آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 18 من 18

الموضوع: صرخة الرفض

  1. #1
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي صرخة الرفض

    [COLOR="purple"]
    صرخة الرفض

    كنت روحا في فلك البراءة، أجوب أقطار كون لا حد له، كله جمال، كله نقاء، كله صفاء، أتنفس الفضائل من فطرتها الطاهرة، أضاهي العالم الملائكي، أشكر موقعي أينما كنت، وليس لي مستقر ولا مستودع، يدفعني وجودي لأن أكون يوما من الأيام أنا، تتجاذبني أمنيات الفضيلة شوقا، وخلف القصد في الغفلة الخطيئة تغريني، ما كنت أميز بينهما إلا في كوني أنني سأكون، أتيت من بعيد، أقطع كل مسافات الظنون للوصول، لأكون ذلك اليقين الذي يصنع الفرحة حينا، وحينا يصنع الشقاء، ويتنكر لي الشرع والوضع، وأخيرا أظن أنني اهتديت إلى ضالتي وساقني قدر من حيث لا أدري، أطوف كفراشة حول امرأة كشجرة صهرتها السنين، تجاوزت من العمر الثلاثين، بيضاء تسر الناظرين. فاتنة كانت، تطاردها النظرات، فرس جامحة تسعى إلى موردها، جاءت مساء ذلك اليوم في الموعد كعادتها، دخلت، ابتسم لها النادل، جلست في آخر الصالون في آخر طاولة، تنظر إلى الباب، تنتظر وصول الرجل الذي تخلف، كأنه شعر بحمل أثقل ممشاه، لا تزال تجتر الخبر والشك يساورها، بل تتمنى أن يكون مجرد أضغاث أحلام، لا تذكر أنها نسيت يوما تعاطي موانعها. وفي آخر لحظة تراجعت وقررت أن تتكتم على الأمر إلى حين، وجاء ذلك الرجل الذي كانت تنتظره، كان أنيقا وسيما جدا، أطيب من أن يكون صادقا كما يقولون عنه، وأجمل من أن يكون وفيا، لا يتكلم كثيرا، روض ثغره على التعبير بما يريد، يتميز ببرودة أعصاب حد انهيار خصومه، يمزق بمخالب الصمت مكامن التروي، ومن نار الليل يصنع رماد الصباحات، نظراته أوراق بيضاء، حركاته لا تعرف التلقائية، بلغ من الرشد ما جعله يتنزه عن العبثية، لكل شيء في سلوكه مقدار، ضابط لموازين التواصل، بقدر الأخذ بقدر العطاء، بهذه الجدية استطاع أن يكبلها، تدين له بالولاء التام، تكتفي بأنصاف تبسمه لما تضحك، جرأته في فعله، لا يتردد، ولا يندم، لا يعاتب، ردة فعله زخات وشرارات متداولة...
    كانت هي جميلة جدا، تتحدى بقوة أنوثتها، وسطوة ضعفها، وتسلط رقتها أي مراس، تطاوع حبل الوصل به، تلين لشدته وتتصلب، شجرة سرو تقاوم كل فصوله، تنحني كالخادمة ولا تنكسر، في نظرتها شيء من مخذر الساحرات، وبصيرة العرافات، تقرأ في ظاهر الممارسات خبايا الذوات، كلما تعرفه أكثر تتعبه أكثر، لاعبة شطرنج تحول بينه وبين مقاصده برفق الساذجة، لا تظهر له مهاراتها في ترويض مشاعره، يرغم نفسه عن الإستغناء عنها، وهي مكرهة كجارية، تعيده إليها برغبة المترفعة وتتركه يمارس جموح رجولته في حلقاتها المغلقة، هي تعرف أنه مقيد بها، وهو يعرف أنها مقيدة به، ولكن من يصل إلى آخر محطتهما منتصرا؟ هذا هو الرقم المجهول في هذه المعادلة التي لا تكاد تنتهي...
    جلس وأشار للنادل، يتفحص وجهها، يستنطق ثغرها، ينتظرها أن تنطق، لف ساعده بساعده، وتراجع إلى الوراء لاحتواء صورتها كاملة، وضعت ابتسامة التكلف على محياها ممزوجة بمشاعر تزعم انهزام الكيد أمام المكر، وأخفت سحابة القلق وراء بسمة أخرى، حذر كان هو، لا يزال صامتا، يتابع خطاب جسدها برفق مصطنع أدركته هي بسهولة، صمت اعتادت عليه. إنحنى على الطاولة، ومد يده إلى يدها، أمسك بها، كانت أسخن، ألطف، ألين، جذبها فطاوعته وقال: ماذا قال الطبيب؟
    قالت: إرهاق نفسي .. و تعب سؤال ثقيل..
    ...يتبع.....[/COLOR]


  2. #2
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    ابتسمت أنا لأنني اكتشفت ما كان يشغلني من حيرة وتعجب، إنه السؤال الذي يحتمل جوابه الصدق والكذب وأشياء أخرى، ما كنت أعرفها...
    وجاء النادل يحمل طبقا عليه كوبين من نفس اللون تقريبا، البارد لها والساخن له، أشعل لفافة مالبورو واحتفظ بالثقاب في يده، كان الدخان يخرج من فيه أسود، يدفعه ببطء، يتشكل ثم ينقشع تاركا وراءه للسؤال حيرته. ليتني أستطيع أن أتحكم فيه، هكذا قالت في سريرتها، تفطن لها، شعرت بذلك، فقالت: هل توحي إليك هذه الأشكال بشيء؟
    قال: فلسفة الحياة، مثل سؤالك الثقيل...
    ابتسم، رشف ومزج بين لذة الشراب واستعداده لتلقي السؤال... كنت أرفرف حولها، فوقفت فوق رأسها، أنتظر أنا كذلك سؤالها بشغف، إلتزمت هي الصمت، تحاول إثارة فضوله إلى أقصى درجة، تحافظ على استمرار بسمتها بكل ما أوتيت من براعة التمثيل، لا يزال احتمال انتصار الخيبة يتغلب في اعتقادها على الأمل، بل أكثر من ذلك، ربما سيكون الموجة التي تكسر حبيبات الماء لتعود زبدا...
    قال: أعطاك مقويات وفيتامينات ومنشطات... كعادته
    قالت: لا أظنها تنفعني في هذه المرة...
    أطرق ينظر إلى بخار شرابه، سحبت يدها من يده، أخذت الكأس، كان الشراب باردا، شعرت به يرد رغبة السؤال الذي ملأ صدرها، وضعت الكأس فارغا، حملت سفطها و وقفت.
    قالت: هيا بنا، نواصل حديثنا في الطريق، لقد تأخرت اليوم كثيرا.
    ترك نصف شرابه وقام متثاقلا، كان جو المساء لطيفا جدا، وضع نظاراته السوداء ، نظر إلى نفسه في زجاج الواجهة، أنيقا جدا كان، كانت هي أجمل، عانقت عضده فزاد ذلك في روعة منظره وأهبته حد الغبطة والحسد، كأنه الملك بخطاه الواثقة، تشد عضده جارية لينة الطرف قاصرته، تحادي السادية في إخلاصها له، حتى لا يكاد يرى الناس إلا هو، تنظر إليه وهو ينظر إلى أفق الشارع الطويل، إلى زرقة السماء الجميلة، إلى جماليات الهندسة المعمارية وفنون الزخرفة على الأبواب والواجهات، كأنه خريج مدرسة الفنون الجميلة.
    قال: كم هو الجو منعش في هذا المساء، كأني لأول مرة أمر من هنا.
    قالت: لهذا فضلت الخروج
    لم يبال بها، وسقطت كلماتها دون أن ترد الصدى، أحدثت دوائر في طويتها، كان حينها يضغط على ساعدها بعضده، لا يريدها أن تتكلم حتى لا تفسد عليه متعته... سحبت ذراعها وتوقفت، وقف ينظر إليها بعيون وسنى وابتسامة صفراء فارغة...
    قالت: إقتربنا كثيرا، يجب أن نفترق، لا أستطيع أن أذهب معك الليلة كما وعدتك، عندنا ضيوف، إبن خالتي عاد من المهجر وهو ضيفنا الليلة، تجب علي خدمته...
    طبع على جبينها قبلة باستحياء، وانصرف يحمل ابتسامته على ثغره، لم يلتفت، رمت ثلاث خطوات أو أربع، وقفت قليلا قبل أن تلتفت وتراه يمشي على إيقاع سمفونية الأبطال، تنهدت، وواصلت طريقها تكظم سؤالا تعذرت صياغته إلى حين...
    لا زلت أنا قابعا فوق رأسها... دخلت إلى البيت، ذهبت إلى غرفتها، غيرت ملابسها وعادت إلى الصالون حيث كان الجميع هنا، يتجاذبون أطراف الأحاديث، نظرت إليها الجدة، وقبل أن تستعيد كليا طبيعتها قالت: خير ما وراءك يا بنيتي؟
    قالت: هل بدى علي شيء؟
    قالت الجدة: الأم يا بنيتي تنظر إلى ابنتها بعيون الكبد، فاعذري تطفلي أحيانا
    قالت: أبدا يا جدتي، نعب قال الطبيب وإرهاق، وهو زائل إن شاء الله.
    قالت الجدة: أتمنى لك برنوس الستر، يقاسمك هم الطموح قبل فوات الأوان.
    قلت في نفسي ماذا تقصد الجدة ببرنوس الستر، وما دخله بهم الطموح؟ ...هذا كلام لا أفهمه... آه، نسيت أنني لا زلت لم أكن بعد.
    أشياء كثيرة كانت تحصل أمامي لا أجد لها تفسيرا، ولا أفهمها، غريبة علي... بحثت عن ابن الخالة لم أجده، أراهم في الخفاء في صفات وممارسات غير التي هم فيها في الظاهر، أقول في نفسي ربما هي الحياة هكذا...
    الجميع ملتزم هنا، تنافس كبير على التميز بسمو الفضائل، والتزين بالحكمة والإعتدال، والمثالية المترفعة عن الجهالة والبداءة، ملتقى احتكاك الثقافات والمعارف، وقياس سلامة الذوق، لا يخرج الحديث عن قضايا الوضع الراهن وانتقادات لسلوكيات المجتمع وسلبيات الطبقات والمشاهير، يرتقي المجلس بهم حيث تتكامل وجهات النظر وتتلاقح الأفكار، عالم ملائكي فرض نوعا من التواضع والإحترام المتبادل لا نظير له، لا يختلف كثيرا عن عالم الأرواح قبل أن تسكن الأجساد ، أسعد كثيرا لما أحضر هذه الجلسات الحميمية الراقية...
    تناولوا العشاء، وانصرفوا جميعا ، كل إلى غرفته، وخلدت هي إلى الراحة في خلوتها، تمددت على السرير، أراها تتخبط كأنها حية أكلت سمها، وفجأة أسرعت إلى دورة المياه، تبعتها، تقيأت وعادت، لم تكترث، فقط بدى على وجهها شيء لم أفهمه، جلست القرفصاء فوق سريرها، في الظلام تشد رأسها بيديها، شعرت بشفقة عليها حد الإنهيار، كأنني أنا المسؤول عن هذا الذي تعاني منه، ليتني عرفت ما يدور بداخلها، غريب أمرهم ، عندما يختلي البشر يرجع كل واحد إلى نفسه، إلى حقيقته، ليعطيها شيء من الحرية، يمكن أن ينتحر من أجلها في الحلم أو في اليقظة وحيدا ومع غيره يبيعها بأبخس ثمن، وما بين الحقيقة والخيال في العقل إلا برزخ الإرادة. استوت على سريرها، عانقت وسادتها، وانهارت تبكي في صمت ، تبتلع الشهقات في كمد، ترى ما الذي يبكيها وهي التي كانت عند العشاء تضحك ملأ فاها!!.. ليتني أستطيع أن أصبر أغوارها. جسدك أيتها المرأة سبب شقائك، ليتني أستطيع أن أساعدك للعودة إلى ما كنت عليه من روح دون جسد، ليتني أستطيع أن أخلصك من هذا المستبد، من هذا السجن، من هذا الجلاد، تحاصرك جنوده من كل جهة... يا ليتني...
    وطال الليل رغم قصره في صنع المبهم ، ورسم الضياع بكل ألوان الظلام، وضاع من تعقلها الطريق. يقال أن الصواب يمهد له اللسان قبل خروج مطيته، فإذا خرجت يصعب ترويضها وتفترسك، أراها تسترجع تلك اللحظات التي يفقد العقل سيطرته على الذات، و تستحوذ الرغبة على النفس فتعزلها لتستبد بها وتنزلها إلى اللاوعي الضال، إلى مكمن الندم لتوقظه فيفترس ما خلفته الخطيئة لما تستفحل في البشر. هكذا مرت ليلتها، مناجاة ومنولوج في فراغ لا يرحم .
    في الصباح قامت كأنها خلقت من جديد، وكأن شيئا لم يكن، كان النهار قد رفع ستائر الليل عن الكون، تنفست أزهار الحديقة، وغمر وهيجها غرفتها، تحمله نسمات مارس اللطيفة إلى عمق الذات . جلست على حافة السرير، تثاءبت، نظرت إلى ساقيها ورجليها الصغيرتين، كانت الساعة متوقفة ، تنعلت ودخلت إلى الحمام، كادت تنام في دفء الماء الذي غمر جسدها، يرد صدى نبضاته إلى داخلها كأنها ضربات على صناجة لإثارة الأعصاب.

    ....يتبع....


  3. #3
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    تتلاشى شدتها رويدا رويدا حتى عادت إلى وتيرتها العادية، وتركت فسحة لتنهيدة خرجت من العمق... وبعد، هل هو الطوفان؟ لست الأولى، ولن أكون الأخيرة، والحل موجود، والوقت لا يزال في صالحي، سأتخلص منه ولن يعلم أحد، فقط يجب أن أصل بأمان إلى هذه القناعة حتى لا يسجنني ضميري، وأتحول من ضحية إلى مجرمة تعيش كابوس فعلتها كل الحياة...
    أمام المرآة، تحاكي الحظ، تقاضيه، وتحتفظ بالحكم، يبتسم لها بسخرية العنيد، هو كذلك يمارس عليها القهر بالصمت، والتحدي بالتقليد، إنه صورة طبق الأصل له، وصمت منه بدأ يتشكل في ذاتها، يرغمها على التكتم، وممارسة التروي في صمت، الصمت يحاصرها من كل جهة...
    في غرفتها، سرير مبعثر، ودولاب رتبت فيه ملابسها بذوق خاص ، على الجدار أمامها لوحة لعصفور في قفص، مجلات وكتاب فوق طاولة فوقها مصباح وكوب... تهيأت للخروج، الساعة الآن السابعة صباحا، مرت على المطبخ، تناولت قطعت من كعكة كانت في طبق على الطاولة، زادت عليها جرعة حليب، وخرجت على غير عادتها باكرا... بدأ الشارع يتحرك باستحياء،
    يحدث للإنسان أحيانا أن يمر بمكان أو بشارع عشرات المرات ولا ينتبه لكثير من الأشياء، هكذا هي اليوم، كأنها تمر من هنا لأول مرة، كثيرة هي الأشياء التي تغيرت، محلات جديدة، واجهات أخرى، ديكور آخر، لوحات ومساحات إشهار، حتى أرضية الأرصفة أعيد تبليطها، عجيب! كل شيء تغير، كأنها كانت في غيبوبة، كان همها الوحيد رؤيته قبل دخولها إلى العمل، وفي المساء تحجب عنها نشوة اللقاء كل الأشياء فتعود إلى البيت ولا هم لها سواه . أما اليوم، فإنها تتمنى أن لا ينتهي هذا الشارع، ويمتد مع الزمن، ويبتعد مكان العمل، ويمنحها من الوقت ما يجعلها تسترجع كل قواها لصياغة السؤال الللغز، سؤال الحيرة الذي يغذي الأرق، تحاول ترتيب أوراق الحدث في نفسها بطريقة تعطي للتلقائية حقها في الوصل ،والتروي مقامه في الحديث، لعلها تتمكن من رسم خريطة للخروج معه من هذا المأزق بأقل ما يفرضه الواقع المر... إنها في السنة الثالثة بعد قراءة الفاتحة سرا، تنتظر ترسيم الزواج وإعلانه في حفل زفاف يحقق لها الحلم الجميل الذي وعدها به، يحفظ ماء وجهها، وتخرج إلى نور الحياة من بابها الواسع، تريد أن تفجر السؤال لتوقظ أملها من هذه الغيبوبة التي دخلت فيها من حيث لا تدري... هي التي كافحت كثيرا لأن تكون صورة غير صورة أمها، رغم ما تتميز به العائلة من شكليات المحافظة، وتقديس الروابط الأسرية التي أريد لها أن تؤسس لاندماج متحفظ خشية الذوبان في مجتمع لا يثمن النسب، ولا في ميثاقه للأصول بنود. تمنت أن تكون سيدة من ثمين الإعتدال، وجمال السوية في كل شيء، تفرض وجودها دون أن تكسر السياج مثل أمها ، لأن السياج كما يقول المثل يوضع للعاقلين، إعتنت كثيرا بمظهرها، أمام بنات الخالات وبنات العمات، حضورها يربك الجميع، حتى الجارات ينظرن إليها بعين الحسد...
    إنها الآن أمام المحكمة، لا المكان ولا الزمن طاوعها للوصول إلى ما تريد ، ليست الأشياء الجميلة هي وحدها التي تشغلنا، بل الهم الذي يبكينا هو نفسه الذي يضحكنا، كان هو واقفا أمام المقهى المقابل، يد في الجيب والأخرى بين أصبعيها سيجارة، في شموخ هامة لا تنحني وخد مائل مصعر، مجسد رجل عليه بذلة في واجهة للعرض، نزع نظاراته، فوجدها أمامه، قررت أن تفرغ له ما بجعبتها.
    - طاب صباحك
    - طاب صباحك
    أخذها من يدها وقال: سأتغيب بعض الوقت، أنا ذاهب في مهمة لا أعرف كم ستدوم.
    فقالت: أنا، أنا حامل... ماذا أفعل؟ صدقني كانت هفوة، لا أعرف كيف حصلت.. كانت خطأ..
    صعدت على ثغره تلك الإبتسامة المبهمة كعادته، ضغط على يدها، تراجع قليلا إلى الوراء، أسدل يديه وانصرف...
    ....يتبع.....



  4. #4
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    ما معنى حامل؟!!، هذه ظاهرة لا تعرفها الأرواح مثلي، وزادت في قائمة حيرتي سؤال،
    قلت في نفسي لعله مرض خطير جدا، أو حالة نفسية تمر بها المرأة في مرحلة من مراحل عمرها مثل المراهقة مثلا... لا، لا، لا، إبتسامة الرجل توحي أن الأمر أهون، يمكن أن يكون مجرد شعور ينتاب المرأة ساعة الفراق وسيزول...
    أخذت ردة فعله الباردة والتي كانت تنتظرها بمجامع فكرها، عادت أدراجها كأنها ورقة تقذفها نسمة الصباح. أمام باب المحكمة، البواب رجل بشنب ثائر في العقد الخامس، يرتدي بذلته الرسمية، تذكرها دائما بتلك الكتب الصفراء التي لا يزال جدها مدمنا على قراءتها وهو يحمل تلك النظارات الدائرية الشكل، يشبه فيها عيني الكوبرا، فابتسمت من حيث لا تدري، إنها تعرفه على حقيقته، مشعوذ يدعي التحكم في الجن والإنس، لا يزال إماما في القرية المجاورة، يدين له الجميع بالولاء والطاعة، جاءتها فكرة فحذفتها وواصلت إبتسامتها، واعتقدها البواب تحية له، فردها بزهو الفائز بجائزة نوبل، فإذا كانت إبتسامته هو للغلبة والمقهورين والمغلوبين على أمرهم من ذهب، فكيف بابتسامة كاتبة ضبط جميلة له في قصر العدالة، فتنبهت لذلك، استعادت جديتها، فعاد مدحورا إلى منزلته يبتلع غصة تهوره...
    وراء مكتبها كانت شيئا آخر، كانت وحشا يمزق بمخالبه كل قربانا تقدمه له عدالة البشر، كنت أرفرف حولها، ما صدقت أنها هي تلك المرأة الضائعة في متاهات البحث عن مخرج أمام أبواب كلها موصدة، وأفواه مفتوحة على كل التأويلات، وقفت فوق رأسها وهي تتصفح تلك الأوراق البيضاء التي سودها حبر المظالم وعصارات الحقوق المهضومة، فظيعة كانت آثار الأصابع الرهيبة التي تحرك دواليب هذه الأحكام الموجعة، مدنسة بالرشاوي والمحسوبية، الضعيف دائما هو الذي يدفع ثمن كل شيء، حروف من دم مهدور بغير حق، ودمع مغرر به، وعرق مغتصب، دخلت معها في فلك يدور خارج المجرة الحقيقية، آلمتني تلك الكلمات وهي تخرج تحت وطأة قلمها المستبد، تمارس كتابتها بغل وبنفس الصمت الذي ابتليت به، أرى في ضغطها على الورق اصرارا وعنادا يتحدى كل القيم ويهتك حرمة العقل والنقل، أقلام كالجبال وأحكام أحد من السيوف المهندة، وفهمت أخيرا لماذا كل الوجوه في هذا المكان مكفهرة، سوداء، رسم عليها سوط الجور والغبن تجاعيده، هنا تغتال البسمات وتنتهك الأعراض وتغتصب الحقوق، كل هذا باسم شيء يسميه البشر القانون، الشيء الوحيد الذي لم أفهمه لماذا يرتدي هؤلاء الجلادون اللباس الأسود؟ ...
    نظرت إلى ساعتها، فتحت سفطها، تفقدت تسريحتها، مرت على وجهها ببعض اللمسات، لحظات بعدها رن الجرس، ردت بلطف، إنه القاضي ، تعطرت وذهبت، كان الرواق خاليا إنه منتصف النهار، أسرعت، دخلت، أغلقت الباب وراءها بإحكام، كان القاضي في سن أبيها...
    وزاد استغرابي وضاقت على غربتي، أصبحت لا أعرفها، حرباء بشرية أو حية، عادت إلى مكتبها وواصلت عملها بنفس الوتيرة وبنفس الطريقة. توقفت عن الإستقبال لأنه كان في عينيها دمع... وقفت فوق المكتبة أنظر إليها وهي ترتب ملفاتها استعدادا للخروج... لقد انتهى الدوام...
    ...يتبع....





  5. #5
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    أشياء فظيعة لا نراها في عالمنا، وحيرني هذا الجسد الذي أصبح يسيطر كليا على الروح، أين سر قوته؟ وعدنا إلى البيت، وبخروجها من المحكمة عادت إلى طبيعتها، تلك المرأة الجادة، المحترمة، الشريفة، الأنيقة، لا يجرأ أي أحد أن يتجاوز حده معها، هي نفسها امرأة الأمس، دخلت إلى البيت، كان أبوها مستلقيا على أريكته يقرأ الجريدة، ينتظر فنجان شربة المساء التي تعود عليها، أمرد الخدين، ساخط على الوضع، يساعده شنب هتلرعندما يجمع شفتيه ليبدي اشمئزازه وغضبه وهو يقرأ الأحداث المحلية، حديدي الوجه نحيف، بدأ الشيب يغزو شعره، أبيض كأنه ورقة أرمستروج، بدأ يمخره السكري، كان في شبابه لاعب كرة القدم، قدم الكثير لمدينته، رغم بساطة وظيفته كممرض إلا أنه يعدونه من الأعيان، يحبه الجميع في كل مكان، يعزمونه في كل المناسبات الرياضية والثقافية، وفي البيت هو الآمر والناهي، تراه الرجل المحترم بامتياز، يحسب له حسابه، لا يعرف المزاح... قبلته ودخلت إلى غرفتها كالعادة... هنيهة فقط وخرجت مسرعة إلى دورة المياه، تتقيأ، كانت الجدة تتابعها بريبة ، فقام من أريكته ودخل إلى مكتبه، خزانة تسد نصف الجدار، فيها كل أنواع الأدوية ولكل الأمراض، كأننا في صيدلية عمومية، أتى ببعض الأقراص وشراب وتبعها إلى غرفتها.
    - خذي هذه أدوية لا تجديها لا في المستشفى ولا في المستوصفات، تناولي هذه الأقراص وبعدها بساعة تناولي هذا الشراب. كثيرة هي الأدوية التي أتوا بها إلى المستشفى لا تقدم إلا بوصفة من الطبيب، هي الآن عندي، مصوا مني الدم في هذا العمل، رن النقال في جيبه.
    - نعم، من؟ مرحبا، خير ؟... إذا ما وجدت في الخزانة حول المريض إلى المستشفى ، وهل أنا أحمل الأدوية في جيبي؟ هو مستعجل وأنا ذنبي إيه؟..
    أغلق هاتفه ورجع إلى الصالون....
    رمت تلك الأقراص، غيرت ملابسها، وجاءت إلى الصالون
    - كيف حالك؟
    - الآن أحسن يا أحلى طبيب
    - عندما أغيب يرتبكون في الحالات الإستعجالية دائما.
    - حضورك يا أبي في كل مكان ضروري وأكيد، والمستوصف نصب فوقك، لك فيه أكثر من خمس وعشرين سنة .
    - نسيت نظاراتي، وكدت أعطيك دواء انتهت صلاحيته، غدا ساعديني لرمي كل الأدوية الفاسدة ونجدد المخزون، في نهاية الشهر سيزودوننا بحصة الدواء، أعددنا القائمة في الأسبوع الماضي، وننتظر، لن تدخل الأمراض بيتي وإن دخلت فأنا لها بالمرصاد.
    قرأت في الجريدة اليوم عن قضية اختلاس في الخزينة، هل قدموهم إلى العدالة؟
    - نعم، أطلقوا سراحهم، وطلب وكيل الجمهورية إعادة التحقيق، يظهر أن في الأمر شبهة.
    - لا شبهة ولا شيء، هذه جريمة، كان من الواجب أن يجعلوهم عبرة لمن يعتبر، المساس بالأموال العمومية لا جزاء له إلا الإعدام، حتى السجن أصبح اليوم فندق عشر نجوم، هزلت يا للمهزلة!....
    دخل الفيلسوف، الإبن الوحيد، حياهم وجلس
    - دخلت باكرا اليوم؟!
    - زميلي مرضت أمه فتركني وذهب ليأخذها إلى المستوصف، ظننتك أنك الليلة في الدوام ووجهته إليك
    - أحسست بالتعب، فخلفت زميلي ودخلت باكرا أنا كذلك....سيقومون بها.
    رن جرس النقال في جيب الفيلسوف
    - خير إن شاء الله، من؟ آه، مرحبا، كيف حال الوالدة؟
    تغيرت نظرته، وبدى على وجهه الإستغراب والأسى
    - عظم الله أجركم وحلاكم بالصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون، غريب، مستوصف إستعجالي ما فيه دواء؟! إمها جريمة نكراء... حولوها المسكينة إلى المستشفى فتوفيت في الطريق، لماذا كل هذا الإهمال والتلاعب بالأرواح؟.. جرعة دواء كانت ستنجيها من الموت.
    - ماتت؟ الله أكبر، غدا نذهب إليهم، مسكينة الحاجة كنت أعرف أن هذا المرض هو سبب نهايتها، لأنه يتطلب رعاية وعناية خاصة... يرحمها الله... هذا أجلها لا يستطيع أن يقدمه أو يأخره أحد... المرض يا بني لا يقتل ، والدواء لا يحيي .
    كنت فوق الساعة قابعا أتابع هذه المسرحية الدنيئة، ممثلوها جبناء وهم أول من يصدق بهذا البهتان، أردت أن أصرخ فيهم...كونوا أنتم....
    الأم لم تقل شيئا، كأنها خارج مجال التغطية، جسدا وروحا تقلب صفحات مجلة نسائية فرنسية، إمرأة متوسطة، سمراء تظهر أصغر من بناتها، تضاهي عارضات الأزياء، همها الوحيد المحافظة على وزنها وشكلها ومحاربة آثار الزمن، معلمة اللغة الفرنسية لا يجب عليها إلا أن تظهر كذلك، متفتحة أكثر، مندمجة أكثر، أنوثة بمظهر الضعف، طيبة الكلمات، لطيفة الممارسات، مغرورة في دلع التراجع إلى سن المراهقة، تقدس الرومانسية وتثمن الحب الأفلطوني، تقرأ كثيرا الروايات الفرنسية وتعرف كل أكاديمييها، تفتخر دائما بزيارتها للتروكاديرو، وحدائق اللوفر، ولارك دوتريونف، والحي اللاتيني، والشون إليزي ولاتور إيفل و.. و.. و.. هي لا تعرف باربيس... تقول دائما أن أروع ما قرأت رواية مدام دوبوفاري للكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير، كاتب سبق زمنه، قرأتها أكثر من عشر مرات، حتى قالت ليتني كنت أنا هي... في كل سنة تذهب مع بعثة على نفقة الدولة الفرنسية، أفنت عمرها في خدمة هذه اللغة ونقل ثقافتها وتلقين تاريخها إلى تلامذتها، أقرب الناس إليها إبنتها الأرملة، طلقها زوجها في أسبوعها الأول بعد الزفاف، ولا أحد يعرف السبب، خادمة في البيت، لا يرحمها أحد سواها، ملازمة لأمها كأنها الظل، إنها علبتها السوداء، تكاد تكون نسخة طبق الأصل لأمها، وجهين لعملة واحدة... العين دائما على العين... قبل العشاء دخلت إلى غرفتها، أغلقت الباب، وقبل أن تنام فتحت كناشا ضخما عليه صورة برج إيفل، تكتب فيه يومياتها، بدأت تتصفحه ثم توقفت عند يومياتها في باريس، وقفت فوق كتفها أقرأ معها لياليها الحمراء، كانت تقرأ، تبتسم وتارة تضحك، بل تقهقه، أشياء جميلة جدا لا تفعلها إلا المتحررة فوق العادة، تلقب زوجها دائما بالبغل، و هو لا يتجاوز وزن القط، في حين هو يفتخر بها حد الغرور، وهي بجانبه يقول لها دائما إنني محسود عليك، لأنه في المظهر أقل منها أناقة ولباقة، رغم تقارب ثقافتهما، تنافس كبير بينهما في المطالعة، لهذا تستشهد به لما تريد أن تتباهى، وتقول وحدها الفلسفة تزيده الفضل علي والطب، وإلا كان سيكون تلميذي، وتضحك، فينظر هو إليها بإعجاب، تلازمه كالسادية، وتتكسر أمامه كالقطة بل ألطف... وأنا يكاد رأسي ينفجر، آه، عفوا، أنا لازلت روحا، لا أعرف كيف أسمي هذا الشيء الذي يؤلمني عندما أرى هذه التناقضات...
    .....يتبع....



