Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958

Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2968
مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند

    مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند

    كتبها الباحث الهندي الاستاذ سعادت
    (طالب ماجستير) وباحث هندي في طرق تدريس اللغة العربية في الهند
    طلب مني يوما ساعدته في اعداد رسالة الماجستير
    فجمعت له اسماء بعض المراجع
    وبعض النصائح في البحث
    وصرنا اصدقاء (بفضل الله)
    وكانت هذه رسالته الأولى:
    (السيد الأستاذ الفاضل السعيد الفقي
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أناطالب ماجستير وقد اخترت عنوان رسالتي عن "طرق تدريس قواعد اللغة العربية في المعاهد الإسلامية في الهند"
    أنا الآن في مرحلة إعداد الخطة ولكن ما زالت لم استطع إعداد الخطة البحث
    وأنا الآن في كامل حيرتي حول هذا العنوان والتي يتبعه بالتأكيد الحيرة في وضع أسئلة الدراسة ,
    فالرجاء مساعدتي في ذلك)
    وتوالت الرسائل
    واستفدت أنا
    واعتقد انه استفاد
    ودعوت له الله بالتوفيق
    واتمنى ان يكون قد دعا لي بظهر الغيب
    ====
    هذه هي رسالته الاخيرة

    مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند

    مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند
    علاقة الهند بالعرب قديماً:
    كانت للهند علاقة مع العرب قبل دخول الإسلام في هذا البلد، و لكن كانت علاقة تجارية فقط، تعلم الهنود اللغة العربية لكثرة رحلاتهم إلي البلاد العربية في الشتاء و الصيف. حتى قدر بعضهم على إقراض قصيدة في الشعر العربي.
    تلخيص الحكم الإسلامي في الهند:
    إن المسلمين قد توجهوا إلي الهند في القرن الأول، و كانت الاتصالات التجارية و العلمية قائمة بين الهند و البلاد العربية خلال العصور السابقة للإسلام و توالت الحملات الإسلامية بعد قيام الحكم الإسلامي في الهند، في عهد بني أمية.
    شرف الهند بالدين الإسلامي في مستهل القرن الثامن الميلادي المطابق في القرن الأول للهجرة، بعد فتح "السند" بيد عماد الدين محمد بن قاسم الثقفي الذي ولاه حجاج بن يوسف الثقفي علي ثغر الهند في أيام الوليد بن عبد الملك، ثم دخلت القبائل الأفغانية التي كانت تدخل الهند في موجات متتالية من شمال غربي الهند، ثم تعود إلي مقرها، و ظل الحكم متداولاً بين حكام مختلفين من غزنيين و غوريين، و غيرهم من الأسر الحاكمة و المماليك إلي عهد الملك المغولي همايون بن بابر الذي تولي الحكم في عام 933 هـ، فأقام حكم المغول الذي دام إلي القرن الثالث عشر، و انتهي باستيلاء الإنجليز علي الهند كلياً بعد نفي آخر ملوك المغول بهادر شاه ظفر إلي بورما في عام 1273 هـ (1857 م).
    كان أول من دخل الهند من الفاتحين من غير العرب، محمود بن سبكتكين الغزنوي (388-421 هـ) صاحب الحملات المتتالية المشهورة، فقد شن محمود الغزنوي حوالي 17 غارات مكثفة انتصر فيها، و عاد إلي غزنة.
    و في عهد الغوريين فتحت غجرات بيد قطب الدين أيبك مملوك شهاب الدين الغوري، الذي توجه إلي الهند عام 572 هـ، و في عهد علاء الدين الخلجي أقيمت دولة إسلامية في "نهر والا" بغجرات، و أقيم أول مسجد فيها، ودخل قطب الدين أيبك دلهي عام 589 هـ، وجعلها دار ملكه، و فتح مناطق واسعة، و بعد وفاته تولي الحكم السلطان شمس الدين ألتمش.
    ثم جاءت أسرة تغلق التي كانت مملكتها تابعة للخلافة العباسية، و في عهدها توسع نطاق الحكم الإسلامي إلي مناطق شاسعة، ثم تولت الحكم الأسرة اللودهية.
    و في سنة 933 هـ جاء بابر التيموري من كابل، و أسس الإمبراطورية المغولية، و في عهد ابنه نصير الدين همايون (م 963هـ) نهض شير شاه فريد الدين السوري (م 952 هـ) الذي أسس دولة لم تسبق، ثم تولي الحكم الملك أكبر بن همايون بعد والده الذي كان أجبر علي الخروج من الهند، و خلفه بعد وفاته ابنه جهانكير الذي رباه تربية حسنة الإمام أحمد بن عبد الأحد الفاروقي السرهندي عام 1014 هـ، فأصلح ما أفسده والده، و تغير نظام الدولة بتأثير صلة الإمام السرهندي (1034-971 هـ/1624-1563 م).
    ثم انتقلت الولاية إلي ابنه شاهجهان (م 1068 هـ) وقد خلف شاهجهان آثار إسلامية خالدة، منها الجامع الكبير، و القلعة الحمراء في دلهي، و التاج محل في آجره، و هي الدرة اليتيمة في البناء، ثم تولي الحكم الإمبراطور أورنج زيب بن شاهجهان (م 1118هـ) الذي فتح عهداً جديداً و أعاد للإسلام مجده و صولته، و نفذ التعاليم الإسلامية و الشريعة الإسلامية، يعتبر عهد الملك أورنج زيب العهد الذهبي، نفذت فيه التعاليم الإسلامية و الشريعة الإسلامية، و دونت الفتاوى، وقضي علي رواسب الحكم السابق الذي كان قد انحرف عن الإسلام.
    و بعد وفاة السلطان أورنج زيب في عام 1707 م تفككت السلطة السلالية، و تفرقت كلمة المسلمين، فحدث انفصال عدة أجزاء من الحكومة المركزية بدلهي، و استولي غير المسلمين (المرهته، قبائل جات، السيخ) علي أجزاء أخري، و أنشأوا دولة موحدة، و في هذا الوضع جاءت حملات نادر شاه الذي هاجم دلهي كالعاصفة (1151 هـ \ 1738م) و هزّ كيان الدولة المغولية، و بعد رجوع أحمد شاه الأبدالي الذي جاء عام 1757م بدعوة الشيخ ولي الله الدهلوي إلي مقره، امتد الصراع بين الأمراء، و استغل الإنجليز هذا الصراع، و لم يلق الإنجليز مقاومة تذكر في بسط نفوذهم إلا من السلطان تيبو حاكم ميسور (م 1212هـ - 1799م) الذي قال عند وفاته القائد الإنجليزي الجنرال هارسن: "من اليوم الهند لنا".
    (فليراجع للتفصيل، "الثقافة الإسلامية في الهند / للعلامة عبد الحي الحسني" "الهند في العهد الإسلامي / للعلامة عبد الحي الحسني" "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين / للشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي")


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند

    أهمية اللغة العربية عند الهنود:
    إن اللغة العربية لها أهمية خاصة لكونها لغة القران الكريم ولغة الأحاديث النبوية و لغة التي تؤدى فيها المناسك و المكتوبات. لذلك اهتم المسلمون خالص الاهتمام إلي تعليم هذه اللغة المرموقة، إلي أن جعلت كثير من البلاد الأفريقية، اللغة العربية لغتهم الأم، فلذلك يطلق عليهم اصطلاح "العرب المستعربة". و لكن في شبه القارة الهندية و باكستان و بنغلاديش اهتم المسلمون إلي اللغة العربية واعتنوا بها كل الاعتناء إلي أن تفوقوا في تعليمها و ترويجها، وأقاموا المعاهد والجامعات والمدارس و المكاتب في أكثر مدن الهند و قراها.
    الهند بلدة قدامى ممتازة، من سائر البلدان العجمية تجارة و اقتصادا وحضارة وثقافة، كانت لها الصلات و العلاقات التجارية مع العرب قبل الإسلام وبعده، وأنها لم تكن غريبة لدى العرب حيث سافر العير العرب للتجارة إلي سواحل الهند الغربية والجنوبية.
    فلما أسس عماد الدين محمد بن قاسم الثقفي أولي حكومة إسلامية مستقلة في السند في مستهل القرن الثامن الميلادي المطابق في القرن الرابع الهجري، وكانت هذه أول علاقة بين الهند والعرب بعد ظهور الإسلام، هاجر عدد كبير من العلماء العرب واستوطنوا بها، وبذلوا جهدا مستطاعا لنشر الثقافة العربية الإسلامية و تعليمها، ظلت اللغة العربية وآدابها من أهم المواد في المناهج الدراسية الإسلامية في كل عصر. فكان المسلمون في احتياج عظيم إلي تعلم هذه اللغة لفهم القران الكريم والحديث النبوي و اهتموا كل الاهتمام إلي أن قيل " نزل القران في العرب، و قرئ في مصر، و فهم بالهند".
    و اللغة العربية ما زالت من اللغات الدخيلة في الهند علي مدي عصورها الإسلامية الطوال، و لم تحظ أبداً درجة اللغة الأم ورغم ذلك انتشرت اللغة العربية و تطورت الفنون الإسلامية الأدبية في أنحاء الهند، فقد تأسست فيها مدارس عربية، و مراكز ثقافية و كليات أقسام في الجامعات لخدمة اللغة العربية و تخرج فيها أدباء و كتاب و شعراء و صحفيون حتى يضاهي عدد العلماء الهنود كبار العلماء العرب.
    تاريخ بداية المدارس:
    حث النبي الكريم إلي تحفيظ المصحف الكريم و دعا القران المجيد إلي فهمه حيث قال في مواقع كثيرة "لعلكم تعقلون" "لأولي الألباب" و مثلها، فبدأ الدرس الأول أساساً في 9/ سنة من الهجرة (630 للميلاد) تقريباً. و بما أن التعليم بدأ بدراسة القران الحكيم و علومه، ثم جاءت فكرة إنشاء المدارس الابتدائية، و كان التدريس مختلط الأبناء و البنات حتى المستوي الابتدائي، و لم يمنح لهم التعليم المختلط فوق هذا المستوي لحظر الإسلام هذا الاختلاط.
    و كان المنهج التعليمي يتكون من دراسة القرآن الكريم و فن الكتابة (الخط)، وبهذا سميت المدرسة الابتدائية كتاب و مكتبة – و كان المدرس يسمي مؤدباً، و كانت الكتابة تخط في الألواح و اللوحات و هي كانت تتنوع بتهجية و أشكال عديدة و صورة متنوعة لكلمة باللغة العربية، (مناهج الدراسات العربية في الهند – ص 16) فيكتب الدكتور عبد الله الدائم:
    " لم يكن هدف المسلمين من التربية دنيوياً محضاً كما كان عند اليونان و الرومان مثلاً، و لم يكن دينياً كما كان عند الإسرائيليين في الصدر الأول، وإنما كان غرضهم دينياً و دنيوياً معاً، و كانوا يرمون إلي إعداد المرء لعملي الدنيا و الآخرة، و في القران الكريم "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة و لاتنس نصيبك من الدنيا" (سورة القصص، الآية 77) و في الحديث الشريف: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً" (التربية عبر التاريخ : من العصور القديمة حتى أوائل القرن العشرين – دار العلم للملايين بيروت، 1975 م، ص – 142)
    ولما انتشرت العلوم و المعرفة، أنشئت المدرسة (المدرسة الثانوية) والمعلم سمى بالمدرس، وكان العلماء الكبار يدرسون طلاب الدراسات العليا في مسجد كبير من المدينة سمى بالجامع (المسجد الذي يقيم فيه الناس صلاة الجمعة) كانت أسماء أخرى لمكان المدرسة هي دار العلم، دار المعرفة أو دار الحكمة، ورئيس الجامع يلقبونه الشيخ أو الإمام و ثم العلامة يعنى العالم الكبير. و يكتب الدكتور عبد الله عبد الدائم:
    "يرتبط تاريخ التربية الإسلامية بالمسجد ارتباطا وثيقا. و قد قامت حلقات الدراسة في المسجد منذ نشأ، و استمرت كذلك علي مر السنين و القرون. و لعل السبب في جعل المسجد مركزا ثقافيا هو أن الدراسات أيام الإسلام الأولي كانت دراسات دينية تشرح تعاليم الدين الجديد، ثم توسع المسلمون في عصورهم التالية في فهم مهمة المسجد فاتخذوه مكانا للعبادة و معهدا للتعليم و دارا للقضاء، و كان أول مسجد أنشئ في الإسلام مسجد قباء و كانت تعقد فيه حلقات العلم. و ازداد عدد المساجد مع مضي الزمن زيادة كبيرة، فما جاء القرن الثالث حتى كانت بغداد تغص بالمساجد، و يحكي أن اليعقوبي عد فيها ثلاثين ألف مسجد. و من أشهر المساجد و الجوامع التي قامت فيها حلقات العلم، هي: جامع المنصور و جامع عمرو بن العاص. إن الحلقات العلمية بالمساجد لم تكن مقصورة علي الدراسات الدينية و إنما تعدتها إلي سواها من معارف ذلك العصر، و إن الدراسات اللغوية و الأدبية كانت تجد طريقها إلي المسجد، و كان علم العروض أيضا يدرس بالمسجد، كما درس فيه الطب و الميقات. (التربية عبر التاريخ : من العصور القديمة حتى أوائل القرن العشرين – دار العلم للملايين بيروت، 1975 م، ص - 153 - 152)

