكون معدا للسكن أصلا. فقد كان لبعض البيوت شأن في الجاهلية والإسلام، باعتبارها المكان الذي كانت تعقد فيه اجتماعات التداول والمشاورة:
نذكر هنا أن "دار لندوة" مثلا كانت في الأصل عبارة عن مسكن ل "قصي بن كلاب"، وقد تم توظيفها لمناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية لقبيلة قريش، ومكة المكرمة. كما نشير هنا أيضا إلى الدار التي كانت للصحابي الجليل الأرقم بن أبي الأرقم؛ وقد اشتهرت هذه الدار باسم صاحبها (دار الأرقم بن أبي الأرقم).
تحدث أهل الأخبار والأنساب عن بيوت برزت في القبائل وتفوقت على غيرها في ناحية من نواحي الفضل فذكر ابن الكلبي: مثلا أن العدد من تميم في بني سعد، والبيت في بني دارم، والفرسان في بني يربوع، والبيت من قيس في غطفان، ثم في بني فزارة، والعدد في بني عامر، والفرسان في بني سليم، والعدد من ربيعة في بكر، والبيت والفرسان في شيبان(3).
وقد اشتهرت ثلاثة بيوت شهرة خاصة في الجاهلية القريبة من الإسلام، وهي: بيت بني زرارة، وهم من (بني عبد الله بن دارم) في تميم، وبيت (بني بندر)، وهم (بني فزارة) من (بني قيس)، وبيت (ذي الجدين)، وهم (بني شيبان) من (بكر بني وائل)(4).
وقد كانت مساكن العرب متباينة مختلفة: فمنها البيوت المتنقلة، ومنها المباني المبنية بالمدر أوالحجر، وهي أبنية أهل الحضر. وهي مختلفة أيضا في طرازها المعماري وفي سعتها ومادتها ويكون اختلافها باختلاف مكانها وباختلاف مكانة صاحبها، ومنزلته من حيث الغنى والفقر.
وقد جعل ابن الكلبي بيوت العرب ستة: قبة من أدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، ومجاد من وبر، وخيمة من شجر، وقنة من حجر، وسوط من شعر، وهو أصغرها(5) .
وكانت تضرب للسادات الأشراف والأغنياء قباب خاصة تكون من الأدم. وتعتبر هذه القبب من أمارات التعظيم والتفخيم والامتياز والجاه الذين يفدون عليهم. وقد اشتهرت "القباب الحمر" المصنوعة من أدم، يأوي إليها أصحاب الجاه واليسار والمشهورون. وقد ذكر أن النابغة الذبياني كان يضرب له بسوق عكاظ قبة حمراء من أدم، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وكان ممن أنشده (حسان بن ثابت). وقد انتقده النابغة الذبياني بأدب ولطف(6).
من المفيد الإشارة هنا إلى أن هذه البيوت والنوادي لم تكن فضاء لمناقشة القضايا السياسية فقط، بل كانت فضاء لتداول بعض العلوم والمعارف السائدة في ذلك الوقت:
من المعارف التي كان يتداولها العرب -في الجاهلية- في هذه البيوت نذكر علم الأنساب. لقد اضطر العرب إلى حفظ انسابهم والعناية بها عن طريق الحفظ والمشافهة، فاشتهرت بعض الأسر والبيوت بتداولها لهذا العلم، كما ظهر عدد من أبناء العرب، ينقلون هذا العلم، وينقل عنهم إلى أن جاء عصر التدوين فأخذ عنهم علماء النسب الأوائل. ولا شك في أن من يطلع على تاريخ العرب قبل الإسلام يدرك مدى اهتمامهم بحفظ أنسابهم وأعراقهم، وأنهم تميزوا بذلك عن غيرهم من الأمم الأخرى، ولا يعزى ذلك كله إلى جاهليتهم، كما لا يعزى عدم اهتمام غيرهم كالفرس والروم إلى تحضرهم. وكان هذا العلم يسعفهم في المحافظة على أنساب القبائل، وفي التعرف إلى القرابات الموجودة بينهم. وإنما دعاهم للعناية بهذا العلم حاجتهم إلى التناصر بالعصبية، لكثرة حروبهم، وتفرق قبائلهم، وأنفتهم من أن يكون لغريب عنهم سلطان عليهم، وحبهم الافتخار بأسلافهم. وقد أفرز الجهل عصبية بغيضة أساءت إلى علم الأنساب، سواء في العصر الجاهلي، أم في عصور الإسلام المتأخرة. يقول ابن خلدون: "صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أوالعداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعية في البشر مذ كان النسب المتواصل بين المتناصرين"(7) . وقد عزى ابن عبد ربه سبب اهتمام العرب بأنسابهم لكونه سبب التعارف، وسلم التواصل، به تتعاطف الأرحام الواشجة.