  6. #6
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    سكنني هاجس الفضول، وأصريت على معرفة حقيقتهم جميعا...
    الجدة امرأة على المقاس القديم، بيضاء، طويلة حتى انحنت، بدينة شيء ما، شامة وشم على خدها الأيسر، لا تزال لمسات الجمال البدوي تتحدى الزمن، حجت البيت الحرام، دائما في لباسها الأبيض و في يدها مسبحة، تتمايل في مشيتها كاليخت، تحرك كتفيها يمينا وشمالا تبخترا، فيض من حنان، ثرثارة بامتياز، كاحلة العين، والشعر تحت الشال أحمر حني. تزوج الجد امرأة صغيرة عليها فهجرته، وجاءت تعيش عند إبنها البكر، السحر عندها هو القضاء و القدر، حتى وجع الضرس سحر ، و الجدال سحر ن و الغضب سحر ، فتأتي بشيء من الرصاص تذيبه ، وتسكب الماء في مهراس، تضع فيه الحناء، وتفرغه عليه وهي تصلي على النبي وتقرأ كلاما لا يفهمه أحد، فيحدث انفجاره فيه أشكالا وتخرج منه بقايا وأوساخ، تقرأ عليها الجدة للمصاب بالسحر في اعتقادها العجائب والغرائب، ورغم ثقافة زوجة إبنها فإنها لا تزال تؤمن بذلك حد الهوس و تحسب لحماتها ألف حساب، تقول السحر حق، وتدعي الحكمة في إبطاله ، يلجأ إليها الجميع دائما قبل الطبيب...
    ذهبت إلى غرفتها في تلك الليلة... هنا ينتعش الماضي، وتزدهر الذكريات وفي متعة الحديث تطيب الشجون، ويشتد الحنين إلى الأطلال، وترحل النفس لتعانق الأصول، شهامة رجال الأمس هنا يفتخر بها ، وعزة نسائه فيها تتجلى، هكذا يقولون عنها، إنها ذاكرة العائلة، على لسانها يصنع الواقع مجد الأمس بالأسطورة، ويباح للسر أن يتنفس الصعداء، لا تزال تحتفظ ببعض الأدوات المنزلية التقليدية القديمة ، تزين بها غرفتها... وجدت عندها حفيدتها، كانت الجلسة خاصة، دخلت عليها وهي تقول لها:
    يا بنيتي، رأيتك تتقيئين ولا أثر للوجع عليك، تتصرفين مع حالتك بطريقة عادية جدا ، هل عندك مشكل؟... صارحيني، سأخلصك وأسترك، وأنا وحدي التي تستطيع ذلك دون أن يعلم أحد، هذا شيء يحدث لكل الجميلات مثلك، أنا قبل أن يأخذني جدك جرى معي نفس الحدث، واستطعت بمساعدة أمي أن أروض جدك ويتزوجني ويسترني... إييييه يا ابنتي، تذكريني بأيام زمان، أقسم سأجعله يسجد لك، فقط أخبريني...
    كانت مترددة جدا، تتابع حديث جدتها في صمت المنبهر، وواصلت الجدة لتطيب نفس حفيدتها..
    - حتى لو قدر واكتمل سأقتله وأسقطه، اتركي الأمر علي وصارحيني قبل فوات الأوان، كل أعراض الحمل بادية عليك، قولي يا غبية لماذا تريدين المحافظة عليه، ورطك وسيهجرك، تخلصي منه وتجنبي على الأقل الفضيحة، تزوجي آخر وسأتصرف معك في ليلة زفافك كما تصرفت مع الكثيرات من أمثالك..
    - يا طيبة قلبك يا جدة، كم أنت حنون، اتركيني أتأكد ونتصرف... ليلتك سعيدة.
    رحل شهر مارس، وعادت الطيور التي هجرت إلى أوكارها، وزين أبريل ببواسقه الآفاق، وتلطف الجو أكثر، وأزهر الكون كله، وتغنت به الكائنات، في أول يوم منه نصبت الأم لكل واحد من العائلة مقلبا، واستطاعت بمكرها أن تلفق نوعا من الفواجع المصطنعة، وتملأ النفوس المريضة باليأس، ثم تفرغها لتزيد في رصيد الأحداث التي تزين بها الحديث في جلساتها الحميمية، فهي من لا يمكن لها أن تغفل عن هذا النوع من المناسبات، يتجاوب الجميع معها ،ويتحمل البعض مهازلها ويفتعلون، فكان أغلبهم ملكيون أكثر من الملك، على أن لا يضاهيها ولا يحاديها أحد، هكذا كانت فرنسا ولا تزال، تنشط في منظمة حقوقية، وعضو في جمعية وطنية لتربية الطفل ورعايته، عضو في لجنة أي صياغة للمنظومات التربوية...
    الفيلسوف إبنها البكر، أستاذ في علم النفس، مدلل، مدمن هو كذلك على المطالعة بسذاجة، لا يؤمن بالثابت، ينظر إلى الجميع بعين الشفقة والمسكنة، وانطباع الجهالة، لا يستطيع أن يجاريه أحد في الكلام، يجمع كل المتناقضات الثقافية التي تساعده على الخروج من كل مأزق يوقعه فيه استرساله المتحول، يحفظ الكثير من النظريات والآراء عن ظهر قلب، يلقبه تلامذته بالسفساطي، وعند زملائه مجنون، مدمن على القهوة والتدخين،يتغنى برنين كؤوس و أقداح الصهرات ، يطلع عليهم دائما بمظهر المفتش كولومبو من بعيد، ويذكر الكثير ببطل رواية الأبله، أو العسكري شفيك، قصير القامة، ممتلئ، أسود الشعر، غليظ الشفتين، صغير الأنف، يتأبط محفظته السوداء، في بحث مستمر عن قلمه ونظاراته، تطلع من فمه رائحة مزيج القهوة والتبغ نتنة، حتى لا يكاد يواجهه أحد في الحديث معه، لا يتوقف عن الكلام. أمه تلقبه بيوسا 2 مؤلف رواية ( مديح الخالة )، تفتخر به، فقط لا يعجبها تعربه رغم أنه يحسن الفرنسية بامتياز، مثله مثل أخته أمينة الضبط، تقول عنهما، أحبهما أقل، ولا أحب فيهما هذا الخليط الذي من أجله كرهت أبي، تقول لهم ، انظروا، الرقص فن عند كل الأمم إلا عند العرب فهو جنس، و تضحك، هكذا كان يقول أستاذ اللغة الفرنسية..
    - أليس كذلك يا فيلسوف؟... وتضحك.
    كأنها ضغطت على الزر المناسب، فبدأ محاضرته في فن الرقص من هزة المهد إلى رقصات الآلهة وشطحات الصوفية... هي لا تستمع إليه ، كانت حينها تنظر إلى إبنتها التي سرحت بعيدا، تفكر في ذلك الرجل الذي انقطعت أخباره وتغمده الصمت الذي يصنع دائما حيرتها.
    القاضي الذي كانت تعول عليه تخلى عنها، رفض الأمر جملة و تفصيلا ، واتهمها بمقلب لن يبتلعه بهذه السهولة مهما عملت ، وهو لا شك ينتظر الفرصة التي يحيلها فيها على البطالة، وبدأت تراودها فكرة الإنتحار، إنتقاما من سذاجتها وتهورها، هي التي كان يضرب بها المثل في الصرامة والجدية والإستقامة من بين أفراد الأسرة كلهم، و جدتها رغم حرصها لا تستطيع أن تصون سرها إلى الأبد ، فمن الأفضل لها أن تحمله معها وتختفي نهائيا ، مغمضة العينين تسبح في ظلام الفرضيات لعلها تجد مخرجا آخر... ثم ماذا، إذا كتب لها أن تموت فلا يجب أن تموت وحدها، ولتكن القيامة علينا جميعا... كانت يد أمها أسرع على كتفها ، فتحت عينيها فوجدتها تجلس بجانبها.
    - لست على بعضك في هذه الأيام، هل عندك مشكل؟
    - إبتسمت وقالت: لا، لا، أبدا، بعض التعب فقط، مع افتتاح السنة القضائية تتراكم القضايا، وتترادف الأحكام، والضغط كله على كتاب الضبط... تعبت، إني أفكر في الإستقالة.
    - ماذا !.. الإستقالة؟ ... لا، لا، فإن فعلت فلا تنتظري مني حمل همك، عندي ما يشغلني وما فيه الكفاية، لست صندوق البطالة ولاملجأ الكسالى.
    كانت تنظر إليها بكل هدوء، ثم قاطعتها قائلة:
    - وهل طلبت منك شيئا!؟ .. حتى في طفولتي تأثرينهم علي جميعا، أظن أني جئت خطأ، هكذا أشعر، لأن أبناء الخطأ هم سبب مأساة العالم، وأظن أن الشيطان إبن الخطيئة، ولهذا يمقته الجميع... كم أكرهك يا أمي ... كم أكرهك.
    وجاءت الجدة تجري، احتوتها وذهبت بها إلى غرفتها، يكاد وجهها يتفجر غضبا، تخنقها العبرات، ترد البكاء بكل ما أوتيت من قوة، تقول في نفسها، لن أتخبط أمامها حتى لو ذبحتني.
    الأم: اللعنة... ستطاردك لعنتي.
    لم تسمعها، كانت قد دخلت مع جدتها إلى غرفتها وأغلقت الباب، ترد دمعتها من حافة الجفون.
    ...يتبع...





  7. #7
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    الجدة: لا تكترثي، وألزمي غرفتك، إني والله أقدر ظروفك، هذه الأعراض لا بد منها في هذه الحالة، الوحم يا بنيتي إبن الجنون.. وأي جنون... ضحكت وضمتها بقوة في حضنها.
    - وحده هذا العالم عالمنا نحن معشر النساء، تذكريني لما كنت حاملا بأبيك، لا أقول لك أكثر، وأظن أنني على يقين.
    تشم في صدر جدتها رائحة عقد القرنفل والخزامى ممزوجة برائحة البخور، أرجعتها إلى زمن طفولتها المدللة، حين كانت تأوي كل مساء إلى هذا الصدر الحنون الذي ترعرعت في حضنه، صدر كان منبع الحنان ومصدر الحنو، تذكرت أشياء كثيرة كاد الزمن أن يمحيها من ذاكرتها، أشياء بسيطة صنعت سعادتها، وغرست فيها الأمل، تذكرت حكايا الأميرات في ظلام الليل الجميل حول مدفأة الحطب، ولمسات الأنامل على الناصية، وهمسات الجدة والجد نائم والكون كله لهما، امتزج دمع الحسرة بشجون الماضي وقهقهة الصبا التي كانت ترسمها البراءة على ثغرها، لترسم لها تلك الأحلام التي أفلت.
    -إياك أن تفكري في الإنتحار يا بنيتي، إنه خلاص الجبناء وتحاسبك روحك.
    -ومن قال لك أنني أريد أن أنتحر؟!
    حولت وجهها إلى الباب، وقفت، ولما همت بالخروج قالت:
    -هكذا... لا أعرف كيف قلت لك هذا.. المهم كوني بخير. ربما لأني أعرفك أفضل من أمك، هذا الحجر كان مهدك .. وأنت الآن في حضني، تذكرت كل شيء، كنت مشاغبة بامتياز...
    إبتسمت، فأعادت لها الإبتسامة، خرجت وتركت الباب مفتوحا... هي الآن هناك في القرية لما كانت مجرد بيوت متفرقة، تفصل بينها الحقول، تذكرت فرن الطين ورائحة خبز الشعير بزيت الزيتون، غناء الديك ودندنة الدجاجات، رنات النحل ورقصة الفراشات، لهث الكلاب وصهيل الجياد، شخير القط وأنين المغلاة، هذه الأوركيسترا التي تجود بها الطبيعة، تتحرك على أنغامها كل النساء آنذاك، لما كانت الطيور على أشكالها تقع، وهي الآن لا تراها إلا رسومات متحركة يقوّلها البشر ما لم تقل، فقدت جمال الطبع وشوهت براءتها، حتى قال الثعلب والله ما أنا بماكر، فقط من الحكمة أن يعتبر المخلوق بكل أخطائه، يحصيها ولا يعيدها، من الغباوة أن تلذغ من جحر مرتين، لا تزال تذكر هذه المقولة التي كانت تسمعها من جدها الذي كانت تراه حكيم زمانه.. ولما انتصف الليل ونام الجميع، فتحت الباب بهدوء وخرجت، فتبعتها، دخلت إلى مكتب أبيها، أغلقت الباب، أوقدت المصباح وفتحت الخزانة، وبدأت تقلب الأدوية، أخذت ثلاث قارورات وانصرفت بهدوء، خبأتهم واستلقت على ظهرها، ووضعت راحتيها على بطنها تحاول أن تلمس شيئا، رأيتها تتمتم، أطفأت الضوء ونامت، أنا بطبعي لا أنام، وقفت على رأس سريرها أستعيد كل ما جرى، أشياء كثيرة ما فهمتها، فقط تأكدت أنها تنوي على فعل شيء، لعله الإنتحار الذي حذرتها منه جدتها، تمنيت لو عرفت معناه، لأنني بدأت أكره المفاجآت، أشعل الضوء في الرواق فخرجت، وجدت أختها الصغرى، دخلت غرفتها و أغلقت بابها ، وضعت شريط.. كنت دائما أراها ملفوفة في تلك القطعة من القماش، منعزلة، لا تتحرك إلا وفي يدها شريط أو كتاب، في صراع مستمر مع الفيلسوف، تلقبه دائما بالزنديق، الكل يناديها الأخت، لا تأكل معهم ولا تجالسهم، قالوا كادت تترك الدراسة بسبب المعاكسات، تشعر بحساسية اتجاه الرجال، فأخلصت نفسها للعبادة كما تقول...
    نظام العائلة هنا، كما يقول الجميع ديموقراطي، كن من تشاء، فقط اتركني أكون من أشاء... كانت هي الليلة في حالة أخرى، لأول مرة أنظر إلى الإنسان كما خلق لأول مرة، وبدأت تمارس على إيقاع ذلك الشريط طقوسا غريبة، شطحات وحركات، كأنها راقصة في معبد من معابد الهنود، تفاعلت حد البكاء، انبطحت، رفعت رأسها وابتسمت... ثم قامت مباشرة إلى الكمبيوتر، نقرات فأعادت الحصة على الشاشة بعنوان رقصة الأمازونيات، سهم يتابعها ، يشير مع الشرح إلى هفوات وأخطاء حركاتها ... شكرها المعلق، أثنى عليها وقال:
    واصلي لكي تصلي، سرك في أعماق بحرنا.
    اختفت صورتها، وظهرت صورة رجل يمارس نفس الطقوس. تركتها في خشوع العابدين وانصرفت، ولما أذن للفجر كانت هي الوحيدة في الموعد، اغتسلت، أظنها صلت وعادت إلى النوم...
    وقام الفيلسوف يرتدي بدلته الرياضية، ليقوم بتمارينه كالعادة، ذهب إلى الحديقة العمومية حيث يلتقي ببعض أصدقائه، سيلتحق به عمه ويعودان معا.
    العم سياسي حتى النخاع، يعيش وأسرته في الطابق العلوي، في عزلة تامة، يدخل من الباب الخلفي ويخرج منه، يتابع من بعيد كل صغيرة وكبيرة تحدث في العائلة، كالقرش يشم رائحة الدم من بعيد، يلقبونه بثعلب القبور، هو كذلك، ثرثار بامتياز، يتنفس الكذب ، بصنع الحدث و زوجته الصحفية تترية، تكتب باسم مستعار أحيانا للتمويه، هي تجمع الفضائح وهو يساوم، عندهما وجوه للأعداء و أخرى للأصدقاء.
    لا تظهر كثيرا هي وأطفالها الثلاث، يكاد البيت يظهر خاليا كل النهار، الأولاد في الروضة، هو حيث الحدث السياسي وحيث الهرج، وهي تلاحق الأخبار وتقوم بالتحقيقات، في المساء يجتمعون على وجبات خفيفة، وينامون باكرا ليقوموا مبكرين، تعودوا على هذا النمط من الحياة. كلهم في نظال من أجل مستقبل أفضل وحياة سعيدة، من أجل التحرر أكثر، من أجل خدمة الوطن، وخدمة الوطن فقط... هكذا يقولون.
    العم أسوأ ما خلق الله خلقا وخلقا وأبشع، سأله ابن أخيه مازحا ، بالله عليك يا عم، كيف قبلت بك هذه الجميلة؟ فيرد قائلا: الحكمة في سحنون يا بني وليس في النون، أشياء كثيرة في عمك لا تراها إلا الأنوثة الصادقة، ويضحك حتى تظهر نواجدة...
    - أنت الذي لا يتجاوز مستواك التعليمي الإعدادية، استطعت أن تتميز بهذا النفوذ وهذه السمعة، ليتني أعرف سر نجاحك.
    - فيقول: إنها ناصية زوجتي المباركة، يوم تزوجتها كنت أبسط مخلوقات الله، بل من أراذلة القوم، أما اليوم كل المفاتيح هي بيدي، بسمتي لا تقدر بثمن... ويضحك، لا تحاول، لن تستطيع أن تدرك سر نجاحي لأنك من طينة أخرى... الدنيا يا بني هي المرأة الأولى، لا تستعبدها إلا بامرأة ثانية أجمل منها، وأنا جمع لي الحظ في هذه المرأة الكثير، لا أزيدك أكثر.
    مهدت الأمنية مسلك الطموح بمخالب الغيرة في نفس الفيلسوف، ما ابتلع بعد أن امرأة خريجة جامعة، مثقفة
    وجميلة، تبني مجدا لرجل أمي تافه مثل عمه، هو لا يؤمن بالحظ، إلا أن في هذه المرة كاد يصدق أن السعادة أحيانا هي حليفة لأرادلة المحظوظين، رغم أن الحظ لا يباع ولا يشترى، حزّ في نفسه هذا الأمر، وأقسم أن يصل إلى حل هذا اللغز عاجلا أم آجلا...
    يتابعها من بعيد كالفرس الجموح، سريعة الحركة، دقيقة الملاحظة، تسمع وتنصت بذاكرة قوية جدا، ذكية جدا، لا تفوتها الحركات ولا السكنات. بدأ يقرأ لها كل ما تنشره ، يطريها ويثني عليها في كل مجلس، يكتب أحيانا في نفس الجريدة على نفس الخط، يحاول أن تتلاقح أفكاره بأفكارها لتزهر المقاصد خلف المعاني، يزورها من حين إلى حين في غياب عمه، تكبره بثلاث سنوات وتظهر أصغر، متكتمة كثيرا، المعلومة عندها تؤخذ ولا تعطى، تستغل قبل أن توظف، وكان ما يجود به الفيلسوف من أخبار وتحاليل مادة دسمة وتفتح شهية ما تقدمه هي من أخبار، وبدأ مفعول القلم الرهيب يفتح له الأبواب التي كانت موصدة في وجهه ومشرعة على الآخرين، واختلط الحبر بالحبر، يستدرجهما مس الكتابة إلى لعبة الصياد والسمكة، لأول مرة تشعر أنها ليست طعما كما كانت، وأن خطها في الجريدة قد تحول، وأن بريق زوجها بدأ يخفت، وطلع نجم آخر يجذب مركبتها بكل قوة، وأنها تقترب بحيث يجب أن تفكر من الآن كيف تنزل بسلام.ليست هي التي نجاريه بهذه السهولة، إلا أنها رأت أنه أذكى، والفلسفة رغم سذاجة أصحابها أحيانا لا تؤمن بالمستحيل، في هذه المرة تستطيع أن تفلت من بين يدي زوجها، وإذا عرفت كيف تنزل قمرها الجديد في منازله... يمكنها أن تتخلص منهما بحجر واحد ، فعزمت على المغامرة...

    ....يتبع....




  8. #8
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    لم يتفقدها أحد، خرج الجميع باكرا،وحدها الجدة تلاحظهم جميعا ، وليست من عادتها أن تبقى في الفراش حتى تطلع الشمس، أراها اليوم مستيقظة ولم تقم، سارحة، رأسها على ذراعها، وتعبث بأصابع يدها الأخرى، أظنها توقفت عن العمل، رن الهاتف.
    - نعم، مرحبا.. أنا في إجازة.. خمسة عشر يوما.. لا زلت أفكر، ربما.. سأخبرك في الوقت المناسب.. شكرا... سلام.
    استوت جالسة، وضعت يدها على بطنها، ضربته بقبضتها وقامت، تفقدت جسدها أمام المرآة، ابتسمت، أعجبت بنفسها، ظهر ذلك على وجهها، فقط لم تكن مغرورة، ولا تعرف كيف تمارس الغنج، لما التقت به لأول مرة تأكدت من حسن نيته بسهولة، طاوعته بدون تردد ولا تحفظ، أما ماضيه لا تظن أن هناك من سلم من الخطيئة إلا نادرا، وما كان ليحاسبها حتى لا تحاسبه، هكذا نصبت للرأي ترويه، و الآن إنها على عتبة اليأس من عودته، وله الحق في ذلك، لأنها أخلت بشرط من شروط الإتفاق، يجب أن تتحمل مسؤوليتها وحدها، وقد جاء وقت الحسم...
    أخرجت القارورات الثلاث، ركبت خليطا، وضعته في كأس وجلست تنظر إليه ..كنت أتابع حركاتها بفضول غريب، كأنها تريد أن تحدد مصيري وليس مصيرها، تعجبت، لأول مرة يحدث معي هذا... ثم قالت:
    والآن ما بقي بيني وبين الموت إلا هذا الكوب، هل حقيقة لست خائفة؟! الشيء الجميل في الموت على ما أعتقد ، هو تحرر الروح من هذا الجسد المستبد، فيتعفن ويفنى ،ويفنى معه جبروته، أنانيته، حرصه، غروره، وشهواته، وتذهب معه أشياء كثيرة صنعت شقاء الإنسان وتعاسته..
    ويبقى السؤال المحير وراء من انتحروا، هل الحياة هي فقط هذه الصورة السوداء القاتمة التي تقودنا إلى الخطيئة ثم الى الموت، وعندما نفقد الأمل نلجأ إلى الهروب ألى الأمام، إلى ما وراء العقل خوفا من عقاب العقل؟ هل الموت حقيقة هو الخلاص؟... وماذا بعد؟.. هل هو هروب من العقاب أم هو بذاته عقاب، إنتقام الذات للذات؟ هل هو جريمة أم به تتطهر النفس من زلاتها وبشاعاتها؟... على كل حال يبقى الموت هو المفر الوحيد من شماتة الأعداء، وهو وحده الذي يستر فضائحنا لأنه أخرص، ماذا سيقول الناس عني وأنا التي أظهر مثلا أعلى، احسد على كل النعم التي أعيشها، سأكون محل سخرية التافهات من بنات الخالة والعمة والساقطات من بنات الشارع، وأبقى لعنة تطارد الجميع، لا، لا، لا، وألف لا، يجب أن أضع لنفسي نهاية وأختفي بسري إلا الأبد، أما أنت أيها الرجل، يكفيك فخرا أنك فقدت بانتحاري في نفسك الشهامة والمروءة، وستنحني يوما رغما عنك من ثقل الدناءة. وداعا.. وداعا..
    حملت الكوب بين أصابعها، أفرغته في جوفها واستوت جالسة فوق السرير، تريد أن تتذوق مرارة الموت بارتياح.. أما أنا بقيت أحوم حولها عاجز عن فعل أي شيء، وبدأت روحها تتشكل لتنفصل عنها، أحاول عبثا إعادتها... مالت، ثم سقطت من السرير على الأرض، تتوجع وتتقيأ، تشد بطنها بيديها، اشتدت أعصابها وبدأت كأنها تتقطع، تنقبض حتى تنقبض ثم تنتشر، تزحف نحو الباب وكأنها تطلب النجدة، تريد الخروج.. فإذا بالجدة تدفع الباب وتدخل، بسرعة حملت الهاتف وطلبت النجدة بكل هدوء...وما هي إلا بضع دقائق حتى وصلت سيارة الإسعاف، حملوها ومعها جدتها إلى مصلحة التسمم مباشرة، ومعها القارورات الثلاث، الجميع في سباق مع الموت، بعد عملية الغسل وضعوها تحت المراقبة، وبدأ صراع الحياة مع الموت في جسد فقد كل مبررات المقاومة، وحدها العقاقير تدافع عن البقاء، لا تزال الروح على أبواب كل المناتح مترددة، آلمني ما كانت تقاسيه، فتوسلت إليها للبقاء ولا أعرف لماذا فعلت ذلك، كانت روحها منهزمة، منهكة، منهارة... لم أكن أتوقع أن الروح تسلخ من الجسد هكذا، ما رأيت ألما أشد، كانت صرخات الروح وهي تحاول الخروج تمزق الكون كله، بعد هذا عرفت لماذا سمي الإنتحار جريمة تعاقب عليها كل التشريعات ، لأن الروح ليست ملكا لأحد، وأصبحت الآلات هي التي تتحكم في الحركات والسكنات في انتظار كلمة القضاء والقدر الأخيرة.
    و جمعت مصيبتها الأهل والأقارب في تلك الليلة، و كانت فرصة لصلة رحم مزقته المصالح.الأعمام والأخوال والأصهار ومن تبعهم، يتحسسون لمعرفة سبب هذا التسمم كما قيل لهم، وكان اللقاء ثريا جدا، حميميا بين البعض، وجافا قاسيا بين البعض الآخر، منهم من لم يتجاوز نصف ساعة وكما جاء ذهب، ومنهم من أسر على تناول العشاء، ومنهم من شده شجون الحديث، ينتظر من الخبر ما يروي ضمأ فضوله، ومنهم.... الوحيد الذي لم يتكلم هو الأب، وقد رأوه يتحدث إلى الطبيب، جالسا على أريكته يلف ساعده بساعده، يكظم بصعوبة غضبه وتأثره، ولا أحد يجرأ على الكلام معه... الفيلسوف كان همه الوحيد زوجة عمه، هي كذلك كانت عليه بخائنة العين، اغتنمت فرصة انشغالهم بالحديث وأشارت إليه أنها ستعود إليه الليلة، فابتهج وبدأ يحلم بليلة من ليالي السمر الجميل.
    انصرف الجميع وبقي الأب وحده يجتر كل الكلام الذي سمعه، وبحكم تجربته، حالات الإنتحار تأتي بسبب تافه، وفي أغلب الأحيان وراءها سر جريمة، الحلقة الضائعة في كل هذا هو أنه كان ينتظر منها كل شيء إلا الإنتحار، ويبقى السؤال يؤرقه حتى وهو في فراشه يصارع الإحتمالات ....
    فتحت عينيها فوجدت وجه جدتها يملأ كل المكان، مدت ذراعيها وانهارت بالبكاء، عانقتها الجدة بكل حنو وقالت:
    - لا عليك يا بنيتي، حصل خير، لقد تجاوزت مرحلة الخطر، حتى الجنين نجى بأعجوبة، هكذا قال الطبيب، لا تخشي شيئا، حذرته، ولا أحد يعلم، ولكن حذرني من الإجهاض، لا تخافي، إنها سرية المهنة، لقد واعدني.. ارتاحي حتى تقومي عاجلا، أنت بحاجة الآن إلى طاقة و قدرات كبيرة للوقوف...
    كانت تنظر اليها بعيون المها ، كأنها رحمة الموت عندما تمسك، أحست بها سندا ملائكيا يغيث مضطرا خانته كل الحيل، وقالت:
    - الموت يا جدتي، ما أفظعه، لم أكن أتوقع أنه احتراق بنار بين الجلد واللحم... كأني أعود من الغابرين.
    - كنت في صراعك مع الموت قوية جدا، كنت واثقة من نجاتك، ارتاحي الآن ولا تتعبي نفسك بالكلام...
    وساد الصمت من جديد يخيم على الغرفة، وغالبها النوم فاستسلمت ووضعت الجدة رأسها على السرير فنامت هي كذلك جالسة على الكرسي، وبدأ القضاء يرسم أفقا جديدا على مد بصر الظن، وعادت الأحلام إلى مواطنها، وبدأت الذات تنشد الأمل...
    ....يتبع....


  9. #9
    شاعر
    نائب المدير العام
    الصورة الرمزية عبدالله بن بريك
    تاريخ التسجيل
    18/07/2010
    العمر
    62
    المشاركات
    3,040
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    نستمتع معك بفصول روايتك المشوقة ،و ننتظر بقية الحكاية.
    لك التحية و الاحترام ،أخي الأستاذ "مختار سعيدي".

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  10. #10
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    [QUOTE=عبدالله بن بريك;706734]نستمتع معك بفصول روايتك المشوقة ،و ننتظر بقية الحكاية.
    لك التحية و الاحترام ،أخي الأستاذ "مختار سعيدي".
    [/QUOTE
    .............