    الحركة العلمية القديمة في الهند مراكزها ومزاياها

    منهج التعليم القديم ومراكزه العلمية :
    إن تاريخ منهج التعليم وأعداده ، وأدواره التي مر بها وتطوره في العهد الإسلامي طويل وعسير كذلك، فإن متابعة هذه المراحل التعليمية تتطلب تحليل الظروف الممتدة إلى ثمانية قرون، وتنتشر مواد هذه الدراسة ومصادرها في كتب التراجم و التاريخ والسير وأقوال السلف الصالحين ومذكراتهم، كما يطول تاريخ أساتذة هذا المنهج الخاص، فقد أمس الأمراء المسلمون، والسلاطين المسلمون، ومحبو العلم، والأغنياء الذين قاموا بتمويل هذا المنهج وإدارته، مدارس في القرى، والمديرات وأنشئوا شبك للمدارس، ولا يوجد اليوم وسيلة لاستقصاء هذه المدارس، واستخراج تفاصيلها. (وقد بذل العلامة عبد الحي الحسني في كتابه الجليل " جنة المشرق " جهده للتنقيب عن هذه النظام السائد ، الذي تشير إليه كتب السير والتاريخ بصورة غير مباشرة ، تبلغ عدد لمدارس المذكورة في الكتاب والمعرفة فيه 103 مدرسة، ويجدر بالذكر أن هذه المدارس تضم مدرسة نسائية أيضاً وكان من مساعدي هذه المدارس ومعلميها عدد من الأميرات أيضاً) .
    وليس في وسع هذه الورقة كذلك استقصاء التطورات التي طرأت على هذا المنهج التعليمي في مختلف العصور، والتعديلات التي أجريت فيه حسب الظروف والمقتضيات، والأسر والأماكن التي احتلت المكانة المرموقة، والرئاسة، ومحل القيادة في تسيير هذه الشبكة وترقيتها، وإنه لموضوع يتطلب تأليف كتاب مستفيض محقق، ونقدم هنا تلخيصاً بإجراء بض تعديلات يسيرة لمقال كتبه العلامة عبد الحي الحسني أحد كبار مؤرخي العصر الإسلامي في الهند، ويكشف المقال عن بعض مزايا هذا النظام الذي ساد البلاد كلها ومراحل تطوره التي أغفلتها كتب التاريخ العام فيقول في مقاله:
    " إن التاريخ يدلنا على أن العلم وصل إلى هذه البلاد مع الغزاة وأن كل تغير أو تحول وقع في بلاد ما وراء النهر والعراق حيناً بعد حين أثر على منهج التعليم السائد في الهند كذلك".
    (مجلة " الندوة " ( العهد الأول 1909ج 6 عدد1) وقد أفرد هذا لمقال للنشر باسم "منهج التعليم في الهند وتطوراته")

    السند وملتان :
    لقد استنارت صحراء السند وملتان بالعلم قبل كل بلد آخر ، وامتد بريق العلم إلى أن شمل الهند كلها بنوره، وقد استفاد ملوك غزنيين بهذا النور وسبقوا إليه عندما حولوا لاهور عاصمة للهند.
    دلهي :
    وتدفق العلماء ورجال الفن إلى دلهي عندما نالت العلوم التشجيع من البلاد بعد فتح دلهي، فاجتمع عدد من العلماء العباقرة في هذا البلد، فأصبحت المدينة مورداً عذباً للعلم يرد إليه المتعطشون للعلم ورواده من كل فج عميق للتعليم والاستفادة .
    فكانت دلهي في عهد غياث الدين بلبن، وكل بقعة منها تمثل مآثر قرطبة وبغداد وتحي ذكرياتها لوجود أفذاذ من العلماء مثل شمس الدين الخوارزمي، وشمس الدين قوشجي، وبرهان الدين البلخي، وبرهان الدين البزاز، ونجم الدين الدمشقي، وكمال الدين زاهد، وغيرهم من كبار العلماء .
    وفي عهد علاء الدين الخلجي اجتمع في المدينة علماء يزيد عددهم على 46 عالماً، أمثال ظهير الدين بهكري، وفريد الدين الشافعي، وحيدر الدين مخلص، وشمس الدين، ومحي الدين الكاشاني، وفخر الدين البانسوي، ووجيه الدين الرازي، وتاج الدين القدم، وذكر المؤرخ ضياء الدين البراني المشهور بتاريخه، أنه لم يجتمع مثل هذه النخبة من العلماء في بلد آخر في العالم.
    وكان في عهد محمد شاه تغلق علماء أمثال معين الدين العمراني، والقاضي عبد المقتدر، ومولانا خواجكي، والشيخ أحمد التهانيسري، الذين رووا مثل الشيخ شهاب الدين الدولة آبادي، فصار ملك العلماء، فكان يشار إليه بالبنان وتشد إليه الرحال .
    ووصل في عهد فيروز شاه الشيخ جلال الدين الرومي، وأسند إليه منصب عميد المدرسة الملكية، ووصل في نفس العهد الشيخ نجم الدين السمرقندي، فسقى البلاد بعلمه، وروى المسترشدين .
    وفي عهد سكندر لودى وصل إلى ملتان الشيخ عزيز الله التلنبي والشيخ عبد الله، فرفعا مستوى علم المنطق والفلسفة وعززا المنهج وحسناه .
    وفي عهد الملك التيموري أكبر قدم الشيخ فتح الله شيرازي الملقب بـ عض الملك، وطار صيته في البلاد، وفي نفس العهد نال فن الطب الأهمية القصوى بورود الطبيب شمس الدين، وابن أخته الطبيب على الكيلاني، كما خدم الشيخ عبد الحق علم الحديث فطبق الآفاق.
    وفي عهد شاهجهان وعالمكير، لمع نجم مير زاهد، فسخر القلوب، وبهر العيون بمباحثه ومناقشته، ونكته الدقيقة، فصار يعد كأنه مؤسس منهج التعليم النظامي، فكان من تلاميذه قاضي مبارك وأسرة الشيخ ولي الله الدهلوي، الشهيرة التي تضم الشيخ عبد العزيز، و الشيخ رفيع الدين، والشيخ عبد القادر، والشيخ عبد الحي، والشيخ محمد إسماعيل، والشيخ محمد إسحاق، والشيخ رشيد الدين، ومن تلاميذ هذه الأسر النجباء المفتي صدر الدين خان، والشيخ مملوك علي الذين يعدون أساتذة الهند، وشيوخ العصر، ويرجع إليها أصل جميع نظام التعليم المعاصر .
    لاهور :
    أحرزت لاهور قصب السبق في العلم وازدهاره، ولكن تطو دلهي أخمد حركة العلم في لاهور لبعض الوقت، ثم استعادت لاهور دورها فازدهرت العلوم فيها بوصول جمال الدين، وكمال الدين الكشميري، والمفتي عبد السلام، والملا عبد الحكيم السيالكوتي، وأمثالهم من مشاهير العلم، فتوجه إليها ألوف من طلاب العلم وخطابه، واغترفوا من هذا المنهل .
    جونبور:
    أنجبت جونبور برعاية وتشجيع السلاطين الشرقيين، علماء أمثال الشيخ أبي الفتح شهاب الدين الدولة آبادي، والشيخ إله داد، والشيخ محمد أفضل أستاذ الملك، والعلامة محمود صاحب " الشمس البازغة " وديوان عبد الرشيد، والمفتي عبد الباقي، وملا نور الدين، ففتحوا البلاد كلها بعلمهم، وطبق صيتهم الأرجاء كلها .
    كجرات :
    ونبغ في كجرات الشيخ محمد طاهر الفتني صاحب "مجمع بحار الأنوار" والشيخ وجيه الدين العلوي الكجراتي، وملا نور الدين، وغيرهم، فرووا شجرة العلم، وفي هذا العهد ترعرع قاضي ضياء الدين من سكان نيوتني في كنف الشيخ وجيه الدين، ونال التربية منه في كجرات، وانتقل إلى وطنه بعد نبوغه في العلم، فاستفاد منه العلامة لطف الله، ونبع في تلامذته الشيخ أحمد، صاحب "التفسيرات الأحمدية" و "نور الأنوار" المعروف بملا جيون، وملا على أصغر، وملا محمد أمان، وقاضي عليم الله، وكان كل منهم رئيس مذهب وطريق، وانتهت إليهم رئاسة التدريس في عهدهم.
    إله آباد :
    وفي إله آباد رفع راية العلم والتدريس الشيخ محب الله، وقاضي محمد آصف، والشيخ محمد أفضل، والشاه خوب الله، والشيخ محمد طاهر، والحاج محمد فاخر زاير، و المولوي بركت، و المولوي جار الله، وعلماء آخرون خدموا العلم فنفقت سوقة على أيديهم مأة سنة تقريباً .
    لكناؤ :
    و انتقلت هذه التحف السنية أولاً إلى لكناؤ من جونفور بفضل الشيخ أعظم أبو البقاء الكرماني، ثم تولى هذا المنصب الشاه بير محمد، وكان تلميذه غلام نقشبند، فوسع مجال الإفادة، وجذب الأنظار، وذاع في عهده صيت الشيخ قطب الدين السهالوي الذي كان عالماً مشهوراً في طريق الشيخ عبد السلام الديوي والشيخ محب الله الإله آبادي، وبعد شهادة الشيخ قطب الدين خلفة في نشر العلم وتخريج الطلبة ولده ملا نظم الدين، وانتهت إليه الإمامة في التدريس وتربية الأساتذة، وتحولت لكناؤ إلى مركز نشاط علمي، فأعد منهجاً للتدريس، قبلته جميع المدارس قبولاً عاماً مرضياً، ونبغ في أسرته ملا حسن، والعلامة عبد العلي المعروف ببحر العلوم، وملا مبين، والمفتي ظهور الله، و المولوي ولي الله، والمفتي محمد أصغر، والمفتي محمد يوسف، و المولوي نعيم الله، و المولوي نور لله، و المولوي عبد الحكيم، و المولوي عبد الحليم، والعلامة عبد الحي، وأمثالهم، فكان كل عالم منهم نابغة عهده وفريد نوعه، يندر مثاله في أسرة أخرى .
    المناطق الريفية في شمال الهند :
    ولم يأل من هؤلاء العلماء الذين تتلمذوا على شيوخ هذه الأسر العلمي جهداً في نشر العلم، فانتشروا في الأرض، وجابوا البلاد، فكان ممن حملوا لواءه الشيخ قطب الدين الشمس آبادي، وقطب الدين كوبامئوي، ومحب الله البهاري، وأمان الله البنارسي، وملا كمال الدين، و المولوي بركت، و المولوى حمد الله، و المولوي ياد الله، و المولوي فضل إمام، و المولوي فضل حق، وفلذة كبده المولوي عبد الحق، كانوا جميعاً كباقة زهور في هذه الحديقة العلمية .
    فانتشر العلم في سائر أنحاء ولاية الهند الشمالية المعروفة في ذلك الهد بـ " أوده " ونققت سوقة، فلم يبق مكان إلا وقد استنار بالعلم والمعرفة، وكانت أهم هذه الأماكن جائس، و هرجام، ونيوتني، وكوبامئو، وبلجرام، وسنديلة، وكاكوري، فقد أنجبت هذه الأماكن العلماء بكثرة لا يوجد مثيلها في أماكن أخرى.