لقد كان النظام الاجتماعي والسياسي مرتبطا أشد الارتباط بالأنساب، وكان العرب يتمايزون فيما بينهم بحسبهم ونسبهم ويتفاخرون بها، لذا فقد اهتموا بالأنساب، وتوارثت الأجيال حفظها؛ وظهر فيهم متخصصون في فحص الأنساب وروايتها وتدوينها.وإذا كانت جاهلية العرب قد أساءت إلى علم النسب أحياناً بسوء استخدامه، فإنها قد أساءت إليه أيضاً من ناحية عدم التدوين الذي تميز به العصر الجاهلي، ولذلك فقد تأخر تدوين الأنساب، ولم يبدأ إلا مع بداية العصر الإسلامي.
من بين المعارف الشفهية التي كانت متداولة في بعض بيوت العرب أيضا ما يتعلق بأخبار وقصص السابقين. كانوا يعرفون منها ما كان عليه أسلافهم وبعض مجاوريهم من الأحوال المأثورة والوقائع المشهورة. وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: "وقالوا أساطير الأولين فهي تملى بكرة وأصيلا"(8) .
يذكر ابن هشام أن هذه الآية نزلت في في النضر بن الحارث "وكان إذا جلس الرسول (ص) مجلسا فدعا فيه إلى الله تعالى، وتلا فيه القرآن، وحذر فيه قريشا ما أصاب الأمم الخالية-خلفه في مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رستم السنديد، وعن اسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتبتها"(9)
لقد كان القص متفشيا عند الجاهليين والإسلاميين، وكانوا يقبلون عليه إقبالا شديدا. ولما نزل القرآن: "قالوا يا رسول الله: لو قصصت علينا، قال: فنزلت: "نحن نقص عليك أحسن القصص"(10) . وذكر أن أصحاب رسول الله سألوه أن يقص عليهم، فنزل: "نحن نقص عليك أحسن القصص"، "من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم". وورد أنهم قالوا له: "يارسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن، يعنون القصص" فأنزل الله الآية المذكورة"(11).
لقد كانت للجاهليين والإسلاميين غايات من الاستماع إلى القصص، منها: العبرة والاتعاظ. وإلى ذلك أشير في القرآن الكريم: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب"(12) .
2- فضاء المسجد:
المساجد هي مواضع سجود الجبهة والأنف واليدين والركبتين والرجلين بوضع الجبهة على الأرض، وهي من صور التذلل والتقديس. وقد أشارت المعاجم اللغوية إلى أن لفظ "المسجد" مأخوذ من "سجد". يقال: سجد الرجل، إذا طأطأ رأسه وانحنى. والسجود بمعنى التطامن والتذلل، وهو عام في الإنسان والحيوان والجمادات. قال الراغب في مفرداته:
"السجود أصله التطامن والتذلل، وجعل ذلك عبارة عن التذلل لله وعبادته، وهو عام في الإنسان والحيوانات والجمادات وذلك ضربان: سجود باختيار، وليس ذلك إلا للإنسان وبه يستحق الثواب نحو قوله تعالى: "فاسجدوا لله واعبدوا" أي تذللوا له وسجود تسخير وهو للإنسان والحيوان والنبات، وعلى ذلك قوله تعالى: "ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال" وقوله: "يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله". فهذا سجود تسخير وهو الدلالة الصامتة الناطقة المنبهة على كونها مخلوقة، وأنها خلق فاعل حكيم"(13). وقد كان هذا المفهوم للسجود متداولا قبل الإسلام. ففي الحديث النبوي: "كان كسرى يسجد للطالع"، أي يتطامن وينحني "والطالع هو السهم الذي يجاوز الهدف من أعلاه". والمعنى أنه كان يسلم لراميه ويستسلم. كما استعمل السجود أيضا بمعنى التحية، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف: "وخروا له سجدا"(14) أي سجود تحية لا عبادة. ثم أخذ لفظ "سجد" معنى شرعيا جديدا، وهو المخصوص في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة الذي لا يتم إلا بوضع الجبهة والأنف واليدين والركبتين والرجلين على الأرض. لذلك نجد القرآن يعبر عن "الصلاة" ب"السجود"، في مثل قوله تعالى: "فسبحه وأدبار السجود" أي أدبار الصلاة، ويسمون صلاة الضحى "سجود الضحى".
والملاحظ أن الاستعمال القرآني للفظ "المسجد" لا يقصره على الصلاة فقط، بل يربطه بالمناشط المختلفة للجماعة المؤمنة، في صراعها مع الكفر، وفي الأدوار الاجتماعية والثقافية المختلفة، التي سيكون نشر وانتقال المعارف واحدا من أهمها. يمكن متابعة هذه الأدوار الثقافية والاجتماعية للمسجد في الآيات التي تحدثت عن هذه المؤسسة قبل الإسلام. فحين تنازع قوم في أمر أهل الكهف، بعد أن أطلعهم الله عليهم، ثم قبض أرواحهم، قال فريق من القوم: ابنوا على كهفهم بنيانا ليكون علما عليهم: "فقالوا ابنوا عليهم بنيانا". في حين اقترح آخرون، وهم الأكثرية، أن يتخذ باب الكهف مسجدا: "قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذ عليهم مسجدا"(15).
لقد كان أول مسجد بني في الإسلام هو مسجد قباء(16)، الذي يقال له مسجد التقوى. وقد تحدث القرآن الكريم عن هذا المسجد في سياق التقابل بينه وبين "مسجد ضرار" الذين لم يتخذه المشركين للصلاة، وإنما اتخذوه وكرا للتآمر على الإسلام والمسلمين:
"والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا"(17).
في مقابل هذا التحذير العنيف من مسجد "ضرار"، يدعو الله رسوله (ص) والجماعة المؤمنة معه، إلى المسجد الآخر، وهو مسجد "قباء" الذي أسس على التقوى والطهارة من أول يوم:
"لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم"(18).
إن السياق العام الذي يتحدث فيه القرآن الكريم عن أول مسجد بني في الإسلام يتجاوز وظيفة أداء شعيرة من الشعائر التعبدية، المتمثلة في الصلاة في معناها الاصطلاحي المحدود، إلى وظائف أخرى لا تقل أهمية عن الصلاة. من المؤكد أن الغرض الأول الذي من أجله أنشئ المسجد هو الصلاة، وعبادة الله تعالى: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار"(19). لكن هذه الوظيفة التعبدية لا يمكن أن تتحقق - على الوجه الشرعي- المطلوب إلا إذا كانت مقترنة بوظائف -علمية وثقافية وحضارية- موازية. وإذا كانت الفترة القصيرة التي أمضاها الرسول عليه السلام في "قباء" لم تسمح ببلورة هذه الوظائف عمليا، فإن الثابت أن المسجد الثاني الذي بناه في المدينة المنورة مباشرة بعد الهجرة(20)، سيكون فضاء للمناشط المختلقة المرتبطة بحياة الجماعة المؤمنة. لنر بعض هذه الوظائف كما ذكرتها المصادر (مع التركيز على ما له علاقة بموضوعنا):
لقد شكل المسجد -منذ البداية- فضاء لنقل العلوم والمعارف الدينية، وكذا نقل أنماط من التوجيه والتربية. من البدهي أن عملية النقل كانت تتم بالطريقة الشفهية. من هنا ظهر مفهوم "المجلس" الذي كان من أجل نقل المعارف الدينية. هناك أحاديث نبوية كثيرة ترغب في هذا النوع من المجالس، منها :
- "من جاء مسجدي هذا لم يأت إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره"(21).
- "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" (22).
- في الحديث النبوي الذي رواه مسلم عن أبي واقد الليثي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة. فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب واحد. قال فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها. وأما الآخر فجلس خلفهم. وأما الثالث فأدبر ذاهبا. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فأوى إلى الله ، فآواه الله. وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه. وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه "(23).
لقد شكل مسجد رسول الله (ص) فضاء للتواصل مع ثقافات من مرجعيات خارج دائرة الإسلام:
- لما قدم وفد ثقيف على الرسول صلوات الله عليه بعد غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، أمر الرسول (ص) بأن تضرب لهم قبة في ناحية من نواحي مسجد المدينة، وقد اشترطوا على الرسول (ص) شروطا ذكرتها المصادر الإسلامية(24).
- عن أبي هريرة قال: " بعث النبي- صلى الله عليه وسلم- خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي )ص( فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله }(25). قال القرطبي: يمكن أن يقال: ربطه بالمسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليه فيأنس لذلك.
كان المسجد فضاء لتداول المهارات والخبرات الحربية والقتالية:
- ففى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها جاء أحباش بحرابهم يلعبون في يوم عيد في المسجد فدعانى (ص) فوضعت رأسى على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا الذي أنصرف عن النظر اليهم، قال الحافظ ابن حجر: إن لعب الحبشة بحرابهم كان للتمرين على الحرب، و التدرب على القتال.
- و كان (صلّى الله عليه و سلّم) يحث أصحابه على تعلم الرمى بالنبال في المسجد ليكونوا دائما على استعداد لعدوهم.
لقد كان المسجد فضاء لإنشاد الشعر:
- ففي المسجد أنشد كعب بن زهير رسول الله (ص) قصيدته "بانت سعاد" في حضور الصحابة، وقد توسل بهذه القصيدة، فحصل على العفو بعد أن كان قد أهدر دمه. وقد أجازه الرسول (ص) بمائة من الإبل، وخلع عليه بردته.
- "مر عمر بحسان بن ثابت وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه فقال: قد أنشدت وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أسمعت رسول الله )ص( يقول: أجب عني. اللهم أيده بروح القدس، قال: اللهم نعم"(26).
وإذا كنا هنا قد تحدثنا عن الوظيفة المعرفية للمسجد زمن الرسول (ص)، فإن هذه الوظيفة ستتأكد مع ظهور المساجد الجامعة الأولى فيما بعد(27). لقد جعلت الأمة المساجد فضاء لنشر العلم، فإذا كان المسجد هو بيت الله، فهو أيضا بيت الجماعة، وبيت كل مسلم على حدة، لقد كان المسجد هو الشيء الوحيد الذي تملكه الجماعة مشتركة. لهذا فقد استخدمت مساجدها معاهد للتعليم، لأن العلم كان دائما من اختصاص الجماعة، فلم تكن دول الخلافة أو دول السلاطين مسئولة عن التعليم حتى في عصر الراشدين، وإنما كان التعليم من اختصاص الأفراد والجماعة، فكانت الجماعة تتكفل بمعاش المعلمين سواء أكانوا معلمين صغارا يعلمون الصبيان القراءة والكتابة ويحفظونهم القرآن، أو شيوخا أجلاء يقرؤون علمهم على طلابهم في المسجد في علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والأدب(28).
"وامتدت تلك المراكز التعليمية إلى شتى المساجد الإسلامية فدرس الحديث وعلومه ونبغ فيها من نبغ من محدثين وشراح حديث ومصطلحيين قاموا بتخريج الأحاديث ونقدها، وبيان صحيحها من سقيمها في المتون والأسانيد، وشرحوا الغريب، وأثروا المكتبة الإسلامية بصنوف المؤلفات كالصحاح والسنن والمسانيد وطبقات المحدثين وكتب الغريب وغيرها، ثم دروس الفقه وأصوله وقواعده وتاريخ التشريع...واتسعت دائرة هذه المواد وتشعبت فروعها وكثر روادها ودرست على أرقى مستوى، فبرز فيها من برز، وتفوق فيها من تفوق، وجادت مراكزها بأعلام الفقهاء ونوابغ الأصوليين وشيوخ القواعد وعلماء التشريع الذين ألفوا ودرسوا وأوجدوا نتاجا علميا وفيرا غصت به المكتبات، وخرجوا أجيالا مؤمنة متعلمة تدعو إلى الخير وتصد عن الشر"(29).

فضاء الرحلة (لطلب العلم)
إن الرحلة في طلب العلم مهمة جليلة، فلا غرو أن نجد القرآن الكريم يحث عليها، إذ يقول الله عز وجل:
"وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"(30).
وقد نبه على ضرورة السفر في طلب العلم الإمام الغزالي (ت505هـ)، لأن طالب العلم يكون أكثر تفرغا إذا بَعُدَ عن الشغل بالأهل والأوطان، فلا يكون أمامه إلا التفرغ للعلم، إما بحضور مجالس العلماء أو مطالعته الكتب.
وقد بلغ اهتمام العلماء بهذا الأمر إلى حد التأليف فيه، فقد صنف الحافظ أبو بكر الخطيب (ت463هـ) كتابا خصه بأخبار من رحل في طلب حديث واحد سماهُ: "الرحلة في طلب الحديث"(31).
للرحلة أهداف جليلة يمكن تصنيفها على الطريقة التالية:
- تحصيل الحديث: خاصة في عهود الإسلام الأولى، ومنه جاءت رحلات الصحابة، التي كانت إما إلى الرسول (ص)، وإما إلى بعضهم البعض. ثم رحلات التابعين(32) (من ذلك أن علقمة والأسود كانا يبلغهما الحديث عن عمر.....).
- التثبت من الحديث: مثل رحلة أبي أيوب رضي الله عنه من المدينة المنورة إلى مصر ليتثبت من حديث سمعه من النبي (ص) لم يسبق لأحد أن سمعه غيره، وغير عقبة بن عامر. وكذلك رحلة شعبة بن الحجاج من أجل إسناد لحديث فضل الوضوء والذكر بعده(33).
- طلب العلو في الحديث: العلو هو قلة الوسائط في سند الحديث مع اتصال السند. ويحصل العلو بأن يسمع المحدث حديثا من راو عن شيخ موجود، فيذهب المحدث إلى ذلك الشيخ ويسمعه منه. وهكذا يقل عدد وسائط نقل الحديث. قيل للإمام أحمد بن حنبل: أيرحل الرجل في طلب العلو؟ فقال: "بلى والله شديدا، لقد كان علقمة والأسود يبلغهما حديث عن عمر رضي الله عنه فلا يقننعهما حتى يخرجا إلى عمر فيسمعانه منه"(34) .

الهامش:
(1)-يحدد بعض الباحثين بداية التدوين في حوالي سنة 143ه ؛ وذلك استنادا إلى نص للإمام الذهبي أورده جلال الدين السيوطي في كتابه "تاريخ الخلفاء"، يتحدث فيه عن السياق العام لنشاط التدوين، فيقول:
" قال الذهبي: في سنة ثلاث وأربعين ومئة شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير. فصنف ابن جريح بمكة، ومالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام، وابن عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة. وصنف أبو حنيفة رحمه الله الفقه والرأي. ثم بعد يسير صنف هشيم والليث وابن المبارك وأبو يوسف وابن وهب وكثر تدوين العلم وتبويبه، ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس. وقبل هذا العصر كان الناس يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة".
أنظر: جلال الدين عبد الرحمان السيوطي، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1424.
(2)- ابن منظور، لسان العرب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دار صادر، بيروت، ط15، (ب ت).
(3)- د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، منشورات جامعة بغداد، ط: 10، 1993ج: 1، 570
(4)- نفسه، ص: 571
(5)- نفسه، ج: 5، ص: 5.
(6)- المرزباني، أبو عبد الله محمد بن عمران، الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، المكتبة السلفية، 1343، ص : 60.
(7)- مقدمة ابن خلدون، مطبعة دار القلم، بيروت، 1978م، ص: 128.
(8)- سورة الفرقان:5.
(9)- ابن هشام، السيرة النبوية، ج:1، ص:374.
(10)- تفسر الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التريكي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، ط:1، 2001، ج: 12، ص: 90.
(11)- تفسير الطبري، ج: 12، ص: 90.
(12)- سورة يوسف، الآية: 111
(13)- راغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، ص: 229.
(14)- سورة يوسف: الآية: 100.
(15)- سورة الكهف، الآية: 21
(16)- بني مسجد قباء من طرف سعد بن خيثمة بناء على رأي الرسول. وقد كان إنشاء مسجد قباء واستعماله للصلاة فعلا بعيد انتقال الرسول من قباء إلى منازل بني عدي بن النجار في وسط المدينة وقد افتتحه الرسول (ص) وصلى فيه مع صحابته. أنظر: حسين مؤنس، المساجد، سلسلة عالم المعرفة، عدد: 37، يناير 1981.
(17)- سورة التوبة، الآية:108
(18)- سورة التوبة: الآية: 110.
(19)- سورة النور: الآية: 36.
(20)- بني المسجد النبوي في العام الأول للهجرة: (٦٢٢ م)
(21)- ابن ماجه المقدمة (227)، أحمد (2/418).
(22)- صحيح مسلم، باب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم: (2699)2).
(23)- صحيح مسلم، رقم: 2176.
(24)- جاء في سنن البيهقي- في باب "المشرك يدخل المسجد غير المسجد الحرام- " أن وفد ثقيف قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا ولا يستعمل عليهم من غيرهم فقال : لا تحشروا ولا تعشروا ولا تجبوا ولا يستعمل عليكم من غيركم، ولا خير في دين ليس فيه ركوع) الحديث رقم: 4463.
(25)- البخاري في صحيحه في الصلاة: باب الاغتسال إذا أسلم، وربط الأسير أيضا في المسجد 1 / 118 - 119.
(26)- النسائي في سننه: الرخصة في إنشاد الشعر الحسن في المسجد 2 / 48.
(27)- نذكر هنا بدور المساجد الجامعة الأولى، في نقل المعرفة. تتمثل هذه المساجد في: مسجد البصرة ، اختطه عتبة بن غزوان سنة ١٤ ه/ ٦٣٥ م، و مسجد الكوفة، اختطه سعد بن أبي وقاص سنة ١٥ ه/ ٦٣٦ م ، و مسجد الفسطاط، اختطه عمرو بن العاص سنة ٢١ ه/ ٦٤٢ م . أنظر: د. حسين مؤنس، المساجد، ص: 55.
(28)- المرجع نفسه، ص: 32.
(29)- المرجع نفسه، ص: 33.
(30)- الآيـة: 122 من سورة التوبة.
(31)- وهو مطبوع بتحقيق الدكتور نور الدين عنتر/ دار الكتب العلمية بيروت.
(32)- المرجع نفسه، ص: 18.
(33)- المرجع نفسه، ص: 18.
(34)- المرجع نفسه، ص: 20-21.