    الأستاذ عبد اله بن بريك...أيها الفاضل.
    لا يزال جميلك يكبر و يتعاظم.
    لك كل الشكر
    تقبل تحياتي واحتراماتي و تقديري


  11. #11
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    Post رد: صرخة الرفض

    إنتصف الليل وسقطت أقنعة النهار وتحركت النزوات والشهوات، واختلى كل واحد بحقيقته، ونزلت زوجة العم كأنها ضيف شرف في سهرة رومانسية، أدخلها الفيلسوف إلى غرفته، طلبت منه كأس ماء بارد، فتركها وأسرع إلى المطبخ ولما عاد كانت هي قد نصبت الفخ، جلس بجانبها على السرير وناولها الكوب، شربت، وسألته:
    - ماذا تريد مني؟ أظنك متيقن أنني زوجة عمك!
    سؤال لم يكن يتوقعه، إلا أن مخزون الكلام كان أوفر
    - يا سيدتي إن الحب لا يؤمن بهذه الخرافات، إنه مثل الطوفان يجرف كل الطابوهات، الحب يا سيدتي هو ذلك الوحش النائم في عمق الإنسان، فإذا استيقظ يكسر كل القيود والسلاسل والحواجز لبلوغ مستقره ومستودعه، الحب يا سيدتي هو ذلك الإحتراق الذي
    يتحدى بمعجزاته العقل والنقل، ولهذا أنا أؤمن به، ولا أؤمن بغيره، هي المشاعر الوحيدة التي أقدسها، لأنها تنبعث من عمقي ولا يمليها علي أحد خارج ذاتي، بعيدا عن قناعتي.
    - كدت تقول شعرا، ما ظننت أنك رومانسي إلى هذا الحد، مر الكثير من هنا، وأشارت إلى صدرها، لكنهم يختلفون عنك في كل شيء، وأظن أنك ستكون أشد علي من وطأ زمن الجنون... صدّق سأكون معك مختلفة جدا، لأننا نعيش ما وراء المنطق العادي، منطق الجنون، فما أعظم البلاء وما أفظع نوامسه عندما نمارس الأشياء خارج المعقول، سأفشي لك بسر لا يعرفه سواك، أنا لم أكن زوجة عمك وحده أبدا، وهذا سر نجاحه، ولهذا لن أكون لك وحدك أبدا مادام عمك على قيد الحياة، وأضمن لك النجاح الذي تسعى إليه.
    - أنا لا أؤمن بالخطيئة لأنه نهي خارج الذات
    - أنت أفضل من الذي يؤمن بها مثلي ويمارسها
    - وما أرغمك على هذا؟!
    - تريد الحقيقة؟ ستؤلمك، وتورطك في آن واحد
    - الحقيقة دواء مر، لكنه ضروري للتواصل في الحياة
    - عمك هو الذي يدفعني
    - غير ممكن، لا أصدق، أعرفه أشد المحافظين
    - هذه هي الحقيقة
    - هل أنت هنا بعلمه؟
    - لأول مرة، لا يعلم، كنت دائما الطعم الذي يصطاد به
    - ابتعدي عنه
    - مستحيل، لأنه يحتفظ بكل التسجيلات، إستعنت به غصبا لاستعادة أول شريط، فاحتفظ به، تزوجني ولا يزال يستعملني للإيقاع بجميع من تسول له نفسه المساس بمصالحه، صدق أو لا تصدق، أنا مهددة في كل لحظة بالتصفية، حياتي مرهونة بحياته، أنا متورطة مع شخصيات نافذة جدا... أنت أول وستكون آخر من يعلم، هل تستطيع أن تحميني؟!
    - عمي يفعل هذا؟ والأولاد
    - هم باسمه... فماذا أنت فاعل بي الآن؟ أما أنا فلن أتراجع، لأنك عرفت عني الآن كل شيء.
    لم يصدق وظن أن مفعول كأس الريكار الذي تناوله قبل أن تأتي زوجة عمه بدأ مفعوله، إنتابه شيء من الخوف، وأحس أنه ذلك الجبان الذي كانت أمه تصفه، يبحث كيف ينتهج مسلكا للتراجع وهو بين مخالبها، وأخيرا يكتشف أنه مجرد رجل تافه لا قيمة له، عمه أجرأ منه.
    وكانت ليلة عرس المذلة، لعبد مجرد من كل المشاعر النبيلة، صنعتها مشروبات روح الإستلاب والمهانة، وقبل الفجر خرج ليقضي حاجته، فاغتنمت الفرصة ودست الكاميرا التي سجلت تلك الليلة بكل تفاصيلها، وضعتها في صفطها، وعادت إلى بيتها بغنيمة ما كانت تحلم بها أبدا، شيّعها وعاد هو إلى غرفته وقد زال سكره يستعيد حديثها كلمة كلمة، كأنه قرأ رواية لكاتب إنجليزي يعرف كيف يحبك عقد السر وفواجع العلانية.
    كنت معهما في تلك الليلة، وبدى لي أن كل شيء عادي، وماذا يفعل رجل لا يقيده ضرع ولا شرع بأي امرأة إذا اختلى بها؟ الذي حيّرني هو الحديث الذي جرى بينهما، حديث اجتمعت فيه الكثير من الأشياء التي لا تعكس ما وصلا إليه، وعرفت أن فلسفة الكلام الذي كان يتبجح به، ما هو إلا قناع يخفي قناعات باطلة يعجز أن يبررها السلوك.
    ونحن هكذا حتى رن هاتفه...
    - نعم.. كيف؟!... لا، ليس صحيحا... لن أغفرها لك... هل يمكن أن أرى الشريط؟.. لماذا؟ لعوب أنت... لا، قلت لعبة دنيئة... لا، لا، أرجوك لا تفعلي، سنتكلم فيما بعد، لست الآن على بعضي... وقطع المكالمة.
    وبدأ يصرخ.. لعينة، لعينة، لعينة..
    فطرقت أخته على الباب، ثم طرقت، ففتح.
    - ماذا بك؟ صحوت فسمعتك تصرخ، هل أنت بخير؟
    - لا أبدا، أظنه كابوس نوم
    كان عند رأسه منديل امرأة، وقارورة خمر فوق سريره المبعثر، فابتسمت وقالت:
    أظنه ناقوس يقظة.
    أغلقت الباب وانصرفت وعاد السكون...
    انصرفت أنا كذلك وتركته غارقا في وحله حتى العنق.
    ...يتبع...


  12. #12
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    في صباح ذلك اليوم، طلعت شمس الجميع كعادتها، وبدأ عالم النهار بأقنعته، يتوافدون على مائدة فطور الصباح التي أعدتها الأرملة، بنفس الطبائع، الأب يستمع لنشرة الأخبار قبل أن يخرج، الأم بحركات الحمامة تدندن بالفرنسية، الفيلسوف يبحث عن نظاراته وعلبة سجائره في فوضى البارحة، الأخت الصغرى رتبت كراريسها ولبست حجابها الذي لا ترى منه إلا الوجه والكفين، الجدة بمسبحتها في الصالون تقرأ في عينيها انشغال لم يحدده أحد، تفكر في خروج حفيدتها اليوم، وقبل الضحى لم يبق في البيت إلا الأرملة والجدة التي كانت تستعد للذهاب إلى المستشفى، حملت عصاها، وصلّت على النبي، ولما التفتت وجدت الأرملة واقفة أمام باب المطبخ تستعجل خروجها فوقفت وقالت:
    - سيخلو لك البيت، على كل حال أنت شر أهون من أخيك الفيلسوف، حقيقة كان فينا شيء من الشيطان ولكن ما بلغنا بالجرأة ما بلغتن، ولما صلت أمام الباب قالت:
    - هذا بيني وبينك، وأمك تعلم... ولدي وحده المغرر به في هذا البيت ويا أسفي...
    خرجت وانغلق الباب وراءها بكل هدوء يدفعه ساعد ميكانيكي.
    فابتسمت ورقنت الرقم..
    - ألو... لهم الليل يا صديقي ولنا النهار، لا تنسى أقراصي، لقد بدأ يمخرني القلق، أرجوك لا تتأخر، الكل يتآكل في جسدي، كأنه الكلب، لم يبق في حوزتي إلا خاتم من ذهب ، سأعطيه لك، أعيش هذه اللحظات على الأعصاب... أرجوك أسرع وإلا سأجن.
    كانت هي آخر حلقة أحضرها في هذا الكرنفال، وهاجمتني الأسئلة من كل جهة حد ضيق الفضاء، فالتكن الروح ما تريد، إلا أن تكون بشرا، وسألت نفسي عن سبب وجودي في هذه العائلة، وسكنني الهلع والخوف، أنظر إلى طهارتي ونجاستهم وجشعهم وفظاعتهم ونفاقهم، وأتصور نفسي في جسد نتن كهذه الأجساد التي دنست الوجود، وهل أستطيع أن أرفض؟...
    وماهي إلا سويعات بعد الظهيرة حتى اجتمعوا كلهم في غرفتها، على غير ماكانوا عليه، يبدون تعاطفا بدموع التماسيح، يستسمحونها، وضاقت الغرفة بالفواكه والمشروبات والحلويات، وقد قالوا فيها ما قالوا، تغامزوا وتلامزوا وتهامزوا، وحتى الآن لم يصدق أحد أنه مجرد تسمم غذائي، تشعر في أسئلتهم المشبوهة وانشغالهم المبالغ فيه حد الإبتسامة الساخرة نوعا من فضول الشماتة ، تتظاهر بالإرهاق لاستعطافهم للحد من استدراجها إلى ما لا يقال، لقد ضاقت بهم حد النفور، فتفطنت الجدة ،وطلبت من الجميع منحها قسطا من الراحة، فامتثلوا لاقتراحها، وخرجوا كسالى... وضعت الوسادة على سند السرير واستوت جالسة، مائل رأسها إلى الوراء، تنظر إلى الأعلى، فكان الدمع أقرب أنيس، تعض على شفتيها كأنها في مخاض عسير ، وضاعت قدم التدبير في متاهات التفكير، وعادت إلى نقطة الصفر..
    أصابتني غفوة، وما شعرت إلا وأنا في مكان مظلم، ضيق، موحش، وكان علي أن أكتسحه أنملة أنملة، شعرت بشيء يدفعني بقوة رهيبة لأنتشر فيه، أحجس أنني على المقاس، أخذت كل نفخة مني مكانها، وبدأ ذلك الجسم ينبض ويمتصني حتى تناسقت النبضات والحركات، كل يوم يتسع أكثر والمكان يضيق حتى تشكلت وأصبحت أسمع وأحس،حينها عرفت أنني بشر، وأن تلك التي كنت ألازمها هي أمي، وأني سبب الشقاء الذي كانت تعيشه ولا تزال، أقرأ في موجات تفاعل أفكارها وأقوالها، حركاتها وسكناتها، إنها امرأة مضطربة لا تستقر أبدا، في غليان داخلي متواصل كأنها بركان على وشك الثوران، وشتان بين باطنها وظاهرها الذي يشبه سطح بحيرة هادئة تبتلع مصباتها الهرهارة في سكون كله هيبة ووقار، أشعر في عمقها بسخطها علي، إلا لأن صرختي ستنزع عنها ذلك القناع ،وتظهرها على حقيقتها أمام الجميع، ولكي أشعرها أنني استيقظت تحركت لأول مرة في بطنها، فاستنفر كل شيء في جسدها...
    أنا هنا يا أمي...، وبحركة غير إرادية، قفزت من السرير واستوت واقفة، يد على بطنها والأخرى على فمها، مباشرة فكرت في الإجهاض، تحركت ثانية فظهر عليها القلق، وارتبكت، لبست رداءها وأسرعت إلى الجدة، دفعت الباب ودخلت دون إذن، فوجدتها نائمة، ففزعت وهي تصلي على النبي:
    - ماذا أصابك؟
    - إنه يتحرك، نعم إنه يتحرك يا جدة، ماذا أفعل؟ إني أشعر به.
    فضحكت الجدة، واستوت جالسة فوق فراشها وحضنتها.
    - شيء عادي يا بنيتي، هوني عليك، يجب أن أجد لك مخرجا، فقط إهدئي ولا تكترثي، واصبري... حتى الآن لا يظهر عليك أنك حامل، إنتفاخ بطنك يظهر عاديا جدا، مجرد سمنة، وسنتدارك الأمر، لا تخافي
    - إني خائفة يا جدتي، إني خائفة... فقدت ثقتي بنفسي وهانت علي.
    - أقسم لك أني سأخلصك، ولكني أبحث عن طريقة لا تظهر تعمدنا الإجهاض، وإلا ستصبح فضيحتنا فضائح، الأمر ليس هيّنا ولكنه ليس مستحيلا، فقط إصبري وسأتصرف في الوقت المناسب، اذهبي لترتاحي واتركيني أفكر...
    وعادت إلى غرفتها تجر ذيل الخيبة، يدفعها الضياع إلى المجهول الذي يغتال في يقينها كل المحاولات، ويفتح للشر كل الإحتمالات، واختارت أمي أن تقدمني قربانا لجريمتها وتهورها، فتحولت إلى وحش، بل أبشع لأن الوحش لا يأكل أولاده لإخفاء بشاعته...
    وأمسيت أنا في زنزانة أنتظر تنفيذ حكم على ذنب أنا ضحيته... يا ما رفضت أن أكون رهين هذه القطعة من اللحم النتنة، ولكن هذا ما جرت به مقادير أرادت للسنن أن تكون هكذا، قطعة لحم خيّر لها أن تنبت من مزيج الحلال والحرام، وتلقّح بأقوال وأفعال وعادات وتقاليد تخالف في أكثر الأحيان الغاية التي نشأ الخلق من أجلها... ووجدت نفسي أتشكل وأتصور بطريقة رهيبة جدا، أكتسب قدرات لو سخرت تكفي لدمار العالم كله، أنا ذلك المخلوق الصغير أستطيع أن أهدد الكون كله... وبدأ صراع من نوع آخر يستوطن ذاتي، أسأل نفسي من سأكون إذا قدّر لي وخرجت من هذا القبو، وطال انشغالي بما ليس لي فيه قيد ولاشرط...
    وخرجت أمي إلى عملها كعادتها، في هذا اليوم كان الشارع أطول، والزمن أثقل، وانفتحت ذاتها على الضياع، وانحنت مياسم الجمال التي كانت تصنع عنفوانها، هي لا ترى أحدا ،إنها تمشي على الرصيف وحدها، في خط مستقيم، يتجنبها الرائح والغادي بغرابة ، وابتلع انشغالها الضجيج وأرخى سدائله على الواجهات، تبتلعها الخطى الثقيلة التي لا تريد أن تتوقف، بعثرت صفعات الريح خصلاتها التي تمردت عن الخمار، وعجزت لمسات الزينة أن تخفي آثار الدمار، تبتلع آهاتها وحسراتها في كمد، تصل إلي مشفرة كأنها أشباح لعنة أيقظتها الإنكسارات، يهاجمني الندم وتهاجمني خيبتها ،ويحاصرني قلقها من كل جهة...
    أمام باب المحكمة، البواب كعادته واقف يتابعها بخائنة العين، تصعد مرهقة على عاتقها هم الدنيا كله، فرق لها قلبه وهو ينظر إلى عز في شموخ بدأ ينحني نحو الأقوال، دخلت إلى مكتبها، أغلقت الباب، لما رفعت رأسها كان الدوام قد انقضى منذ ساعة، أما هاتف القاضي قد سد عليه العنكبوت بيته وأصبح آية لمن يعتبر، فتنهدت، جمعت أشياءها وخرجت...
    في الجهة الأخرىمن الشارع، على الرصيف، وفي نفس المكان، كان واقفا ينتظرها، تأكدت، إنه هو.. لا مجرد سراب.. تأكدت، أصابها البحران، ثم الدوران، فسقطت مغشيا عليها... ولما فتحت عينيها وجدت نفسها على سرير المستشفى، كان جالسا يمسك بيدها كعادته، كانت يده ألطف وأسخن، تنبض فيها الحياة، إبتسم لها ابتسامة أخرى، خالية من الغرور... وقال:
    - لا بأس عليك يا حبيبتي، لقد انتهى كل شيء، سنوثق زواجنا وننتظر ثمرة اللقاء، لقد نجى بأعجوبة، إنه ولد، نعم، ولد يا...
    وضعت يدها على فمه في صمت، فدخل الطبيب، فحصها، وأذن لها بالخروج وقال له:
    - هل بينكم خلافات؟
    - نعم بعض الخلافات، ولكن ستزول، خلافات بسيطة
    - إعتني بزوجتك أكثر، إنها تمر بمرحلة حرجة
    - سأفعل سيدي الحكيم، سأفعل...
    أمام باب المستشفى، أشارت إلى سيّارة طاكسي، توقف، ركبت، أغلقت الباب وانطلقت.. لا يزال واقفا حتى اختفت...
    ...يتبع....




  13. #13
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    دخلت إلى البيت متأخرة جدا، وجدت جدتها أمام الباب، لم تحيي أحدا، ودخلت إلى غرفتها، أغلقت الباب وألقت بنفسها على السرير، تبعتها جدتها، حضنتها في صمت، تنتظرها أن تقول شيئا، سألتها فلم تجب، كانت تنظر إليها بعينين همعتين، تحاول، وتحاول، ولكن الصدمة كانت أشد.
    أما هو كان الجرح أعمق، والمصاب جلل، والهزيمة نكراء، وعذاب الضمير لا يرحمه... أراد أن يقول لها كلاما كثيرا، اكتظ في صدره، يبوح لها بأسرار صمته، يروي لها أحاديث الشجون، فاغتالت فرصته، وتركت الكلمات تتآكل في عمقه، والحروف تحترق، يبتلع اختناقه، هو لا يريد أن يستعيد الماضي الذي يجبره على إعادة قراءته إلا بحضورها حتى لا تحاكمه هذه الأشياء على افراد، حتى الأماكن التي كان يمر بها، قرعت طبول الحضور بقوة، صدى خطواته، ونقرات كعبها، بسمتها الدامعة، ووهيج عطرها الذي كان يسكره، كانت الوجوه كلها وجهها، وصمته أمسى صمتها، سكنته هواجسها، وتصعد الصرخة تلوى الصرخة فيكظمها، كم هو بحاجة إلى من يحدثه، إلى من يسمعه بدون قيود وبدون حدود، كم هو مؤلم مخاض الإعتراف، كم هو مؤلم مخاض البوح باغتيال الحقائق... يخشى أن تولد همومه في الفراغ، في الصمت الذي كان يمارسه عليها، في الأشياء الجميلة التي كان يدّعي أنه أهملها... ويأتي السؤال اللغز.. هل ستسمعه؟.. هل ستصدقه؟ .. هل ستسامحه؟.. برد شرابه المفضل ولم يشرب منه جرعة واحدة، والنادل ينظر إليه بعين الشفقة، ولا يكاد يصدق، المطفأة قد امتلأت ببقايا السجائر، ولا يزال يبحث لكلماته عن أذن صاغية، وضع قطعة نقود على المائدة وخرج، إلى الحانة المقابلة وقف أمام الحاسب، القدح تلوى القدح... أحدث فوضى كبيرة، فأفرعوه، وعاد إلى بيته، يرده الحائط إلى الحائط، بصعوبة فتح، دخل، وانصفق الباب وراءه، أجلسه الدوران في الرواق حتى الصباح، وجد نفسه نائما والدنيا نهار، كان في حالة يرثى لها.. أخرج هاتفه، نقر، لا أحد يرد... الرقم الذي تطلبه لا يرد.. قام كأنه هيكل تزعزعت دسره، يحاول أن يشتد، جاء بفنجان من القهوة وجلس في الصالون، لا يزال رأسه يرن، يتفقد جسده، كأنه رجم بالحجارة، إنه هيكل مفكك ملفوف في بطانته، فدخل إلى الحمام، في المغطس بدأ كل شيء فيه يعود إلى مكانه...
    ترى ماذا هي فاعلة؟.. ليته يعرف ما يدور في نفسها، ولماذا هربت منه البارحة.
    حتى الآن لم تصدق، هل هي الحقيقة أم هو الحلم والسراب؟ هو ذا يعود بعد أن كادت تفقد الأمل وأشرفت على الموت، يعود ليحتويها من جديد، ويعود وهو إنسان آخر غير الذي كانت تعرفه، ما الذي جرّده من غطرسته وجبروته؟ من الذي أنزله من تكبره وخيلائه؟.. إنها الحقيقة التي تضاهي الخيال، نعم عاد وتبنى الحمل رغم أنه لا يعلم عن حقيقته شيئا، ولا أنا، هل أصارحه وأعود إلى الدوامة أم أسكت وأتركها لسير المقادير؟... ودخلت الجدة كعادتها بكل هدوء..
    قولي يا بنيتي، ماذا جرى؟ مزقت كبدي، أرجوك، تكلمي..
    - لقد عاد يا جدتي، لقد عاد وتبنى، عاد وكأن شيئا لم يكن...
    - قرأتها البارحة في طالعك، عقدة وانحلت، كنت على علم بذلك
    - هناك مشكل آخر يا جدتي، بدأ يؤرقني منذ رأيته بالأمس وهربت.
    - ما هو؟ مهما كان فهو ولا شك أهون يا حبيبتي مما كنت فيه
    - أنا حتى الآن لا أعرف إن كان من في بطني إبنه أم إبن القاضي
    - مجنونة أنت !! هيا كفى ! لا تحاولي ! إذا لم يكن إبنه فقد ورد منه، ما هذه السخافة، ملاك أنت أم نبي؟ !!
    - أخفي جريمة بجريمة أخرى؟ سأتعذب، أدعوه لغير أبيه؟
    - أهون مما أنت فيه، يا بنيتي سكوتك عن هذا هو خلاصك الوحيد والأخير، لا تعقدي الأمر أرجوك.. هذا كلام ألغيه نهائيا.. متى نزغرد لك؟
    - أمهليني، لابد وراء الرجل أشياء، وبعد أن أعرفها نقرر، لا تستعجلي... لقد جاء متغيرا تماما، وهذا أمر حيرني كثيرا.. غريب أمر هذا الرجل..
    - المهم أنك الآن في قارب النجاة، تصرفي بروية للوصول إلى البر بسلام
    - سأفعل.. سأفعل.. في كل الأحوال مادامه قد عاد، لن أدفع الثمن وحدي أبدا.. دعيني أفكر... لن أغفرها لهما...
    - هكذا أريدك، كوني حذرة فقط... ماذا ستفعل لبؤتي الآن؟
    - سأتصرف لا تخشي علي، الآن اتضح الطريق، إني أرى الأفق صافيا..
    إنبسط وجه الجدة، وأحست براحة بال فقدتها منذ مدة، تنظر إلى حفيدتها بعين الرغبة وهي تتحول من قطة وديعة إلى لبؤة شرسة كشّرت عن أنيابها، وأظهرت مخالبها، تستعد لدخول المعركة بكل قوة، رجوع الخصم بهذه التكتيكية جعلها تأخذ الحيطة والحذر في كل تحركاتها، وهي كذلك حتى رن الهاتف... إنه هو..
    - مرحبا.. بخير.. أحسن بكثير.. الآن؟ غير ممكن، اتركها ليوم الغد، عندي فيه متسع من الوقت، نستطيع أن نتحدث وبالتفصيل.. إلى الغد في النادي
    لقد بدأت المعركة، هي التي حسمت الزمن والمكان... والإستعدادات متواصلة... وبدأت تصلني و أنا في بطنها لأول مرة موجات جديدة تزرع في ذاتي الصغيرة بذور الأمل ، وتنفخ فيها الحياة، تطارد اليأس وتصنع الطموح. في تلك الليلة نامت أمي نوما عميقا، فأزهر حولي كل شيء، كأني يرقة فراشة بدأت تخرج إلى الوجود، أشياء جميلة كانت تمر من هنا تصنع البسمة في كل فسحة تتجدد، أشياء كالأحلام تضاهي الحقيقة، إنها أول تنفس الصعداء ، أتقلب فرحا وهي نائمة، نظرت إلى نفسي فوجدتني نسخة طبق الأصل لها، حتى الشامة التي في ساقها كانت في ساقي، فقط فمي لا يشبه فمها، فمي أوسع وبشفاه أخصب، هذا الشعور جعلني أتأكد من تراجعها عن تصفيتي، فقط لأنها أمنت على نفسها، وأصبح همها الوحيد ذلك الرجل الذي أرادت له أن يكون أبي، كان علي أن أستعد لأقاوم وحدي تجاوزاتها في كل شيء ، وتهاونها حد التهور في بعض الأحيان، لأنني سأكون الورقة التي تلعب بها، ولا يهمها بعد ذلك في أي يد أكون، حتى لو أكون في يد الشيطان...
    قامت باكرا، جهزت الحمام، كانت تدندن، تخرج النغمات من أنفها كأنها لمسات على آلة موسيقية لألين وأعذب الألحان، وجلست أمام المرآة، تستظهر بكل جرأة مفاتنها، تتابع مياسم الجمال على وجهها، رسام أفرغ كل عبقريته وإبداعه في استلهام وجه ملائكي من نور يتحدى الرغبة في كل العيون، لبست أجمل فستان تجانس مع لون وتسريحة شعرها، تعطرت، رتبت أشياءها في سفطها وخرجت، كان الجو جميلا، والشارع جميلا، ونسمة الصباح منعشة، تنفست في الكون كل الأشياء الجميلة، واختفى ذلك السواد الذي كان يرخي سدوله على الدنيا كل صباح، فضلت أن تقطع المسافة راجلة، فكانت محط أنظار الجميع، وهي تتصنع الغنج، رائحة عطرها الباريسي تغمر كل الشارع، ونقرات كعبها توقظ القلوب النائمة... كان واقفا أمام النادي، إستقبلها يبتسم، أخذها من يدها ينظر إليها كأنه في أول لقاء، تنهد وقال:
    - كم أنت جميلة، بالأمس خشيت أن أكون قد ضيعت فيك جمالك، فإذا بك اليوم أجمل.. هيا لقد حجزت مكانا رومانسيا ولا أروع، تفضلي...
    لا يزال يبهرها بلياقته ولباقته، وجمال حركاته، جنتلمن بجدارة، كالأريستوقراطي، دخل هو الأول وتبعته، كان المكان ركنا ساحرا، النادي حولوه محطة سياحية ست نجوم، بست أجنحة وحديقة. حتى الآن لا يزال يبهرها، كأنه يمهد في نفسها مكانا لحقيقة مؤلمة تتطلب استعدادات أسطورية، فزاد ذلك في قلقها حد التوتر والإرتباك، وأحست بالضعف أمام استكانته وتلطفه وليونته، يكلمها بأرقى العبارات وأطيب الكلمات، وغالب ذوقه ميزاجها فغلبه، وبدأت حساباتها تنهار كجدران من رمل أمام خطاب العيون، وتمنت أن يتواصل السكوت حتى لا يفسد عليها متعة كانت تحلم بها منذ زمن بعيد، فتحت وتركته يبحر بأمان في ذاتها ويبلسم الجراح التي صنعت بؤسها، وشقاءها، وجراح أيام الجحود... ما كانت تظن أن هذا الطود يتحول يوما إلى كومة، فيها من الدفء ولين الطرف ما يغمر كل المواطن التي كانت تعاني من قحط المودة وغربة الذات... تنظر إلى الإيحات تتزاحم في عينيه، وترسم أحاسيسها على ثغره، تظهر حتى تكاد تنطقه ثم تختفي وتترك للتردد فراغاتها... وتبقى البداية دائما فرسا شموسا، يصعب ترويضها وامتطاء صهوتها، والكلمة الأولى هي المفتاح السحري الذي يفتح مكامن المقاصد أو يغلقها، والصمت باب لا يعلم أحد ما وراءه، وفي أغلب الأحيان يصنع القدر خلفه أكبر المواجع، وهو لا يريد أن يضيع هذه الفرصة، التي كان يراها فرصة العمر، وتلقت الأجساد حقن المشاعر التي طفت تغازل وجدانا عانى كثيرا من قحط الحنو،

    ...يتبع...