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند

    العصور المختلفة لمنهج التعليم :
    ويجدر بنا أن نقسم مراحل المنهج التعليمي إلى أربعة أدوار توخياً للسهولة، أو أن نجمع هنا تفاصيل الكتب الرائجة في ضوء ما تذكره طبقات المشايخ والشعراء، والمذكرات، أو مجموعات الكتب والخطب (حذفنا أسماء كتب المنهج التعليمي لأنها لا تخص إلا برجال الفن ، فمن أراد التفصيل فليراجع مقدمة " الثقافة الإسلامية في الهند")
    العصر الأول :
    يبدأ من القرن السابع الهجري وينتهي في القرن العاشر حيث بدأ العصر الثاني، فكانت دراسة الفنون الآتية لازمة في هذا الدور، وهي الصرف، والنحو، والبلاغة، والفقه، وأصول الفقه، والمنطق، والكلام، والتصوف، والتفسير، والحديث .
    وعندما ندرس أحوال العلماء في هذا العصر نرى أن الفقه وأصول الفقه كان مقياس الفضيلة كما يعتبر المنطق والفلسفة مقياس العلم في هذا العصر .
    العصر الثاني :
    وصل الشيخ عبد الله والشيخ عزيز الله من ملتان في أواخر القرن التاسع الهجري (كلاهما كان من سكان تلنبه الواقعة في ضواحي ملتان)
    واستوطن الشيخ عبد لله دلهي، والشيخ عزيز الله سنبهل، ورحب بهما الملك سكندر لودهي ترحيباً حاراً، حتى إن الملك نفسه كان يحضر مجلسهما، وكان قد بلغ من احترامه وإجلاله لهما أنه كان يجلس في زاوية من المسجد لكيلا يحدث قدومه اضطراباً في مواصلة الدرس، وكان يستمع إلى محاضرة الشيخ باهتمام وشوق، ثم يتشرف بلقاء الشيخ عبد الله بعد انتهاء الدرس .
    وذاع صيت الشيخين بسرعة في أنحاء الهند لما كانا يتمتعان به من تفوق علمي، ويتصفان بكمال وفضل مرموقين، ويتميزان بهما عن أقرانهما، ولتشجيع الملك، وأجريا تعديلات في منهج التعليم، ورفعا مستوى الفضيلة، فأدخلا من مؤلفات القاضي عضد، المطالع و المواقف، وكتاب مفتاح العلوم للسكاكي، فأصبحت هذه الكتب متداولة بسرعة .
    وفي هذا العهد نالت شروح المطالع والمواقف (كتاب في المنطق للمنتهين) القبول العام بمساعي تلامذة مير سيد شريف كما أدخل تلامذة تفتازاني كتاب المطول والمختصر (في فن المعاني والبيان، ولا تزال هذه الكتب مدرجة في المنهج) والتلويح (في أصول الفقه) وشرح عقائد النسفي (في علم العقائد)
    وضم المنهج في نفس الفترة شرح الوقاية (في الفقه الحنفي)، وشرح ملا جامي (كتاب في النحو مزيج باستدلال منطقي)
    وارتحل إلى الحجاز أكبر عالم في عصره وهو الشيخ عبد الحق المحدث من الهند، ومكث في الحجاز ثلاث سنوات وأكمل دراسة الحديث النبوي الشريف على علماء الحرمين الشريفين، ونقل هذه الثروة العلمية، فعكف هو و أولاده النبغاء على نشر هذا العلم، ولكن لسوء الحظ لم ينل هذا العلم القبول في عهدهم، فكان هذا الشرف حليف الشيخ ولي الله الدهلوي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
    العصر الثالث :
    كان التغيير الذي حدث في منهج التعليم في العصر الثاني قد أثار آمال الناس وطموحهم ورفع مستوى العلم ، فطمحوا إلى رفع هذا المستوى إلى درجة أعلى ، فكان قدوم الشيخ فتح الله الشيرازي باعثاً جديداً ، وحافزاً على التقدم في التعليم في المعاهد التعليمية، ولقبه البلاط الأكبري بـ عضد الملك، فقبل العلماء التعديلات التي أجراها الشاه فتح الله الشيرازي في المنهج الدراسي .
    من الظلم أن ننسى في هذه المناسبة خدمات الشيخ وجيه الدين العلوي الكجراتي، فقد كان هذا الرجل الصالح تلميذاً للباحث المحقق الدواني بطريق واحد فأدخل في المنهج مؤلفات المتأخرين، فلم تكن منطقة كجرات وحدها المتمتعة بهذا السيل العلمي، بل وصلت روافده إلى الهند الوسطى، وقد كان القاضي ضياء الدين، من سكان نيوتني فنقل هذه الثمرة إلى هذه المنطقة من كجرات، فجناها لشيخ جمال ونشر هذه التحفة إلى أقصى المناطق، وكان ملا لطف الله تلميذاً رشيداً للشيخ جمال فقرأ عليه ملا جيون صاحب " نور الأنوار" وملا على أصغر، والقاضي عليم الله، وملا محمد زمان، وغيرهم من العلماء، وكان كل عالم منهم صاحب مدرسة وسلسلة، ولكن لم ينل هذا المنهج القبول العام إلا بجهود العلامة فتح الله الشيرازي الذي انتشر تلامذته وتلامذة تلامذته في أنحاء الهند المختلفة، وروجوا هذا المنهج.
    كان المفتي عبد السلام من أجل تلامذة فتح الله وقد درس أربعين سنة في لاهور، وأفاد ألوفاً من طلاب العلم، ولكن لم ينل الشرف العلمي، والخلود العلمي إلا بضعة طلبة من ألوف منهم، وكان من هؤلاء الأمجاد الذين نالوا هذا الشرف والامتياز، الشيخ محب الله من إله آباد، والمفتي عبد السلام من ديوه فقرأ على الشيخ عبد السلام في لاهور وأنشأ مركزهما، وكان الشيخ قطب الدين السهالوي تلميذاً لهما بواسطة واحدة، وهو والد الشيخ نظام الدين مؤسس المنهج النظامي الشهير .
    كان الشيخ ولي الله ( م 1176ه‍) آخر وأشهر عالم لهذا العصر، وقد زار الشيخ ولي الله الدهلوي الحجاز، وقرأ الحديث الشريف على الشيخ أبي طاهر المدني عدة سنوات و أكمل الدراسة، ثم انتقل هذا العلم إلى الهند، وعكف على نشره وخدمته ونشط فيه فخلف أثراً خالداً، ولا يزال يلمس رغم كساد السوق، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إن درس الصحاح الستة وتدريسها في الهند مدين كلياً لخدمته، ويرجع أصله إلى عهده، وقد بذل الشيخ ولي الله وخلفه الصالحون البررة حياتهم كلها في خدمة هذا العلم ونشره .
    وأعد الشيخ ولي الله الدهلوي حسب ذوقه وفكره منهجاً جديداً، ولكن مركز الثقل العلمي في ذلك العهد كان قد انتقل لأسباب سياسية من مدينة دلهي إلى لكناؤ حيث نال المنطق والفلسفة قبولا وأهمية، فلم يحظ هذا المنهج القبول والشعبية .
    العصر الرابع :
    يبدأ العصر الرابع من القرن الثاني عشر الهجري، وقد قام بتأسيسه الشيخ نظام الدين بقوة وعزم وهمة، ففاق جميع المناهج وقهر الألباب، فلم يناهضه منهج آخر، ولا يزال يحتفظ بقوته وجاذبيته ولم ينقص منه شيء (هذا الحكم كان يطبق على الظروف السائدة قبل خمسين، وقد قادت ندوة العلماء حركة تغيير المناهج الدراسة وملكت جهود القائمين بها بالنجاح وأخذت المعاهد تعيد النظر في مناهجها الدراسية وتجري تعديلات جوهرية فيها)
    مزايا منهج التعليم القديم :
    لم يكن نظام التعليم القديم منزهاً عن النقائص ومواطن الضعف كلياً، فقد كانت عدة نواحيه تحتاج إلى الإصلاح والنقد والتنقيح من الناحية الفنية، لكنه كان يحمل بعض خصائص ومزايا خاصة بفضل ما كان يتسم به المسئولون عنه والداعون إليه من صفات شخصية وروح دينية وطبية امتيازية، فسرت إلى ذلك النظام تلك الخصائص الشخصية التي تعوز النظام الجديد للتعليم، ونذكر فيما يلي بعض هذه الخصائص البارزة التي نجدها منتشرة في كتب التاريخ، وقد انتقلت هذه الخصائص جيلا بعد جيل إلى طبقات المعلمين، والمدرسين، وتلامذتهم .
    الإخلاص والإيثار :
    كانت الميزة الكبرى التي كان يتسم بها الأساتذة في العهد الماضي والتي كانت شعارهم الخاص، هي الإخلاص والإيثار، وحيث إن الثواب في الآخرة للتعليم والتعلم والفضيلة الدينية للمعلم والأساتذة كان مرتسماً في مخيلتهم، أصبح ذلك عقيدتهم وجزءاً من إيمانهم، فكانت أغلبيتهم الغالبة تسعى وراء التعلم والتعليم إلى نيل مرضاة الله، وحصول الثواب والأجر في الآخرة، وكان يعتبر هذا الشغل أفضل عبادة وسعادة، فخلد عدد كبير من هؤلاء الطالبين للعلم آيات الإيثار والزهد، والعيش بالكفاف، والتركز الكامل على شغلهم العلمي، يقاسون في ذلك الجوع والفقر، ويحتملون كل مكروه ومضايقة بطيب الخاطر، وإن تاريخ العلم وطبقات العلماء في الهند، حافل بذكر هؤلاء الأساتذة، وزهدهم في الحياة وإيثارهم، والفقر والجوع الذي احتملوه في حياتهم، وابتعادهم عن ملذات الحياة، ومن بين القصص المؤثرة للإيثار وتحمل المكروه نورد هنا قصة غريبة تدل على ما أسلفنا .
    يحكى مؤرخ الهند مولانا غلام على آزاد البلكرامي في " مآثر الكرام " قصة لمحدث بلكرام الشهير، والأستاذ الكبير، ميرسيد مبارك ( م1115ه‍) نقلاً عن أستاذه مير طفيل محمد :
    " حضرت مرة في مجلس مير مبارك وكان قد نهض من مجلسه للوضوء، إذ زلت قدمه وسقط، فأسرعت إليه وأخذت بيده، وأردت أن أجلسه، وقد أغمى عليه، فلما أفاق سألته عن سبب هذا الضعف والنقاهة، فلم يقل كلمة وظل صامتاً فلما أصررت عليه، قال إنه لم يأكل لقمة واحدة منذ ثلاثة أيام، ولم يتضح أمر مير مبارك على أحد لأنه كتم أمره، ولم يقبل شيئاً من أحد، وقد أثر ذلك على نفسي ورق له قلبي، فذهبت إلى بيتي وأحضرت لأستاذي طعاماً كنت أظن أنه مرغوب لديه، فلما رأى الخوان بين يديه أظهر سروره، ودعا لي بخير، ثم قال : بارك الله فيك وفي طعامك، ولكن هل تقبل عذري فيه يا ولدي ؟ ثم قال بعد برهة : إنه طعام أشراف لما اصطلح عليه الصوفية ولو أن مثل هذا الطعام مباح باعتبار الفقه، وأن الشريعة تبيح أكل الميت بعد ثلاثة أيام من الجوع، لكن في مذهب التصوف والزهد لا يجوز أكل طعام الأشراف (طعام الأشراف هو الطعام الذي أشرفت إليه النفس وترقعه الآكل)
    سمعت كلام أستاذي فلم أقل شيئاً، ورجعت من مجلسه وحملت الخوان، وتوقفت برهة على الباب وانتظرت، ثم عدت ثانية أحمل الصينية فوق رأسي وقلت : هل كنت يا سيدي تتوقع هذا الطعام بعد رجوعي؟ قال لا، قلت إذا لا حرج الآن في تناوله، وأعجب الأستاذ بكلامي وحجتي، وقال : لقد غلبتني بذكائك وتأويلك، ثم أكله برغبة وشوق (مآثر الكرام ، ص 96-97)
    إن هذه القصة رغم كونها غريب وغير عادية، ليست فريدة من نوعها في تاريخ الهند العلمي والديني الذي هو حافل بقصص الأساتذة وزهدهم وقناعتهم، حتى إن الفقر، والجوع أصبح ميزة هذه الطبقة وطبيعتها. (نزهة الخواطر 1-2، ومآثر الكرام للبلكرامي، وتذكرة علماء الهند للشيخ رحمن علي، و" نظام تعليم وتربيت " للعلامة السيد مناظر أحسن الكيلاني)
    ولا تقل أثراً قصة أخرى تدل على الإيثار والعمل بإخلاص وتركيز كامل للمعلمين، يرجع عهدها إلى القرن الثالث عشر للهجرة.
    " كان الشيخ عبد الرحيم (م 1234ه‍) يدرس في رامفور، ورض عليه والي منطقة " روهيل كهند " الإنجليزي المستر هاكنس منصب التدريس في كلية " بريلي " براتب شهري يبلغ مائتين وخمسين روبية ( تقدر قيمته الآن بأكثر من ألفي روبية ) ووعده بأن راتبه سيزداد فيه ويرفع مستواه، فاعتذر قائلاً بأن إمارته تدفع إليه عشر روبيات، وستوقف هذه المحنة، فقال له هاكنس، إنه عرض عليه أضعاف هذا القدر وما عشر روبيات أمام مائتين وخمسين روبية؟ فقال : إن في بيتي شجرة سدر حلوة وهي محببة إلي كثيراً، فكيف السبيل إليها في بريلي؟ ولم يتطرق ذهن هذا الإنجليزي إلى حقيقة الأمر الذي كان يدور بخلد الشيخ. فقال: إني سأرتب لإيصال ثمرة هذه الشجرة إليك في بريلي. فقال إن لي تلاميذ في رامفور، فكيف أتركهم، و سأحرم فرصة خدمتهم، وحاول الإنكليزي إقناعه، فقال: إني سأقدم إليهم المنح الدراسية، و سيواصلون دراستهم في بريلي، ولم يبق في جعبة الشيخ إلا سهمه الأخير، فأطلقه وقال: صحيح ما تقول، ولكن ما يكون جوابي يوم القيامة على الارتزاق بالتدريس؟ (ماذا خسر العالم للمؤلف نقلاً عن نزهة الخواطر، ص 32)
    التكريس على العمل :
    إن انهماك الأساتذة والمعلمين في العهد الماضي في تدريسهم واستغراقهم فيه كان قد بلغ أقصى حد، لا يمكن تصوره بدون مثال فقد كان التعليم والتعلم غذاء روحياً لهم وعبادة ورداً لهم، فكانوا يخصصون معظم أوقات حياتهم، وجل وقت نهارهم وليلهم للتدريس، فدرس ملك العلماء العلامة وجيه الدين الكجراتي 65-67 سنة، والشيخ عبد السلام اللاهوري، والملا عبد الحكيم السيالكوتي، والشيخ علي أصغر القنوجي درسوا 60 سنة والشيخ أحمد الأميتهوي المعروف بملا جيون درس طول حياته وحتى في آخر يوم حياته، وقس على ذلك .
    كانت جميع أوقات المعلمين باستثناء الحاجات البشرية اللازمة والكفاية من الراحة تصرف للتدريس فكان ذلك الشغل الشاغل لهم، وقد درس بعضهم وحتى أثناء الطعام، والسير في الطريق، يقول الشيخ عبد القادر البدايوني عن أستاذه عبد الله البدايوني: إنه كان يذهب إلى السوق بنفسه لشراء حاجاته، وكانت جماعة الطلبة ترافقه فكان يدرسهم في الطريق (منتخب للتواريخ)
    كان العالم الجليل للعهد الأخير العلامة عبد الحي اللكهنوي يخصص لبعض الطلبة وقتاً قبل صلاة الفجر أيضاً، وكان ذلك من عادة بعض الأستاذة القدماء .
    الصلات مع الطلبة والعطف عليهم :
    كانت تقوم صلات وثيقة بين الطلبة والأساتذة وعلاقات لا يوجد لها مثيل في العصر الحاضر، وفي النظام التعليمي المعاصر، فكانت الطلبة مثل أولاد الأساتذة، بل أعز منهم، يكفلونهم و يشركونهم في طعامهم، وذكر عن المدرس المشهور الحكيم علي الكيلاني وهو من كبار الأطباء في العهد الأكبري، وطبيب أكبر الملكي أنه كان يدرس الطلبة دائماً ولا يأكل الطعام بدونهم (تذكرة علماء الهند ، ص 51)
    وكانت صلة أستاذ الملك الشيخ محمد أفضل الجونبوري مع طلبته أوثق، فلما توفى تلميذه العلامة محمود الجونبوري الذي كان يحبه كثيراً ويقربه إليه، صدم صدمة عنيفة لم يحتملها، يقول الشيخ غلام على أزاد البلكرامي: " لم ير أحد الأستاذ يبتسم أربعين يوماً، وبعد أربعين يوماً التحق بتلميذه " (مآثر الكرام، ص 97)
    وجه المنشى صدر الدين خان دعوة إلى ملك العلماء عبد العلي بحر العلوم للتدريس في بوهار ( بردوان ) وعرض عليه راتباً كبيراً فاعتذر بحر العلوم قائلاً: مائة طالب لا أستطيع مفارقتهم بدون أن أتأكد من توفير وسائل طعامهم وإقامتهم، فلما تكفل لهم المنشئ وتحمل المسئولية عنهم، توجه إليه، وقرر النواب والوجهاء ألف روبية شهرياً له، وكان بحر العلوم يصرف هذا المبلغ كله على الطلبة، لا يصل شيء منه إلى أسرته التي كانت تعيش في لكناؤ، فاضطر ولده ( الشيخ عبد النافع ) إلى السفر إلى والده، وتحدث إلى والده في ذلك لكن والده لم يغير من عادته و أخفق ابنه وعاد إلى وطنه (نزهة الخواطر ج 7 ترجمة للشيخ عبد النافع اللكهنوي)
    إن مثل هذه القصص ليس غريبة في تاريخ العهد الإسلامي في الهند، إنها منتشرة وقد شهد علماء ذلك العهد وجيله نماذج العطف والشفقة من أستاذتهم بعينهم .
    علاقة الطلبة مع أساتذتهم :
    كان الطلبة كذلك مرتبطين بأساتذتهم ارتباطاً وثيقاً، تقوم بينهما علاقة وثيقة، علاقة السعادة والارتباط الروحي، والتعلق القلبي، وقد خلد التاريخ قصة العلامة نظام الدين اللكهنوي، فلما ذاع خبر وفاته فقد تلميذه السيد ظريف العظيم آبادي بصره بكاء على أستاذه، ولم يستطيع تلميذه الآخر السيد كمال الدين العظيم آبادي (نزهة الخواطر ج 6) أن يحتمل هذه الصدمة فوافته المنية، ثم علم أنه حي، وأن الخبر كان مجرد إشاعة، لو أن هذا الحادث نادر الوقوع، لكن ولاء الطلبة وفداءهم وحبهم العميق مع أساتذتهم، والتفاني فيهم، كان ميزة ذلك العهد، وشعار ذلك الجيل، ويدل على ذلك ما كتبه العلماء في تراجم أساتذتهم .
    تشجيع الأمراء والملوك :
    وكانت الميزة الأخرى لنظام التعليم القديم أن الملوك والأمراء وولاة الأمر وحكام المدن، كانوا يعتبرون خدمة العلماء المخلصين والأساتذة والمربين الأجلاء، وتوفير راحتهم سعادة وشرفاً لهم، ووسيلة لنجاتهم في الآخرة، وفلاحاً لهم، ويوجد في تاريخ الهند أمثلة كثيرة لهذا التشجيع الملكي للعلم والعلماء فقد حرص ولاة الأمر على إراحة العلماء والمشايخ، فيقول مؤلف " تاريخ فرشته " ( محمد قاسم يجابوري )
    " أصيب مرة ملك العلماء القاضي شهاب الدين الدولة آبادي بمرض شديد، فذهب السلطان إبراهيم الشرقي إليه ليعوده، وبعد عيادته والاستطلاع عن صحته، والتدبير لعلاجه طلب الملك كأساً من الماء، وأدار الكأس على رأس الشيخ وشربها، ثم قال: يا رب أنزل البلاء المقدر للقاضي علي، واكتب له الشفاء (تاريخ فرشته ج4 ص677، توفي القاضي بعد السلطان في نفس السنة 80 أو بعد عامين في سنة 842ه‍)
    أعرب الإمبراطور أكبر عن حزنه وأسفه على وفاة الأمير فتح الله الشيرازي قائلاً :
    "لو كان الفرنج اعتقلوه، وطلبوا كل ما أملك من ثروة فدية له، لكانت هذه الصفقة رخيصة ورابحة، ولكانت هذه القيمة زهيدة ".
    وزن شاهجهان الملا عبد الحكيم السيالكوتي مرتين بالفضة والقاضي محمد أسلم الهروي (والد العلامة مير زاهد) مرة بالذهب، وكانت هذه عادة الملوك القدماء لإظهار احترامهم وتقديرهم وإجلالهم.
    وقد صور "الأغصان الأربعة" الشيخ ولي الله اللكهنوي الطريقة التي قوبل بها الشيخ عبد العلي بحر العلوم لدى وصوله إلى مدارس بالكلمات الآتية :
    " لما وصل موكبه إلى باب القصر الملكي، أراد الشيخ أن ينزل، فأشار النواب والاجاه بأن يجلس، وجل المحفة على كاهله ونقلها إلى قصره، وأجلسه في محله وقبل رجليه، وقال: "ما أسعدني ‍! أن شرفتني ونورت مكاني".
    علاوة على الأمراء والملوك والوزراء، كان الأثرياء وأصحاب الإقطاعات يتسابقون كذلك إلى تكفل المدارس ورجال المدارس، ويعتبرون هذه الفرصة غالية، وسعادة لهم، وإلى همتهم العالية وتشجيعهم يرجع فض هذه الشبكة للمدارس والمعاهد المنتشرة في البلاد إلى عصرنا هذا يقول مولانا غلام على آزاد البلكرامي وهو يصف وصف ولايته ( أوده ) وتقاس به أحوال الولايات الأخرى للهند:
    " كانت مستعمرات الأشراف والأسر العالية واقعة بعد حوي خمسة أميال أو عشرة أميال في سائر منطقة (أوده) وإله آباد العامرة الرئيسية، وقد خصص لهم السلاطين والأمراء والحكام منحاً ورواتب ومخصصات لهم و إقطاعات، فعمروا بأموالهم مساجد و أنشئوا مدارس، وزوايا عامرة بالأساتذة و المعلمين الذين كانوا لا يألون جهداً في التعليم والتثقيف في أي مكان، وقد أثاروا عاطفة وولهاً بالتعليم وحرصاً على نيله، فكان ينتقل الطلبة أفواجاً أفواجاً وجماعات ووحداناً من بلد إلى بلد آخر، يضعون عصا الترحال حيث وجدوا منهلاً عذباً يروى غليلهم العلمي، ويرعى شئونهم ويوفر راحتهم كل من وفقه الله وآتاه مالا وهمة، ويعتبرون خدمة الطالبين شرفاً عظيماً لهم، وقال الأمير شاهجهان: "إن مملكتي شيراز الهند"
    إصلاح الباطن والعلاقة مع رجال القلب:
    وكانت الميزة الخاصة التي تجدر بالذكر أن هذا النظام والقائمين به والمسئولين عنه كانوا رغم انهماكهم بالعلم وتبحرهم العلمي، وحذقهم في الفن وشعبيتهم والاعتراف بعظمتهم وكمالهم، لا يغفلون تزكية نفوسهم وتوثيق علاقاتهم مع الله، فكانوا في الوقت الذي يبذلون فيه جدهم لتحصيل العلم والكمال في الفن، وخدمة رجال الفن، كانوا يبحثون عن أصحاب القلب السليم والشيوخ الذين يزكون نفوسهم، فكانوا يقومون بخدمتهم ويلازمون صحبتهم ويحسبون رضاهم وحبهم مكملاً لسعيهم وجهدهم، لا يعترض في هذا السبيل شرفهم العلي، وتفوقهم الفني، وقبولهم الشعبي، فبينما كانوا غياري وكانوا يبدون كل آنفة وحشمة، فإن السلاطين كانوا أمام هؤلاء المشايخ الفقراء متواضعين، فاقدي الإرادة والنفس، فكان التواضع والغيرة تمتزج بها طبيعتهم ويشكل العنصر الرئيس لسيرتهم .
    ولا يمكن التجاهل عن ناحية غريبة للتاريخ العلمي للهند، وهي أن الشخصيات التي خصها الله بالفضل والمجد العلمي، والخلود في التاريخ التي حكمت بعلها العالم العلمي للهند عدة قرون كانت مرتبطة بحال من الأحوال مع شيخ من شيوخ عهدها، ورجل صالح متق من أتقياء عصرها، وقد أثر على الأوساط العلمية في الهند أولاً ثلاث شخصيات ورفع لواء العلم والثقافة تلامذة تلامذتهم عدة قرون، وهذه الشخصيات والأساتذة الثلاثة هم العلامة عبد المقتدر الكندي (م791ه‍) وتلميذه الشيخ خواجكي الدهلوي (م 809ه‍) والشيخ أحمد التهانيسري (م801ه‍) وكان هؤلاء الثلاثة كلهم من مسترشدي ومريدي الشيخ نصير الدين جراغ الدهلوي .
    وكانت الشخصية الأخرى في السلسلة العلمية العلامة وجيه الدين بن نصر الله الكجراتي ( م 998ه‍)، قضى من عمره ستين سنة في أحمد آباد في تدريس العلوم العقلية و النقلية، وانتشر تلامذته من أحمد آباد إلى لاهور، وانهمكوا في التعليم والتدريس ونالوا شرف أستاذ الأساتذة في حياته (تاريخ كجرات للعلامة عبد الحي الحسنى)
    وكانت المدارس الشهيرة في كوره جهان آباد، و أميتهى و جونبور، ولكناؤ، تستنير بهذا النور، كان العلامة المذكور من خلفاء ومستردي الشيخ محمد غوث الكوالياري، وأدركه دعاؤه وبركته، وكان أستاذه في هذه السلسة الشيخ بير محمد اللكهنوي والشيخ غلام نقشبند من مسترشدي السلسلة الجشتية وجامعي المدرسة والزاوية .
    وكان مسك الختام لهذه السلسلة العملية الذي نال الخلود والصيت العالمي الفائق والذي قهر الهند وأفغانستان وإيران وغلب على جميع النظم، وسحر شبكات العلم، وهو نظام التعليم الذي أسسه الشيخ نظام الدين السهالوي (م 1161ه‍)، ولم يكن هذا العالم الجليل مجرد مسترشد لشيخ السلسلة القادرية الشيخ عبد الرزاق البانسوي رحمه الله بل كان مسحوراً بحبه، مغلوباً بغرامه، وتعكس كل كلمة من كتاب "مناقب رزاقية" هذا الحب والوله العميق العامر، الذي كان يقوم بينه وبين شيخه .
    واتصلت مدرسة ديوبند الشهيرة بحركة إصلاحية كبيرة في ذلك العصر فكان مؤسسها الشيخ محمد قاسم النانوتوي (م 1298ه‍) ومربيها الآخر الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي ( م 1323ه‍) من كبار مسترشدي الحاج إمداد الله المهاجر إلى مكة المكرمة، وخلفائه ومن نالوا الإجازة (في البيعة والإرشاد) منه، وقد شملت هذه الحركة الممتزجة بالحركة الإصلاحية، والتربوية سائر أنحاء البلاد، وكان مؤسس ندوة العلماء الشيخ محمد علي المونجيري التلميذ الروحي للشيخ فضل الرحمن الكنج مراد آبادي، فكانت السلسلة العلمية في الهند في سائر العصور وعلى سائر المراحل متصل بالربانيين المربين المزكين للنفوس، وحظيت برعايتهم وحمايتهم، فأحدثت هذه الصلة الإخلاص والإنابة إلى الله والقبول في الناس وشدة التأثير.
    ومن الأمور التي تجذب الأنظار، وتحمل درساً لأولى الأبصار، ومتتبعي التاريخ العلمي، والذي لا يمكن حمله على ما يحدث بالصدف، أن معظم الأساتذة البررة، والعلماء الكرام كانوا مرتبطين في بعض الظروف في عصورهم بشخصيات روحية لم تكن باعتبار العرف، وبحكم النظام التعليمي، علماء معترف بهم علمياً، أو حاملي شهادات، فلم يكن الناس في عصرهم يعتبرونهم من أهل العلم، وخير مثال لهذا الاتصال الغريب شخصية الشيخ محمد إسماعيل الشهيد، والشيخ عبد الحي البدهانوي، من كبار علماء العصر، اللذين كانا قد أخضعا العالم العلمي بعلمهما واجتهادهما، كانت تقوم بينهما وبين السيد أحمد بن عرفان الشهيد رحمه الله قائد حركة الإصلاح والجهاد في القرن الثالث عشر الهجري علاقة الاسترشاد والاستفادة القلبية، كما كانت هذه الصلة تقوم بين الشيخ نظام الدين وهو الدر الفريد في العلم في عصره وبين السيد عبد الرزاق البانسوي، وبين الشيخ محمد قاسم النانوتوي العالم المجتهد، وبين الحاج إمداد الله المهاجر المكي، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على صدق طلب هؤلاء العلماء الأفاضل وهمهم العالية، وتواضعهم، وإخلاصهم، وكان هذا الإخلاص والربانية هي التي أسبغت على هذه السلسلة العلمية وهذه الأعمال الجليلة، التوسع والاستحكام والثبات، والقبول العام .
    وهم أهم مزايا ذلك النظام التي تجدر بأن تعتبر شعاره الفريد، أنه كان يجمع بين الكمال العلمي والمطالعة الواسعة ونشوة التحقيق والبحث، وبين إرواء الغليل الباطني، والظمأ الروحي، وبث روح الصلة بالله، والإخلاص في العمل، والحرص على خدمة الخلق، فكانت النتيجة أن العلماء والأساتذة في النظام كانوا على صلة وثيق بعامة الناس وكانوا يتمتعون بالنفوذ على فكرهم وثقافتهم واجتماعهم وكانت النتيجة الثانية أنهم كانوا على منأى من الحركات المادية والإغراءات، و أثر السلاطين والأمراء، وفرص الاختلاط بهم، وعلى ما يصونهم عن الفساد الخلقي أو الضغط السياسي، الأمر الذي لا يمكن استبعاده على أساس مجرد العلم والذكاء، وأن الإخلاص العميق والتركيز القوي والإيثار الذي واصل به علماء ذلك العصر حركتهم العلمية ونشاطهم التعليمي، وتملكوا ناصية العلم، وقاموا بدورهم الإصلاحي والتربوي، ونوروا الأصقاع بمصابيح علمهم، وفكرهم مدين إلى أكبر حد لهذا الفيض الروحاني، والتربية الخلية وتزكية النفس التي كانوا يستخلصونها من هذه المراكز الروحية والشخصيات النيرة .
    واستمرت هذه الميزة إلى آخر العهود فكلما كان طالب يستكمل دراسته كان يبدأ في البحث عن شخص نير القلب والروح لإذكاء فؤاده، وتهذيبه، وتربيته، فيتوجه إلى مركز روحاني حسب ذوقه أو ذوق أستاذه، ويقضى فترة من حياته في هذا المركز، ليستكمل فيها التربية القلبية التي ليست ميسرة في معهد علمي خالص فكان متخرجو مدرسة الشيخ لطف الله ( وهي مدرسة عالمية للعهد الأخير) يتوجهون إلى مركز الرشد و الهداية للشيخ فضل الرحمن الكنج مراد آبادي في البلاد الشرقية للهند، وكان متخرجوا المدارس الواقعة في شمال غربي الهند كديوبند وسهارنفور، يتوجهون إلى تهانه بهون وكنكوه ورائ بور، حيث كان خلفاء الحاج إمداد الله المهاجر المكي، والشيخ رشيد أحمد الكنكوهي وخلفاؤه يقومه بالإرشاد والنصح والتربية .
    مراكز العلم والثقافة الإسلامية في الهند:
    إن أكبر معهد ديني في العهد يستحق أن يسمى أزهر الهند، هو معهد ديوبند الكبير، بدأ هذا المعهد كمدرسة صغيرة لا تسترعى الاهتمام، ثم لم تزل توسع وتتضخم بفضل جهود أساتذتها والقائمين عليها وإخلاصهم وزهدهم في حطام الدنيا، حتى أصبحت جامعة دينية كبيرة بل كبرى المدارس الدينية في قارة أسيا.
    وكان افتتاحها في قرية ديوبند من القرى التابعة لمدينة سهارنفور في مسجد صغير سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف هجرية 1283ه‍، أسسها العالم الجليل المخلص الشيخ محمد قاسم النانوتوي المتوفى سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف هجرية 1298ه‍، وكان الاعتماد فيها على الله ثم على تبرعات عامة المسلمين، ورزقت من أول يومها رجالاً عاملين مخلصين وأساتذة خاشعين متقين، فسرت فيها روح التقوى والاحتساب والتواضع والخدمة، ولم يزل نطاق المدرسة يتسع، وصيتها يذيع، وشهرة أساتذتها في الصلاح والتقوى والتبحر في علم الحديث والفقه تطير في العالم، حتى أمها الطلبة من أنحاء الهند، ومن الأقطار الإسلامية الأخرى، حتى بلغ عددهم في الزمن الأخير حوالي أربعمائة وألف ( 1400) (وقد ازداد هذا العدد وتضخم في السنين الأخيرة)
    ويقدر عدد الذين اشتغلوا في هذه المدرسة بالعلم بأكثر من عشرة آلاف، والذين نالوا الشهادة منها بنحو خمسة آلاف، والذين ارتووا بمناهلها من أهل خارج الهند كباكستان، وأفغانستان، وبخارى، وقازان، وروسيا، وآذربيجان، والمغرب الأقصى، وآسيا الصغرى، وتبت، والصين، وجزائر بحر الهند، والحجاز، والأقطار العربية نحو خمسمائة .
    وكان للمتخرجين في دار العلوم تأثير كبير في حياة المسلمين الدينية في الهند، وفضل كبير في محو البدع وإزالة المحدثات، وإصلاح العقيدة والدعوة إلى الدين، ومناظرة أهل الضلال والرد عليهم، وكانت لبعضهم مواقف محمودة في السياسة والدفاع عن الوطن، وكلمة حق عند سلطان جائر .
    وشعار دار العلوم ديوبند التمسك بالدين، والتصلب في المذهب الحنفي، والمحافظة على القديم، والدفاع عن السنة .
    وتلا دار العلوم الديوبندية في كثرة الطلبة والاعتناء بالعلوم الدينية، مدرسة " مظاهر العلوم " في مدينة سهارنفور التي تأسست في سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف 1283 هـ و من علماء هذه المدرسة المتخرجين: العلامة المحدث الشيخ محمد زكريا الكاندهلوى صاحب "أوجز المسالك في شرح مؤطا لإمام المالك" (في ثمانية عشر مجلدا). عرف علماء هذه المدرسة بالعكوف على العلم، و الاهتمام بإصلاح الباطن، و تهذيب النفس. وهي تشارك دار العلوم في العقيدة والمبدأ والشعار .
    وقد خرجت عدد كبير من العلماء الصالحين والرجال العاملين في ميادين العلم والدين، ولعلمائها ومتخرجيها آثار جليلة في شرح كتب الحديث وخدمة هذا الفن الشريف، وتمتاز هذه المدرسة وأساتذتها وطلبتها ببساطة في المعيشة والقناعة بالكفاف والقوة في الديانة .
    مدارس أخرى تابعة للمنهج النظامي :
    يوجد في الهند عدد كبير من المدارس والمعاهد التعليمية على غرار مدرسة ديوبند و مظاهر العلوم، يتبع فيها المنهج النظامي للتعليم، وتقوم علاقة علمية بين هذه المدارس، ودار العلوم بديوبند، وقد مثلت هذه المدارس درواً هاماً في إنعاش المسلمين الديني والتربوي، ويجدر بالذكر من هذه المدارس في شمال الهند " مدرسة شاهي " بمراد آباد، و" مدرسة إمدادية " في دربهنكا، ولجماعة أهل الحديث ( السلفيين ) أيضاً مدارس خاصة، منها الجامعة السلفية في بنارس، ومدرسة أحمدية في لهريا سرائي، والمدرسة الرحمانية في دلهي، وهي جديرة بالذكر بصفة خاصة، وقد أقفلت المدرسة الرحمانية في دلهي بعد التقسيم، أما مدرسة لهريا سرائي ومدرسة بنارس فهما مستمرتان .
    ومن المدارس العربية الرسمية المدرسة العالية في رامبور، والمدرسة العالية بكولكوتا، و شمس الهدى في بتنة، وهي مدارس رئيسية شهيرة، وكانت المدرسة العالية في رامبور و كولكوتا تعتبران في الزمن الماضي في كبريات المدارس، وقد سجلتا آثاراً خالدة بتفوق أساتذتهما، ومميزات طلبتهما .
    وللشيعة الإمامية أيضاً مدارس خاصة، وتوجد معظم هذه المدارس في مركز هذه الطائفة العلمي والديني بلكناؤ، ومن أهمها مدرسة سلطان المدارس، والمدرسة الناظمية، ومدرسة الواعظين .
    وبجنوب الهند (حيث يلاحظ في المسلمين شغف عظيم وولوع بالتعليم الديني) توجد مدارس عربية عديدة، منها المدرسة النظامية بحيدرآباد، هي من أقدم المدارس الإسلامية للتعليم العالي من السنة في الهند، أسسها شيخ الإسلام محمد أنوار الله خان الفاروقي في حيدرآباد سنة 1876 م. إنها ازدهرت تحت رعاية نظام السابع لحيدرآباد مير عثمان علي خان هذه جزء من التاريخ الإسلامي في شبه القارة، و خاصة الدكن.
    وجامعة دار السلام بعمر آباد، تأسست بيد الرجل الشهير كاكا محمد عمر في عام 1924 م، فيها معاهد الدراسات المقارنة، و معاهد الدراسات التمهيدية للإسلام، معاهد القرآن الكريم، و المعاهد الإسلامي للبحوث، المدرسة المحمدية الثانوية، مدرسة النسوان اقراء، و فيها جامعة دار السلام معروفة، هي مؤسسة إسلامية كبرى في ولاية تامل نادو، و كذلك في جنوب الهند.
    وجامع دار الهدى بكريم نكر، والباقيات الصالحات في ويلور، وكانت في مدراس الجمالية التي ذاع صيتها في أرجاء الهند، وكانت تعتبر مدرسة جامعة راقية دينية، وقد بدأ النشاط فيها من جديد .
    وللمسلمين في جنوب الهند ( مدراس وكيراله وبلاد مالابار) نشاط كبير في نشر التعليم الديني والمدني وتأسيس المدارس الدينية العربية والكليات الإسلامية، ويمتاز أهل مالابار في ولاية كيراله بشغفهم باللغة العربية وتمسكهم بها، ولهم مدارس منتشرة في المديريات والمدن الكبيرة وما يتبعه من القرى، تعلم فيها اللغة العربية، كروضة العلوم وسبل السلام ومدينة العلوم والجامعة الندوية التابعة لندوة المجاهدين وغيرها، وعلماء هذه المنطقة أقدر على اللغة العربية منهم على اللغة الأردية التي هي لغة الشعب الإسلامي في الهند، حتى يحتاج زائر من الشمال إلى التفاهم معهم عن طريق اللغة العربية .
    وللمسلمين في الجنوب كليات إسلامية كبيرة، من أشهرها الكلية الجديدة (New College) في مدراس، والكلية الإسلامية في وانيم بادي (Vaniyam badi) وكلية جمال محمد في ترشنابلي (Tiruchina Palli) والكلية العثمانية في كورنول (Kurnool) وكلية فاروق في ملابار تنفق على أكثرها رابطة التعليم الإسلامي بجنوبي الهند.
    المدرسة السلفية ببنارس :
    وفي عام 1383ه‍ أسست جمعية أهل الحديث في الهند مدرسة باسم "الجامعة السلفية " في بنارس، مدينة الهند القديمة التي تعتبر مركزاً كبيراً للمعابد الوثنية، وهي عند الهندوس أقدس مكان يتبركون به، فكانت الحاجة ماسة إلى تأسيس مركز ديني في مثل هذه الدينة، وقد تحققت هذه الحاجة يوم افتتحت الجامعة السلفية وبدأت نشاطاتها ودخلت في مرحلة العمل والتطبيق، وذلك في شهر ذي القعدة عام 1385ه‍.
    وقد نالت الجامعة السلفية ترحيباً من جميع الأوساط العلمية والدينية في الهند وخارجها، وقد ركزت عنايتها بصفة خاصة على الأهداف التالية :
    1- تدريس القرآن الكريم والسنة النبوية كمصدرين أساسيين للشريعة الإسلامية.
    2- دراسة اللغة العربية وآدابها والعلوم الإسلامية والاجتماعية القديمة منها والحديثة.
    3- نشر العلوم الإسلامية والأدبية، والاحتفاظ بالتراث الإسلامي، والاهتمام بتعميم اللغة العربية في الهند .
    4- إعداد الدعاة الصالحين .
    5- الاعتناء بناحية التأليف والطبع في مختلف اللغات العالمية المهمة، وإعداد الكتاب الإسلاميين الجامعين بين الاعتزاز بالتراث الإسلامي والرد على أعداء الإسلام والدفاع عن الدين .
    6- محاربة البدع والخرافات والعادات الجاهلية الفاشية في المجتمعات الإسلامية .
    وقد نجحت الجامعة السلفية - رغم قصر عمرها - في أهدافها التي تبنتها إلى حد كبير .
    وفي مديرية أعظم كره مدارس إسلامية كثيرة تمتاز بعضها بخدماتها العلمية والدينية، كمدرسة " مفتاح العلوم " في بلدة مئو، التي كان يشرف على شئونها التعليمية والإدارية في الماضي المحدث الكبير الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي صاحب مؤلفات مهمة في علم الحديث وفن الرجال، وتمتاز هذه المدرسة بعنايتها الفائقة بتدريس العلوم الإسلامية والحديث الشريف، ويشتغل عدد وجيه من متخرجيها بخدمة العلوم الدينية واللغة العربية في كبرى المراكز العلمية في الهند أيضاً .
    وكذلك مدرسة "دار العلوم " ومدرسة " فيض عام " في مئو ومدرسة " جامعة الفلاح " في بلرياكنج، ومدرسة " جامعة الرشاد" في مدينة أعظم كره، ومدرسة " بيت العلوم " في سراي مير، ومدرسة " مظهر العلوم " في بنارس، ومدرسة إسلامية عديدة في مديرية جونبور وأعظم كره، كلها تتهم بتدريس العلوم الدينية واللغة العربية وبعض اللغات والعلوم العصرية مع المحافظة التامة على الصبغة الإسلامية والطابع الديني .
    وفي مونجير في مقاطعة بها مدرسة كبيرة تسمى " الجامعة الرحمانية " يشرف عليها ويعتنى بها العالم الكبير السيد منة الله الرحماني أمير الشريعة في ولايتي بهار و أريسة .


  5. #5
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند

    المدارس والجامعات المدينة :
    وتقابل مدرسة ديوبند وشقيقاتها وما كان على شاكلتها من المدارس الدينية القديمة ، الجامعات المدينة العصرية التي أسسها المسلمون في عليكره و دلهي و حيدر آباد ، لتعليم أبناء المسلمين وشبابهم العلوم العصرية واللغات الأجنبية ، وإعدادهم للوظائف الرسمية والمراكز الحكومية ، وللمساهمة في حياة البلاد وخيراتها وإدارتها .
    وأشهر هذه الجامعة وأقدمها وأعظمها تأثيراً في عقلية المسلمين وسياستهم " جامعة على كره الإسلامية " التي تعد من أرقى الجامعات في الهند وأوسعها ، أسسها الزعيم المسلم الشهير سر سيد أحمد خان باسم " مدرسة العلوم" وقد أصيب المسلمون في إثر إخفاق الثورة العظيمة التي قاموا بها سنة سبع وخمسين وثمان مائة وألف 1857م بجمود تعليمي واجتماعي، وتسرب اليأس إلى نفوسهم وفقدوا الثقة بأنفسهم ومستقبلهم، وأصابتهم دهشة الفتح، وأساءت الحكومة الإنجليزية الظن بهم واستغنت عنهم في وظائفها وإدارتها، فأصبح المسلمون - الذين كانوا يملكون زمام البلاد في العهد الماضي القريب - لا نصيب لهم سياسية بلاد وإدارتها ولا نشاط لهم، ورأى السيد أحمد خان - وكان رجلاً شديد التأثر مرهف الحس - أن علاج ذلك هو تعلم الإنجليزية وآدابها وعلومها التي قاطعها المسلمون، والظهور في مظهر سيد البلاد في الزى واللباس والحضارة والاجتماع، حتى يزول " مركب النقص " وتولى الوظائف الحكومية .
    وقد نجحت جامعة عليكره في رسالتها نجاحاً كبيراً، وأقبل عليها أبناء الأسر الشريفة "الأرستقراطية " في عدد كبير، وتخرج فيها رجال كثير شغلوا وظائف كبيرة في الحكومة وتمتعوا بثقافتها وقد لعبت الجامع وأبناؤها دوراً مؤثراً في حياة المسلمين وسياسة البلاد، ومنها نبعت حركة القومية الإسلامية تقابل حركة القومية الهندية والوطنية، يتزعمها رجال من الطبقة الأرستقراطية في المسلمين، وميزانيتها السنوية نحو ( أربعين مليون روبية ) وفيها نحو عشرة آلاف طالب (وقد كان في ذلك تقدم وزيادة على مر الأيام، وهو أكثر مما ذكر في هذه الأيام)
    الجامعة الملية الإسلامية :
    وقد انفصل عن جامعة عليكره بعض أبنائها وخيرة متخرجيها أيام حرك الخلافة الوطنية، و أسسوا جامعة شعبية مستقلة في السياسة وتعليمها سنة 1920م، يتزعمها الزعيم الإسلامي الكبير مولانا محمد علي وقد انتقلت من عليكره إلى دلهي واشتهرت باسم " الجامعة الملية الإسلامية " يمتاز أساتذتها وإدارتها - وكان على رأسها الرجل التعليمي العالمي الدكتور ذاكر حسين رئيس الجمهورية الهندية سابقاً (توفي في 3/ مايو سنة 1969) - بنزعتهم الوطنية وروح التضحية والإيثار، ظلوا مدة طويلة يكافحون التيار، ويعيشون في شظف وعسر، وكان لهم نشاط ظاهر في ميدان الثقافة والتعليم، ومحصول قيمة في الأدب والعلوم، وهي الآن من الجامعات التي تنفق عليها حكومة الهند.
    الجامعة العثمانية :
    وتمتاز " الجامعة العثمانية " في حيدرآباد بأنها جامعة درست العلوم العصرية في " أردو" لغة الهند العلمية، وعنيت بنقل العلوم الحديثة وترجمة الكتب المهمة في الفلسفة وعلوم الطبيعة والطب والسياسة والاقتصاد والتاريخ إلى أردو، ووضع المصطلحات العلمية فيها، وبذلك أدت خدمة عظيمة للمسلمين وثقافة الهند .
    ندوة العلماء :
    وتتوسط بين المدارس القديمة تتمسك بالقديم وترى العدول عنه ضرباً من التحريف نوعاً من البدع، وبين الجامعات المدنية التي تدرس الجديد وتستهين بكل قديم، تتوسط بين تلك وهذه در العلوم التابعة لندوة العلماء التي تأسست في لكناؤ سنة اثنتي عشرة وثلاث مائة وألف هجرية 1312ه‍ بيد العالم الرباني الشيخ محمد علي المونكيري وزملائه المخلصين، الذين خافوا على المسلمين من المحافظين ومن المتطرفين، ومن اعتزال العلماء عن الحياة وتخلفهم عن ركب الثقافة والعلم، ومن العصبيات المذهبية والمشاجرات الفقهية التي قويت ونشطت في العهد الأخير .
    تأست ندوة العلماء ودار العلوم التابعة لها على مبدأ التوسط والاعتدال والجمع بين القديم الصالح والجديد النافع، وبين الدين الخالد الذي لا يتغير، والعلم الذي يتغير ويتطور ويتقدم، وبين طوائف أهل السنة التي لا تختلف في العقيدة والمنصوص، وقامت من أول يومها على الإيمان بأن العلوم الإسلامية علوم حية نامية، وأن منهاج الدراسة خاضع لناموس التغير والتجدد، فيجب أن يتناوله الإصلاح والتجديد في كل عصر ومصر، وأن يزاد فيه ويحذف منه بحسب تطورات العصر وحاجات المسلمين وأحوالهم .
    عنيت دار العلوم بصفة خاصة بالقرآن الكريم - الرسالة الخالدة - وتدريسه ككتاب كل عصر وجيل، و عنيت باللغة العربية التي هي مفتاح فهمه وأمنيته و خزائنه، ووجهت عنايتها إلى تعليم هذه اللغة الكريمة كلغة حية من لغات البشر يكتب بها ويخطب، لا كلغة أثرية دارسة لا تجاوز الأحجار أو الأسفار كما كان الشأن في الهند، وقللت قسط بعض العلوم القديمة التي لا تفيد كثيراً، وأبدلتها ببعض العلوم العصرية التي لا غنى عنها للعالم العصري الذي يريد أن يخدم دينه وأمته، واجتهدت أن تخرج رجالاً مبشرين بالدين الإسلامي لأهل العصر الجديد شارحين للشريعة الإسلامية بلغة يفهمها أهل العصر وبأسلوب يستهوي القلوب، أمة وسطاً بين طرفي الجمود والجحود، وقد نجحت في مهمتها نجاحاً لا يستهن بقيمته، فأنجبت رجالاً هم خير مثل للعلم المسلم العصري، لهم آثار جميلة خالدة في الأدب الإسلامي وعلم التوحيد لأهل العصر الجديد، والسيرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام - والتاريخ .
    وعلى طرازها مدرسة كبيرة تسمى " مدرسة الإصلاح " في سراي مير، أسسها العالم الكبير حميد الدين الفراهي عام 1326ه‍ (1909م) ولها عناية خاصة بالتفسير وفهم القرآن على طريقة مؤسسها الشيخ الفراهي .
    وقد أسس المتخرجون في الندوة " دارة المصنفين " في أعظم كره عام 1914م وهي من المؤسسات العلمية الكبيرة في الهند، وكان العلامة السيد سليمان الندوي رئيسها مدة وجوده في الهند، نشرت كتباً كثيرة متنوعة في الدين والأدب والتاريخ، بلغ عددها إلى عام 1392ه‍ إلى 112 كتاباً (وقد بلغ عددها في عام 1916م إلى 182) لا تستغني عنها مكتبة في الهند، وهي تصدر مجلة علمية راقية شهرية باسم " معارف ".
    وفي دلهي مؤسسة علمية تصدر كتباً في الثقافة والتاريخ وهي " ندوة المصنفين " نشأت عام 1938م وتصدر مجلة علمية شهرية وهي مجلة " برهان " يحرره الأستاذ سعيد أحمد الأكبر آبادي رئيس القسم الديني سابقاً في جامعة عليكره (مات رحمه الله في 24 / مايو سنة 1985م ) ولها مطبوعات قيمة حازت القبول والتقدير في الأوساط الإسلامية العلمية .
    ومن أقدم الجامعات التعليمية التي كان لها فضل في نشر الوعي السياسي والثقافي " مؤتمر التعليم الإسلامي العام " الذي أسسه سيد أحمد خان عام 1886م في عليكره يعالج قضي تعليم الشباب المسلم في الحكومة، ومنه نبعت " العصبة الإسلامية " ( Muslim League ) عام 1906م، وقد ضعف نشاط هذا المؤتمر بعد التقسيم لتغير الوضع السياسي والثقافي في الهند .
    مجلس التعليم الديني :
    نالت الهند الاستقلال في 1947م، واختارت لنفسها نظام حكم علماني، وأعدت الدستور بموجبه، ونص الدستور على تأمين حقوق مساوية، ولكن رغم ذلك أعدت بعض الولايات الهندية مناهج تعليمية كانت مقدمة للردة الدينية والثقافية للمسلمين وكانت لا تتلاقى مع عقائد المسلمين ومبادئهم الأساسية فحسب بل كانت تهدد أساسها.
    وفكرة صفوة من رجال الفكر والوعي الإسلامي في هذه المشكلة التي كانت تهدد الأجيال القادمة للمسلمين والناشئة منهم، فأنشئوا مجلس التعليم الديني العام في ولاية أترابراديش تحت إشراف الهيئات الإسلامية المختلفة المتحدة، وقد أقامت الهيئة شبكة للمدارس في مختلف أنحاء البلاد ويبلغ عددها إلى 10000 وهي تشرف على نهضة التعليم الإسلامي للمسلمين حيث يتلقى الأطفال المسلمون التعليم الديني بلغتهم .
    دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد :
    ومن المؤسسات العلمية الكبيرة التي كان لها فضل كبير في إحياء الكتب الدينية والعلمية وبعثها من مدافنها في المكتبات العتيقة ونشرها في العالم الإسلامي " دائرة المعارف " في حيدر آباد التي تأسست عام 1306ه‍ -1888م بتوجيه العلامة السيد حسين البلكرامي، ومولانا عبد القيوم، ومولانا أنوار الله خان أستاذ سمو " النظام " وقد نشرت أكثر من مائة وخمسين كتاباً قيماً من كتب الحديث، وأسماء الرجال، والتاريخ، والعلوم الرياضية، والحكمة، حرمها العالم الإسلامي والأوساط العلمية من عهد بعيد وتسامح بها العلماء والمدرسون، فكانت خدمة جليلة للعلم والدين، وبرهاناً على ما كان- ولا يزال للمسلمين من اتصال روحي وفكري بالثقافة الإسلامية وحب عميق لها، وقد اعترف بجهود هذه المؤسسة العظيمة وجلالة عملها وقيمة ما تنشره من التراث العلمي الكبار العلماء ورجال الثقافة في الشرق وأوربا، وقد قال العلامة الشيخ إبراهيم الجبالي رئيس بعثة الأزهر التي زارت الهند عام 1937م :
    " إنا نعترف لرجال " دائرة المعارف " بحيدر آباد بتلك الجهود الموفقة التي بذلوها في خدمة العلم ونشر الثقافة العربية، فقد وجهوا هممهم العالية إلى إحياء الكتب القيمة التي جادت بها قرائح الأئمة المتقدمين، وأتى عليها حين من الدهر وهي مختفية عن الأعين حتى عفا رسمها، وإن كان لا يزال يملأ الأسماع اسمها، وطالما تشوقت الأذهان إلى الارتشاف من بحارها كما استقيت الآذان بشهرتها، واسمها، فعمدوا - حفظهم الله - إلى التنقيب عنها والسعي وراء العثور عليها، ثم مقابلة نسخها لإزالة ما علق بها من التشويه حين نسخها، ثم تكميل ما نقص منها وتصحيح الغلطات التي أدخلت عليها لا يبالون في سبيل ذلك بما يتكبدون من مشاق الأسفار ومتاعب النقل والتصحيح والمقابلة، وما يتحملون في سبيل ذلك من عظيم النفقات المالية "( رسالة علمية تاريخية طبع دائرة المعارف - ح ، ط)
    ولما قررت " الجامعة العثمانية " في حيدرآباد لتدريس العلوم والفنون في " أردو " أنشأت " دار الترجمة " في سنة 1335ه‍ وقد نشرت 358 كتاباً في التاريخ والجغرافية والسياسة وعلم الاقتصاد والدستور، وعلوم العمران والفلسفة والمنطق وما بعد الطبيعة، وعلم النفس والأخلاق وعلوم الرياضة الطبيعة، وعلم الحياة والكيمياء والطب والهندسة وغيرها، وكان من أعمالها الجليلة وضع المصطلحات العلمية وترجم المصطلحات من اللغات الأوروبية إلى أردو .
    وكان من الشخصيات العلمية والأدبية الشهيرة التي ساهمت في مواصلة هذا المجهود العلمي وتنمية، وكان لها اتصال عميق بشئونه، الدكتور عبد الحق، والشيخ عبد الماجد الدريابادي، والشيخ عبد الله العمادي، والأستاذ وحيد سليم باني بتي، والشيخ عناية الله الدهلوي، والشيخ مسعود علي المحوي، والقاضي تلميذ حسين الجوركهبوري .
    وكانت ميزانيتها السنوية، 261415 جنيهاً، وقد وقفت وعطلت بعد التقسيم سنة 1948م، ووقع في مكتبتها حريق أتلفها (كثير من الناس يعتقدون أن هذا الحريق كان عن مؤامرة لاتلاف هذا الكنـز الثمين) وضيع هذا التراث الثمين .
    وللجماعة الإسلامية التي مركزها الهند نشاط طيب وإنتاج ذو قيمة في نشر الأدب الإسلامي، وتأليف الكتب الدراسية، للنشء الإسلامي، في " أردو " و في " الهندية " ولها مدرسة نموذجية في " رامبور ".
    وقد عنى الأمراء والأقيال وكبار العلماء باقتناء مكتبات عظيمة وشغفوا بها شغفاً عظيماً، ومن أغنى مكتبات الهند ودور الكتب وأجمعها للكتب النادرة والآثار الثمينة ومخطوطات المؤلفين ونوادر الكتب " مكتبة بانكي بور " في بتنه، وهي مكتبة المرحوم القاضي خدا بخش خان، و مكتبة إمارة رامبور، و" المكتبة الآصفية " في حيدر آباد، ومكتبة السري الفاضل الشيخ حبيب الرحمن الشيرواني العليكري رئيس الأمور الدينية في حيدرآباد سابقاً، وقد ضمت إلى " مكتبة آزاد " التابعة لجامع عليكره الإسلامية، ومكتبة دار العلوم ديوبند، ومكتبة جمعة عليكره، و مكتبة الشيخ ناصر حسين ابن الشيخ حامد حسين الكنتوري في لكناؤ، ومكتب شبلي النعماني التابعة لوزارة العلماء وتضم 100000 من المطبوعات و4000 من المخطوطات .
    وقد زارت الهند بعثة أوفدتها الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية سنة 1951م لتصوير الكتب النادرة الخطية الموجودة في مكتبات الهند، فزارت عواصم الهند ومكتباتها الكبيرة وأخذت صور مئات من الكتب النادرة .
    نشر العلم والثقافة :
    العلم كان أكبر هم هؤلاء المشايخ وبغيتهم، إنهم حدبوا إليه وخدموه، وكان أكثرهم صاحب ذوق أدبي وعلمي رفيع، وكان عقيدتهم أنه لا يمكن معرفة الله سبحانه بدون العلم، وأن الصوفي الجاهل ألعوبة الشيطان، ولذلك نراهم لم يستخلفوا للدعوة إلى الله النجباء ذوي الكفاءة والاستعداد إلا بعد التحصيل العلمي .
    والحقيقة أن الفضل في الحركة التعليمية والنهضة العلمية في الماضي يرجع إلى تشجيع هؤلاء الصوفية والمشايخ إما مباشرة وإما بواسطة، و كان القاضي عبد المقتدر الكندي والشيخ أحمد التهانيسري - اللذان انتهت إليهما رئاسة التدريس في الهند - من رجال الشيخ نصير الدين "جراغ دلهي" والمدرس المشهور في القرن الحادي عشر الشيخ لطف الله الكوروي الذي نفقت به سوق الدرس والتدريس إلى القرن الثالث عشر كان شيخاً في الطريقة الجشتية.
    نحن نرى المدرسة والزاوية جنباً إلى جنب في أكثر الأدوار، فالزاوية الرشيدية في جونبور ومدرسة الشيخ بير محمد في لكناؤ ومدرسة الشيخ ولي الله بن عبد الرحيم في دلهي، وزاوية الشيخ رشيد أحمد في " كنكوه " أمثلة رائعة للجمع بين التثقيف العلمي والتربية الروحية والخلقية .
    الكفالة والمؤاساة :
    ومن مآثر هؤلاء المشايخ و زواياهم أنها كانت مأوى يأوي إليه آلاف من الناس، ويجدون فيه طعامهم وشرابهم ومرافق حياتهم، إن هذه المائدة الملوكية الفاخرة، كانت مائدة عامة يردها الصديق، والعدو، والقريب والبعيد، والغني والفقير، وكانت مائدة الشيخ نظام الدين مشهورة يضرب بها المثل في السعة وكثرة أنواع الطعام واللذة التأنق .
    وكان يحضر زاوية الشيخ سيف الدين السرهندي ألف وأربع مائة رجل يتناولون الطعام على مائدته صباحاً مساءاً ، كل حسب رغبته واقتراحه .
    أما الشيخ السيد محمد سعيد الأنبالوي وهو من رجال القرن الثاني عشر فيسجل عنه مترجمون فيقولون :
    " لم يكن عدد المشتغلين في زاويته أقل من خمس مائة نسمة في الزمن الأول وهكذا فقل عن الوافدين إليه والزائرين له ".
    زاره مرة روشن الدولة وكان أميراً من أمراء السلطان فرخ سير وقدم ستين ألف روبية لبناء زاويته فأمره الشيخ أن يترك هذا المال في مكان ويستريح فانصرف " روشن الدولة " فأرسل الشيخ إلى الفقراء، و أرسل هذا المال إلى اليتامى والمساكين وأهل الحاجة في " أنباله " و " تهانيسر " و " سرهند " و " باني بت " حتى لم يبق منه فلس، فلما أتى روشن الدولة قال له : " لا يبلغ الثواب في بناء العمارة ثواب خدمة ذوي الحاجة . والفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " ووصلته مرة رسائل السلطان محمد فرخ سير والأمير روشن الدولة، والأمير عبد الله خان، وأمر بثلاث مأة ألف روبية فوزعها كلها في القرى المجاورة والأشراف الساكنين فيها (نظام التعليم والتربية ( الأردو ) المجلد الثاني، للأستاذ مناظر أحسن الكيلاني)
    وصدق الأستاذ مناظر أحسن الكيلاني إذ قال :
    " إن هذه الزوايا وحدها كانت نقطة اتصال بين الأغنياء والفقراء، وكان منزل هؤلاء الصوفية والمشايخ " بلاطاً " يدفع له السلاطين الخراج، فقد كان يحضر ولي العهد خضر خان عند الشيخ نظام الدين ويستفيد منه، هكذا السلطان علاء الدين الذي كان يأتيه الخراج من الهند كلها مضطراً إلى أن يقدم الخراج إلى مكان آخر ".
    إن هذه الوحدة والانسجام بين الغني والفقير أعني طبقة الصوفية والمشايخ التي كان يحضرها ويستفيد منها الأغنياء والفقراء على السواء كانت تقضي حاجات الطبقة الفقيرة، والحقيقة أنه لم يخل دور من أدوار التاريخ الهندي ولا بلد من بلاد الهند إلا وقد عمل فيه الصوفية والمشايخ بالحديث النبوي المشهور" تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم فكان ذلك رحمة بالفقراء والمساكين وذوي الحاجة (نظام التعليم والتربية ، ص 22)
    ملاجئ إنسانية :
    إن تعليم هؤلاء الصوفية ومجلسهم الروحية أنشأت في الناس حب الإنسان على اختلاف الديانات والثقافات والسلالات وخدمته، وإيصال النفع إليه، ومشاركته في الهموم والآلام .
    كان شعارهم وعملهم بالحديث النبوي: " الخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله " كانت قلوبهم فائضة بالرحمة والمواساة للإنسانية كلها، حدث الشيخ نظام الدين عن نفسه مرة فقال: يأتيني رجل ويحكي لي قصته، وفي نفس من الهم والألم والتوجع لحاله ما لا يجده هو نفسه (سير العارفين نسخة خطية)
    وقال مرة : لا شيء أغلى وأحب يوم القيامة من المواساة وجبر القلوب المنكسرة وإدخال السرور على أصحابها (أيضاً، ص 28)
    كانت نتيجة ذلك أن جرحى القلوب والفؤاد كانوا يجدون بلسماً لهم وأحزانهم في هذه الزوايا وملجأ لهم، إن حجر عطفهم وحبهم كان مفتوحاً لكل من هجرة المجتمع أو الأسرة أو تنكر له الحظ، وأدبرت عنه السعادة، إن هؤلاء الذين لم يقبلهم أبناء أسرتهم أو طردهم أولادهم بعض الأحيان كانوا يقدمون إلى هؤلاء الصوفية والمشايخ ويعيشون في أحضانهم وفي كنفهم، ويجدون فيه كل ما افتقدوه من راحة البيت و أنس الأحبة، ويزور هذه الزوايا كل رجل مهما كان نسبه أو دينه فيجد فيها الإسعاف والرفد وخلاصاً من هموم القلب وأحزانه وينال فيها الغذاء والدواء والحب والعطف، والتقدير والإكرام، لما أرسل الشيخ نظام الدين شيخه إلى دلهي قال له:
    "ستكون كدوحة وارفة الظلال، يستريح خلق الله في ظلها " (سير الأولياء)
    والتاريخ يشهد بأنه قد استراح في ظله الوارف الوافدون من دلهي، ومن أنحاء بعيدة سبعين سنة كوامل .
    لقد كانت هناك بجهود هؤلاء الصوفية أشجار كثيرة وارفة الظلال في مئات من بلاد الهند استراحت في ظلها القوافل التائهة والمسلمون المتعبون ورجعوا بنشاط جديد وحياة جديدة .
    المسلمون في الهند شعب ممتاز :
    إن المسلمين مع امتزاجهم بالعنصر الهندي، وتأثرهم الواسع العميق بطبيعة البلاد وشعوبها وثقافتها الذي نوه به " جوستاف لوبون " في كتابه "حضارة الهند " لا يزالوا شعباً ممتازاً في أخلاقه وطبيعته واتجاهاته ومنهج حياته، وعاداته التي أصبحت طابعاً يتميز به المسلم في كل ناحية من نواحي الهند، وهي الرابطة التي تربط المسلم في الشرق بأخيه المسلم في الغرب، والمسلم في الجنوب بالمسلم في الشمال، حتى يكون أشبه به من مواطنه الهندوكي الذي يعيش بجواره ويتكلم بلغته .
    إذا قدر للقارئ الكريم أن يزور الهند من بلاد بعيدة ويختلط بالشعوب الهندية ويدخل في المجتمع الهندي لاحظ أن هناك شعبين ممتازين، وحضارتين ممتازتين، ومجتمعين ممتازين، وتجلى له هذا الامتياز في مختلف نواحي الحياة، وفي مختلف مظاهر المدنية، وفي الأخلاق والنزعات .
    إذا كنت ضيفاً عند صديق لك مسلم - وليس من اللازم أن تسبق بينكما معرفة أو تقوم بينكما صداقة - فالمسلم أخو المسلم، والمسلم الغريب ضيف أخيه المسلم المقيم، قدمت إليك مائدة واسعة فيها أوان كبيرة وصحون واسعة - بخلاف الطريقة الهندية القديمة - و أرغفة كبيرة، وكمية من الطعام كبيرة تفضل عن الضيوف ويجتمع عليها الضيوف وتختلف أيديهم في الصحون إن أحبو ذلك فالقلب واسع، والبيت واسع والمائدة واسعة، وتجرب ذلك في كل بقعة من بقاع الهند، وفي كل أسرة إسلامية، وعاشت في المجتمع الهندي القديم واندمجت فيه .
    وإذا أراد واحد من المسلمين أن يأكل في القطار أو في غرفة الانتظار لابد أن يدعوك إلى الطعام ويلح عليك .
    إن هذا الاختلاف بين حضارتين عاشتا في الهند جوار بجوار، وإن هذا الاختلاف في طبائع شعبين هنديين لا يزالان يعيشان في دار، وإن هذه الأناقة التي تتسم بها الحضارة الإسلامية في الهند، ورحاب الصدر، واحترام الإنسانية التي يمتاز به المسلمون في الهند استرعى انتباه كثير من الزائرين والرحالين من خارج الهند، وقد أغرق ذلك بعض الأذكياء النابهين بدراسة الإسلام وروح الحضارة الإسلامية والاقتناع بالدين الإسلامي الذي خلق في أتباعه هذا التسامح وهذه النظرة الواسعة واحترام الإنسان وحب الأناقة والنظافة في كل شيء ورفع مستوى الحضارة وكان سبباً في إسلام بعضهم قد حكى العلامة محمد إقبال قصتين طريفتين لبعض أصدقائه الإنجليز ننقلهما هنا:
    يحكى المستر داؤد آبسن ( David Opson) الصحافي الإنجليزي الذي كان يصدر من لاهور صحيفة انجليزية مشهورة اسمها (Muslim Out Look )قصة إسلامه يقول فيها: " قدمت من إنكلترا أقمت في ممبائى فكان أصدقائي الرجال الذين كانوا يسهمون في الحركات السياسية ولم تكن لي صلة بالأوساط الدينية في ممبائي، وبدأت أسهم في الحركات السياسية في الهند، وهنالك قابلت بعض المسلمين وبدأت أتردد إليهم، ومرة دعاني مسلم وجيه إلى تناول الغداء عنده ومدت مائدة على الطريقة الإسلامية وقدمت أطعمة شائعة في الشعب الإسلامي، وأعجبت بالأناقة وسلامة ذوق الشعب الإسلامي و لطافته وقلت في نفسي: إن شعباً رقت حضارته وكملت آدابه، وبلغ من سلامة الذوق و لطافة الحس هذا المستوى الرفيع لابد أن يكون على مستوى رفيع في الدين والروحانية، ويتصف بالنظافة والأناقة في كل شيء، وهكذا أقبلت على دراسة الإسلام وحياة المسلمين وتبين لي أن الإسلام على قمة من العلو و الظرافة، بعيد في كل شيء عن السخافة والسماجة و الأسفاف، وتتجلى هذه الأناقة والرقة والسمو في حضارته وفي طعامه ولباسه كما تتجلى في عبادته وفي أعماله وأخلاقه وكل من يدين بالإسلام ويدخل فيه يعلو عن المستوى الذي قد عاش فيه . والقصة الثانية قصة عالم إنجليزي قدم إلى الهند ليضع كتاباً عن الحياة في قرى الهند، ودعاه الاختلاف الذي شاهده في السلوك القروي المسلم والقروي الهندوكي، ونظرتهما إلى الإنسان إلى أن يحب الإسلام وأهله ثم يدخل في الإسلام، ولنسمع قصته كما حكاها الدكتور محمد إقبال: يقول العالم الإنجليزي :
    " كما نتجول كل صباح ومساء بين المزارع والحقول في قرى الهند واتفق لنا أن خرجنا من منزلنا في الصباح وابتعدنا عن محلنا وكان الزمن زمن الحصاد وكان الرجال و النساء منبثين في الحقول يحصدونها، وعطشت وبحثت عن الماء فلم أجده إلا عند فلاح وكان الماء في جرة صغيرة، وأشاروا إلي بأن أجمع كفي، وجعل الفلاح يصب من فوق وأنا أكرع كالدابة و رويت وانصرفت، ولم أمش خطوات إلا سمعت هدة، والتفت ورائي فإذا بزوج الفلاح قد رمت الجرة على الأرض فكان لها صوت وقد انفجرت تسب زوجها و… وتؤنبه تأنيباً شديداً لأنه نجس الإناء وضيعه، وعجبت من هذا السلوك ومن إهانة الإنسان للإنسان وأن يعامل أحد بني جنسه معاملة الكلاب .
    وعطشت مرة أخرى فكانت التجربة مختلفة عن التجربة الأولى كل الاختلاف، طلب رفيقي لي الماء من فلاح آخر فاستقبله بالابتسام والترحيب وقدم إلي إناءاً من خزف وأردت أن أجمع كفي و أكرع كالمرة الأولى فضحك الفلاح، قال: لا داعي إلى هذا اشرب هنيئاً، وشربت في حرية، وانطلقنا وأنا أنتظر أن أسمع هدة كالأولى وانتظرت أن أسمع تأنيباً من امرأة الفلاح كما سمعت أولاً ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فتعجبت لهذا الاختلاف الواضح بين رجلين من طبقة واحدة ومن بلد واحد، وسألت عن السبب وقيل لي: إن الفلاح الثاني مسلم لا يعتقد نجاسة الإنسان بل يؤمن بكرامته وشرفه، ويؤمن بأن الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، وهكذا علمه القرآن وعلمه رسول الإنسانية، ولذلك انتشر الإسلام هذا الانتشار الواسع في القارة الهندية، وكان ذلك سبب عنايتي بدراسة الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي وسبب اهتدائي للإسلام".
    ومن سمات هذا الشعب الإسلامي الهندي وطبيعته حبه للنبي العربي، أصبح له شعاراً وسمة وظهر في حياته وأدبه وشعره وقد نبغ في الهند أشعر شعراء " النبويات " والمدائح النبوية - بعد الجامي والقدسي وبعض شعراء إيران - ونظمت فيها أبلغ قصائد ومنظومات وأبيات في المدح النبوي، ونشأ أدب زاخر قوي ومكتبة عظيمة غنية في الشعر الفارسي والأدري والهندي في مدح النبي، ووصف حليته وشمائله ونظم سيرته وغزواته، فيه كل معجب مطرب يثير الحنان، ويقوي الإيمان، ويدل على قوة العاطفة الدينية والحب العميق المخلص والشاعرية القوية، ونبغ في هذا الموضوع شعراء كبار وانقطع بعضهم إلى هذا الموضوع ووهبوا له قريحتهم ومواهبهم وحياتهم .
    ومما يمتاز به الشعب الإسلامي الهندي، اتساع أفق فكره وحرصه على الاتصال بالعلم، وتمرده على حدود العنصرية والقومية الضيقة، والوطنية المحدودة، ونزعته الدائمة إلى العالمية والآفاقية، وذلك سر اندفاعه إلى كل حركة ترمى إلى الوحدة الإنسانية والجامعة الإسلامية، ولذلك لم يزل هذا الشعب يعطف على القضايا الإسلامية ويتبناها، ويتألم لها ويثور كأنها قضيته الخاصة، وقد ظهرت هذه الحماسة وهذا العطف في أروع مظاهره زمن حركة الخلافة، وقد أكتتب لها الشعب بسخاء وأريحية وحماية لم تعرف في قضية أخرى، وهكذا ظهر منه في حرب طرابلس وبلقان من الاهتمام بأمر المسلمين والتألم بما نابهم، ما يدل على قوة الإيمان بالجامعة الإسلامية، وقد اهتم بقضية فلسطين وعقد عدة مؤتمرات لهذه القضية في عواصم الهند وشاركت الصحف في القضية، وذلك سر عدم انجراف هذا الشعب في سبيل الحركة القومية الهندية انجرافاً يفقده شخصيته، ويقطع صلته عن العالم الإسلامي ويحمله على تقديسها والغلو في تمجيدها .
    ومن خصائص هذا الشعب الإسلامي الهندي شدة تعلق قلوب أفراده بمهد الإسلام ومنزل الوحي ومدينة الرسول، والحنين إلى مكة والمدينة، فقد تغنى بذلك شعراؤهم قديماً وحديثاً، وعاش الشعب الإسلامي الهندي في هذه الأمنية العزيزة اللذيذة العامة والخاصة حتى عرف ذلك عنه، وعبر المسلمين بذلك غلاة الوطنية والقومية، وحقدوا على هذه العاطفة الدينية القوية التي تربطهم بالخارج ربطاً روحياً فهي تنافي في زعمهم الإخلاص للوطنية والحماس القومي (يدل على ذلك كلمة لكاتب هندي نشرتها صحيفة هندوكية يقول فيها: " إن المسلمين الهنود يعتبرون أنفسهم أمة منفصلة متميزة، ولا يزالون يتغنون ببلاد العرب ويحنون إليها، ولو استطاعوا لأطلقوا على الهند اسم العرب) وفي الحقيقة لا منافاة بينهما، فالإنسان يستطيع أن يجمع بين الحب لوطن روحي وجسمي، فالجزيرة العربية هي البقعة التي أشرق منها نور الإسلام وأنقذت المسلمين من براثن الجاهلية والوثنية، وأخرجهم من الظلمات إلى النور وهم ينظرون إليها كمنقذ ومرشد ومعقل للإسلام ومركز للثقافة، ويحجون إليها في عدد كبير كل عام .
    ولا يزال هذا الشعب ممتازاً في كثير من أخلاقه وعاداته وخصائصه رغم انحطاط عظيم أصيب به هذا الشعب تبعاً للأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية، ورغم تطور عظيم حدث في الحضارة والقيم الخلقية، فلا يزال ممتازاً - في أكثر الأحوال - في القدرة الإدارية وسرعة القضاء وقوة التنفيذ، ولا يزال كثير من أفراده يشغلون مناصب خطيرة ومراكز ذات أهمية، ويمتازون بالأمانة ومجانبة الرذائل الخلقية، لذلك يتمتعون بثقة الحكومات وتوسد إليهم أمور ذات بال وقضايا ومراكز تقتضي الأمانة والاستقامة الظاهرة والذكاء النادر .


  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند

    رسالة الستاذ سعادت الاخيرة التي ارسلها لي
    ======

    (أستاذنا الكريم
    لا أدري كيف أشكرك
    و الله الفرح و السرور لا يسعني
    أعتذرلك بالتأخير
    وهذا بسبب بعض الظروف
    جمعت بعض المواد و خاصة عن الهند
    سأكتب هنا قريبا إن شاء الله)


  7. #7
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند

    ارى ان بحث الاستذ سعادت
    (مساهمة المعاهد الإسلامية في تطور اللغة العربية في الهند)
    بحث قيم
    نستفيد منه
    تاريخيا وعلميا
    كمعلمين
    وكحاملين للغة العربية
    تحية تربوية حضارية
    للاستاذ سعادت الهندي


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •