كل الطرق لا تؤدي إلي روما
د. فتحي عبد العزيز محمد
أستاذ تاريخ العصور الوسطى - جامعة الباحة

كل الطرق تؤدي إلي روما مقولة قديمة صدقت فترة من الزمن , عندما كانت روما قلب العالم
القديم وعاصمة أقوي إمبراطورية. فقد كانت تسيطر علي مساحة كبيرة من ذلك العالم , بل
وامتد نفوذها خارج ما وقع تحت سلطانها من بلدان .
امتدت أرجاء تلك الإمبراطورية في المناطق القريبة من آسيا وشمالي أفريقيا إلي جانب
الغرب الأوربي . و إذ كان اهتمام الرومان بتعبيد الطرق بين أطراف الإمبراطورية باتجاه روما
فإن البحر المتوسط كان الرابط الأساسي بين أرجاء تلك الإمبراطورية وعاصمتها روما .
نظر الرومان إلي البحر المتوسط علي أنه " بحرنا "Mare Nostrum. فقد جعلت منه الجيوش الإمبراطورية بحيرة رومانية , تحيطها من كل جانب أراض رومانية ([1] ). ولقد ضمت الإمبراطورية خلال القرنين الأول والثاني للميلاد بين أرجائها مجتمعا , هو الأغنى والأكثر تنوعا والأكثر استقرارا ضمن مجتمعات العالم القديم , وأمكنها أن تحافظ علي التوازن بين سكانها علي الرغم من تنوع أجناسهم ومثلهم واختلاف عقائدهم وتقاليدهم , وهو أمر لم تفلح فيه إمبراطوريات سابقة كالفرس أو الإغريق . ويصف المؤرخون عادة هذين القرنين بالسلام الروماني Pax Romana ( [2] ) . وبالفعل شهدت تلك الحقبة حكومة مركزية قوية عملت علي تحقيق الاستقرار الاجتماعي , مما مكن الناس من تحقيق الازدهار في دولة بلغت من الاتساع حدا مدهشا . حيث امتدت رقعتها إلي ما يزيد علي ثلاثة آلاف ميل من ما يعرف الآن بمضيق جبل طارق غربا إلي منابع نهري دجلة والفرات شرقا , ومن سور هادريان Hadrian s Wallشمالاـ وهو سور حصين شيد في عام 122م لحماية بريطانيا من البكت الإسكوتلنديين ـ إلي حافة الصحراء جنوبا . وعاش بداخل تلك الرقعة الواسعة مابين خمسين إلي ستين مليونا من البشر [3] .
ولا ريب أن ذلك الازدهار الذي تميزت به تلك الحقبة من تاريخ الإمبراطورية كان [4]غالي الثمن . لقد تحقق لها ذلك بعد عدة قرون من الحروب قبل أن تنعم بالسلام الروماني في كل مناطقها حول المتوسط : حروب بونية دامية إبان القرن الثالث قبل الميلاد مع قرطا جنة, وهي المنافس الرئيسي لها في السيطرة علي غرب ووسط البحر المتوسط . وحروب في الشرق مع ما تبقي من إمبراطورية الأسكندر الأكبر من دويلات إغريقية ضعيفة . وبعد غزوها للعالم المعروف آنذاك وتحقيقها لانتصارات حازتها بفضل ما كان لها من مقدرة حربية , كان عليها أن تكابد من ويلات حرب أهلية وقعت في أتونها , لتتمكن في النهاية من الفوز بالاستقرار . لقد كان علي الأحزاب الرومانية المتعارضة أن تخوض صراعا دام قرابة قرن من أجل أن يفوز أحدها بتطبيق مبادئه في كيفية إدارة الإمبراطورية تلك القوة العظمي الناشئة ,لتخرج الإمبراطورية بنظام لا جدال أنه قام علي سلطة مركزية هرمية فوضت فيه السلطة كثير من أمور الإدارة إلي السلطات المحلية . ويمكننا القول أن وراء ذلك الاستقرار الجيش الروماني والبحر المتوسط , فهذين العاملين شكلا معا العالم الروماني ورعيا استقراره وحيويته [5] .
فإذا كان الجيش حقق للإمبراطورية من خلال الحروب ما تريده من سيطرة وفرض نفوذ واستقرار وتحقيق السلام الروماني , فإن البحر المتوسط كان ذا أثر في دعم ذلك كله , تركز العالم الروماني - مثلما العالم الوسيط الذي خلفه - حول البحر المتوسط , مما وفر له الغذاء من خلال وسائل النقل البحري, وأهم من ذلك سهولة في الاتصال . ومن الجدير بالذكر أن سهولة المواصلات ويسر التبادل التجاري كان لهما بالغ الأثر في نشر الوحدة بل نشر الاتساق في الدولة الرومانية الأمر الذي جعل الغالبية من أبناء الإمبراطورية في مستوي معيشة طيبة ([6] ) , وعندما يقول الرومان عنه بحرنا فهذا اعتراف منهم بفضله . فقد كان بمثابة البنية التحتية الطبيعية التي ربطت بين أرجاء العالم الروماني ( [7] ) . وبالفعل ظهر لروما ذلك جليا عندما سعت لفرض نفوذها خارج حوض المتوسط , في وقت سابق علي السلام الروماني , ففي محاولتها للتوسع باتجاه الشرق حيث دجلة والفرات أدي إلي اقترابها من النفوذ الفارسي وبالتالي إلي صدام مع الإمبراطورية الفارسية[8] وكان لتوسع الإمبراطورية الرومانية من الشمال باتجاه الغرب الأوربي والوسط خطورته علي النظام الروماني ككل , وذلك عندما حاول يوليوس قيصر منع تقدم الكلت إلي داخل الإمبراطورية مما أدي إلي انغماسها في حروب داخل القارة الأوربية . إن القارة الأوربية تختلف تماما في مناطقها شمالي الحدود الرومانية عن حوض البحر المتوسط وكانت السيادة الرومانية عليها أمرا مرهقا يتطلب بقاء قوات حربية تسيطر عليها [9] .
لقد ساعد البحر المتوسط علي تدعيم نفوذ الإمبراطور وتنفيذه لإرادته , ولاشك أن إدارة إمبراطورية واسعة المساحة مثل الإمبراطورية الرومانية بدون البحر المتوسط كانت ضربا من المستحيل , إن القوة الحقيقية لأي حاكم ليست ما اعتقد عن قدرته , وإنما هي مقدرته علي فرض إرادته. فالقوة الحقيقية للإمبراطور الروماني دعمها البحر المتوسط من خلال إمكانية وصول قواته إلي أي مكان في حوض المتوسط في وقت قصير يمكنه خلاله سحق أي تمرد في أي من الولايات التابعة له قبل أن يتفاقم خطر ذلك التمرد . فالسفن الإمبراطورية كان بإمكانها أن تقلع من روما وتنتشر في أرجاء المتوسط وفي جو ملاحي مناسب فيما لا يتعدي الأسبوعين . أن السفن التي تقلع من روما إلي برشلونة – علي سبيل المثال – تصلها في غضون أربعة أيام فقط . بينما تلك المتجهة إلي الإسكندرية , بإمكانها أن تلقي مراسيها هناك في أقل من أسبوع . تلك الحقيقة أتاحت فرض القانون الروماني والإرادة الإمبراطورية , ولا ريب أن أخبار التمرد في أي ولاية كانت تصل روما بشكل سريع لا يدع الفرصة لأصحابه أن يحققوا ما يمكن أن يؤثر علي استقرار الإمبراطورية . ولا تحلم أية إمبراطورية بما حظيت به روما من استقرار سياسي أو اقتصادي أو ثقافي بفضل ما وفره لها البحر المتوسط مما كان سببا في قوتها .إن امتداد الإمبراطورية الرومانية علي شواطئ البحر المتوسط مكنها من استخدامه للربط بين مختلف أجزائها , وبسط نفوذها علي البلدان الواقعة تحت سيطرتها [10].
ولا يعني الأمر أن الجيش الإمبراطوري أو تواجد الإمبراطورية حول حوض البحر المتوسط هما اللذان حققا قوة الإمبراطورية بشكل أساسي , إن وجود جيش مدرب محترف بغير شك يدعم سلام دولة , ويحافظ علي بقائها وسط التحديات التي تعترضها . كما أن تمتع الدولة بحدود طبيعية وطرق مواصلات تدعم ترابطها أمر يحقق لها الاستقرار , غير أن العامل الأهم هو ما حظيت به الإمبراطورية من أباطرة أكفاء ساهموا بغير شك في الحفاظ علي كيانها .
ويمكننا القول أن الأباطرة الرومان بشكل عام رجال ذوي كفاءة , وكان الإمبراطور الروماني في القرن الثاني مدركا لما تحوزه الإمبراطورية من أراض شاسعة وشعوب متعددة الأجناس والثقافات , فهو علي قمة صرح ضخم , وتحيط به كحاكم مستبد مظاهر توحي بصفاته المقدسة . تعمل تحت سيطرته حكومة بيروقراطية نشيطة متواضعة في حجمها , إلي جانب جيشه الكبير. وحرص الأباطرة طوال القرن الثاني تقريبا علي السيطرة علي الحكومة والقانون معا ( [11] ). ومع ذلك لم يمتد ذلك الحرص من قبلهم إلي السيطرة علي جوانب الحياة الاقتصادية والدينية والثقافية إلا بقدر , مما أدي إلي الازدهار وارتقاء الفكر ( [12] )
غير أن النظام الإمبراطوري كان أقل ثباتا في مواجهة أخطار وشدائد حاقت بالإمبراطورية في عهدها الأخير , وكشفت تلك الإخطار والشدائد عن مواطن ضعف في النظام الإمبراطوري ( [13] ) . تلك المواطن التي حاول أباطرة القرنين الثالث والرابع معالجتها بإعادة تنظيم الإمبراطورية . وكان من بينها اتخاذ عاصمة جديدة للإمبراطورية علي أن تكون في الجانب الشرقي منها , لما توفره من سرعة مواجهة ضد العدو الفارسي , ولما في الشرق من كثافة سكانية يعتمد عليها ووفرة الخيرات في ذلك الجانب . بدأ دقلديانوس باتخاذ نيقوميديا عاصمة له , غير أن ما فعله قنسطنطين من بناء مدينة جديدة عند مضيق البسفور لتكون عاصمة للإمبراطورية كان أشد وطأة علي مستقبل روما . أراد قنسطنطين أن تحمل العاصمة عند البوسفور أسم روما الجديدة , بينما أبت هي إلا أن تحمل أسمه وصارت القسطنطينية قلب عالم جديد يقصدها التجار وتتجه إليها المتاجر , وتتلاشي مكانة روما تدريجيا ولم تعد كل الطرق تقود إليها .....
__________________________________________________ ____________
[1] John L. Lamont, The World of The Middle Ages , N.Y. 1949, p 3 _
-
[2] ـ السلام الروماني , هو عبارة عن وحدة اقتصادية وسياسية ساشعة الأبعاد مركزها البحر المتوسط الذي قامت في بلدانه مدن عظمي, كانتور : المرجع السابق , جـ 1 ص40 .
[3] ـ 7. , The worlds of medieval Europe,Oxford press,2003,p Clifford R. Backman
[5] ـ Ibide,p7.
[6] ـ سانت موس , ميلاد العصور الوسطي , ترجمة , عبد العزيز جاويد, القاهرة 1998,ص 19
[7] ـ Ibide , p7.
[8] _ Clifford backman , Op.Cit ,pp. 7- 8
[9] ـ Ibide, p10
[10] ـ سعيد عاشور : أوربا العصور الوسطي , التاريخ السياسي , جـ 1 , القاهرة 1986 , ص 26.
[11] ـ كانتور : المرجع السابق , جـ 1 , ص 40 .
[12] ـ نفسه , ص40 – 42 .
[13] - موس , المرجع السابق, ص 20.