  14. #14
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    ، وحرر الظن الجميل ما جبلت عليه النفوس، ومسكت اليد باليد وبدأ العد..
    - ما الذي أخرك إلى اليوم؟
    سؤال زلزل كيانه، وأيقظ في نفسه تلك الأسطورة التي صنعها اللقاء وزينها الأمل يوما...
    - هل كانت أجمل مني؟
    استوى على كرسيه، وأدار وجهه، ينظر إلى حوض فيه سمكة
    - نعم جميلة جدا، خلقا وخلقا، كانت تسبح في ذاتي التي وسعتها، كانت ملأ العين والبصر...
    يستعيد جمال الماضي الذي أهل في ليلة من تلك الليالي الجميلة، وجعلته بدرا أضاء كون حياته زمنا، وشاء القدر أن تنحني الأيام لتصنع منه عرجونا قديما، كما بدأ عاد إلى الأفول، هكذا تعلم الصمت، و الصمت أحيانا سلاح العاجزين... شبك أصابعه، إنحنى إلى الأمام وقال:
    - أتعبني ذلك الشارع المحفوف بأشجار الصفصاف، الذي كان يربطني بالمركز الطبي للمرض الخبيث، كانت تفنى أمامي، وبسمتها تتحدى جبروت الأيام وألم السنين، تستسمحني نظراتها، وتستعطفني نبراتها، وهي ترسم على وجهها لمسات الغروب بالصبر الجميل، يستأذنني فيها كل شيء وهي تحتضر، أخذت يدها، دعوت، توسلت، صرخت، بكيت، وكان القضاء أقسى فرحلت، وبقيت إبتسامتها، حركاتها، لمساتها، بل حتى قهقهتها تتجلى فيك، كنت أنت ممن خلق الله من شبهها أربعين... يوم التقيت بك كانت تعيش هي المرحلة الأخيرة، وكان قد حكم عليها القضاء بالفناء، كنت أنت صورتها وأنا معاناتها، أنت ضحكتها وأنا دموعها، أنت كلامها وأنا صمتها، أنت فرحتها وأنا حزنها، أنت حضورها وأنا غيابها، كنت ألقاك دائما في حالة سكر حتى لا أشعر بمخالب الجحود و هي تمزقني، وكان الصمت سلاحي الوحيد، أحارب به دوافع البوح الجميل الذي أختزنه لك لينصهر أكثر بنار الصدق والوفاء، ألقاك دائما لأنك الوجه الآخر الذي وشمه الوفاء في نفسي، كأنك هي، الشيء الوحيد الذي أفتخر به حتى الآن هو أنني حافظت على صدق مودتي لك، لأن فيك وجدت الإمتداد الذي بدونه لن تواصل الحياة في نفسي مسيرتها، وبدونك يتعطل الكون كله في ذاتي، فقط لا تستغربي إن قلت لك أني أحببتك لأنك أنت... لقد سلبني الموت أشياء كثيرة، ولا أظن أن الحياة تسلبك مني يوما ، فأخسر كل شيء... وليس لي إلا الوفاء، ليس لي إلا ذاك... لأنه سبب وجود كل الأشياء الجميلة في هذا العالم .
    لما نظر إليها وجدها تخنق الدمع في عينيها، والعجب يكسوها، أما في عينيه كان بصيص أمل ينتظر أن يؤذن له بالبزوغ... سكت ولا تزال كلماته تتردد في عمقها، يرد السؤال صدى الجواب، وينزل الصدق في مقاماته التي كانت تسكنها الحيرة والشكوك، وامتلأت فراغات الظنون باليقين وسكن كل شيء في الذات ....
    - هل أحببت رجلا قبلي؟
    - ماكانت هذه القلوب لتبقى فارغة، فقط ليس مثلك
    - يقال أن قلب المرأة أضيق من قلب الرجل
    - لأنه لا يتسع لأكثر من رجل واحد، وهذا سبب شقائها
    - أراك أخلص مني
    - الإخلاص غاية قبل أن يكون وسيلة
    - متى ندركها؟
    - عند اللارجوع
    - حتى بعد الموت؟
    لتبدأ الحياة من جديد، لأن الإخلاص لا يموت، بل تصهره التجارب وتجدده.
    قام فوقفت، أخذها من يدها، وضع ذراعه على كتفيها وخرجا.. لقد تنفس في حياتهما صبح جديد... ليتواصل سر الوجود في رجل وامرأة... وهل الكون إلا الرجل والمرأة؟...
    تحركت أنا يمينا، تحركت شمالا... وشعرت بالغربة في هذا القبو الضيق والمظلم، وانشغلت أمي بأبي حتى نسيت أنني موجود، همها الوحيد إرضاؤه، تحرص كل الحرص على أن لا تضيع أي لحظة من هذه اللحظات الجميلة التي استعادت فيها كينونتها وكيانها بعودته، تتجاوب معه في كل شيء، وسكنني هاجس الفضول لمعرفة منزلتي منهما، إلا أن اهتمامهما ببعضهما حال دون كل حيلي، فخسئت، وكرهت هذا الرجل الذي وضعني على الهامش، كانت خطى أمي المتسارعة تقرع في رأسي كأنها ضربات المطارق، آلمتني نقرات كعبها واهتزاز بطنها، وتمنيت أن يصيبني مكروه لما عرفت أنني نتيجة تركيبة بيولوجية مجردة جاءت تلقائيا، وأن حياتي كانت مرهونة بأنانيتها وعزة نفسها، ومقابلها أنا لا أساوي شيئا... فكرهتها أكثر فأكثر، وازداد كرهي للحياة...
    واستطاعت أمي أن تستعيد توازنها ومنزلتها وثقتها بنفسها، يحافظون عليها كشربة ماء بين يدي ملهوف، وهي تنتظر بفارغ الصبر أن تتخلص مني، ضاقت بي ولا تزال تلعن الساعة التي حملت بي فيها، تتفقد جسدها وتتابعه يوما بيوم، بالكريمات والمراهم، لا يمر عليها أسبوع لا تزور فيه الطبيب، تلعنني في كل حركة وفي كل سكون... تخفي ضيقها بي بقولها لا تحب الأولاد، كانت تتمنى لو كنت بنتا، كلما يراها القاضي يبتسم، فكانت ابتسامته تحطم كبرياءها، وتبتذل زوجها في نظرها، فيزيد كرهها لي، حتى بدأت تفكر في الإجهاض، وقامت بمحاولة ولكن شاء القدر أن أنجو من محاولة اغتيالها، و شعرت بأنها سببت لي خللا ما، لم أتبينه في حينه، وعندما يدخن أبي أشعر أنني أختنق، ثم أدمنت على تلك الرائحة، أنتظرها كل مساء، لم تحترم الحمية التي نصحها بها الطبيب، أسأل نفسي لماذا هذا التهاون والإهمال الذي يمكن أن يؤدي إلى هلاكي وهلاكها، ولم أدرك سر ذلك الشيء الذي تعلمته معها هو أنها لا تتصرف أبدا من فراغ، بقدر ما كان أبي متحمسا لي بقدر ما كانت هي تنبذني، أحيانا أشعر بها تنظر إلى بطنها وتحدث نفسها، بكلام غريب... عتاب، ندم، حسرة... حتى تكاد تمقت نفسها وتنبذها، رغم كل ذلك لما أشعر بها تبكي، أحن عليها وأشفق عليها خشية أن أكون أنا السبب، تمنيت أن أدرك هذه الحقيقة قبل خروجي، ولكن ماسمعتها أسرت بها لأحد.. إنها تتعذب، خاصة وهي في حضن أبي، بين يديه كالعبد بين يدي سيده، بل أذل.
    كان بيت الزوجية موحشا، يسكنه الصمت ومجرد من الدفء، فعادت إلى بيت أبيها إلى حين وضعها، تلازمها الجدة كالظل، بل أكثر من ذلك كالبوديجارد، سعدت كثيرا العجوز لما علمت أن حفيدتها ستأخذها لتعيش معها ما بقي لها من العمر في عزة وكرامة، ردا لشيء يسير من الجميل، وجعلتها تحس أكثر فأكثر بضرورة وجودها، وأنها لا تستطيع أن تستغني عنها...
    يأتي إليها كل صباح، يأخذها إلى العمل، كأنهما طفلين في طريقهما إلى المدرسة، يحتويها بسعة مرحه وبسط بسمته وحديثه الممتع، ملأ كل الفراغات، وفي المساء لا تدخل إلى البيت حتى تجوب معه كل الشوارع والأماكن الجميلة التي ترعرع فيها حبهما، حيث تنتعش الذكريات .تروّح عن نفسها وتبلسم وخزات الماضي، نادرا ما تتعشى في البيت، كان يعجبها كثيرا مطعم العم قدور، ذلك الرجل القصير والعريض، المشمر دائما عن ساعديه، بمئزره الأبيض تضاهيه بشرته النظيفة، على رأسه الأصلع والغليظ قبعة بيضاء، أمهر طاه للأطباق العربية الأعرابية التقليدية، قدوره على الحطب والفحم، لكل نغمته وإيقاعه، تجرك رائحة الطعام جوعا لا يقاومه أحد، قاعة الأكل جناح من الطراز العربي الصحراوي الأصيل، والجناح الآخر على الطراز القبائلي الجميل
    ...يتبع....






  15. #15
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    الماء في القرب، و الوجبات تقدم في أواني تقليدية جميلة جدا، لكل أكلة آنيتها، كأنك في متحف نفخ في التاريخ الحياة من جديد، مكان يتردد عليه السواح كثيرا، لا تزال جدتها تذكر ذلك اليوم الذي أتت بها هنا، وتناولت معهما غذاءا أعرابيا، في جو كاد يبكيها سعادة، تقول لها دائما مازحة، جدتي أكلت بعينيها أطيب ما تشتهي في عمي قدور، تعني الرجل، فتقول لها.. أسكتي، أسكتي يا شيطانة، يا خبيثة، وتضحك بكل ملامحها، فتقول.. والله يا جدة، أنت أجمل منه ولا نقبل به لك ولو بحمل ذهب.. فتضحك الجدة حد الغرور...
    تمتزج فيها الكآبة بالدعابة فتتصرف أحيانا بعدوانية الطفل المشاغب، فيتوقف عن مجاراتها، وتردها وخزات صمته المفاجئ ، وزخات نظرته إلى اللهو ببراءة من جديد، تستسمحه وتحولها مزاحا... عندما تختلي بنفسها في غرفتها، أشعر أنها متضايقة مني حد الضجر ، وأني ذلك الحمل الذي يثقلها ويزعجها ويحرمها من التمتع بأجمل أيام عمرها، وأنها نادمة على الحمل بي حد الإختناق...
    ليتها تسمعني، وتنصت إلي كصوت حق ينبعث من عمق أحشائها، وتعرف أنني تلك الحلقة التي تصنع التواصل لوجودها.. يا ليتها تنصت إلى نداء الإستمرارية الذي يؤسس للمستقبل، وأن مثلي بين يديها مسير لا مخير.. يا ليتها تسمع إلى مناجاة أسرار الكون التي قذفتني في رحمها لأكون ذلك الذي تريده هي...،هي التي همها الوحيد تفريغي لأنني الخطأ، تسقيني مرارة سواد باطنها المدلهم أقداحا، وشهد نهار ظاهرها لغيري كؤوسا بيضاء لذة للشاربين، تسقيني أجاج عبراتها ليلا، وزلل عباراتها تتدفق لغيري أنهارا، لا أستريح منها إلا عندما تنتشي بالثناء والمجاملات، وتنساني، أتوقف عن الحركة أحيانا حتى تشك أنني مت، فتفزع إلى الطبيب فيطمئنها، ولما أتحرك تتأوه وتلعنني، أحمل الكثير من آثار صدماتها وتهور نزواتها، وشر غضبها وفواجعها، يأسها، إحباطها، تشاؤمها، عصبيتها، أخشى أن أكون يوما صورة لباطن هذا البركان الذي لا يطلع عليه غيري، وسأخرج ثائرا أصرخ، أمزق سكون النفاق واغتيال الحقائق، سيضحكون وسأبكيهم يوما ما، لأني مركب من بؤس أمي وانهزامها وإحباطها، ومقتها لنفسها، وكل الأشياء التي علقت بداخلها، أشياء لا زلت أذخرها... أنا وحدي في هذا العالم المظلم الذي لا يفهمني فيه أحد ولا يسمعني أحد، ولهذا سأصرخ عند خروجي احتجاجا على صمتهم وإهمالهم، سأرهقهم صعودا ونزولا، ربما أنتقم لها ولم لا، تلك هي عدالتهم ونظام حياتهم، ، أو أنتقم منها، إني أشعر أن هذه الخلايا تتغذى من دم فاسد، وتتنفس العفن الصعداء، وتجتر شيئا فظيعا لم تخلق لأجله... بدأت أفكر وتأكدت أنني موجود، وأن الحياة غير ما كانت عليه الروح، وبدأ في ذاتي صراع بين قوتين تجذبني كل واحدة لأكون منها، تكافأت لهما الفرص في داخلي، وتفاوتت خارج أمي ، وضاع الإعتدال بين التناقضات التي تصنعها أمي، فاستسلمت للتيار القوي يجرفني إلى خارج هذا القبو الذي ضاق بي وضقت به، وأنا في هذا الجدال، كانت أمي تتناول مع أبي مبردات على حسابها، لم أكن أعرف أن هذه النقود هي التي تتحول إلى دم تقوده حيثما تريد، حتى قالتها أمي لأبي في صيغة المتعجب، حاولت أن أتصور العملية، كانت رهيبة جدا بمفعولها، من هنا فهمت كيف يكون المخلوق مسيرا، أردت أن أصرخ لأكون أنا، ولكن يا حسرتي، من يسمعني في هرج الغوايات التي تسكن أمي، فسكتت وقال لها أبي.
    فكيف بأموالي أنا التي أكتسبها من أجمل وأفخر حانة ورثتها من أبي .
    ضحكت وقالت:
    - أخشى أن يخرج إبنك من فمي.
    - إذا خرج من فمك نبرره بحصائد لسانك، و إذا ثمل سيضيع و يستدعي عملية قيصرية،
    - في كل الحالات، أنا التي ستدفع الثمن
    - إنها سنة الحياة، لا تخشي شيئا، سأكون بجانبك، أرجوك لا تزرعي القلق في ذاتي، الذي يهمني الآن هو أنت.
    - لو أجهضته هل كنت ستحبيني؟
    - ولم لا؟ !.. ليس لي سواك، ولن يعوضك أحد، أما هو فإلى الجحيم إذا استدعى الأمر نجاتك بثمنه
    أخذت يده، قبلتها ،وظهرت لمسات التأثر على وجهها، وصلني هذا التفاعل كهبوب نسمات الصقيع، فتقوقعت وشعرت لأول مرة بدافع بكاء البؤس والحزن والأسى... وهما كذلك حتى رن جرس التلفون ففتحت..
    - نعم..مساء الخير...
    - متى؟ يا الله !.. مات جدي بسكتة قلبية
    - متى؟
    - الآن...هذا أبي كلمني، هيا بنا.. خمس وثمانون سنة فيها بركة.. نذهب إلى البيت وغدا نذهب لحضور الجنازة.
    كان البيت خاليا إلا من الفيلسوف ، تركوه حارسا. إمتعض لما رآهما وظهر عليه نوع من الإرتباك...
    - أنتما لا تعزيان ولا تحضران الجنازة، أم هي المواقف خالية من المصلحة؟..
    لم ترد عليه، وجرت زوجها من يده إلى غرفتها وأغلقت الباب....
    كانت هذه الليلة هي أطول ليلة في عمر الفيلسوف، كل الإحتمالات التي أخذ بها كانت واهية، ودخله الشك وبدأت الغيرة تمزقه، شرب نصف زجاجة خمره ، وصعد السلم يترنح، دق عليها الباب، ففتحت بسرعة، أدخلته، كانت في ثياب النوم، أجلسته فوق سريرها، تحاول أن تسكته حتى لا يحدث فوضى توقظ الأطفال، ولما احتضنته ليهدأ، دخل أولادها، وتيقن الظن، وقفوا جميعا أمام هذا المشهد الذي خلد الخيانة في ذاكرتهم إلى الأبد، وقفوا ظنا أنه أبوهم، فإذا به إ بن عمهم في سرير أمهم، وسجلوا بحضورهم هذا ، شهادة ميلاد الكابوس الذي سيطارد أمهم ليلا ونهارا، وأصبحت من تلك اللحظة تحت شفرة فلطة لسان... قامت، أخرجتهم بعصبية، أعادتهم إلى غرفتهم،توعدتهم ، ثم عادت إليه واستطاعت بصعوبة أن تقنعه بالعودة إلى غرفته ،واعدته بأشد الإيمان أنها ستلحق به فور نوم الأطفال، و قبل أن يخرج قدمت له شرابا وضعت فيه نفس المنوم الذي وضعته لعمه في اليلة التي ذهبت عنده، أنزلته إلى أسفل السلم، ولما رأته دخل إلى غرفته صعدت. ألقى بنفسه فوق سريره حتى طلعت عليه الشمس، فوجد نفسه كمدمن بات على قارعة الطريق، يستعيد بصعوبة ما فعل البارحة، خرج فوجد باب السلم مغلقا، لقد خرجت إلى عملها، الجنازة لا تعنيها، هو يعرف ذلك، فعاد إلى غرفة الحمام، غسل وجهه ، رمى غرفتين فوق رأسه، وأخذ المنشفة يفرك شعره ووجهه بقوة، لا يزال في حالة غليان، عرج على المطبخ، لا أحد ولا شيء، عاد إلى غرفته لبس بذلته وخرج...
    ومرت مراسيم الجنازة في هيبة ووقار، وتوافد الناس إلى بيت العزاء، وفي المقبرة بعد الدفن تقدم أحد الأعيان وخطب في الناس خطبة لتوديع عالم جليل، ومجاهد كبير ، كان المجد الذي صنعه الخطيب من رمل، وبمجرد التسليم، إندثر وأذرته الرياح...
    وبدأ كلام الجد في تقسيم التركة، و كان الفيلسوف هو آخر من وصل ، و أول من أثار هذا الجدل في المقبرة ، لما عادوا إلى اليبت كانت أشياء كثيرة قد اختفت، وكادت تكون الحالقة لولا حضور أهل القرية والضيوف المعزين، وقبل ثلاثة أيام تفرق الجميع، كل الى بيته ليجمع كيده ثم يعود، وفرح الأطفال الذين كان يجلدهم المرحوم في الكتاب.
    لما عادوا كانت الأم تستعد للخروج، دخلت عليها الأرملة، هكذا يلقبها الجميع نكالا، وقالت:
    - نسيت أن أسألك، هل تعلمي أن ابنتك حامل؟
    - حامل تقولين؟ !... غير صحيح !!
    - وأبشرك، إنه ولد.. هكذا قال الطبيب
    - أنا جدة ؟؟؟... أبدا إلا هذه... السخيفة، الساذجة، أعرابية... لماذا أخفيتم عني الخبر؟
    - إسألي الجدة، أظن أنها على علم بكل التفاصيل... إنه ثمرة الخطوبة... أنت يا أمي مثل الحية، لا تحفري جحرا ولا تبيتي في العراء، لو كنت مكان زوجك لتزوجت امرأة أخرى وأنت آخر من يسمع
    - يتزوج؟... يحطم سمعتي ويهين كبريائي؟... إلا هذه.. اطمئني لن يفعلها حتى لوكان حظه في الميراث مال قارون، لقد روضته مثل بغل الأعرابي، أنت لا تعرفي أمك.
    - هو سعيد جدا بهذا الحمل، ينتظر أن يكون جدا على أحر من الجمر.
    - وقح... سينتهي في دار العجزة قبل الأوان، إنها لعنتك لاتزال تطارده... لو لم أكن حاضرة لقتلك ليلة زفافك...الأعراب لا يهمهم في المرأة إلا أسفل الحزام، تم شرفهم وعزتهم ورجولتهم... أغبياء
    - أرجوك يا أمي ساعته نحس، لا أحب أن أسمع عنه أكثر.
    فتح الباب، وقف في العتبة وقال:
    - جلسة مغلقة؟
    نظرت، ابتسمت وقالت:
    - آه، تذكرت أنك نشأت في الخيمة، لا باب، ولا بواب، ولا آداب.. يا رجل حديث نساء لا شأن للرجال فيه، مجرد تفاهات كما تقول أنت، كيف حالك اليوم، هل تناولت الدواء؟ رأيتك قبل الأمس مرهقا...
    خرجت الأرملة، وجلس هو على الأريكة بعد إذنها، وتنهد وقال:
    - بدأ يقلقني هذا المرض، لا يزال يتطور من يوم إلى يوم
    - لأنك لا تقاوم الحلويات، حتى الأنسولين لن يفلح فيك يوما
    - بالعكس بدأت أشعر أني بدأت أفقد الشهية
    - إذا زرت الطبيب وأعادها لك، أرجوك لا تعود من هذا الطريق لأننا سنرحل
    ضحكت، وضحك حتى بانت نواجده، وضع رجلا على رجل، نظر إليها وقال:
    - لم تتغيري كثيرا، لا زلت جميلة... اقتربي.. تعالي..
    نظرت إليه، أشاحت بوجهها وقالت:
    - وأنت خرفت يا رجل، عندما شاب علق عليه حجاب.. قم.. قم.. أنا معزومة الليلة على العشاء، سأدخل متأخرة إذا طابت الجلسة، لقد تأخرت.. هيا..هيا
    - كم أتمنى أن نتعشى سويا، ونسهر ونعود متأخرين... مثلما كنا زمان
    - بشرط، نشرب، وندخن ونرقص،.. هل تقدر
    هز رأسه نافيا واغرورقت عيناه
    - أنت لا تقدر حتى على الوقوف نصف ساعة وتريد... مسكين... غدا نتعشى سويا هنا في الحديقة، نشرب لبن وأرقص لك وحدك... هيا... هيا أذهب لترتاح قليلا، أراك حزينا لموت أبيك ومرهقا من السهر.
    حملت سفطها، داعبت خصلات شعره، خرجت وتركته جالسا يجتر الماضي الذي لا يزال يعيش عليه، أخذ السكون بمجامعه الصاخبة، تنحره الغصة تلوى الغصة على ما فات من العمر ولا يعود، والغرفة ترد صدى رقة نبرتها الفرنسية، مرت بخلده أبيات للشاعر الفرنسي لافوتان، ابتسم من سذاجته وقام...
    كان وهيج عطرها الباريسي يغمر الرواق حد الإنتشاء، تمنى لو كان معها ليفعل أشياء كثيرة كان يفعلها في شبابه وقبل مرضه، رأى أيامه تذبل أمام عينيه، وعجز حتى على أنعاشها في نفسه بالكلام، يتساءل هل فقد مبررات الحياة الزوجية إلى هذا الحد ، وهو الآن عالة على امرأة اشتعلت كهولتها بالحيوية والنشاط و حب الحياة ؟ !
    عاد إلى الصالون وجلس ينتظر العشاء... يستعيد ببطء كلامها ويجتر، أيقظت فيه بعض الكلمات والحركات شيء من الفضول حد اهتزاز الثقة، هذه الزوجة التي كان يراها متحضرة ومندمجة ومثقفة، تترفع عن الدنايا، يزينها الوفاء والإخلاص، أصبحت في نظره مهددة ويجب عليه حمايتها، وبدأ يفكر في الأمر بجد... وظهر له أول شق في جدار المودة الذي كان يراه متينا، يتحسس المواضع التي يمكن أن تأثر فيها الضربات التي تأتي من الخارج، يجب أن يرمم أي تصدع يظهر حتى لا ينهار كل شيء وتتفكك الأسرة.
    جاءت إبنته تمشي كالبطة المثقلة، بطنها إلى فمها، كأنها تحمل توأم، جلست بجانبه وابتسمت فقال لها:
    - قومي واجلسي أمامي، هنا على الأريكة، الذي تحبه إجلس أمامه والذي تصحبه إجلس بجانبه، والحديث بدون معنى كالطعام بدون ملح...
    انتقلت، استوت وقالت:
    - كيف حالك؟
    - أغور شيئا فشيئا
    - لا بأس عليك
    - وأنت كيف حالك؟
    - حال الحامل يا روحي
    - بدأ هذا العام الخريف باردا، فحافظي على نفسك يا بنيتي، أتمنى أن يطول عمري حتى أكون جدا، سأعجبك ، سترين
    - لماذا تقول هذا الكلام؟، أنت لا تزال كهلا ولولا السكري لزوجتك بأربع جميلات
    ضحكت وضحك حد القهقهة وقال:
    - إلا هذه، ستموت أمك بالغيرة علي، تصوري إنها متعلقة بي كالرضيع بأمه، إنها تحبني كثيرا، تحدت والدها وتزوجتني...
    وبدأ يثني عليها في الخلق والخلق وابنته تنظر إليه بعين الشفقة والرحمة لدرجة أنه أحس أنها تعرف أنه يبالغ ويزايد، فبدأ يبرر بعض تصرفاتها بتقصيره معها، وخنقته الحسرة فسكت.
    - لا عليك يا أبي أعرف أنك تحبها كثيرا وهذا من حقك ومن حسن حظها، أمي امرأة متحررة، تتحرك كثيرا، خيبتها ليست فيك وإنما سببها المرض، لا تستطيع أن تجاريها، ولا تخشى عليها، إنها قوية جدا وتملأ الفراغ كله..
    - أعرف ذلك، أنت الوجه الآخر الذي كانت عليه لما التقيتها، بزيادة مفرطة في الغنج.. تعرفت عليها في المستشفى، دخلت إثر حادث مرور لبعض الإسعافات الأولية، وكانت تتكلم فرنسي كثيرا، كنت الوحيد الذي تجاوب معها، فربطت علاقتي بها ببعض الكتب والروايات الكلاسيكية في الأدب الفرنسي، كنت أحسن الفرنسية أفضل منها، أبهرتها فتعلقت بي، كنا نقلد الفرنسيين في كل شيء حتى نظهر أمام الجميع قي قمة التحضر، هي واصلت بصفتها مدرسة وأنا تراجعت قليلا بحكم مهنتي والمحيط الذي أعمل فيه، أغلبية المرضى من الأحياء الشعبية والأعراب حيث كانت تكثر الأوبئة في مختلف المواسم
    ...يتبع....


  16. #16
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض


    ماكان الناس يميزون بيني وبين الطبيب لأناقتي ولياقتي واهتمامي بنفسي، كانت هي جميلة ومدللة من طبقة النبلاء، شعلة طموح وأمل، مرحة بامتياز، تتكلم كثيرا وتضحك كثيرا، لا تزال براءة قهقهتها تتردد في ذاكرتي، كنت أنظر إليها فرنسية أبا عن جد، كانت من النماذج النادرة في مستوى التحضر الراقي.
    لما كنا نحن نسكن في المزرعة، أخذتها يوما هناك، فسلبها جمال الطبيعة وسحرها، وأبهرتها العادات والتقاليد، ولولا أني أعرف قبيلتها لقلت أنها فرنسية وتجنست، أعجبت أمي كثيرا فتزوجتها، كانت تذكر أمي دائما بنساء وبنات المعمرين الفرنسيين والإسبان، تزوجتني رغم معارضة والديها، وأقمنا عندهم رغما عنهما، حتى أنهت دراستها، استأجرنا شقة في عمارة، ثم انتقلنا إلى هنا بعد أن انتهت الأشغال.. صمم هذا البيت حسب ذوقها، وكأنها كانت تقرأ المستقبل في حفر الأساس، لا يزال حتى الآن يتسع للجميع، أنظري هكذا البيوت في فرنسا، تدخلي مباشرة إلى الصالون، على الجهة اليمنى قاعة الأكل وبعدها المطبخ ثم الساحة، على الجهة اليسرى رواق غرف النوم، بعضها يطل على الصالون والبعض الآخر في الرواق الذي يؤدي إلى سلم الطابق العلوي حيث المخرج الثاني إلى الشارع الخلفي، كان يظهر لي واسعا وكبيرا جدا، كل هذه الأثاث التي زيناه بها فرنسية، ومن باريس، هذه المدينة التي عشقتها أمك حد الهوس، تعيشها هنا، أمك من الذين يؤمنون أن الجزائر هي امتداد لفرنسا تحت البحر، هذا تمثال جان دارك آخر ما جاءت به من هناك، و هذا قرن بايار. في أول زيارتها لباريس، إشترت هذه اللوحة الجميلة للثورة الفرنسية التي حررت كل أوروبا ومعها العالم... الطابق العلوي شيء آخر، الغرف كأنها زنزانات لا تدخلها الشمس في فصل الشتاء أبدا، بناه جدك لعمك، ووثائق البيت كلها باسمه، لقد ساهم في البناء بأكثر من ثمانين بالمائة، ساعدنا كثيرا، حفاظا على كرامتنا وعلى سمعة العائلة، وسيولد فيه أول حفيد.. تلك أشياء كلها جميلة، أراها تمر في ذاكرتي مر البواسق البيضاء في أفق سماء كانت صافية زرقاء... أحيانا أشعر وكأنني أعيش من أجلها و بها فقط. هنا مسقط رؤوسكم جميعا، هنا ترعرعتم، لا تزال ضحكاتكم تملأ فضاء ذاكرتي المتعبة، وبكاؤكم يمزق من حين إلى حين سكون المكان، أنت فقط كنت عند جدتك، ربتهم الخادمة وحشية، وتبين لنا في الأخير أنها إسم على مسمى، كانت أخبث مخلوق عرفه تاريخ الخادمات، ولولا فطنتي لحولتكم إلى شياطين وأنتم لا تزالون أطفال، تعبت كثيرا لاستعادتكم إلى السلوك السوي، حقيقة كنت قاسيا معكم وحرمتكم من أشياء كثيرة، لكن هي التربية أحيانا تحتاج إلى الزجر والحديد والنار، كانت أمكم تنظر إليكم أبناء أعراب ووحوش، وتحتقر نفسها أنها أنجبت أربعة، تقول دائما كأني أرنب، ربما كما قالت، أنكم الخطأ الأكبر في حياتها، لأن المتحضرة لا تزيد أكثر من اثنين، رغم ذلك ومن أنتم الآن، يشار إليكم بالبنان، أليس كذلك؟.. وهذا كله من فضلي وحسن تربيتي وحرصي عليكم، فقط الأرملة الملعونة خذلتني ولا تزال تصنع خيبتي، ولست في حاجة لأحد منكم...
    ابتسمت وهزت رأسها، لما كان هو يتكلم كانت هي تستعيد غطرسته وجبروته وظلمه وقساوته، وحده المرض أقعده وقيده وأطلق سراح الجميع، تذكرت تسلطه، فزاعة في الليل، وجلاد بالنهار، تذكرت لما كان يخرجهم من البيت في الظهيرة ليتمتع بالقيلولة، رغم الحر وأشعة الشمس المحرقة، يبيتهم جياعا لأتفه الأسباب، ويضربهم ولا يسمح لهم بالبكاء، وحرمهم من أدنى عواطف الأبوة، تذكرت أنه كان يطعمهم ما يريد، ويلبسهم ما يريد، وينومهم متى يريد، ويوقظهم متى يريد، وكأن البيت ملجأ لإعادة تربية الأشرار، السوط والعصا هي اللغة الوحيدة التي كان يخاطبهم بها، ويجن عندما يسمع أنينهم أوبكاؤهم، كانوا يتمنون له الموت، موت الجبابرة في القصص والخرافات، لأنهم يموتون بالوهن، تذكرت كيف جعلته أمها يبتلع الكثير من الفضائح، يكتمها ويكظمها رغما عنه ، كطلاق الأرملة ،وشبهات الفيلسوف مع صبيات المدرسة، وإشاعات عن الأم، و أشياء أخرى ، تذكرت كيف كانت تروضه أمها في حلبات أي نقاش، وتظهر آرائه مهلهلة،و تافهة، مفككة تتناثر فوق قدميها، فيستسلم إرضاء لغرورها، في حين ،من كان يجرأ ويذهب إليه لحل تمرين من واجباته،أو يستنصحه في أمر، أو يطلب منه مساعدة ، وبقدر ما كانت تطريه بقدر ما كان يتعصب في معاملته معهم... وأشياء أخرى لا تريد أن تتذكرها من شدة فظاعتها، لأنها تؤلمها كثيرا...
    هكذا كانت أمي وأنا في بطنها تسقيني مرارة ماضيها وحاضرها، ممزوجة بالحقد والغضب ورغبة الإنتقام، تنتظر بفارغ الصبر الساعة التي ترميه في دار العجزة، ليذوق مرارة الهوان ولا تزوره إلا مرة واحدة في العام، ستشتري له شريط فيروز ، زروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة، شماته وتراه قد ذبلت فيه هذه الأشياء التي صنعت جبروته الذي لم يرحمهم، ويوم يموت يدفنه عمال النظافة، هي متأكدة أن جنازته لا يحضرها أحد، مثله مثل الفرنسي ينتهي وحده، ينتهي لا شيء، لا حدث، وإذا حضر أهله وأقاربه فمن باب المجاملة والنفاق، لأن أغلبهم في فرنسا لا يؤمنون بما وراء الموت.. هو يعرف أن لا أحد يحبه في هذا البيت..
    لما استيقظت من غفوتها وجدته يتناول عشاه بشراهة، فقامت، قبلته على رأسه وانصرفت، وسقط كلامه في سلة المهملات... ليتها تستطيع أن تنقل إليه هذه الصور التي تملأ صدرها كما هي.. أما هو فبقي ينتظر زوجته في الصالون، لما عادت وجدته نائما على الأريكة، فدخلت إلى غرفتها ونامت قريرة العين، استيقظ وشم رائحة عطرها ممزوجة برائحة أخرى يعرفها جيدا، كأنها رائحة خمرته المفضلة، جوني والكير، لم يصدق، لا يزال مترددا، تحاصره دوامة بين الشك واليقين وتهاجمه الظنون من كل جهة، أراد أن يذهب إليها في غرفتها، وتراجع لسبب تنكر له، لا يريد أن يعترف به حتى لا ينظر إلى نفسه ضعيفا، واستطاع أن يتجاوز هذا الصراع وذهب، توقف أمام الباب ينصت لعله يسمع حركة أو أي شيء يبرر به زيارته، رفع يده ثم تراجع، كانت تلك الرائحة هنا أشد وأقوى، ورغم شدة الفضول ولهب الشك والغيرة، عاد إلى غرفته يجر الخيبة والحسرة، وابيضت ليلته وطال مداها، ما رأى أبعد من فجرها في حياته، ينتظر الصباح بأعصاب اشتدت كأوتار للعزف المقتضب، فصعدت نسبة السكري وسقط مغشى عليه، ونقلوه إلى المستشفى، وبعد استقرار حالته عاد إلى البيت.
    في مساء ذلك اليوم جاءته إلى غرفته، أخرجهم جميعا واختلى بها، وبدون مقدمات قال لها:
    - إنهم أعدوا الفريضة، وسيبيعون كل الممتلكات بما فيها هذا المسكن لأنه باسم أبي.
    - وإسهاماتي؟
    - سأحاول أن أسترجعها لك، لا أظن أن هناك أحد يعارض، فما رأيك لو نشتري مسكنا في القرية نقضي فيه ما تبقى من عمرنا؟
    وكان السؤال الذي أفاض قدح الجواب وأثار البركان الذي يسكنها.
    - جننت أو ماذا جرى لك؟.. أنا أسكن القرية؟.. هيا إلى المزرعة أفضل، مع الحمير والبغال والبقر والغنم، ونسكن في كوخ من أكواخكم القذرة، و نأكل الخبز المشوي على فضلات الحيواناتت، و نشرب من حيث يشرب الكلب، و ننام و الدجاج طواف بنا، تتشقق أقدامنا و أيدينا، و تزينها أدران الوسخ، و أطرافنا معفرة بالتراب كالخنازير !!!.. يا للمهزلة، يا للعار، و في آخر عمري !!..ألعن اليوم الذي عرفتك فيه، و اليوم الذي تزوجتك فيه ...اسمعني جيدا، ابتلع هذا القيأ و لا تعد إلى مثله أبدا، إذا شدك الحنين إلى هذه البشاعات، أذهب إليها وحدك، أما أنا فهنا، في المدينة خلقت و فيها أموت، فلا تحاول معي مرة أخرى، و إلا ستسمع مني ما لا يرضيك،.
    خرجت كالزوبعة، و لم تدخل إلا مع الفجر، تجاهلها هو مكرها، لا يزال يجتر كلامها، وجد فيه شيئا من المنطق، و في سؤاله شيئا من الغباء، يقكر كيف يرمم ما أفسده من ود بسذاجته، و في الصباح ذهب إلى النزل الكبير، حجز مائدة فاخرة من الصنف الممتاز و عاد إلى البيت مسرورا، في المساء ذهب إليها ليطيب نفسها و يسترضيها، استسمحها و عزمها على العشاء فاعتذرت كونها نفسيا ليست مرتاحة، و واعدته أنها ستذهب معه مرة أخرى، أما الليلة فعندها لقاء رسمي في نفس النزل و لا زالت مترددة، و يحتمل أنها لن تذهب ، فعاد مكصور الجناح، و قبل أن تخرج مرت عليه في غرفته، استودعته و ذهبت...
    قام لبس بدلته الجميلة، تعطر،فأصبح جنتلمن بامتياز، حمل عصا بنفس لون الحذاء ،وضع نظاراته و تبعها، كان قد انقضى من الليل ثلثه تقريبا، دخل إلى القاعة، كان الجو رومنسيا جدا، تتسلل الأنغام الهادئة الى الأذواق المحتشنة تحت الضوء الأحمر الخافت، يداعب إيقاعها الأعصاب التي هدهدتها الأقداح و تراقصها الهمسات الأنثوية الحالمة...تذكر أشياء جميلة مرت عليه من هنا، قاده المضيف بكل لياقة و لباقة إلى مائدته، جلس واستوى، سأل النادل عن اللقاء، فنفى أي لقاء في هذه الليلة، سأله إذا كان عنده موعد مع قرينة ، هز رأسه نافيا و الغرابة تأكل مداركه، هو الوحيد الذي كان يجلس وحده، لف ساعده بساعده على صدره و سافر إلى ذلك الزمن الجميل لما كان ملأ عينها و بصرها، لما كانت تتباهى به أمام النساء لبنيته و عنفوانه ، تحاول جذب انتباه الجميع إليها و هي تتأبط ذراعه بحركاتها و قهقهتها ..توقفت الموسيقى، و ضبط الجوق آلاته و بدأ معزوفة رقص الباله، هم بالوقوف، و ترجع، تمنى لو كانت هنا ، يحاول معها و لو غدوة و روحة على هذا الإيقاع المرح و الجميل، أغمض عينيه و ذهب يهز رأسه و يدق بأنامله على المائدة ، يضاهي النغم بدندنته ، و لما قامت رأته جالسا، نزلت عليها الفكرة الشيطانبة، إنها الضربة القاضية، هي تعرفه جيدا، مثله لا يقتله أجله ، بل وحدها الغيرة تصنع نهايته ، و تدمر دخيلته ، وماذا عساه أن يفعل ، إنه نصف ميت، أعرابي لا يصلح لشيء، ابتسمت ، مضمضت فمها بالشمبانيا ، و أخذت بيد فارسها إلى الجهة التي كان يجلس فيها زوجها، كانت تضع خدها على صدره، يد في يد،و الأخرى في ظهره ، يتحركان كأنهما جسد واحد، تنفصل عنه ثم تعود إليه، يدها في يده تأتي الى صدره تجاريه خطاها بخطاه، تبتعد قليلا ، ثم تلتسق به و تعيد، أبهرت الحضور برشاقتها و لطافة حركاتها ،ماهرة في الرقص ، تنظر إلى زوجها و هو يختنق حسرة و غيظا، تبتسم إليه و تلاطف فارسها بليونة السادية...توقفت الموسيقى ، صفق الحضور ،و عادت معه إلى مائدتها ، تقدم أحدهم ، انحتى ، قبل يدها، غمرها ببسمة عاشق ، شكرها على الأداء، وانصرف .. سقط زوجها على الأرض مغشيا عليه، أدارت وجهها تشمئز من سذاجته ، حملوه ، طلبوا سيارة اسعاف و نقلوه إلى المصحة.
    ...يتبع...


  17. #17
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    بعده بقليل ودعت فارسها، طلبت طاكسي وعادت إلى البيت، دخلت إلى غرفتها ونامت، حلم بالشامبانيا كان أحلى ما وجدت في تلك الليلة، في الصباح تفقدوه، فلم يجدوه، وقبل أن يخرجوا جاءهم الخبر بأنه في المستشفى، خرج منه مع منتصف النهار، نقلوه إلى البيت، ماحصل له شيء متوقع مادام هو مصاب بالسكري ولا يقاوم الحلويات كما قالت زوجته… ينظر إليها بعين المقت والكره، وماذا عساه أن يفعل أو يقول خوفا من فضيحة تسقط هيبته في العائلة، بل عند جميع من يعرفه، أما هي فما فعلت إلا ما يفعل أغلبية الفرنسيات ...فاليمخره السكوت حتى يقتله أو يعوقه، و بعد..
    فلزم الصمت واعتزل الجميع، يدخن بدون انقطاع، أدمن على القهوة وغار صوته في البيت نهائيا، واستراح منه الجميع... من حين إلى حين يعيد صورتها وهي كالفراشة في حضن ذلك الرجل، ليتأكد أنه رآها حقيقة، وتزيد حيرته من تصرفها معه بطريفة عادية، كأنها ليست هي، و أنه قد شبهها فقط، يريد في بعض الأحيان أن يصرخ في وجهها، لكنه يخشى أن تنفي ما فعلته أو تتهمه بالتأخر والسذاجة ،وما فعلته كان مجرد رقصة تقوم بها أي امرأة متحضرة مع أي رجل، بل أكثر من ذلك، له أن يفعلها هو إن شاء ولا تمانع، بالعكس ستسعد بذلك كثيرا... يراها دائما بنفس اللباس لما تأتي عنده لتودعه حين تريد أن تخرج، تقول له:
    - لما تستعيد عافيتك نتعشى سويا في أفخر مطعم وعلى حسابي، سأعيد لك شبابك... سترى...
    فلا يرد، تضحك هي وتختفي ولا تعود إلا في آخر الليل، يألمه اجترار محرك السيارة التي تأتي بها ويطعنه انصفاق الباب، فيتنهد، من حين إلى حين كان يدخل في غيبوبة واستفحل فيه المرض وأثر على كليتيه، وأصبحت حياته مرهونة بجهاز تصفية الكلى...
    في ذلك اليوم قام مبكرا، جلس في الحديقة يشم وهيج أزهاره، وتنفس الصبح المنعش الجميل، فإذا بالفيلسوف يقف عند رأسه
    - صباح الخير، إنك اليوم أحسن
    لم يرد عليه، نظر إليه وتمنى أن يكون ما وراءه خيرا، فنظر إليه وهز رأسه يسأله..
    - جئت لأخبرك أن تركة جدي كلها بيعت في المزاد العلني، باتفاق كل الورثاء، حتى المسكن هذا، وستبدأ عملية الإستلام في هذا الأسبوع على ما أظن، وكان من نصيبك أنت ونحن معك بالطبع، خمسة عشر مليون وسبعمائة ألف دينار، وهذا هو الشيك حرر باسمك بعثه الموثق، تفضل، إمضي هنا.
    - -باعوا الأرض كذلك
    - باعوا كل شيء، لأنه حصل سوء تفاهم على التقسيم، المبلغ هذا مهم جدا، نستطيع أن نشتري أجمل فيلا في أجمل وأرقى حي، ويبقى الكثير
    - باعوا الأرض باتفاق كل أعمامك وعمتك
    - نعم باعوا المزرعة كلها وقد سلموها بالأمس إلى صاحبها
    - فعلوها أبناء الساحر، فعلها الأوغاد كما قالوا
    - وبمباركتك وموافقتك أنت، هل نسيت؟
    - أنا؟... متى؟
    - الأسبوع الفائت، وأمضيت على العقد، لا تقل لي أنك نسيت !!
    وفهم اللعبة، ولكن لا تزال كل الخيوط بيده ولن يفلت من يده أحد.. أخذ الشيك، كان محررا بخط جميل وكأن الأرقام رسمت بريشة فنان، وحدها بهذه الأسفار تسيل لعاب أقنع الناس وأزهدهم. وضعه في محفظته وسكت
    - ماذا أنت فاعل الآن؟
    - هذا أمر لا يخص أحد، فما دخلك أنت؟ إنتهت مهمتك تفضل
    - أنت مريض لا تستطيع أن تتصرف وحدك، وأنا إبنك الوحيد، إذا وضعت هذا الشيك في يد أمي ستكون نهايتك، أنصحك، إنها ورقتك الوحيدة التي تستمد بها سيطرتك على الوضع
    - قلت لك تفضل، خلاص
    وجد في كلامه كثيرا من الصدق ولكنه صدق وراءه فخ، وفرض عليه الموقف أن يتحفظ أكثر ومع الجميع، إستعاد بهذه الثروة شيئا من قوته وتوازنه، ولكنه في وضع أسوأ من أن يحسد عليه، وأي هفوة ستكلفه الأتعاب التي تصنع نهايته قبل آجالها، الجميع ينتظر سقوطه، ينظر إليهم كأبناء العقرب على عاتقه، أو كغربان تحوم حول صائدة أهلكها الدهر بنوائبه فوقعت تفتك بها الوحوش...
    ذهب إلى البنك، حول المبلغ إلى حسابه، إتصل بمحام ليقوم بكل الإجراءات التي أرادها، واتصل بوكالة عقارية تبحث له عن مسكن متواضع في حي هادئ قريب من مركز تجاري.
    في غيابه اجتمعت الأسرة برئاسة الأم تنظر في وقوع كل الإحتمالات ، تعد التدابير اللازمة لمواجهة أي موقف يتخذه، أو يحاول من خلاله أن يحرمهم من حقوقهم في الميراث.
    رتب أموره، وعاد إلى البيت مطمئن، فوجد إبنته تنتظره، دخلت معه إلى غرفته، تعب كثيرا في هذا اليوم، استلقى على سريره يتنفس بعمق ليستعيد راحته ووتيرة نبضاته العادية، تركته حتى رأته قد استقر حاله ، تأخذه السنة بعد السنة...
    فبادرته قائلة:
    - في هذا الأسبوع سيأتي الأمر بإخلاء المنزل على حد ما سمعت ، وأعرف أنه من غير الممكن أنك تستطيع أن تشتري بيتا في هذا الظرف الوجيز، ولهذا جئت أطلب منك أن تأتي معي إلى بيتي مع جدتي، سأوفر لك كل الظروف المناسبة للإقامة عندي إلى حين ، فما رأيك؟
    بدأ ينظر إليها والشك يمخر براءة العرض، وبدأ الغضب يكتسح ذاته المتعبة.. إستوى جالسا وقال:
    - سأفكر في الأمر جيدا وأرد عليك في الوقت المناسب
    - فكر في نفسك قبل الجميع، أنت مريض تحتاج إلى رعاية خاصة، وحدي أنا أستطيع أن أخدمك سواء في بيتك أو في بيتي.
    - إنها حمى المال يا بنيتي، حتى أنت أصابتك وحولتك إلى ملاك بامتياز، أعرف أنكم كلكم أبناء الدينار، عليه تجتمعون وعليه تتفرقون، نصيحتي لك أن تذهبي ولا تعودي إلى مثل هذا الكلام أبدا، أنا الآن لست بحاجة لأحد، وكلامك هذا سيجر إليك متاعبا كثيرة، تعرضك إلى أشياء لا تحمد عقباها، هيا ابتعدي عني ، لا أريد أن أرى وجهك بعد اليوم..
    - تطردني؟
    - خير لك، هيا لا تجعليني أصرخ فيسمع الجميع، هيا.. هيا.. هيا...
    وأسرع الجميع، فوجدوها واقفة تنظر إليه، لا تعرف ماذا تقول ولا ما ستفعل... أخرجوها.. طردهم جميعا وأغلق الباب.
    وهاجمتني في بطنها الأحقاد، والضغينة والكره والبغض حد الإنتقام، وعرفت كيف تكتسب هذه الأشياء ومن أين تأتي . خرجت أمي وهي تتوعد جدي بموقف أشد، والكيل بضعفيه، حفظت الدرس وقلت لها سأرد لك الدين مضاعفا إذا تشابهت المواقف يوما ما ، قرأتها بسرعة ونسيت أن للمستقبل أوراق أحفظها لها أنا ، وأن أحكام القضاء مسجلة الآن في صفيحتي بإمضاء أفعالها وأقوالها في السر والعلانية، والشيء الذي لا تعرفيه يا أمي ، هو أنني أعرف الآن من سأكون يوما، آه لو تسمعيني اليوم وتنصتي ليجنبك القضاء متاعب كثيرة سجلها في صفيحتي، ويمحيها من أم الكتاب، ولكن هي فضلات أنانيتكم تصنع منا وجوها تشوه هذا الوجود الجميل، هي بقايا الظلام الذي يسكنكم ورواسب الشر تتشكل منها الكوابيس التي تغتال أحلامكم النرجسية فينا، هي الخطيئة يا أمي ، تلد الخطيئة، فاسمعيني... كانت صرختي تضيع في فضاء جسدها الذي ما كان فيه مانعا يرد الصدى، ولا سياجا يحمي العاقل من الجنون...
    ذهبت أمي إلى غرفتها تجتر غيظها لتغذيني منه...
    دفعت أمه الباب ودخلت، وجدته يبتسم، فاستغربت، وظنت أن به مس، جلست على حافة سريره، خيم الصمت بينهما، وضع يده على خده وأسند مرفقه على ساعده، ينظر أمامه إلى لوحة شارع الشان اليزي للفنان الفرنسي جان أنطوان واطو، ينتظر أمه أن تفصح عما في نفسها.. أما هي كانت تعرف الهواجس التي يعيشها إبنها، فاكتفت بالنظر إليه جسدا ينهشه المرض من كل جهة، بين يديه ثروة كبيرة كهذه، وطموحا يمزقه الخوف في كل منعطف، تبحث عن كلمات من عمق الحنو تعبر بها عن تأثرها بحاله بصدق يجعله يتأكد أن مال الدنيا كله عندها في كفة وهو في كفتها الراجحة.. وهو كان ينظر إليها بعين أخرى ويتعجب من هذه العجوز التي تبني على حافة موتها طموحا جردها من كل مشاعر الأمومة، وما أصبح يهمها إلا المال الذي في يده فأتت تساومه...
    قامت قبلته، وانصرفت دون أي كلمة... وأصبحت الرقم المجهول في معادلته، يتسائل ماذا تبيت هذه الساحرة؟.. ولماذا ذهبت كما جاءت؟.. فسكنته حيرة أخرى...
    وجاء الأمر بالإخلاء بمهلة شهر إبتداءا من تاريخ التبليغ، فكان لا بد من جمع العائلة ومعرفة الرأي الذي استقر عليه الأب، وقامت الأم بالمبادرة، جمعتهم في الصالون وذهب الفيلسوف يدعوه لحضور الجلسة العائلية الوحيدة التي لم يتخلف عنها أحد إلا الجدة. فجاء، جلس على أريكته كالعادة وقال:
    - أمهلوني، إني أرتب أموري بهدوء، وإذا كان هناك من يريد أن يرثني وأنا حي، فهذا هو الجنون المفتعل الذي لا يقبله حتى عقل صاحبه.
    كان كلامه كالعاصفة الهوجاء، فتناثروا وتفرقوا، ولما دخل إلى غرفته اجتمعوا ثانية في غرفة الأم، وبعد الأخذ والرد تركوا الأمر للأم هي التي ستتصرف، وواعدتهم أنها ستجد حلا يرضي الجميع، وأقسمت على ذلك بأغلظ الإيمان، فليس هذا الأعرابي هو الذي سيتلاعب بها ويضيع عليها فرصة العمر.
    كان لهب حمى المال قد تمكن منها روحا وجسدا، يتآكل فيها كل شيء والطمع يأكل في ذاتها بعضه بعضا، وما هذه إلا بداية جنون الحلم بالثروة، والخوف الذي نفثه فيها ما فعلت فيه ليلة الرقص
    ...يتبع...


  18. #18
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    27/12/2010
    المشاركات
    47
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: صرخة الرفض

    كان لهب حمى المال قد تمكن منها روحا وجسدا، يتآكل فيها كل شيء والطمع يأكل في ذاتها بعضه بعضا، وما هذه إلا بداية جنون الحلم بالثروة، والخوف الذي نفثه فيها ما فعلت فيه ليلة الرقص
    هي تعرف بقدر ما كان يحبها، بقدر ما يروي ظمأه الانتقام منها اليوم .
    في اليوم الموالي، حمل حقيبته ومحفظته وخرج باكرا، قلبوا الدنيا عليه، وبدأت تساورهم الشكوك، وظن الجميع أنه أخذ أمواله وهرب، أكالوا له كل الشتائم واللعنات، ولما عرف أن الليل قد جمعهم ، هتف لهم ليخبرهم أنه في مصحة لبعض الأيام، فتنفس الجميع الصعداء، وهدأت روعة أمه عليه وتوقفت عن البكاء، ولما ذهبوا لزيارته رفض أن يستقبلهم، فعادوا مدحورين، وبدأ أخطر الخيارات يفرض نفسه، وكانت الأم قد جمعت كل خيوط المؤامرة ، ورتبت للتمويه بطريقة شيطانية لا يستطيع أن يدركها إلا مارد .
    الأرملة هي الوحيدة التي كانت على علم بكل شيء، وبدأ العد التنازلي لوضع نهاية لهذه المسرحية التي حرقت أعصاب الجميع، لقد بنت مصيدة موته، وهي الآن تنتظر، أعدت له صدمة جهنمية وجمعتهم لتضع الجميع في الصورة، واقتنع الجميع أن هذا رجل مريض ومجنون، وهو بلا شك يبيت ما لا يبيته الشيطان، ويمكن أن يحرمهم من الميراث، ولهذا يجب أن يتداركوا الأمر قبل فوات الأوان، وقبل أن يتفرقوا رن جرس الباب وظن الجميع أنه هو، فتفرقوا وفتح الفيلسوف فوجد رجلا يحمل رسالة، يطلب أمه فجاءت، أمضت على السجل وسلمها الرسالة، فتحت فإذا به حكم طلاقها، فسقطت مغشي عليها، كان الانهيار العصبي أحد وأسرع من خطتها، فأدخلت إلى مصحة الأمراض العصبية في حالة خطيرة جدا، ولما أخبروه قال لهم: هذه أولى الخطوات في ترتيب أموري والبقية ستأتي، فلا تستعجلوا الأحداث، وقطع المكالمة، وذهبت أمه لتزوره فأذن لها .
    لما دخلت عليه وجدته في صحة جيدة، المصحة مختصة في رعاية مرضى السكري المتطور، حسب برنامج طبي متطور جدا، يشرف عليه أساتذة مختصون وكفاءات تمريض عالية، فسرت لما رأته كذلك، رغم ذلك كان يبدو عليه بعض التحفظ، فقالت له:
    - كنت أسرع منها وأذكى، أفتخر بك، وصيتي إليك، كن حذرا.
    إبتسم وقال:
    - لا تخشي علي، الشيطان الذي يأخذون منه، تعلم في مدرستي، كنت أجاريه فقط، وصدق من قال اللهم احفظني من أحبابي ، أما أعدائي فإني أعرفهم.. هذا مثل فرنسي جميل أحفظه وأعمل به دائما.
    كتمتها في نفسها وقامت كالمطعون الذي لا يريد أن يقع فريسة أمام عدوه، أوقفتها حرارة النصل تقاوم بكل ما أوتيت من قوة حتى لا تنهار بالبكاء أمامه، اختفت وراء ابتسامة، قبلته على الجبين وخرجت، وكأنها كانت تنتظر هذه الطعنة بهذا العمق، أعدت لها غضبها وسخطها، فاجتمعت كل ملامح البؤس على وجهها، إلا أن أعذار رحمة الأم وشفقتها بددت كل شيء، وفسحت الجو للدمع أن ينسكب أنهارا... حينها كان الجميع في مصحة الأمراض العصبية لزيارة الأم، إلا أن الطبيب رفض أي زيارة لسوء حالتها وقال:
    - السيدة كأنها تحت صعقة كهربائية دمرت أماكن حساسة في الجهاز، يجب أن نبعدها عن كل ما يذكرها بالمحيط الذي كانت تعيش فيه أولا، حتى يتوقف الدمار ، ونعيدها إليه بعد مرور العاصفة، إنها أصعب مرحلة تمر بها، ولما نتأكد من اجتياز مرحلة الخطر سنأذن لكم بالزيارة، نظن أن الصدمة كانت أقوى مما كانت تنتظر.
    خرج الجميع وبقيت الأرملة، تريد معرفة النتائج المتوقعة، ولما أصرت قال لها الطبيب:
    -للحظ هنا يا سيدتي دور كبير، وبقدراتها واستعدادها، يمكن أن تمر بسلام وتستعيد عافيتها ببعض التوابع الخفيفة، ولكن يبقى الشلل وارد في أغلب هذه الحالات، وخاصة إذا تدخل اليأس والإحباط، سنعتمد على قوة إرادتها ومقاومتها واستعداداتها لمواجهة حالتها.. نتمنى خيرا...
    عادت إلى البيت تنتظر عودته بفارغ الصبر وتتوعده، كانت الضربة قاضية وأصابت في الصميم، تنظر أمي إلى أمها بشماتة وتضحك، وسرها وهي ترى برج طموح أمها الذي صنعه الكبرياء والغرور والطمع يتفجر ويتطاير شذرات...
    وانتهت الكوميديا التي كانت تمثل فيها حبها لأبيها ضد أمها، وزال التكلف الذي كان جاثما على صدرها وعادت للمثل القائل، سأل أحدهم، هل صعود الجبل أفضل أم نزوله ؟ فقال أحدهم اللعنة عليهما أينما التقيا وأين تفرقا...
    واختلطت حسابات الجميع، ينتظرون على من يأتي الدور في هذه المرة، وما هي الخطوة القادمة ؟
    حذروا الأرملة من أن تقوم بأي عمل من دون علمهم، وتكهرب الجو وتسممت الثقة وساد الحذر، وبدأ كل واحد يعمل لشاكلته، الشيء الذي يتفق عليه الجميع هو أن الأب مهما عمل وضعيته الصحية لن ترحمه، ونهايته لا تحتاج إلى أكثر من كلمة جارحة لكرامته الكاذبة، أو وعكة في منتصف الليل ولا يجد من يأخذ بيده إلى المصحة، المهم أنه ليس بعيدا من الموت الذي يقنصه...
    وبدأت عقول الشياطين تشتغل ليلا ونهارا، العيون شاخصة والآذان صاغية، والقلوب لدى الحناجر...في تلك الليلة شعرت أمي باضطراب في بطنها وكأن الدنيا التي بداخلها بدأتها القيامة، وشعرت بشيء يدفعني إلى الأسفل، وعرفت أن سجني في هذا القبو قد انتهى ،وحان وقت خروجي إلى عالم أضيق، فعزمت أن أخرج واقفا، فانقلبت وقدمت رجلي، وكم كان خروجي مؤلما، كلما أرادوا وضع رأسي إلى الأسفل،
    انقلبت واقفا، صرخت أمي وصرخت أنا، كانت صرخة أمي كأنها جلدت، وكانت صرختي أول صرخة رفض، فضحك الآخرون وبكيت أنا كثيرا في تلك الليلة وتمنيت أن لا أتوقف، حرمتني أمي من صدرها حفاظا على جماله، ولم تحضني لأشم رائحتها، وضعتني في مهد من حديد بجانبها، لقد تخلصت مني، سمعتها تتنفس الصعداء، وشعرت بالغربة و وحشة كوحشة القبر، أبحث بأنفي عن جرعة حنان في ذلك القماش الذي لفوني فيه، وأنا أتقيأ من حين لآخر سائل نتن، وفي آخر الليل جاءت امرأة أخرى، حملتني ووضعت في فمي قطعة من مطاط، أمصها فيتدفق في فمي حليب أشم فيه رائحة غريبة، وذوق لا يحمل تركيبة أي عنصر بشري.
    رفضته في بادئ الأمر، وازدادت غربتي، وأرغمت عليه شيئا فشيئا فرمته.ونسيت أمي، وتعلقت بقطعة المطاط، وفي الصباح جاء أبي، حملني، قبلني على الجبين وقال لأمي:
    - إنه صورة طبق الأصل لك
    فضحك وضحكت أمي وقالت:
    - كاد يقتلني، وضعته بصعوبة كبيرة، ونال مني المقص ما نال
    - لقد أمر الطبيب ببقائك تحت المراقبة أسبوعا كاملا
    - هل أخبروا أبي ؟، أبي مجنون يمكن أن يفعل أي شيء
    - لا أعرف، لا زلت بعيدا عنهم، الوضع في بيتكم مكهرب، أكره المكوث في مكان لا يأمن الإنسان فيه على أذنه ولسانه.
    - لا شك أنه سيفرح، كان ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، ممكن تغير..
    - ممكن... الظروف غير ما كانت عليه، والأمور في بيتكم تعقدت أكثر فأكثر، الكل يعيش على الأعصاب، أنصحك بالعودة إلى بيتنا عندما تخرجي من هنا.
    - أعود إلى البيت ؟! أبدا، حضوري يضمن حقوقي في الميراث، أبي على حافة الموت وكلهم ينتظرون، صدقني إنهم قادرون على فعل أي شيء لاستعجال موته، وأنا في أشد الحاجة إلى هذه الأموال، لست آمنة على منصبي من ذلك القاضي الخبيث، وأخشى مكرهم.
    - دخلت الجدة وجاءت معها بتمر، حملتني، ضمتني إلى صدرها، وشعرت لأول مرة بالدفء، كانت أول رائحة حنو أشمها، كان التمر لذيذا جدا، وكأني منه خلقت، شعرت لأول مرة بالراحة وخلدت إلى عالم آخر أعرفه لأول مرة، صور أبتسم لها، وصور تحاول أن تبكيني، وفي اليوم الموالي شعرت بألم المصل في ساعدي، وبدأت علاقتي حميمية مع قطعة المطاط... أي امرأة تحملني، فتلك هي أمي، وقبل نهاية الأسبوع أخذوا عينة من دمي بحضور طبيبة وممرضة وضابطة شرطة بالزي المدني، أفزع هذا التصرف أمي، فطمأنوها أنه بأمر من النيابة التي طلبت بتحاليل خاصة، وهذا شيء طبيعي يحصل من حين إلى حين، هالها الأمر ودخلت في دوامة جعلتها تكرهني أكثر فأكثر...
    - ولما جاء أبي أخبرته فطلب توضيحات فقالوا له أن هناك وباء وأرادوا أن يتأكدوا من سلامتي، وقد كانت التحاليل سليمة، باركوا له وخرجنا من مصلحة الأمومة إلى بيت جدي، وجدته قد بعث لي بأجمل الهدايا، ومبلغا من المال إلى أمي، فزاد تصرفه في خلط أوراق الجميع، و وضع أمي محل شبهة، فاعتزلها الجميع، وزاد كرهها ومقتها لي، ومنذ ذلك اليوم تكفلت بي الجدة وهجرتني أمي وذهبت إلى بيت زوجها، لا تأتي إلي إلا مرة واحدة في الأسبوع رغم معارضة أبي...
    - الجميع كانوا ينتظرون تنفيذ الأمر بالإخلاء، ومرت المدة ولم يتقدم أحد، وزادت حيرتهم، وعاد الأب إلى البيت تصحبه ممرضة، أعطاها تعليمات صارمة، فكانت تقوم بمهمتها في حدود النطاق الذي كلفت به، مبرمجة، لا تكلم أحدا، امرأة شابة، سوداء، أنيقة، ممشوقة القد، ببنية قوية، لطيفة معه ولينة، تتكلم الفرنسية بطلاقة ونطق سليم، أسالت لعاب الفيلسوف.
    وحتى يبدد حيرتهم أخبرهم بأنه استأجر المسكن من شاريه لمدة ثلاثة أشهر، فلزم كل واحد حده، يتابعون من بعيد تحركاته، تحسنت صحته شيئا ما، وكأنه يمتثل إلى الشفاء، فاستعاد هيبته وفرض وجوده، يمرون عليه كل صباح وكل مساء يشترون محبته ورضاه، فيبتسم...
    تعبت كثيرا في هذا اليوم، خرجت متأخرة من العمل، نظرت يمينا ثم شمالا، لعله يمازحها، وقفت وهي تبتسم تنتظره أن يظهر لها فجأة كعادته، بقيت أكثر من ربع ساعة، لا أحد، فعادت إلى البيت من نفس الطريق، وصلت، دخلت، نادته، لم يجبها أحد، ذهبت إلى غرفة النوم فوجدت الدولاب مفتوحا، وقد أخذ ملابسه وحاجياته، لم تصدق وظنت أنه مجرد مقلب، فتشت البيت كله، لم يترك أي شيء يخصه، عادت إلى غرفة النوم، وعلى الطاولة كانت ورقة مكتوب عليها " أنت طالق، وداعا "، فجلست تقلب الورقة، حاولت الاتصال به، نقاله خارج مجال التغطية... فقالت:
    - طريق السد تأخذ ولا ترد... كفى.. كفى !... كفى.. لماذا أنا فقط ؟؟ لماذا ؟.. يا حظ ماذا فعلت للقضاء والقدر ؟!! نقرت الهاتف فإذا بالجدة ترد بكل حنو:
    - طاب مساؤك يا حبيبتي، كيف حالك !.. ما بك؟.. تكلمي ! .. مابك ؟ قطعتي قلبي تكلمي..
    - لقد ذهب يا جدتي، ذهب، أخذ كل حاجياته و رحل..
    - مجنون، والله مجنون، انتظريني أنا قادمة، لا تخرجي ولا تخبري أحدا
    وما هي إلا نصف ساعة حتى رن جرس الباب، فتحت ودخلت الجدة تحمل الطفل، وضعته على الأريكة، عانقتها، تحضنها بكل قوة، وبلل الدمع صدر العجوز من جديد، وهي تداعب خصلات حفيدتها وتنظر إلى السماء... أجلستها في الصالون، مسحت دموعها بكفها، ورسمت بسمة حنان وتجلد على ثغرها، تهون عليها لأن الحدث في نظرها لا يستحق كل هذا التهويل، دون أن تمنعها من البكاء، وهي التي تقول أن دموع المرأة أرحم من الغيث، لأنها تغسل قلبها من الشر، بعكس المرأة التي لا تبكي، إنها شر الخلق، قاسية القلب مثل أمها، لا تظن أنها بكت مرة واحدة في حياتها...
    كانت تلك أتعس ليلة في حياتها، وأدركت أن ذلك الرجل كان يعيش معها شبح صورة لامرأة ماتت ولا تزال في ذاته حية تسعى، ولعله استيقظ واستيقن وعرف الحقيقة فرحل، رجل كانت هي مجرد كذبة تصورها وصدقها إلى حين، رجل مسكون بحب طيف لا يؤمن بالنهايات، وحز في نفسها أنها كانت مجرد أيقونة على خشبة مسرح راويه امرأة من صنع الخيال،
    حز في نفسها أنها كانت مجرد كلمات تأبين، مجرد رثاء، مجرد أغنية عزف الجنون لحنها على شواهد القبور لرجل متيم بحب امرأة من رميم... كانت أمامه امرأة عائدة من ما وراء العقل والظنون، من وراء الموت واليقين.. ألهذا كان يجن جنونه عندما يراها تلبس البياض، لا زالت تذكر كيف كان يداعبها، كأنه الساحر عندما ينفخ من خياله في طيف امرأة الأساطير وحكايا الرواحين، كان يحملها دائما إلى عالم تحطم فيه الأجساد قيود العقل والنقل، وتتنصل من رشدها وترتدي هواها وتتبع غواية المجانين.. هكذا كانت،
    استيقظت ووجدت نفسها عاشت حلما من هواجس اللا عقل الكاذبة، صدقت أنها كانت من وحي ما وراء السعادة في عالم الحالمين... ألهذا الحد كانت ساذجة؟؟... وهاجمتها الشكوك، هناك حلقة مفقودة في تخمينها، مرسوم في مكانها علامة استفهام يختفي وراءها سؤال الحيرة...
    تتساءل هل هي الحقيقة التي تنتقم ممن يريد اغتيالها؟ ومن يدري !؟
    عادت بها الجدة إلى بيت أبيها، في تلك الليلة أشتد عليه المرض، و سمعه الفيلسوف يئن و يسعل ، فدخل عليه ، وجده قد سقط من فوق سريره، يحاول عبثا أن يعود إليه، فأعاده و ناوله دواءه، و جلس عند رأسه ينتظر، و لما رآه استقر قليلا، سأله على ما ينوي، و قد اقترب أجل الإخلاء، و بلغه أنهم جميعا في حيرة كبيرة، فثارت ثائرته، و قبح فعلته هذه، لأنها كما قال استعجال لموته.
    _ لا تستعجلوا موتي، واتركوني أموت هنا، و سأجمعكم في آخر الأسبوع لأطلعكم على ما أنوي فعله، حتى ينشغل كل بنفسه ، و تتركوني أموت بهدوء.
    فهم الجميع أن الأب سيجمعهم من أجل الوصية،فتنفسوا الصعداء، و حل الحلم و الأمل مكان الخوف و اليأس و القنوط، تفاءل الجميع خيرا، و بدأت رحلة التفكير في مستقبل كله طموح،كل يعزف على الوتر الذي يطربه، و كثرت الدندنات، واتفق الفيلسوف مع عمه على العيش عنده، و إنشاء شركة يديرها و يترك التعليم، فعجلت زوجته باقتراح مشروع جريدة تنطق باسمه، واستقدمته للإقامة معهم، فحمل أمتعته واستقر عند عمه نهائيا، في غرفة جميلة،مجهزة بأحدث الأثاث، بجانب غرفتها في مسكنهم الجديد. و طابت نفسه لما وجده من أنس في قربها، و عوضته عن ما بدر منها تلك الليلة من سوء تصرفها معه، وأقنعت زوجها بضرورة وجوده معهم بمشروع أو بدونه لأسباب تراها كثيرة و متعددة، منها سفره الكثير في مهمات مختلفة ، و للنساء كما يول المثل كيد العارفين بالشيطان ، كما للصالحين فراسة العارفين بالله.
    لم تكن تتوقع أن نهاية هذا المسلسل يجمع لها فيها القدر خمسة عشر مليون دينار و أرنبين في كيس واحد،إنها فرصة العمر الذي ضاع منها، تنظر إلى الحياة تبتسم لحظ لا يزال كل يوم يتزين من جديد، الحلقة الوحيدة التي لا تزال مفقودة لاستكمال المشهد هي الأشرطة، و تبقى اللعبة، لعبة شطرنج مفتوحة كل الوقت، و الأدهى هو الذي يكسب الرهان في الأخير...
    خرجت الأم من غيبوبتها، وأتوا بها إلى البيت، مشلولة كما قال الطبيب، على كرسي متحرك،مهزومة عشش فيها اليأس و القنوط، تدفعه الأرملة في صمت المختنق من الغيظ، ساعدتها على الصعود فوق السرير، مدت رجليها، و فاض دمع المذلة لأول مرة على خدها غزيرا، و ماذا يفعل مثلها لما تخونه كل الحيل ، و يدبر زمن العز الغموس تاركا للهوان سلطانه و صولجانه.
    أخبرتها بكل ما جرى في غيابها، و أنها اتفقت مع أختها الصغرى لفتح مرقص أو ملهى ليلي، و أن الصغرى قد اكتسبت مهارات في الرقص رهيبة جدا، وخاصة رقصة الأمازونيات ، رقصة جديدة لا يعرفها سواها ، مع ما لها من جسد مغر و ساحر، ستخلب عقول الجميع، و سيذري عليهم هذا العمل أموالا باهظة، لتحقيق كل الأحلام...فباركت الأم المشروع ، و بدأ ترسم على جدارية هذا الحلم أزهار الأمل من جديد...
    تتدهور صحة الأب حتى يشرف على الموت ، ثم يستعيد عافيته، و مر الأسبوع و هو غير مبال بهم، و بيومين قبل الإخلاء، اجتمعوا و ذهبوا إليه، وحده كان يعاني ، في حالة يرثى لها، وظهر على وجه الممرضة اليأس، تنظر إليهم كأنهم وحوش مجردة من الرحمة،هي وحدها التي تعرف كما يعرف هو أنه يعيش آخر اللحظات، تأثرت، فاستأذنت و خرجت. و عرف مقاصدهم، عرف أنهم بنوا قصور الطمع بالأحلام الواهية، فهز كتفه و قال لهم بأضعف نبرة و أوهن جرأة:
    _ لقد حولت كل أموالي و ممتلكاتي إلى جمعية خيرية، واستودعتهم مصاريف جنازتي ، ليس لكم عندي شيء، هيا تفرقوا كل واحد إلى شأنه، أما أنا فقد استأجرت حجرة في نزل أنتظر فيها نهايتي .
    نزلت هذه الكلمات كالصاعقة على الجميع ، و فقدوا التحكم في أعصابهم، سبوه..عيروه..وهو يبتسم ، فتقدمت ابنته و هي تحمل ابنها على ساعدها ، فمد يده ليقبله، فأبعدته ، و بصقت في وجهه، فبكى ...و فاضت روحه
    ولما أرادوا أن يغسلوه وجدوا في جيبه مبلغا من المال ورسالة يأمرهم بإبلاغ المحامي الذي كلفه بتنفيذ الوصية فور موته، واستعمال المال الذي في الظرف لمصاريف جنازته، وبدأ ينظر بعضهم إلى بعض، وسلبت الحيرة عقولهم، وتمزقت قلوبهم حسرة وندما على إساءتهم لأبيهم في آخر لحظة من عمره، مات وهو يتجرع دموع الذل والهوان، مات تحت وابل الإهانات والشتم وأبشع أنواع العقوق، مات وبصاق ابنته على وجهه، وعظمت في نفوسهم بشاعة ما فعلوا، وصعد نداء الفطرة الذي أيقظ الضمائر الميتة، استصغروا أنفسهم واستعظموه، ثلاثة أيام مضت ولا يزال الجميع تحت الصدمة، وأخيرا جاء المحامي، جمعهم في الصالون، إنه ابن القاضي الذي كانت تعمل تحت إشرافه أختهم، غريب ! يا للصدف ! وفتح الغلاف المختوم فيه ورقة رسمية مكتوب عليها " أوصي بجميع أموالي وممتلكاتي لحفيدي فلان من ابنتي فلانة"
    هكذا جاءت الفاجعة، ضربة قاضية أخرى أكثر من أختها، فحملته أمه وهربت به خوفا من انتقامهم، وانصرف المحامي ليقوم بالإجراءات اللازمة لتحويل الأموال والممتلكات إلى وارثها الشرعي... كان العقاب أفظع وأشد بأسا وإهانة
    وجد الجميع أنفسهم في العراء، أخبرتهم الممرضة بأنه كان على علم بقرب أجله، بل عاش أكثر مما توقعه طبيبه، فزاد حقدهم و كرههم له، أما ابنته ضاق عليه الفضاء، و حتى الدمع شنقته الحسرة و لم ترحمها، يتمزق داخلها بمخالب و أنياب الندم، تستعيد صورة الخزي و العار التي مات عليها أبوها، و بصاقها على وجهه و هو يحتضر، و من يغفر لها ذلك، تبحث عن أي شيء تكفر به عن ذنبها، حتى تمنت لو أن لعنته تطاردها حتى الهلاك. الجدة غاضبة من فعلتها، جالسة و في حجرها الطفل، و يدها على فمها في صمت موكب جنائزي...
    يجب أن تفعل في أي شيء انتقاما لأبيها من نفسها ، و بدأ الجنون يحل محل التعقل، ستختنق إن لم تفعل شيئا، كانت أشدهم مقتا لأبيها ، و بغضا و كرها، كم آلمها لما عرفت لماذا كان يضحك ؟ و لما بصقت في وجهه بكى و مات ، عرفت لمن كان يبتسم و هو ينظر إليها وهي تحمل ولدها في ذراعها ..و أصرت صورة مهانتها لأبيها الوقوف أمام عينيها ، تتحدى تهربها خلف أي سبب، تحاكم جرأتها، عجزت أن تواجه أسف و أسى تهورها، وانهارت أمام فظاعة قسوتها ، و جشاعة المال التي سكنت نفسها المريضة، تريد أن تترسخ فيها هذه الصورة إلى الأبد، وتتحول إلى كابوس يطاردها على امتداد العمر كله، حتى تعترف أنها كانت هي سبب موت أبيها ، أما إخوتها فحملوا كل ما جرى على أنه مجرد مسرحية رتبت فصولها بليل، يبحث الجميع عبثا عن إجراء يستعيدون به أموال أبيهم التي كتبها كما قالوا باسم لقيط، شيء لا يصدق ، شيء لم يكن أن يتوقعه أي أحد، من أغرب الغرائب، تلك هي الكلمات التي تتداول على الألسنة كلما أثاروا الحديث عن بسمة و بكاء أبيهم في الاحتضار ، يقول الفيلسوف دائما ...ما أهونك يا أبي بقسوتك و أنت تموت تحت لعنة أولادك و على وجهك بصاق ابنتك ...

    كانت الساعة تشير إلى العاشرة و النصف لما رن جرس التليفون، رفعت السماعة.
    - نعم، مرحبا سيدي الرئيس ...حاضر.
    غريب، منذ مدة طويلة لم يطلبها القاضي، منذ حولت إلى هذا القسم ، حملت المرآة ، نظرة استطلاعية على هيئتها ،كحل العينين، أحمر الشفاه، تسريحة الشعر، بسرعة خللته بأناملها ، هزت رأسها يمينا و شمالا، استوى، و ذهبت، كانت فاتنة... دقت على الباب ، استأذنت و دخلت.
    - أجلسي...أنت مستغربة ؟..، شيء طبيعي .
    كانت ابتسامته متكلفة ، وراءها نوع من التشفي الممزوج بالتحذير. هزت رأسها و كتفيها، وابتسمت بتحفظ، تحاول إخفاء حيرتها ...
    - استمعي إلي جيدا، الموضوع شائك جدا، و مسؤوليتك كبيرة، وأنت متورطة في قضية خطيرة جدا، يستحيل أن تفعليها اعتباطا أو عن جهل أو بغير قصد، أنت أعرف بخبايا النساء و أعرف بخبايا القانون، أعرف ماذا تدبر امرأة مثلك عندما تقدم على فعلة كهذه... سيصلك استدعاء من طرف الشرطة القضائية للامتثال أمام وكيل الجمهورية، و الأدلة كلها ضدك، و الحقيقة في ملفك لا غبار عليها
    أخف حكم عليها السجن النافذ، هذا إذا لم تظهر نوايا خلفية أخرى، وكان دفاعك خبيرا و عارفا بخبايا القانون... ،القاضي يعرفه الجميع، من أقسى القضاة، و تعرفي الصرامة في أحكامه، لا يرحم في القضايا التي تثبت إدانة أصحابها بقصد...طلبتك لأخبرك حتى أجنبك المفاجأة..
    كان هو يتكلم و هي تستمع و تنتظر ماذا لفق لها ؟ ولماذا ؟ وهي التي جنبته الكثير من المتاعب، و لم تذكر اسمه رغم شكها في أن الولد منه، ولا يمكن لها الآن أن تتهمه و قد سجل الطفل باسم زوجها و انتهى الأمر، و لماذا هذا القاضي يطاردها وهو لا يريدها، بعد كل هذا ماذا يريد منها ؟.. أعطته كل شيء ، ذاتها ، شبابها ، جسدها، الزمن الجميل من عمرها، دنس شرفها و خذلها ... كل هذا مقابل منصب عمل..و ضاعت منها كيفية صياغة سؤال يروي ظمأها و يفرغه من محتواه ، تنتظره أن يفصح،
    كان هو قد أدرك أنه بهتها،فأطال الحديث عن خطورة القضية و عواقبها، و عقوبتها و آثارها، و أنها جريمة شنيعة في حق الإنسانية ، الجميع متفق على بشاعتها، و دناءة مرتكبيها، و أن القانون لا يتسامح في مثل هذا النوع من الجرائم، و أنه دائما يضرب بيد من حديد، و أن الجلسة ستكون مغلقة حفاظا على سمعة و كرامة الضحية و.. و..و
    - أفصح ..أفصح ..يكفي ..يكفي..اقطع رأسي وارحمني ..
    - احترمي نفسك .. و بدون تهور، أنت أمام القاضي، فلا ترغميني أن أعطي أوامر بالقبض عليك الآن، وإيداعك السجن على ذمة التحقيق..أنت قمت بجريمة تحرمها كل القوانين والشرائع السماوية و الأرضية ..
    و زاد استغرابها أكثر فأكثر ، واختلطت عليها الافتراضات، و بقدر ما اقترب من صلب الموضوع، بقدر ما ابتعدت عن صميمه، و ضاعت في متاهات لا حد لها، و هي التي تعرف مقالب ظلم المحاكم التي يمكن أن تتعرض لها، تتساءل كيف عرف أني بصقت في وجه أبي ؟! و ربما كنت أنا السبب في موته حسرة، هل يمكن لإخوتي أن يبلغوا عني لتجريدي من حقي في ابني من الوصية ؟
    هم قادرون على ذلك، و بدأ هذا الشك يتحول بمبرراته يقينا ، ورأت أنه إذا كانت هذه الحقيقة التي يقصدها، فهي حقيقة تستحق أكثر من هذه العقوبة، ربما أخذت السماء حقها، و هو تخفيف من عذاب الضمير ...و أعطى القاضي للصمت حقه، وتركها تجتر تفاعلات الشكوك، ولما رآها بدأت تستقر بالرضا على القضاء قال :
    -الموضوع يخص ابني الذي سجلتيه باسم خليلك الذي كنت تخونيني معه، و بعد التحاليل تبين أنه من لحمي و دمي، الوثائق كلها في ملف العدالة، لن أغفرها لك، سأجعلك تتجرعين مرارة التزوير بغصة الندم القاتل ، دنيئة أنت إلى هذا الحد؟.. أعمتك جشاعة الطمع في الميراث إلى حد التلاعب بهوية براءة الأطفال، ماذا كنت تنوي فعله أنت و عشيقك بأموال ابني التي ورثها من جده ؟.. ستدفعين الثمن غاليا، لقد تم إثبات زواجي بك بحضور الشهود، نسخة من العقد في الملف... هيا تفضلي وسنلتقي في الجلسة... هيا.. تفضلي، وأنت موقوفة عن العمل، في انتظار الحكم.
    قامت، وقد شلت ذاكرتها، وضاع صوابها، تجر ذيل الفاجعة، أغلقت باب مكتبها ووقفت دونه، إنها تختنق، تحاول أن تتنفس الصعداء بصعوبة، امتلأ صدرها، وتكدس الضغط، اشتدت نبضات رأسها وتراخت وتيرتها، كأنها تصعد في السماء، حملت سفطها وخرجت تجري، أوقفت أول تاكسي، في بيتها كانت الجدة لا تزال بغيظها تجتر بصعوبة تصرف حفيدتها وتنتظر انتقام السماء وتتمنى أن لا تأتي الضربة موجعة، ولما رأتها أسرعت إليها وقالت:
    - ما وراءك؟ أخشى عليك من لعنة أبيك
    - موجعة يا جدتي، موجعة، لقد خسرت كل شيء، أبي، ابني والميراث، وخسرت حتى نفسي.. سأموت يا جدتي، سأموت..
    ودخلت الجدة معها في دوامة لا تعرف بدايتها ولا نهايتها، لا تريد أن تسأل خوفا من بشاعة الجواب، كانت تعرف أن ضربة السماء ستكون القاضية... لأول مرة لم تحضنها ولم تعرف لماذا، أمسكتها من يدها وأجلستها..
    - تجلدي يا بنيتي، ليس لك إلا الصبر، ماذا حصل ؟
    - غريبة يا جدتي، بل أغرب من الخيال.. أشياء لا أكاد أصدقها ولا نراها إلا في الأفلام، تحاليل تلك الليلة في مصلحة الأمومة كانت بأمر من النيابة بعد شكوى قدمها القاضي ضدي، وقد اتهم زوجي بالتزوير وخيره بين توريطه في القضية أو يطلقني، وقد فعل بعد أن أخبره بكل التفاصيل وأثبت له ذلك بالتحاليل، أشياء كثيرة ركبها هذا الشيطان بإحكام واستغل نفوذه وتعسف سلطته، أنا الآن تحت رحمته و طائلة القانون، قبضني قبضة شديدة ، لقد خسرت كل شيء حتى وظيفتي
    نعم يا جدتي إنه القاضي الذي أحبني عندما أراد، وتنصل مني لما أراد، واغتالني لما أراد، كل هذا بنفس القانون الذي يحمله ضميره الميت، سيجردني من كل شيء، يدخلني السجن، ويأخذ ابني، ويستحوذ على الميراث، ولا أدري ماذا بعد... ربما يتهمني بقتل أبي.
    وجاء أجل الإخلاء، فدخل الفيلسوف على أمه، قبلها على جبينها ثم قال:
    - أمي العزيزة، أنا أعرف أنه مهما كنت، لن تكوني أرحم ولا أحسن من زوجك، هكذا أنت مثله ممكن أفظع وأشر، ما كان يهمك إلا نفسك، ولهذا ما أخذنا منك شيئا بالأمس نرده إليك اليوم...
    وداعا...
    وكانت كلمة فرضت عليها ظروفها أن تستمع إليها لأول مرة في حياتها وتنصت ولا تقول شيئا... قالها بكل جرأة، ترك الباب مفتوحا وخرج، ذهب عند عمه فارغ اليدين لا يعرف كيف تكون ردة فعله، رغم حرص زوجته على بقائه معهم، يبقى الجشع فيهم مفسدة الكثير من الأشياء، وهو الذي تعلق بزوجة عمه وبادلته المشاعر الملتهبة، لا يريد أن يخسر صفقة غرام مجانية وثمينة كهذه، يفكر كيف يتصرف لفرض وجوده في هذه الأسرة، فاعتمد عليها واستطاعت بمكرها ودهائها أن تؤثر في زوجها حتى جعلته يتخذه ولدا، فاستقر عنده يظهر له الولاء ويدس له الوباء، وكأن عمه في غيبوبة، يتساءل أحيانا، أيمكن لهذه المرأة اللعوب أن تخدع رجلا جانبه ذئب والجانب الآخر ثعلب؟ سؤال لا تجيب عنه إلا الأيام... بمقارنة أمه مع أبيه ينظر إليها تلميذة رغم تفوقها ظاهريا...
    واستأجرت الأم شقة في حي شعبي ولزمت السرير، مع تقدمها في السن أصاب منها المرض غرضه بسرعة، وظهرت آثار الزمن التي كانت تختفي وراء المساحيق، ارتخت الحيوية التي كانت تزين حركات الإغراء في جسد غرر بصاحبته، وظهرت الترهلات تتحدى ما كان يتبجح به اللسان، أصاب الوهن كل شيء، وحدها بقيت العين بصيرة...
    كانت الغرفة ضيقة جدا، بنافذة صغيرة، تطل على ساحة جرداء، فيها بعض الشجيرات اليابسة، وكشك فيه شيخ هرم، يبيع الحلويات للأطفال، والأعشاب والتوابل للعجائز...في غياب الأطفال إلى المدارس تشعر بسكون الموت، وعند خروجهم كأنها سوق الشياطين، دولاب جميل لم يتسع لفساتينها وبذلاتها وملابسها وأحذيتها التي كانت تقتنها بتميز ورقة نادرة، لا تزال تحمل ذكريات مغامراتها الأنثوية الجريئة، لكل فستان حكاية لقاء، تستعيدها على وشوشة المكيف الأنيس الوحيد الذي لا يزال وفيا لها، لا تجد أحيانا حتى من يناولها الدواء، ويعتقها بشربة ماء، وتناساها الأحباب والأصحاب والأهل والأولاد، والحياة بدونها لم تتوقف كما كانت تظن، لا زالت مستمرة بنفس الوتيرة أو أفضل، هي وحدها التي سقطت... وبدأت تفكر بالذهاب إلى مركز ما، لعلها تجد رفقة تبدد معها غشاء الصمت الذي يحيط بها، وحدها الأرملة تدخل في آخر الليل تتفقدها وهي في حالة يرثى لها، فكرت في الانتحار عدة مرات، وخانتها الشجاعة، ما كانت تظن أنها جبانة إلى هذا الحد، واجهت الجميع وعجزت عن مواجهة الموت، لأنه كما تقول، النهاية التي لا تعترف بالأمل ...
    أشياء كثيرة كانت تحلم بها لتخلد بها جمال ما وراء العقل، وحال دونها القضاء لما هدم جسر الوصل الذي شيدته الأمنيات، لم تندم، وهي مصرة على ذلك، ينبعث دائما من عمقها صوت المغنية الفرنسية الهالكة " إديت بياف"، لا أندم على شيء....بصوتها ونبرتها المارسيلية، يتحدى يقظة ضميرها كلما هزه منطق سليم، تنظر إلى الأرملة كيف تبتذل الأنوثة وتباع في سوق النخاسة بأبخس ثمن، ترى فيها عزها المهدور، وترى فيها كيف تداس الكرامة بأرجل الإهانة، عندما تفقد المرأة الطموح وتكتفي بفتات الرجال وتلبس رداء الاستكانة ، وتنسى حقيقة مبررات الوجود، لا تؤمن بالتكامل، ولا تزال مصرة على أن شموخ المرأة لا يكتسب ولا يلقن، بل هو جريحة في الذات الأنثوية، يولد معها، يشتد ساقه كلما اشتد ساقها، وهو مرهون بعنادها وتحديها لكل القيم والأعراف التي تريد أن تبتذلها، وعلى المرأة أن تكون سلطة متسلطة، لأن بدونها لا وجود للوجود، لا يجب أن ترضى بأقل من هذا، تنظر إلى نفسها كذلك الغصن الذي تأكله النار يتحول شيئا فشيئا إلى رماد تذروه الرياح ولن يذكرها أحد، فقط لأنها كانت في نظرهم مجرد امرأة عاشت لنفسها...
    وبعد ، فليأتي الطوفان ...
    الفرق كبير بينها و بين الأرملة التي تعيش لغيرها، هي التي بلغت ما بلغت بجموحها و أنانيتها و عزة عفرت أنوف الرجال من أجل ابتسامة ، و ما الأرملة إلا تلك الشابة اليافعة كذبا،لا تشبه أحدا بمراسها المتقلب، لا تستقر على شيء، و لا تتميز بشيء، تكذب كما تتنفس، مهلهلة الشخصية، لا تقف عند حد و لأي وجهة تساق، لا تهمها العواقب، وجدت فارغة فبرمجت على جميع المقاسات ، ما كانت تظهر لها مسكينة و تافهة إلى هذا الحد، رغم أنها كانت أقرب الناس إليها ...تسألها بفضول دائما عن أختها الصغرى التي اختفت في الأسبوع الأول الذي تنقلوا فيه إلى هذه الشقة،هتفت لأمها مرة واحدة تطلب منها أن لا تسأل عنها، و أنها وجدت ما كنت تطمح إليه لبناء مستقبلها و لا تحتاج لأي مساعدة، كانت تلك مكالمة الوداع ، و في هذه الليلة عادت الأرملة باكرا،قبل منتصف الليل، وجدتها لا تزال مستيقظة تتابع شريط يروي حياة ممثلها الفرنسي المفضل ألآن ديلون.. قبلتها على الخد و جلست بجانبها، على وجهها ملامح خبر جديد بغيرة قاتلة وحسد يتقاطر...
    -عندي لك خبر
    -بعد الشريط
    - عن ابنتك العزيزة الصغرى
    - بعد الشريط ، أرجوك ، هذا الممثل لا يزال إمضاؤه على منديلي،أحتفظ به حتى أموت ، التقيت به في ليلة جميلة من ليالي الأوبرات في باريس .
    - لهذا أهملك الجميع، لا تهمك إلا نفسك.
    لم تبالي بها ، و كأنها لم تسمعها، كانت في اتصال مباشر مع الماضي، وانطبق عليها المثال القائل ..عندما يبلغ بنا الجوع حده نتذكر ليلة زفافنا ..
    انتهى الشريط و بدأت تحكي عن أفلام هذا الممثل ، و بعض الأحداث في حياته التي أسقطها الشريط ...
    -وجدت أختك ؟
    - تصوري كيف وجدتها
    - بائسة و شريدة بالطبع
    - لقد أضحت من نجوم الملاهي و المراقص، و الكبريهات، إنها تلعب بالأموال لعب ،لما رأيتها ما صدقت أنها هي .
    - أين ؟
    - في مرقص الأمازونية، باسمها سماه صاحبه، إنها أفضل من الوزير عنده.
    - راقصة؟؟؟..
    - نعم راقصة، كما كانت تحلم، إنها الراقصة الأمازونية، ذهبت أبحث عن عمل، استقبلني صاحب المرقص و تنكرت لي هي ، فقط لأنه قال لها مازحا، إذا كانت هذه أختك فهي أجمل منك..
    - حقيقة في الوجه أنت أجمل منها، و هي أروع ما صنعت أنامل الخلق في الجسد،كانت ساحرة ، بنتي و كنت أحسدها .
    - حقيقة عندما ترقص يتخدر الجميع، ما آمنت أن هناك من يعبد أجساد النساء، حتى رأيتهم في أختي ..
    - هل سألتك عني ؟
    - أنا أقول لك تنكرت لي، و أنت تسألي إن سألت عنك ! قالت له ..أعرفها و لكن ليست أختي، وظفها إن شئت على حسابك...وانصرفت ، فوظفني على شروطه ، و أوزع المشروبات قبل العرض و بعده في زي أمازونية، حركاتي تتطلب بعض التمارين لمدة أسبوع فقط،و أباشر العمل في القاعة بما يعادل ألف دينار في الليلة.. ما رأيك ؟
    - ما عاد يهمني شيئا الآن،لك أن تعيشي حياتك كما تريدين،فقط لا تلومي على أحد، افعلي مثلي ، مثل الفرنسيات ، بعد سن معين ينتزعن حريتهن، و ينفصلن ، لا سلطة لأحد عليهن، أنا سأنتقل إلى مركز اجتماعي حيث أقضي ما بقي من عمري ، ربما أجد هناك رجلا بائسا، يحتاج إلى من يؤنسه، فيؤنسني، وإذا شفيت سيكون لي شأنا آخر،سأعيد مجدي بيدي و لن أحتاج رحمة أحد، سأحرق قبره ولو بإعدامي ..
    - أنت في المركز ؟..غريب أمرك..
    - لا أريد أن أبقى عالة على أحد، لي في منحة تقاعدي ما يغطي جميع مصاريف التكفل بي و يبقى، و لا يأس من الشفاء أبدا، سأقاوم هذه الصدمة إلى آخر نفسي ما دمت لا أستطيع أن أضع حدا لحياتي ، لن أضعف، و لن أموت الموتة التي أرادها لي هو،سأقاومه و هو في القبر، و أبرهن له بأني أجدر منه بالحياة...سترين.
    كانت تستمع إليها بكل ما تملك من قوة الإدراك ، و هي تعرف أن أمها بدأت تنهار، و بدأ العد التنازلي لوصول نهايتها، هي تعرفها جيدا،سخطها على حالها في عينيها،و على زوجها أشد، و ما هذا الكلم إلا ستار الانهزام و فظاعة طويتها ...و ساءتها نهاية أمها البائسة، لقد فقدت كل الأشياء التي كانت تصنع عزتها، و لم يشفع لها لسانها الفرنسي الفصيح عند أي أحد عندما جردتها سنن الحياة من كل ما كان يميزها في هذه الذات التي أتعبتها الأنانية و شوهها الانبطاح ، و من يصدقها أن الفرنسيات خلقن بدون كبد رطب...بدأت جذور شعرها تظهر بيضاء لما نمت، وانكشفت تجاعيد الوجه التي كانت تخفيها المساحيق الباريسية ، و غارت العيون،و ظهرت عظام الترقوة مثل القوس،وازدادت أطرافها طولا لما فقدت لحمها و شحمها ، و بدت أظافرها كمخالب دجاجة عقور، وتدلى ضرعها، وهجر الجمال أوكار جسدها ، فقط بعض آثاره كالأطلال لا زالت تشهد أن الخصوبة مرت من هنا ..
    غطتها باللحاف، قبلت جبينها ،أطفأت المصباح، و ذهبت إلى غرفتها و بكت، بكت بكاء مرا...و في الصباح كانت تلك الكلمات قد تحولت إلي رماد، وخمدت نار الشجون، و بدأ اليوم الجديد يصنع بطموحاته في البعض و خيباته في البعض الآخر عجائب الزمن الذي أنجبه...
    و هكذا ، كما أنجبت هي ذلك الفيلسوف ، الابن الذي لا يؤمن بالنسب، مثله مثل ابن الغرب الذي يؤسس دائما لقتل الأب و الأصل في طموحاته ، و لا يربطه بالماضي إلا الملموس ، يشتري اللذة بأغلى ما بيده من مثل...لما استيقظت هذا الصباح تذكرت ما قال لها يوما فضحكت..قال لها..لست أنا المسئول عن وجودي و لا وجودك، و ما كنت إلا قشور متعتك بالطريقة الفرنسية و عفو رغبتك...فابتسمت من جديد و هزت رأسها ، و صعد صوت المغنية الفرنسية إيديت بياف من عمقها يتحدى بمقطعها ...rien de rien ..je ne regrette rien.في حين كان هو ينسج شباك العنكبوت لامرأة مثلها أو تكاد تكون، تحت رجل...

    صفقتين بحجر واحد ، جميل جدا،لا يكاد يصدق أنه بلغ هذه الدرجة من نضج الدهاء و المكر، بهذه المسكنة المفتعلة تأكد أنه يستطيع الآن أن يدخل أي مغامرة، و يراوغ مثل عمه أو أكثر أي ثعلب في الوجود، يقال أن الثعبان لا يلد إلا من هو أطول منه، واثق من نفسه و مطمئن على النتائج التي سيحققها، هي لعبة يجاري فيها عمه خلف ستار، طواعية من عمه و براعة منه، و بدأت المرحلة الحاسمة يصارع الدهاء خلف الظنون، و في كواليس المقاصد الخبيثة، إنه السباق لضبط الأرقام و الحسابات قبل فوات الأوان،و بدت أطراف الخيوط كلها بيده، هكذا يظن، بل متأكد، لا يزال يوجه و يتحكم في ترتيب أدوار المسرحية و تحريك الشخوص نحو الاتجاه الذي يريده لنهاية العرض، و هو يعرف أن بدونه يتوقف كل شيء ...فقرع الطبول.
    – ألو...أين أنت ؟...انتظريني ...خلاص ، أنا قادم ...
    خرجت من الندوة واتجهت إلي مباشرة إلى مقهى الحديقة، تنتظره على أحر من الجمر ، فها هو ذا قادم من بعيد يبتسم، يد في جيبه و الأخرى تحمل بين أناملها لفافة ، يمشي مطمئن كأنه في نزهة، أعجبت به و قامت تستقبله، جلس و جلست أمامه، الكل ما فيها يسأله ...
    -خلاص يا سيدتي، إنهم بحوزتي و في مكان آمن لن يصل إليهم أحد.
    -أنت متأكد، لآ أصدق، كيف فعلت؟..لا أكاد أصدق..
    -ها هي ذي صورتهم في النقال
    - كم عددهم؟
    -ثلاثة و عشرون شريطا.
    - أنت متأكد أنه لا يملك نسخ أخرى ؟.
    -أكثر من متأكد، ستصيبه سكتة قلبية، أرجوك بلغيه بهدوء.
    ضحكت حتى بانت نواجذها ، و ضحك هو بشفتيه، و دارت في عينيها الفكرة الشيطانية من جديد، حتى الآن هي وحدها التي بيدها خيوط اللعبة كلها...
    -هيا، اهتفي له، أخبريه، أريده أن يعيش الفاجعة الآن، و يبدأ عد سقوطه تنازليا.
    -لآ...لا..لا..اتركني أتصرف الآن، عندي معه حساب طويل، يجب أن أشويه على نار هادئة، سأجعله يتجرع الويل، سأشعره بالخوف و القلق و الرعب، و يعيش على أعصاب تشتد حتى تكاد تتقطع، لن تذوق جفونه النوم، سأعذبه، سأنتقم منه شر انتقام، لن أتركه يستريح بعد اليوم أبدا حتى ترتاح منه الحسرات .
    تستعيد في وجم شريط أيام مرت من عمرها في عبودية نخاس اغتال فيها أنفاسها ، حركاتها، سكناتها، سجن ضميرها في بؤر أوامره ونواهيه، جردها من كل كرامة إنسانية...كانت تحت وطأة الحسرة في هذه اللحظات أشد عليها من جلد السياط...حولها إلى سادية في أوكار الرذيلة و الحيوانية التي تحكمها الغريزة، و فقدت كل شيء ..و صعدت من عمقها نداءات الغيث التي كانت مقيدة بسطوته و تسلطه و جبروته، بدأت تستعيد أنفاسها و تطلب الثأر،تحاول أن تبرر لنفسها أنها كانت أضحية فقدت روح التضحية من أجل بقائها على الأقل بملامح إنسان،كم كان الزمن طويلا و ثقيلا في اضطهادها، و كم كان سريعا في انقضاء العمر، رغم كل هذا تنظر إلى نفسها أنها صارعت كثيرا للحفاظ على الشغف بالشباب لبناء أمل كان ضالتها كل هذه المدة..
    و عرف هو الشيء الذي جعلها تلتزم هذا الصمت الموبوء بماضيها، يرد ابتسامته الساخرة بيقينه أنها تعيش مجرد حلم سيؤول إلى ما لا تتوقعه عندما تستيقظ، و لكن أراد أن يترك لها حق الحلم لأنه البلسم الوحيد الذي يضمد به كل مخلوق في نظره جروح الماضي و إخفاقاته...و ماذا عساه أن يفعل لها، تلك هي سنن الحياة في مسارحها لما توزع الصدف الأدوار، و شاءت الأقدار أن تكون هي كذلك في هذه اللعبة القذرة...
    كانت هي ترسم مسارا جديدا على أنقاض ماض كله خراب، تمهد للرحيل بعيدا عن بشاعات هذا الكابوس الذي حاصرها طويلا، وتعطي لهذا الجسد حق الرفض من جديد، بعيدا عن المساومات الدنيئة، لقد حان الوقت الذي تقول فيه ..لااااااا و لا تحتاج إلى حرف آخر تدافع به عن لائها ،و تدفع بهاذين الأرنبين إلى الجحيم ، العم وابن أخيه...تبتسم ، و تنظر إليه بعين الثعلب، فيظهر لها سذاجة المغفلين حتى تطمئن و نضع رجليها بكل وقاحة في وسط الفخ.
    -من أجلك سأخسر عمي، لأنك عندي أغلى، على أن تبقى الصفقة بشروطها ، لا تسليم إلا بعد الدفع...هكذا اتفقنا ؟..
    -خمسمائة ألف دينار هو كل ما جمعته في حياتي، قليل مقابل ما تقدمه لي من خدمة جليلة، بعد ترتيب الأمور سأعطيك كل ما بقي من عمري ، تستحق...
    - أشكرك ،أنت أجمل هدية من السماء ، لأنك حلمي الأكبر، أنا و ما أملك لك.
    -لن يكون إلآ ما تريد، فقط لا تستعجل، بعد أن أتخلص منه نتكلم..
    في مساء ذلك اليوم جاءت بالمبلغ كما وعدته،و قارورة شمبانيا، سلم لها ألأشرطة، سكبت فوقهم البنزين، و أحرقتهم أمامه كما تعهدت، و قالت له
    -احتفظ بهذه القارورة، سنحتفل عليها الليلة بعد أن ينام عمك، إنها ليلة التحرر، و غدا لك أن تسافر حتى لا تشهد سقوطه، بعد أسبوع سأفجر اللغم تحته و هو نائم،سأخبرك، ويوم تعود ستكون مجرد فضولي متفرج، أنصحك، لا تقترب حتى لا تحترق، و ألزم الحياد، أفضل لك...
    تذكرت قصة الثور الأبيض و الثور الأسود فضحكت في قرارتها زهوا، واستأذن عمه في الغد أمامها وانصرف.
    و بدأت تتحول في ذلك الأسبوع إلى شيء آخر، و زوجها يجاريها برفق، كلما صعدت كلما استكان هو و يظهر أضعف.
    انشغل في تلك الأيام باستثمار أمواله، و أكد لها أنه سيساعدها لإنشاء جريدتها التي يجب أن تخدم مصالحه أولا، و تحتفظ هي بالأرباح،هكذا كان وعد الفخ الذي مهد لها الدخول في مواجهة عنيفة ظنا منها أن الرجل خسر كل أوراقه واستسلم، ولهذا فهو يطاوعها، و في آخر الأسبوع كتبت مقالا تشير فيه أن هناك شخصية نافذة تبتز بعض الإطارات لقضاء مصالحها، باستعمالها أدوات وإشاعات تثبت تورطهم في قضايا أخلاقية وهمية لآ وجود لها إطلاقا، و تناولت الموضوع بشيء من التحفظ...قرأ الخبر و لم يحرك ساكنا، عاد مساء ذلك اليوم و كأن شيئا لم يكن، و بدأ يساورها الشك ، استغربت كيف أن الخبر هز كل المتورطين حتى لا يكاد هاتفه يتوقف ، و كان يرد ببرودة أعصاب ...
    بعد العشاء ، أعد كوبا من الشاي الأخضر، ليس من عادته، و جلس في الصالون يدخن سيجارته و يتلذذ مذاق مزيج الشاي بنكهة التبغ...
    ناداها ، فأقبلت، و جلست في الأريكة المقابلة كالمفاوض القوي و هي تبتسم، تريد أن تملي عليه شروطها من موقع الآمر الناهي ...فابتسم و قال لها.
    -استمعي إلي جيدا، ليس لدي الوقت لأعيد...أنا لست ذلك الغبي الذي تظنين،و لست خريج جامعة تؤسس للنظريات المثالية و أخلاقيات المبادئ التافهة التي تحملونها بسذاجة، أبدا يا سيدتي ، لست ذلك الغبي الورقة التي تحسم بها المرأة التافهة مثلك قواعد لعبة كهذه...
    أنا يا سيدتي خريج مدرسة الدناءة و الخسة التي تبتذل الفضائل و القيم ،و تغتال القدرات، و تدجن الهمم، حقيقة أنا أعيش في الظلام، لكن لأراقب المغفلين مثلك ماذا يفعلون في الضوء، لأتابع التحركات التي أمليها عليهم، لأراقب ما يجري على خشبة مسرح فرضياتي و أنا راويها ..لا تتنكري ، أعرف كل شيء، أنت الآن في المحطة الأخيرة التي أخترتها لك، هل تعرفي لماذا أنت ساذجة ؟
    لأنك تؤمني بكل ما يكتبه الأغبياء في الكتب، نشوهه نحن ونلزمكم به و لا نلتزم ، أيتها التلميذة الغبية في مدرستنا، كل هذه المدة معي و لم تتعلمي كيف تحركي دولاب الأمور، و لهذا احتفظت بك كل هذه المدة...
    اسمعيني جيدا، أريد أن أخرج من هذه الدائرة السوداء إلى ظل آخر، و قد حققت كل طموحاتي، سأتزوج و أعيش حياة طبيعية هادئة، بعيدا عن الهرج، فقط عليك أن تطلبي الخلع، و تأخذي أولادك، و تختفي من حياتي نهائيا، لا أريد أن أسمع عنك و لا أريد أن أراك...
    أعرف أنك استعملت الفيلسوف، أعطاك الأشرطة مقابل خمسمائة ألف دينار، و أنا أعطيته مليون دينار مقابل هذا الشريط الذي يثبت تورطك وحدك ، و يثبت إدانتك و لا مبرر لك بعيدا عن ضغوطي، و اعترافك بأنك كنت طعم غاوية لشخصيات نافذة ذكرتيها بالاسم هنا من فرط غبائك يكفي ليكون دليلا قويا لشنقك أمام الملأ أو تصفيتك...و يثبت أن الأولاد ليسوا أولادي ، و ما أنت زوجتي إلا على الورق، ولهذا أراك في وضعية لا يحسد عليها و ليس لك خيار...
    أتمنى أنك سمعت و وعيت، أعطيك كل الليل لاجترار الموقف، وغدا أستدعي القاضي هنا في البيت، و نقوم بكل الإجراءات اللازمة و لك حريتك، افعلي في نفسك ما تريدين، و لا تحاولي اللعب بالنار معي مرة ثانية، لأنني لن أرحمك مثل هذه المرة...
    بالمناسبة حاولي طمس الموضوع الذي طالعتنا به الجريدة بإمضائك، حتى يطمئن الجميع وتهدأ النفوس و تعود المياه إلى مجاريها ، و إلا...أنا الآن لست بحاجة إلى أي أحد ..أليست هذه أمنيتك ، أردت قتلي فقتلتك و أنت ترزقين...
    ابتسم و قام يحمل كوبه، و سيجارته بين أسنانه...أشار إليها..بااااااي، و ذهب يتبختر بكبرياء إلى غرفته ، و قبل أن يدخل التفت إليها و قال
    -كنت أعرف أنك على علاقة بالفيلسوف ، ها أنا اليوم أوظفها لصالحي..لعلمك إنها آخر الدناءات في حياتي ...ضحك واختفى كالشبح.
    جالسة في مكانها تجتر كلامه، تبحث عن فجوة، أو ثغرة، أو هفوة تدخل منها كلمة و لو في غيابه، فوجدته قد أغلق عليها كل المنافذ تنظر إلى نفسها أمة من العصر الجاهلي و حررها سيدها في القرن الواحد والعشرين...تناثرت ردود فعلها كأوراق في عمق عاصفة هوجاء،و تهاوى وعيدها وانهار كل شيء ، خرجت من اللعبة كمقامرة خسرت كل شيء...سرق الفيلسوف شريطه و به قايض و ربح...
    حزمت أمتعتها و أمتعة أولادها ، وقفت أمام الباب و قالت له.
    -مهما كنت بارعا في اغتيال الحقائق، لا تستطيع أن تغتال الجريمة لأنها هي وحدها التي لا تموت، أنظر إليهم جيدا ، إنهم خطأك، إنهم المكان الذي نحرتني فيه و ستعود إليه يوما لتلقى حتفك، لأن مثلك لا يقهره إلا الزمن، أنت تعرف أكثر مني أنهم أولادك من لحمك و دمك...
    كان الأولاد ينظرون إليه حيرة ، سجلوا الموقف استفهاما بمشرط الوشم المؤلم على الذاكرة ليوم الجواب، أرادوا أن يقبلوه كعادتهم، فدفعهم و صرخ في وجوههم..
    -اذهبوا مع أمكم لست أب أحد.
    كانت الصغيرة تشد على سرواله و تعانق ساقه و تبكي ليحملها كعادته و يقبلها و يمسح دمعها، إلا أنه في هذه المرة كان جافا، غليظ القلب، قاسيا، فدفعها برجله إلى أمها .
    دخل و أغلق الباب، كان صوت بكائها يبحث في ذاته عن تلك المشاعر التي ادعت يوما الحب و التضحية و الحنو، يطاردها من القلب إلى الكبد إلى الضمير، إلا أن كل هذه الأبواب كانت موصدة بأمر من الأنانية الجشعة التي حولته إلى وحش تريد أنسنته بما يخالف فطرة كل الكائنات .
    في طريقها إلى بيت صديقتها رأت الفيلسوف يحمل محفظته أمام باب المدرسة يتحدث إلى تلميذاته ، فرسمت على ثغرها آخر ابتسامات هذا لفصل من عمرها، واختفت هي كذلك في وسط الصخب البشري الذي تلتهمه فوضى شوارع المدينة ...تناثرت عقد الوصل و ذهب كل واحد إلى شأنه يفكر بما شاء و القضاء يدبر في الخفاء ما يشاء ..
    كانت في ذلك اليوم قاعة الجلسات مسرحا لقصة حب بدأ أفلاطونيا و تحول مع مر الزمن إلى مأساة، خلفت الكثير من الدمار و البؤس، و حطمت الطموحات و الأمنيات، و أسست للشقاء مجرة يدور في فلكها الكثير، و كأن على رؤوس الحضور الطير لما بدأت تروي تفاصيل الحكا، يتابع الجميع ما يعرضه الواقع على لسان الأسطورة،و رغم صرامة القاضي و جديته التي ترفض الخوض في الحيثيات الصغيرة،وجدته يتابع الأحداث باهتمام كبير ، كأنه يقرأ رواية لكاتب داهية ، و من أدهى من الزمن لصنع العجائب، واستطاعت أن تكون صادقة بالقدر الذي يشد انتباه الجميع و يتأثر بها ، وأحدثت اعترافاتها تفككا كبيرا وشرخا بين قلوب الرحمة و سيف القانون ، و خاصة لما ختمت مرافعتها بقولها ..
    -سدي القاضي ، أنا لا أطلب الرحمة بجرأتي هذه، و لكن أريد أن أعترف لكم في الأخير، أنها و لا شك لعنة أبي الذي بصقت في وجهه و هو يموت ، و جاءت بي إلى هنا لتقتص مني و أخسر الجميع، فدونكم سيدي هذا العمر و لتفعل الإجراءات الجزائية به ما تشاء، لأكون عبرة، و رحمة بي ليشعر ضميري بشيء من الارتياح، و لهذا ألتمس من سيادتكم قصاص الحياة...
    سكتت و خيم الصمت، وأعطى القاضي الكلمة إلى المدعي العام، فأنزل سيفه دون رحمة و لا شفقة، و رفعت الجلسة للمداولة، جلست على كرسي الاتهام، كان الاعتراف أشد عليها من مخاض الوضع، و أحست بالراحة التي تسبق الموت،فابتسمت لدمع حار كان يسقي وجنتيها، تنظر إلى الزوج المدعي بعيون الفريسة المستسلمة بين مخالبه، تغير لونه و ظهر الارتباك عليه ممزوجا بشيء من الخجل، في عجالة من أمره يستعد للخروج.
    و حكمت المحكمة عليها بخمس سنوات سجن نافذة، و حجبتها من التصرف في أموال الوصية بقوة القانون، و حكمت على زوجها الفار غيابيا بسبع سنوات سجن و غرامة مالية تقدر بمائة ألف دينار،وإعادة تسجيل الطفل باسم أبيه الحقيقي و إلغاء العقد الأول، و نقل كل أموال و ممتلكات الطفل تحت وصاية الأب و الولي الشرعي ، يتصرف فيها بموجب ما تسمح به الوصية و القوانين السارية المفعول...و رفعت الجلسة وانصرف أعضاء المحكمة .
    وضع لها الشرطي القيود، يقودها إلى سيارة السجن، وقبل أن تركب توقفت، فطاوعها الشرطي ،كأنها تنظر النظرة الأخيرة إلى المجتمع، تجول بنظرها محيط المحكمة، الجدة تحمل الطفل على الرصيف أمام الباب، بعض الفضوليين ينظرون إليها ، المكان الذي كان ينتظرها فيه يقف فيه رجل آخر، لعله ينتظر هو كذلك امرأة ، و ربما يعيد الحدث نفسه مرة أخرى ...فصرخت بكل ما أوتيت من قوة..لاااااااااا...دفعها الشرطي داخل السيارة ، وأقلعت في اتجاه السجن...
    لا تزال الجدة تنتظر الأب الجديد على الرصيف ، لتسلمه ابنه على مضض، لقد تعلقت به كثيرا و لا تستطيع فراقه، تنتظر أن يحضنه و يقبله بحرارة الوالد الحنو، و يصنع بذلك لقاء من فيض العاطفة، يمزق قلوب الفضول، لقاءا مؤثرا و مليئا بالحنان، أب يستعيد فلذة كبده بأعجوبة، حدث لا شك يهز القلوب، و يفتت المشاعر ، تقشعر له الأبدان، و تظرف له العيون الدمع الحار...
    مرت ساعة أو أكثر و هي تتهيأ لتلك اللحظة التي ستتمزق فيها، و لما جاء تنتظره أن يطردها شر طردة، و ينتزعه منها انتزاعا، و يأخذه غصبا، فإذا به يقول لها
    -الآن خذي ابنك واذهبي به إلى البيت، سأتصل بك لاحقا .
    أدخل يده في جيبه، أعطاها ما أخرجته يده من أوراق نقدية و انصرف في عجالة من أمره، ركب سيارته و ذهب...
    لقد فصلوه من العمل بقرار إداري ، و منعوه نهائيا من مزاولة أي عمل له علاقة بالقضاء.
    عادت به فرحة، و لما دخلت إلى البيت وجدته موحشا، يرد الفراغ صدى الحركات كلها، جلست، وضعته في حجرها تنظر إليه، تنهدت و قالت
    -بئس الحظ حظك، لا أظن أني أصل معك حيث تريد، إني أقرأ في عينيك يا ولدي عز الشقاء و هول النهايات، الهم ينصب عند الجميع و عندك يبني ..
    كانت كلماتها تصلني منهزمة منكسرة، أما أنا فكنت بارد المشاعر، غنيا عن حضور الجميع بتواجد هذه الجدة الحنون، أراها تبكي شفقة علي و رحمة بي ، و أنا حزين رحمة بها و لا حيلة لي ، لأنها وحدها مؤنستي وحضن الدفء الذي كان يحتويني ، عندما تقول لي أمك ،أبحث عنها في كل قواميس لغات الألسنة و الأجساد فلا أجد إلا أما كالسلحفاة تلدهم بيضا و تهجرهم، تسلحفوا أو موتوا، أتجول ببصري أينما كنت، أكتشف أشياء كثيرة تصنع في ذاتي السؤال المحير و أحيانا جوابها يكون أغرب، لا أميز بين الثابت و المتغير، أبكي أضحك عندي سواسية، لأنهما مجرد وسيلة، أنام و أستيقظ، أصبح شيئا عاديا أن أبكي لما تتأخر عني الجدة بالحليب، و لا يهمها بكائي، أعرف هذا، فقط لما أكون مريضا تنشغل و يظهر عليها القلق، أسمعه لما يكلمها، يسألها عن كل شيء إلا عني، و بدأ يبعد بين المكالمة و المكالمة، و الزيارة و الزيارة، و لا يراني إلا نادرا، و لا حملني يوما في حضنه أبدا، و لا قبلني، كنت أبكي لما أراه و أندس في حضن الجدة، هكذا حتى اختفى نهائيا، بحثت عنه الجدة في كل مكان، و أخيرا بلغت النيابة و عادت إلى البيت، استنجدت في الأول ببعض الجيران، و كلما حاولت استعطاف حفيدها الفيلسوف أو ابنها، رهنا احتضانها بالتخلص مني فترفض، احترفت المسألة في الخفاء، ثم عادت إلى قراءة الكف و الفنجان، وتقول بحول الله ستكون كذلك، تضحك على أذقان المغفلات، و أصبحت قبلة الكثير من النساء الثريات، تكذب عليهن فيتعافين و يصدقونها، واستطاعت أن توفر لنا الأكل و الشرب و اللباس، عندما تتضايق تجلسني أمامها و تحكي لي جميع همومها، و معاناتها، تعاتبني برفق أحيانا تقول، لم أتيت إلى هذه الدنيا المليئة بالشر؟.. لم...لم.. ؟..
    كنت أراها كشمعة في آخر لحظاتها، تقاوم الذوبان لتضيء أطول مسافة من عمري، تضيء عتمة وجودي بذلك البصيص من الأمل الذي كانت تنظر به إلي، أطعمتني كل أعشاب الدنيا لأكبر كما قالت بسرعة ....و في آخر السنة الثالثة من عمري شعرت بشيء غريب يريد أن يسلبني شيئا من ذاتي، ودخلت في صراع مع هذا الشيء الخفي الذي أراد أن يمسح كل هذه الأشياء التي جمعتها ذاكرتي ، و عزمت أن أكون الاستثناء، و أحتفظ بكل هذه التفاصيل، أحتج بها أمام كل تحول في حياتي يسوقني إلى غير وجهتي
    استطعت أن أتحدى و أحتفظ بذاكرتي، و تجاوزت تلك المرحلة بعناء كبير، و في الرابعة من عمري جاءت الفاجعة، لا زلت أذكر تلك الليلة، رأيتها تصلي فهرولت لأركب فوق ظهرها كالعادة، و أتخذها فرسا، و تبقى هي ساجدة ما بقيت أنا فوقها، ولما أنزل ترفع و أجدها تبتسم، لكن في هذه المرة لم ترفع، و بقيت على حالها، دفعتها بيدي فمالت على يمينها، كانت تنظر إلي و هي تبتسم، وضعت يدي الصغيرتين على رأسها أهزها..دادة..دادة..دادة.. ركبت فوقها أضربها لتقوم ،لم تتحرك، ولا تزال تبتسم إلي، ناديتها مرة أخرى..دادة..دادة..و بدأت أبكي و هي تبتسم لي، لم تستجيب، فخرجت أمام الباب لتتبعني كعادتها، رأتني الجارة و قد طال بكائي فأسرعت إلي، حملتني و دخلت و هي تناديها ، فوجدتها على سجادتها نائمة و تبتسم، هزتها فلم تجب، نظرت إلي بعيون همعة، حضنتني بكل قوة، حملتني و أسرعت بي إلى بيتها، ما رأيت أطيب من تلك المرأة أبدا، و جاء زوجها و هو يحولل و يقولل، طلب الشرطة و الإسعاف ، و أدخلني ثانية إلى بيته، أذكر قد بكاها الجميع رغم أنهم كانوا كلهم يكرهونها، و شعرت بشيء في تلك العائلة، شيء كالدفء و الأمان، كانت تلك المرأة الشابة لا تشبه أمي، وضعتني بين أولادها، و بقيت عند رأسي حتى نمت، و في الصباح قام الجميع، تناولنا الفطور، و بدأنا نلعب، حضرت لنا الغذاء، ثم وضعت الصغيرة في حجرها تطعمها كالعصفورة، مثل ما كانت تفعل معي الجدة، و هي تراقبنا و نحن نأكل، فتذكرت العجوز و بكيت
    وضعت ابنتها جانبا و حملتني في حضتها، أقسمت لي أنها سافرت، و سنلتحق بها في يوم من الأيام، و أنها تنتظرنا هناك في أجمل حديقة في العالم، فيها كل الأشياء الجميلة التي نتمناها هذه الحديقة لا يدخلها إلا الطيب، و لهذا إذا أردت أن أذهب عندها يجب أن لا أبكي، و أبتسم، و أكون طفلا مؤدبا و طيبا، كنت أنظر إلى تلك المرأة الطيبة وكأنها ملاك رحمة جاء في وقته، فصدقتها، و هي تتحدث معي عانقتها، و نمت في حجرها، وذهبت عند الجدة، وجدتها في الحديقة كما قالت تلك المرأة الطيبة، و سررت كثيرا....
    لما استيقظت وجدت نفسي في حضن امرأة أخرى في سيارة، صرخت و حاولت أن أهرب، فمسكتني بقوة، ضربتني و سكنني الخوف، فانطويت و سكت، توقفت السيارة و دخلنا إلى ساحة فسيحة و حديقة ليست كحديقة الجدة، أدخلوني إلى قاعة كبيرة فيها أطفال كثر، أحسبهم كلهم مثلي، سافرت داداهم...و نساء بمآزر بيضاء كأنهن دجاجات، بكيت في أول الأمر، ثم سكت
    رأيت طفلة صغيرة كبنت تلك المرأة الطيبة، تجلس وحدها ، فذهبت إليها كأني أعرفها، جلست بجانبها وهي تنظر إلي بغرابة، أردت أن ألمسها ضربتني فضربتها، وعاقبتني تلك المرأة التي ترتدي المئزر الأبيض و فرقت بيننا، و هكذا بدأت أندمج شيئا فشيئا، حتى أصبحت مثل جميع الأطفال أكره المئزر الأبيض، وأنتظر أن أكبر بسرعة لأنتقم لنفسي، سمعت المديرة تقول أنهم يبحثون عن أبي الذي هرب، فقلت لعل كل هؤلاء الأطفال هرب أبائهم، ما رأيت أجمل منهم، ولكن لماذا يهرب الآباء من الأبناء، سألت المعلمة يوما فقالت ، لأنكم مشاغبون...
    مقابل مركز الأطفال ، هناك مركز آخر للمسنين يحتضن الكثير من أمثالها الذين فقدوا أو افتقدوا الصدور الحانية و الأهل و الأقارب، جاءوا من جميع أحياء المدينة، و من بعض القرى المجاورة، بقدر ما تقاربوا في السن و الثقافة، بقدر ما اختلفوا في المزاج و الشخصية، الساخطون على أولادهم و ذويهم و المجتمع الذي لفظهم ،يحاولون عبثا استرجاع الزمن الفائت لينتقموا هم كذلك...
    وجدت نفسها في وسط لا يحسن الاستماع، و لا يقبل من يخالفه، و لا يرضى بالتفاوت مهما كان، كلهم يعيشون على الماضي، و يصارعون بوادر الموت البطيء، يحاربون اليأس بردود فعل واهية وانطبق عليها المثل القائل، يا داخل مصر منك الألوف، واشتد عليها الخناق، تقضي يومها كله في صمت، واعتزلها الجميع و أصبحت تعيش في زنزانة نفسية تتحين لحظة الهروب من هذا السجن الذي وضعت نفسها فيه، و أصرت أن تخرج من هنا تمشي على قدميها .
    تقوم بتمرينات و حركات عضوية، ترويضات نفسية، تمارس اليوجا، تحاول من حين إلى حين مخادعة حالتها لتقوم من سريرها فجأة ، فلا يتحرك فيها شيء، تقوي عزيمتها بتشديد الإرادة وقتل اليأس، يجب أن تقف لتنتقم وتستعيد هيبتها ومنزلتها، وقعت عدة مرات على الأرض، ونصحها الطبيب بالابتعاد عن هذه الممارسات التي لن تفيدها في شيء، بالعكس ستتأزم حالتها أكثر ، وأن حالتها تستدعي استعدادات نفسية تحت ضغط ظروف استثنائية تحدث صدمة مضادة حادة وقوية غير منتظرة... رغم هذا واصلت على نفس التمارين التي تختمها دائما بالبكاء و سب وشتم قدرها ، وهجرها الصبر وسكنها القلق والسخط...
    في ذلك المساء أحست بشيء من الاسترخاء، أتعبها التفكير فاستسلمت لحلم اليقظة تأخذها السنة بعد السنة والغفوة بعد الغفوة حتى رأته يدخل غرفتها كالشبح، أغلق الباب، وانقض عليها يحاول خنقها، يشد عنقها بأصابعه الرهيبة ويضغط بكل قوة، وهي تدفعه بيديها وتحاول أن تصرخ، لما رفعته قليلا عن جسدها، استعانت برجليها ودفعته مرة واحدة، فسقط وقامت، فتحت الباب وهربت، تبعها وهي تجري وتصرح... الغيث.. الغيث.. إني أمشي، إني أجري... جرى ورائها الأعوان ، إلا أنها كانت للموت أسرع، كالسهم تشق الريح لتصطدم أمام باب المركز بسيارة فألقتها على جذع شجرة فشج رأسها وسال الدم من أنفها وفمها، عندما وصل الأعوان وجدوا الدمع قد اختلط بالدم ، فقالت في غصة:
    - أراد أن يخنقني فهربت
    - قال العون: من ؟
    - قالت: الأعرابي النذل، زوجي، انظروا إنني أمشي
    هلكت، ولم يبكها أحد.
    حضر جنازتها الفيلسوف والأرملة وشيعها إلى القبر بعض الفضوليين من قاطني المركز، وقبل أن ينصرفوا قال الفيلسوف:
    - هي طبيعة الحياة، دخلت كما خرجت أول مرة، مسكينة أمي، رحلت وتركت رمادا..
    نظرت إليه الأرملة، همت بـ... أشاحت بوجهها وذهبت، ينظر إليها حتى التهمها امتداد الشارع، ولما وصلت كانت الأمازونية فوق الخشبة كالساحرة المخدرة تأخذ بالألباب، في جسدها شيء من أمها، وقفت أمامها وقالت:
    - ماتت أمك.
    ابتسمت وتحجر الدمع في عينيها، و واصلت تتلوى كالأفعى في طواعية النغم إلى آخر دقة، توقفت واختفت.
    في نفس اليوم وفي نفس الوقت كانت امرأة واقفة أمام باب السجن، ترى الشارع لأول مرة بعد خمس سنوات، يا للعجب ومن كان يقول!!.. لم يتغير شيء، دخلت وكان السجن علبة صغيرة، فأصبح معتقلا كبيرا بأجنحة أضيق، خرجت ولا تزال المدينة على حالها، نفس الشوارع، نفس المحلات، نفس المقاهي، ونفس الوجوه، نفس الحركات، ونفس السكنات، ونفس الممارسات، رجال كثر ينتظرون على الأرصفة، ونساء كثيرات قادمات وأطفال تشردوا يتسولون ويتصعلكون.
    في طريقها إلى البيت كأنها نامت دهرا،لما وصلت كان الشارع خاليا والباب مغلقا كأنه لم يفتح منذ عشرات السنين، الجيران ينظرون إليها من فجوات النوافذ كأنها عائدة من وراء الزمن، يستعيدون الحدث بتأويلاتهم، ينظرون إليها بنفس العين التي كانت تنظر إليها منذ خمس سنوات، كأنها كانت بالأمس فقط، فتحت، دخلت وتركت الباب ورائها مفتوحا، نشر الغبار غطاءه على كل شيء، لا يزال شال الجدة على المسند، وعلى المائدة قارورة ماء وكوب، الساعة توقفت وهي تشير إلى زمن يعيد نفسه حتى وهي متوقفة، رائحة الرطوبة العكرة تملأ المكان والعنكبوت بدأ ينسج خيوطه في كل مكان، لا تزال السجادة والنعل والعصا في محطة الموت...
    شعرت بقشعريرة تغزو جسدها، فأسرعت تفتح النوافذ وتزيح الستائر ليتجدد الهواء ويدخل الضوء، ويخرج الظلام ويتنفس البيت، فاستظهرت خبايا من الزمن الماضي ونفخت في شجونه قبس الحياة، هنا الكل يرد الصدى والوقع لا يرحم، حضر الزوج، وجاءت الجدة، واستيقظ الطفل، وبدأ العرض، أدارت وجهها إلى الحائط، انحنت، وأغلقت براحتيها أذنيها، وأغمضت عينيها، وخنقتها العبرات، في هذه المرة كان الصمت يتكلم، مرت إلى المطبخ، لا ماء ولا كهرباء ولا غاز، خبز يابس في الخزانة، بعض التوابل لا تزال في حافظاتها، أواني فوق المغسل، والمزهرية خاوية فوق الطاولة .
    تذكرت أن في الوجود ورود، تذكرت المزرعة والقرية وأشياء كثيرة كاد أن يلتهمها النسيان، جلست على الكرسي تنظر من النافذة إلى ما مر من زمن العمر، وضجيج الأيام التي خلت في هذا البيت، يملأ الفضاء، كأنها تحررت واستيقظت هي كذلك من جديد، زارت كل الغرف وتوقفت في غرفة الجدة، كأنها كانت هنا وخرجت، عجيب ! وحدها هذه الغرفة لا غبار فيها ولا عنكبوت، لعل بابها ونوافذها كانت محكمة الغلق، رائحة القرنفل والخزامى، والبخور، لا يزال عقدها معلق هناك، في درج طاولتها علبة كحل، وقشور شجرة الجوز كانت تمضغها فتظهر شفتيها غليظة وبنية اللون قاتمة كالكبد، مسبحتها الأخرى، وحزامها المطرز بالأصفر والأحمر، وبعض المناديل، من طبيعتها هذه الأشياء تضعها في متناولها بجانب المرآة الكبيرة، احتضنتها الغرفة، وحدها كانت تراها وفية...
    في غرفة النوم هاجمها العتاب والندم، السرير عش سعادة و وكر شقاء، ما أفظعه ! في الدولاب سر الأقنعة، الطاولة، الكرسي، الأريكة، المصباح، اللوحة، صورتها، التلفاز، المدفئة، الستائر، كل شيء على حاله، فتحت الدولاب، ملابسها كما تركتها، صندوق الزينة، قارورة عطرها، منذ دخلت لم تلمس شيئا، لكل شيء هنا حكاية، أسطورة، أو دراما، كأنها في متحف لا تريد أن تبعثر لمسات الزمن، وقفت أمام المرآة، نعم إنها هي، لكن بوجه آخر، كأنها غابت عن نفسها عشر سنوات، تقرأ على وجهها آثارا خلدتها أحداث مرت من هنا، ابتسمت، لم تجد الابتسامة المكان المناسب، لبسط روعتها، مكفهرا كان الثغر يرفض كل دخيل...
    بدأت تسمع نبضات قلبها تحترف كلام الصمت الذي تغلغل في نفسها، واكتسح تلك الذات التي صنعت له في عمقها ذات يوم مأوى يجتر فيه أجمل الأحلام، كان في هذه المرة موحشا تسكنه الأشباح...
    قضت ليلتها في غرفة الجدة، في ذلك الظلام الجميل الذي افتقدته كل مدة السجن، واستغربت لجمال الظلام، لأول مرة تكتشف روعة تعاقب الليل والنهار، وأن لباس الليل هو أحلى لباس يرتديه الكون بكل تناقضاته ليعيش كل واحد نفسه.
    في الصباح، قامت باكرا تنفض الغبار، تنظف وترتب البيت من جديد، وقبل أن تخرج طرق الباب طارق، فتحت، إنه شرطي، ارتعدت، كادت تسقط، طمأنها، تأكد من هويتها، وسلمها استدعاء عاجل إلى محافظة الشرطة المركزية، لم يحدد السبب، يحمل عبارة "لأمر يهمك"، ذهبت تجر جسدها جرا، دخلت إلى المحافظة كرها، طرقت ودخلت، سلمت له الاستدعاء، نظر إليها، باديا على وجهها القلق والإرهاق
    - تفضلي، اجلسي
    أخرج من الدرج ملفا، وبعد إطلالة قصيرة قال لها:
    - ولدك في الحضانة، أهمله أبوه وهو حتى الآن محل بحث، أمرتنا النيابة بإرجاعه لك فور خروجك من السجن، هذا الإجراء يراعي فيه القانون مصلحة الطفل.. هل عندك مانع ؟
    هزت رأسها وقالت:
    - وأين الذي ادعى أنه أبوه ؟
    - باع كل ممتلكات ابنه واختفى، عندما نلقي عليه القبض نستدعيك، والآن هيا بنا إلى دار الحضانة، نسلمه لك وتمضي على محضر الاستلام، الملف الصحي والتربوي جاهز
    - لم تشعر بأي شيء عندها، ولما دخلت دار الحضانة ورأت أولائك الأطفال الضحايا، أحست بغربة ووحشة أكثر من تلك التي كانت تحس بها في السجن، تنتظر أن ترى ابنها بشيء من الفضول، وهو أمامها في مكتب المديرة برفقة المربية، كان وسيما جدا وفي عينيه تقرأ مكر البراءة بحيله، يظهر ذكيا هذا الطفل ومشاغبا، تنفر منه النفس من فرط جرأته، انتظر الجميع أن تحضنه بمجرد أن تراه، ولكن لم يحصل شيء من هذا، و أولها الجميع بتأثيرات السجن، فبادرتها المديرة قائلة:
    - - إنه ابنك
    اعتمدت على ركبتيها أمامه، تشده من منكبيه، وتنظر إليه بعمق في عينيه وهو يصرف نظره يمينا وشمالا، يخشى أن تكتشف فيه شيء لا يعجبها، يتساءل من تكون هذه المرأة وماذا تريد منه ؟
    تنكر لها وتمنى أن لا تكون تلك المرأة التي يرسمها من حين إلى حين لما يفتقد أما.
    فقالت المديرة:
    - إنه يشبهك كثيرا
    ضحكت، وابتسم الجميع، وبدأ ينظر إليها، لم ير ذلك الشبه... ولا يريد أن يكون ابن هذه المرأة ولا يعرف السبب...
    ابتسمت له وقالت:
    - لقد أصبحت رجلا، أستطيع أن أعتمد عليك لتكون رب البيت
    - لماذا ؟ أنت ما عندك بابا ؟ أم ذهب وتركك كما تركني أبي ؟
    - أنا ماما يا حبيبي
    - أنا لا أعرفك، ستبقي هنا معنا، نحن كلنا هنا ليس لنا مامات، كلهن سافرن ولن يعدن، هكذا قالت طاطا المعلمة
    - ها أنا عدت من السفر وجئت لآخذك معي إلى البيت
    - وأين ماماة جوهرة وفؤاد، وحنان ؟
    - لم يكن معي لقد سافرن بعيدا
    - لماذا سافرت أنت وتركتني ؟ ماذا فعلت لك ؟
    - أنا تركتك عند بابا يا حبيبي
    تنظر إلى المربية وإلى المديرة، تتنهد، تهز رأسها
    - في البيت عندك بابا، وأختي الصغيرة والدادة والدبدوبة ؟
    - من قال لك هذا ؟
    - في الرسوم المتحركة كلهم كذلك
    - في البيت أنا وأنت فقط، وسنكون أحلى الأصدقاء، سترى، والدبدوب البطل...
    - يعني يغلبهم جميعا، هو عنيف ومشاغب مثلي
    تنظر إلى المعلمة... تهز رأسها إيجابا وتبتسم
    - كل الأطفال هنا مثله ؟
    - تقريبا وبتفاوت، أول شيء نعلمه لهم هو الجرأة حتى نكسر الحاجز الذي بينهم وبيننا، أولا لنعيش معا في نفس العالم والذي بينهم وبين المجتمع حتى لا يعيشوا العزلة والانطواء والكبت، لا تهمنا طبيعتهم بقدر ما يهمنا ما ينطوون عليه، عندما نحدد مجال تفكيرهم نعرف أين يتحرك الطفل فندخل في المكان والوقت المناسب، إننا نرعاهم من بعيد ونتفاعل مع ظاهرهم أكثر من باطنهم الذي يتكفل به مختصون في علم النفس، لأن مهمتنا تربوية أكثر
    - أشكركم، سأحاول أن أتواصل معه بنفس الطريقة
    - هيا بنا يا رجل
    أخذته من يده وخرجت
    - لماذا أنت وحدك في البيت ؟ هل عاقبك أبوك ؟ عندنا عندما نفعل شيئا يعزلونا ولا يكلمنا أحد..
    كالظل يطاردها بأسئلة تحرجها أحيانا وأحيانا أخرى تضحكها، وفي اليوم الموالي حملت شهاداتها وذهبت لتسجل اسمها في مكتب التوجيه والتوظيف، وهي على يقين أن مؤهلاتها وخبرتها تعطيها الأسبقية والحق في العمل كمستشارة قانونية مثلا، في أي شركة سواء عمومية أو خاصة...
    في الاستقبال كانت شابة جميلة وأنيقة، عارفة بإدارة الحوار في مجال التوظيف، وحقيقة أعجبت بمستواها ومسارها العلمي والمهني، ورشد سنها وخبرتها فوجهتها إلى شركة خاصة تتميز بسمعة مرموقة، فاستقبلوها أحسن استقبال و وظفت كمستشارة قانونية .
    كلفت بمتابعة كل الملفات ذات الطابع القانوني، كان المكتب جميلا جدا ومجهزا بكل ما تحتاج إليه لمزاولة مهامها على أحسن وجه، بأجرة مميزة، جلست، استرخت في عمق الكرسي وبدأ الحلم من جديد..
    جاءتها الكاتبة بكل الملفات، حينها، وضعتهم فوق مكتبها وانصرفت، رتبتهم حسب الأولويات، قدمت عملا متقنا أظهرت فيه حنكتها ومهارتها وكفاءتها، فأعجب بها رب العمل كثيرا، قدم لها تشكراته، وأكد لها حرصه على الاحتفاظ بها وترقيتها في الوقت المناسب، أدخلت ابنها إلى مدرسة تحضيرية يقضي فيها يومه كله، وفي المساء تمر عليه تأخذه وتذهب إلى البيت، لا يجمعها به إلا الليل والعطلة الأسبوعية، واستعادت ثقتها بنفسها، وتميزت المؤسسة في تسييرها لشؤونها القانونية بفضل تفانيها وسهرها على القيام بكل الإجراءات المطلوبة في كل علاقاتها وصفقاتها، وجنبتها متاعب كثيرة كانت تقع فيها من حين إلا حين وخاصة مع مصلحة الضرائب...
    وبعد ثلاثة أشهر، قرر صاحب العمل ترقيتها ومنحها أجرة تحفيزية وتشجيعية جزاءا بما قدمته من خدمة راقية ومميزة للمؤسسة، ولكن هي الرياح لا تهب دائما بما تشتهيه السفن، فاستدعاها إلى مكتبه إلى جلسة خاصة، فتعطرت، ابتسمت للمرآة، وذهبت وفي يدها بعض الملفات التي تحتاج إلى استفسارات منه، ولما جلست، قرأت على وجهه لونا من الأسى والأسف، ابتسمت، تنتظر أن يتكلم أو يأذن لها بالكلام، إلا أن في هذه المرة وكأن الصمت هذا العدو الذي اختفى وظهر من جديد ولكن بطريقة أشد، وخالطه الحرج، وحتى تكسره بادرته قائلة:
    - هل من جديد ؟ أننا الآن نتحكم في جميع أمورنا، لقد تداركنا كل الملفات التي كانت معلقة، وما علينا الآن إلا المتابعة... وبدأت تشرح له بإسهاب تفاصيل ما قامت به خلال كل هذه الفترة، ولاحظت أن اهتمامه كان أقل مما كان عليه سابقا، وأنه منشغل بأمر لا يزال يخفيه عنها، وشكت أن الأمور بدأت تأخذ منعرجا آخر، فسكتت وأخذت تنظر إليه، فأجبرته على الكلام فقال:
    - - أشكرك على هذا الجهد الكبير والخدمات القيمة التي قدمتيها إلى الشركة بإخلاص وتفان ومهارة، وقد كنت في مستوى تطلعاتنا، وكم تمنيت أن أحتفظ بك مددا وسندا ولكن هي الظروف في بعض الأحيان تحول بيننا وبين ما نشتهي وما نريد... ولا شك أن مثلك أدرى بالآليات والفلك الذي تدور فيه المؤسسات وحرصها على غلق كل الثغرات التي يمكن أن تمس بالسمعة التي أريد لها أن تكون عليها، وليس لنا الخيار لأننا ملزمون، بل محكوم علينا أن نتشكل وفق تقاليد القطاع الذي ننتمي إليه، ونظرا لحساسية مشاريعنا والعلاقات التي تربطنا بهذا المحيط فإننا مجبرون على التحفظ في بعض الأمور، والابتعاد عن كل الشبهات...
    في حقيقة الأمر القوانين السارية المفعول تتحفظ كثيرا في توظيف من كانت له سوابق عدلية ،وخاصة الذين تعرضوا إلى العقوبة بالسجن، وأنا لا أجرمك بالعكس، ما رأيت أشرف ولا أصدق منك، ولكن هي قوانين البلد وحكم المجتمع والمحيط الذي لا يرحم، و لا يعرف التوبة، ويبقى في نظرهم المجرم طول حياته مجرما، وهذا يا سيدتي يمس كثيرا بعلاقتنا وسمعة المؤسسة...
    أعتذر لك باسمي وباسم جميع زملائك، إننا مجبورون على توقيفك، لتعويض هذا الضرر قررت المؤسسة منحك مبلغا محترما من المال، وشهادة حسن السيرة والسلوك عرفانا منا وإكراما لك، المبلغ حول صباح اليوم إلى حسابك الخاص.
    - أشكرك...هي لعنة يا سيدي لا تزال تطاردني ولا أظنها ستكتفي حتى تهلكني... أشكركم على ثقتكم وإحسانكم ودمتم بخير...
    خرجت وقد ضاقت عليها الدنيا بأكملها، وتيقنت أنه لن يكون لها في الوظائف نصيب ما دامت ذات سوابق و دخلت السجن...
    شعرت بشيء من الضغط لا يخففه إلا المشي، تأبطت سفطها وراحت تجوب شوارع المدينة، في واجهة نهاية ذلك الشارع لافتة كبيرة مكتوب عليها الأمازونية، تحتها، المتعة في العودة إلى الأصل...
    دفعها الفضول فدخلت، جلست، فتحت سفطها، فإذا بامرأة تكاد تكون عارية تقف أمامها، تحمل وردة بيد وقدحا من كوكتيل الفواكه الاستوائية باليد الأخرى، ابتسمت لها وأخذت الوردة، فوضعت المرأة القدح على الطاولة وهي تنظر إليها دون أن تكلمها، فجأة كأنها أرادت أن تتدارك شيئا فاتها، رفعت رأسها بسرعة، كانت المرأة قد أدبرت في اتجاه الباب الذي خرجت منه، واختفت، ساورها ظن أنها الأرملة، هكذا ظهر لها ولم تتبين ، كانت القاعة عبارة عن معرض للنباتات الاستوائية، وصور أشجار تزين منصة العرض، شربت، كان لذيذا جدا، شعرت بلذته وهي تخرج، أخذت ابنها من المدرسة وذهبت إلى بيتها، أحست بدوران في رأسها، شكت في المزيج الذي تناولته عند الأمازونية، وعادت تلك الصورة فنفتها من ذاكرتها.
    كان لها ما يشغلها في تلك الليلة عن التفكير في الأرملة أو في غيرها، يجب أن تجد مخرجا لوضعها الحرج في العاجل، لأن سباقها مع الزمن لا يرحم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعود ثانية إلى المسكنة.... وصامت عن الكلام، وأحس الطفل بغربة قاتلة لم رآه من عصبية أمه، لا يزال يكتشف فيها غلظة وقسوة مربية ومديرة الملجأ
    بدأ يشعر أنه من الأسباب التي حولت أمه إلى هذا الوحش الذي لا يرحم، لما تنبهت له وجدته قد نام قبل العشاء، أحست بشيء من الذنب، فذهبت تستسمحه إلا أنه كان قد تركب عنيدا، ولم يغفرها لها وأصر على المبيت طاويا، هي كذلك كانت تشعر أنه يناديها أمي بمشقة، وأحيانا يقول لها معلمة، ولم تستقر الصلة الحقيقية بينها وبينه، طفل ينام وحده، ويستيقظ وحده، ويخدم نفسه بنفسه كما علموه في دار الحضانة الاعتماد على النفس في كل شيء ، فأصبحت العاطفة آخر مطلب، وإذا جفت النوق فمن يحنو على أولادها... كما يقول المثل
    تعود على الذهاب إلى المدرسة وحده ويعود وحده ويتدبر أموره من أكل وشرب وحده، وساعدها هذا السلوك فانشغلت أكثر فأكثر بنفسها، وتخلص شيئا فشيئا من وصايتها، ومع مر الزمن كان يعمل بالليل وفي أيام العطل ويدرس في النهار، واتخذ أصدقاء من كل أصناف المجتمع بسرعة اندماجه، وتعدت طموحاته سنه، وما عاد يهمه إلا الاعتناء بنفسه، لا تهمه رائحة الكسب ولا لونه
    نضج بسرعة و تميز، كان يظهر أكبر من سنه، ذكي حتى أبهر، داهية حتى أدهش، وماكر حتى أفجع، كالريح يدخل من جميع الفجوات ويخرج من جميع الفجوات، وأصبح لا يلتقي مع أمه إلا نادرا، متى تدخل إلى البيت تجد ما تشتهيه النفس وما لذ من مأكولات، ومشروبات، تذهب إلى غرفته تجد أفخر الملابس وأجملها، أشرطة، أجهزة، نقود...
    تأكل، وتشرب وتأخذ ما تحتاج إليه من نقود... كانت هي تعمل في فرن يصنع حلويات الأعراس والمناسبات، أغلب دوامها في الليل وتعود إلى البيت مرهقة يغالبها النعاس والتعب، فتنام ولا تستيقظ حتى منتصف النهار، تتغذى على الجاهز الذي تركه ابنها، وقبل العصر تلتحق بعملها، تعيش في دائرة مغلقة لا يعرف أحد ما يدور حولها و لا ما بداخلها...
    فقدت الثقة في الجميع، أغلقت كل منافذ المشاعر، وأصبحت آلية في كل شيء، لا تريد أن تفكر، ومسحت الذاكرة، وتقوقعت، تعيش بجسدها الصقيع مغلقة، عبوسة كانت لا تستبشر ولا تبتسم كالقلعة المهجورة موصدة الأبواب...
    انتظرها أمام الباب حتى خرجت، لم تنتبه إليه، ووقفت على الرصيف تنتظر قدوم تاكسي، فتقدم ووقف بجانبها، ادعى الفضول وسألها:
    - إلى أين يا سيدتي ؟
    - التفتت، لم تصدق، لعله الشبح، ابتعدت فتبعها
    - أنت ؟ ماذا تريد ؟.. هيا انصرف لحالك، لو يراك ابني لن يرحمك
    - كنت في السجن وخرجت اليوم فقط
    - ما عاد يهمني أمرك
    - لقد ألقوا عليه القبض و هو الآن يدفع ثمن جرائمه
    - من ؟
    - القاضي، واعترف بكل شيء، سيستدعونك في الجلسة القادمة... تعالي معي وأحكي لك تفاصيل قضية هذا الشيطان.
    - لا أصدق، كيف حصل هذا ؟
    - تعالي معي نذهب إلى مكان هادئ ونتحدث
    كأنها تلقت حقنة هدوء وسكون، فطاوعته وذهبت معه رغم التعب والنعاس، تحاول أن تصلح ذلك الخلل الذي أحدثته ما يسميه الناس بلعبة الأيام، تقذفها وتقذف لها وتقذف بها، عطاء بيد وأخذ باليد الأخرى، تتساءل لماذا تأتيها الأشياء دائما بهذا الوجه المقنع، وتختفي لتعود بقناع آخر، حقيقة يمكن للإنسان أن يتسبب بسذاجته، وبكل ما يحمل من سوء الطوية في كثير من المصائب التي تحطم كيانه، ولكن لم تصدق أنها قضاء كله شر...
    هنا في واجهة البحر، جو جميل، نسمة منعشة، حيث نختلي الأرواح الرومانسية التي تلاطف المشاعر، وتحول الأحاديث إلى شجون حالمة، ويصدق الإنسان أن جمال الدنيا كله في دمعة شوق فوق بسمة حنو، وأن الأمل هو البلسم الوحيد الذي يصنع السعادة بعد الألم، لهذا نجد دائما راحتنا بعد البكاء رغم أن الأشياء لا تزال جاثمة على صدورنا...
    هل كان عبقريا إلى حد التحكم في مواقع الحديث، التي تدفع بالرفق أشرعته في عمقها إلى ما يشتهي الوصول إليه؟! أم هي الأقدار لما تريد أن تحدث تتموقع وتسوق الإنسان إلى حيث تريد لتفعل به ما تشاء.. وقفت تنظر إلى البحر، وشعرت بانتعاش غريب واستعداد لسماعه من أول كلمة إلى آخر حرف.
    وبدأ يروي لها كيف أفلس القاضي، و كيف تورط في قضايا فساد...رشاوى وتحويلات ومخادعات، وكيف ألقي عليه القبض، واعترف أن الطفل ليس ابنه، وأنه زور التحاليل، واستعمل نفوذه ليجعله يختفي...
    وأن القضية بدأت منذ أن أخبره ابنه المحامي أن الطفل ابن أمينة الضبط ، يعني بها هي، قد كتب باسمه جده ثروة هائلة، فتذكر أنها أخبرته بحملها وأنه ردعها وأبعدها...
    فوجد أن الصدف قد أعدت له فرصة العمر، ولو بقي قاضيا مائة سنة لن يستطيع أن يجمع مبلغا كهذا، ففضل التضحية بمنصبه وسمعته والظفر بهذا المال الذي كان يظهر له مهدورا لأنه إرث لقيط...
    لم يكن يعلم أننا تزوجنا زواج عرف، وأتممنا أركانه بالولي لما تهيأت الظروف بموافقة أبيك رغم أنه كان مكرها، سترا للعار، عملا المثل الشعبي القائل"الهم دواه الغم، والسترة ليه مليحة رد الجلفة على العظم تبرأ وتولي صحيحة" وبارك زواجنا....
    كان حينها يضع ذراعه فوق كتفيها، أحست بالدفء فالتصقت به أكثر، وكان ولدها ينظر إليها من نافذة المقهى التي تطل على البحر، فقال له صاحبه:
    - كأنها أمك، يا لروعة العشق عندما يستولي على العجائز، وضحك حتى بانت نواجذه،
    فأدخله بهذه الكلمات إلى زنزانة مظلمة باردة، وقهره الموقف، وشعر بغربة عزلته عنها أكثر فأكثر، يفكر كيف يهجر المدينة أو يطرد هذه المدينة من ذاكرته إلى الأبد، تلك المدينة التي لا تهتز لأحد.
    ولما انصرفا، ذهب إلى مكانهما، وقف أمام البحر، نظر إلى الأسفل كان سحيقا، وعميقا، فوق أعالي الجرف استوت هذه الشرفة وتزينت لمن يريد الانتحار، هكذا قال في نفسه، حرمه هذا الرجل من حقه في أمه، تلك الأم التي لم تحضنه مرة واحدة في عمرها، كانت تختزن كل هذا الحب والحنان لرجل لا يعرف من أين أتى، تعمق الجرح وازداد النزيف، لما رأى أنه كبر كتلك النبتة الطفيلية ، واجتث لأتفه الأسباب
    بعد ثمانية عشر سنة يستيقظ من نوم على كابوس يطارده وربما إلى الأبد، فحز في نفسه ذلك حد الإحباط و تلبسته لحظة غياب...رجع إلى البيت وليس من عادته، لما دخل سمع قهقهة أمه وصوت رجل ، عرف بأنهما هنا، فعاد أدراجه، خرج مسرعا، اشترى خنجرا وعاد، دخل بكل هدوء إلى غرفته، ينتظر اللحظة المناسبة، كان الرجل يداعبها وهما كطفلين صغيرين، أكلا وشربا، وجاء وقت القيلولة فسكنا إلى الراحة، فدفع الباب ودخل عليهما في سريرهما فجأة، وتعطلت مداركه كلها، طعن الرجل طعنة واحدة، وطعن أمه ، فقالت وهي تشهق آخر الشهقات:
    - أقسم أنه أبوك، إنه أبوك، أسامحك فهل تسامحني؟
    حاولت أن تعانقه ولكن يأبي القدر ذلك ،ويسقط ذراعها وينهار هو عليها بالبكاء، تذكر فعاد إلى أبيه فوجده قد لفظ أنفاسه... فطعن نفسه وأراد أن يهرب، فخرج من البيت يجري، لا يعرف إلى أين ؟ حتى وصل إلى المكان الذي حجز فيه لحظة غياب ، نظر إلى المدينة، ابتسم، ورمى بنفسه...
    لم تهتز المدينة كما توقع ، وكأن شيئا لم يكن..
    تمت
    مختار سعيدي


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •