قراءة.. في ملف الأسرى الفلسطينيين

د. لطفي زغلول

تهيب بنا قضية الأسير الفلسطيني في المعتقلات الإسرائيلية الشيخ خضر عدنان أن نواظب على إبقاء ملف الأسرى الفلسطينيين مفتوحا. هذا الملف الذي لم ولن يغلق حتى تحرير آخر أسير من هذه المعتقلات. إن معاناة الشيخ خضر عدنان هي صورة طبق الأصل لمعاناة كل الأسرى الذين يزج بهم الإحتلال خلف قضبان معتقلاته. هذه المعتقلات التي ما زالت شهيتها مفتوحة للمزيد من أبناء الشعب الفلسطيني.
في ذات السياق، لم تتوقف لحظة واحدة المداهمات النهارية والليلية لقوافل الإعتقالات الإسرائيلية، منذ اليوم الأول للإحتلال الإسرائيلي لبقية الوطن الفلسطيني في شهر حزيران/ يونيو من العام 1967. وعلى ما يبدو فإن الزج في معتقلات الإحتلال هو قدر الغالبية العظمى من الفلسطينيين. فمن لم يدخل هذه المعتقلات منهم، وهم قلة، فإنه يرزح تحت ظلال معتقل الوطن الكبير. وهل هناك معتقل أكبر من الضفة الفلسطينية وقطاع غزة ؟.
إلا أن الأخطر من هذا كله أن الإحتلال الإسرائيلي، قد أوجد لهؤلاء الأسرى المعتقلين مسمى خاصا به وهو "سجناء"، ويرفض أن يطلق عليهم المسمى الحقيقي لهم وهو "أسرى". إن الفرق كبير بين المسميين. إن السجين يحاكم بعد أن يلقى القبض عليه بتهمة أو بأخرى لا تمت بصلة إلى أعمال النضال المشروعة ضد الإحتلال بغية التخلص منه، واستعادة الحرية التي سلبها وجوده غير الشرعي.
أما الأسرى، فللفلسطينيين منظورهم فيما يخص أسراهم في المعتقلات الإسرائيلية. وهو منظور قانوني يتقاطع في كل نقاطه مع منظور الشعوب التي ناضلت من أجل التحرر والخلاص من الإحتلال، وتعترف الشرعية الدولية به. بناء عليه، ناضل الفلسطينيون للخلاص والتحرير، ويناضلون أيضا من أجل خلاص فلذات أكبادهم وتحريرهم وعودتهم إلى ذويهم وأحبائهم وأحضان وطنهم ، وهذا حقهم المشروع.
إلا أن المنظور الإسرائيلي لا يتقاطع مع المنظور الفلسطيني في معظم نقاطه. إن إسرائيل عبر كل حكوماتها دون استثناء تعتبر الأسرى الفلسطينيين سجناء عاديين ارتكبوا جرائم قتل، وأعمال تخريب وعنف، وخروج على القانون، وأنهم أعضاء في تنظيمات معادية. الأنكى من ذلك أنها أخذت تعتبرهم إرهابيين في غمرة ما سميّ الحرب على الإرهاب، غداة أحداث الحادي عشر من إيلول/ سبتمبر 2001.
إنطلاقا من هذه التوصيفات، فإنها تتخذ من قضية الأسرى وسيلة ضغط على الفلسطينيين، وآلية تعذيب ومعاقبة لهم. من هنا فهي جادة بملء معتقلاتها بصورة مستدامة لم تنقطع في يوم من الأيام على مدار سنوات احتلالها لكامل الوطن الفلسطيني منذ العام 1967، وقوائم من تسميهم بالمطلوبين الفلسطينيين أمنيا لها طويلة ومتجددة، ولا تنتهي.
هنا لا بد لنا أن ننطلق من تعريف مصطلح الأسير كما هو في القوانين والأعراف الدولي. هناك تعريف واحد للأسير ينطبق على كل من ألقي القبض عليه من قبل الخصوم والأعداء سواء كان ذلك في غمرة القتال، أو الإستعداد له، أو الإغارة عليه في عقر داره، فهو عندئذ يكون أسير حرب. في العصر الحديث، أقرت الشرعية الدولية عبر بنود اتفاقية جنيف الرابعة أسس معاملة الأسير وبقية الإجراءات التي ينبغي على الآسرين أن يطبقوها عليه بحذافيرها، بما فيها حتمية منحه حق الحرية بالإفراج عنه، والعودة إلى وطنه وأهله مهما طالت مدة أسره.
الأسير لا يحاكم ولا يحكم عليه بالسجن، إلا إذا ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه ارتكب جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، فساعتئذ تتولى أمره محاكم دولية خاصة بهذا النوع من المحاكمات وهي المخولة في البت في أمره. وعليه فإن الأسير لا يعامل معاملة السجناء العاديين ولا يحشر معهم في سجونهم.
في ذا ت السياق، وعلى خلفية هذا المنظور الإسرائيلي في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين، فإن ظروف اعتقالهم تظل إحدى القضايا الإنسانية اللافتة للنظر، والأكثر تأثيرا في الشارع الفلسطيني. فهي لا تخضع لاتفاقيات جنيف بأي شكل من الأشكال. بناء عليه فلم يعد وصف أحوال هؤلاء الأسرى اللاإنسانية ضربا من التخيل أو التخمين. إن جل الأسرى يعيشون في معتقلات نائية محاطة بالأسلاك، إحدى أهم سماتها الإكتظاظ الشديد وانقطاعها عن العالم الخارجي.
أما الظروف الحياتية فهي سيئة للغاية، وتنعدم فيها أبسط الشروط الإنسانية، علاوة على عوامل العزلة، وانقطاع الإتصال بالأهل، كون الزيارات تخضع هي الأخرى لمعايير خاصة فرضتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. وهذا يفسر الإضرابات المتلاحقة عن الطعام التي يقوم بها الأسرى بين الفينة والأخرى احتجاجا على هذه الظروف اللاإنسانية.
إن موضوع الأسرى الفلسطينيين بالغ الأهمية، وهو جزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية التي يطالب كل فلسطيني ويصر أن يوجد لها حل شامل وعادل، وهذا الحل لا يمكن أن يكتمل إلا بإغلاق ملف الأسرى الذي هو واحد من منظومة الثوابت الفلسطينية. إن الفلسطينيين صغيرهم قبل كبيرهم لا يتصورون سلاما يحل في المنطقة دون آخر أسير يتحرر من المعتقلات الإسرائيلية.
إن الفلسطينيين ينظرون إلى عملية تحرير الأسرى على أنها شمولية، علاوة على أنها أمر طبيعي لا يقوم على أية استثناءات أيا كانت. وهي في العادة تتم بين كل الشعوب المتحاربة التي تجنح جنوحا حقيقيا للسلم فيما بينها. إن هذه العملية ليست منحة أو مكرمة أو معروفا أو مجرد نوايا حسنة، بل يفترض بها أنها عملية تأسيس لسلام متبادل دائم وعادل يجني ثماره طرفا النزاع دون تمنن طرف على آخر.
إن الأسرى الفلسطينيين الذين تجاوزت أعدادهم الآلاف وهم خلف القضبان، ومنهم من دخل العقد الرابع من عمر أسره يشكلون معاناة مريرة متجددة على مدار الساعة واليوم والشهر والعام لأسرهم وذويهم بخاصة، وللشعب الفلسطيني بعامة جراء ظروف اعتقالهم التي أقل ما يقال فيها إنها لا تخضع لشروط اتفاقية جنيف الرابعة بشأن الأسرى.
لقد قيل الكثير عن معاناة هؤلاء الأسرى والظروف غير الإنسانية التي يرزحون تحت ظلالها القاتمة لكي تصبح المعاناة مزدوجة لكل من الأسرى من جهة، وذويهم وشعبهم من جهة أخرى. إن هذه المعاناة لا تقف عند حدود قسوة الأحكام الجائرة الصادرة بحقهم أو مددها، بل إنها تتعداها إلى كثير من المواصفات والشروط الإنسانية والصحية التي تفتقر لها هذه المعتقلات التي يحشرون فيها، إضافة إلى الممارسات القاسية بحقهم على كافة الصعد، ومثالا لا حصرا التحكم بزيارات أهاليهم لهم أو حرمانهم منها.
إن السياسات الإسرائيلية، إذا ما أصرت على نهجها الحالي، فيما يخص ملف الأسرى، مضافا إليه الإمعان في مخططاتها الإستيطانية ومصادرة الأراضي الفلسطينية، والسير قدما في بناء جدار الفصل، وضرب عرض الحائط بكل الطروحات السلمية والقرارات الدولية المشروعة، فان المشهد السياسي يظل قاتما بلا أفق، وعندئذ فإن الحديث عن السلام يصبح ضربا من الوهم والخداع، واللعب في الوقت الضائع.
كلمة أخيرة، إن الشعب الفلسطيني لا يتصور سلاما دائما يسود المنطقة، في حين أن كوكبة كريمة عزيزة غالية من أبنائه وبناته – هم أبطال نضالات تحريره - تقبع داخل معتقلات الأسر الإسرائيلي. إن السلام إذا ما أريد له أن يسود ويدوم، فلا بد أن يسبقه تعبيد طرق واصلة له، وإن إحدى هذه الطرق الهامة إغلاق ملف الأسرى الفلسطينيين.
إن الشعب الفلسطيني لا يمكن أن ينسى أسراه. إن هؤلاء الأسرى ليسوا قضية ذويهم، ولا أمهاتهم وآبائهم، أو زوجاتهم، أو أطفالهم، أو أخواتهم وإخوانهم، فحسب، إنها قضية الشعب الفلسطيني بأسره صغيره وكبيره، نسائه ورجاله. وسلام على كل أسير فلسطيني يرزح خلف قضبان الأسر، ويحلم بالحرية والفرج القريب، والعودة إلى أحضان الوطن والأهل والأحباء.